إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الثلاثاء، 31 مارس 2009

"الليبرالية" سقف التاريخ و حضيضه معاً !

د. محمد وقيع الله
كان فرانسيس فوكاياما واعياً وهو يصوغ نظريته حول نهاية التاريخ، إنّه إنّما يعيد صياغة نظرية دينية، طالما دأب المفكّرون العلمانيون الأوروبيون على إعادة صياغتها، بعد تفريغها من مضامينها اللاهوتية التي شبّعها بها رائدها، الذي تولّى مهمّة صياغتها الأولى وهو المسمّى بالقديس أوغسطين، الذي عاش بالجزائر و أوروبا، و ترك بصماته واضحة على تطوّر الفكر السياسي الغربي بابتكاره لنظرية "مدينة السماء"، التي تجلب معها السلام و الخير الأسمى لبني الإنسان و تصبغهم بروح المسيح عليه السلام، و بها تُختتم صفحات هذه النظرية ذات الطابع الروحي المتفائل. أثّر هذا النمط من التفكير تأثيراً هائلاً على مسار الفلسفة الأوروبية. و 
ترسَّم خطاه عدد من فلاسفة عصر «التنوير» التقدّميين الذين أشاروا إلى أنّ خطّ التاريخ هو في حركة صعود مستمرّ لا يتقهقر، تماماً كما ذكر أوغسطين، و لكنّهم خالفوه عندما أكّدوا أنّ حركة التاريخ لا تتصاعد إلاّ بعد حذف مكوِّن سلبي يركض بها إلى الوراء، وهو نفس المكّون الذي ذكره أوغسطين كمحرّك تقدّمي لخطّ التاريخ، ألا وهو الدين ! و هكذا دعا الفلاسفة التنويريون أمثال "سان سيمون" و"أوجست كونت "و"شتال" إلى حذف الدين و اعتماد العقل وحده محرّكاً تقدّمياً لخطّ التاريخ، و ظلّت تلك الفكرة سنداً لكلّ الفكر الليبرالي اللاحق، و استوحتها كذلك الفصائل الثورية لاسيما الماركسية منها.
مصادر فوكاياما :
و كنتُ أظنّ أنّ فوكاياما إنّما استقى نظريته تلك من تراث الجدل الهيجلي الذي طوّر تراث التنويريين التقدّميين، و لكن من دراسة تاريخ فوكاياما نفسه، اتّضح إنّه تتلمذ في الجامعة على يد مفكّرين من مدرسة لي شتراوس الذي قضّى عمره يطوّر تراث أوغستين، لقد تتلمذ فرانسيس فوكاياما على يد البروفيسور الأمريكي الشهير «آلان بلوم» ـ أشهر تلاميذ شتراوس ـ و قد دفع بلوم بتلميذه النابغ فوكاياما إلى دراسة آثار المفكّر الروسي المتفرنس الأسكندر كوجييف وهو الآخر تلميذ لشتراوس، و كان قد أطلق توقّعه بانهيار الاتّحاد السوفييتي خلال الأربعينيات، و قال بأنّ كلّ الأيديولوجيات ستنحسر ما عدا نمط الحكم الليبرالي الأمريكي، الذي تنبّأ له بأن يصبح الأنموذج الأمثل، الذي تتنادى كافة المجتمعات الإنسانية بتمثّله و احتذاء خطاه، فأتى فوكاياما ليسمّي ذلك بنهاية التاريخ. هذه الفكرة عن نهاية التاريخ لتراث الفكر الهيجلي من أكثر من وجه. فمن ناحية كان هيجل يقرّر في جدله بأن "الصالح" لا ينتج إلاّ من "الطالح" نفسه، بعد أن يفنى و يتحوّل على نحو جذري حاسم إلى شيء مضاد له تماماً. إنّ هيجل قد رفض أيّة فكرة للتطوّر التدريجي، فالتطوّر لا بدّ أن يكون ثورياً، و الوضع الجديد لا بدّ أن يستخلص تماماً من قلب القديم و يحلّ محلّه، و بالطبع فهذا ما لم يحدث حين انهار الاتّحاد السوفييتي بنمطه الأيديولوجي الشيوعي، فالنظام الليبرالي الذي يبشّر به فوكاياما ختاماً للتاريخ لم يستخلص من صلب التراث الماركسي و إنّما كان موجوداً وجوداً ذاتياً من قبل. و من ناحية ثانية، فإنّ هيجل ما كان يؤمن كثيراً بالفكر الليبرالي ولا يرى فيه ختاماً للتاريخ، بل كان يؤمن بالدولة التي يسمو سلطانها على كلّ المصالح الفردية، بل و يسمو على القانون نفسه، و لذلك فقد سمح للدولة أن تخضع الحقّ للقوّة، و أن تكون مشروعيتها فوق مشروعية القانون. و بالطبع، فهذه ليست أفكار فوكاياما الذي حاول أن يلتصق التصاقاً حميماً بالفلسفة، و أن يكون عالماً سياسياً في نفس الوقت، و أن ينتهز الفرصة التي سبقت بسقوط الاتّحاد السوفييتي ليبشّر بشيء جديد ليس فيه أصالة الفلسفة، و لا أحكام العلم السياسي، و إنّما حتميات الأيديولوجيا التي جاء ينظر لنهايتها، و هذا هو أوّل مكمن من مكامن التناقضات التي حفلت بها دعوة فوكاياما، فهو إذ يدعو لسيادة الليبرالية إلى الأبد، لا يبدو لنا ليبرالياً، لأنّه يلغي الأفكار الأخرى، و يحكم عليها بالفناء، و يقدّم المشروعية، و يدعو لممارسة العنف ضدّها، و يمهّد للسيطرة المطلقة للأيديولوجية الليبرالية بوجهها الرأسمالي لتتحكّم بها في الواقع المعاش فقط، و إنّما في المستقبل على كلّ امتداداته، و التصدّي بالقمع لكلّ من يعترض ذلك المصير.
مطبات التاريخ :
إنّ فوكاياما لم يقل بأنّ التاريخ كلّه قد انتهى بالفعل، و إنّما أشار إلى أنّ نهايته التامّة تأتي باعتناق الكلّ للفكر الليبرالي، وه ذه بمثابة الحتمية عنده، و ها هو يتحدّث عن الاتّحاد السوفييتي السابق باعتباره الآن حبيساً في أحد مطبّات التاريخ: "يستطيع الاتّحاد السوفييتي السابق أن يخرج من موقعه التاريخي الحالي ليتدهور إلى وضع سابق تاريخياً، كما أن بإمكانه أن يتّبع إرشاد الغرب فيتقدّم صعداً في خطّ التاريخ". و أمّا بقية العالم غير الليبرالي، فينطبق عليه تماماً ما ينطبق على الاتّحاد السوفييتي السابق، و لذا يستعجل فوكاياما جميع أقطار العالمين الثاني و الثالث لتلحق بالعالم الأوّل الليبرالي و إلاّ فإنّ العالم لن ينعم بالسلام بسبب من بقايا الأيديولوجيات الراكدة تحت سقف التاريخ. و لذلك يتّهم فوكاياما دول العالم غير الليبرالي بإشعال نار الحرب، كما يتّهمها باستغلال الأيديولوجيا لغير ما غرض موضوعي. إذ لا توجد أي أيديولوجيا ـ باستثناء الليبرالية ـ تدافع عن مصالح الأفراد أو الأمم و ليس فيما وراء الأيديولوجيا إلاّ الدعوة للخراب. إنّ وهن الأيديولوجيا الحالي يدعو للقضاء عليها سريعاً و تجاوزها، لا إلى التحاور أو التفاعل معها، أو إعطائها أيّة وجهة نظر إيجابية. لا شكّ أنّ فوكاياما قد تجاوز بوهج الزهو بالانتصار الذي حقّقه الغرب على الاتّحاد السوفييتي السابق، كلّ مقولات الآباء التأسيسيين لعلم السياسة الحديث أمثال سيمور مارتن ليبث و دانيال بيل و بيزنسكي، بل و صمويل هنتنجتون نفسه. لقد لاحظ المفكّران الأوّلان أن الأطروحة الرأسمالية قد راجعت نفسها كثيراً و نحت نحو اقتباس احتياطيات كثيرة من الفكر الاشتراكي لتقيّد بها اقتصاد السوق، و كذلك فعل الإصلاحيون بالفكر الاشتراكي ليتبنّى سوقهم بعض شروط اقتصاد السوق، قد لاحظ المفكّران الأخيران في كتاب لهما صدر في عام 1964، أنّ أوجه التشابه بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي ستكون أبرز خطوط مستقبل الحضارة الإنسانية، مع أنّهما نفيا أي احتمال لاندماج النظامين المختلفين أو انهيار أحدهما، لينتصر الآخر و يتوّج تاريخ نضال الإنسان الفكري و السياسي على السواء، و لكن فوكاياما افتقد كلّ مرونة هؤلاء بحكمه الجزافي على كلّ الايديولوجيات بالفناء، و حكم لليبرالية بأن تصبح "الدين" البشري الأخير.
فرضيات النظرية :
و إنّما تصبح الليبرالية نهاية التاريخ لأنّها تسمح بتلبية كلّ حاجات الإنسان، إذ تسمح بالملكية الخاصّة و تطويرها، و تشجّع المبادرة الفردية، و المشاركة السياسية، و تحقّق المساواة أمام القانون، و من دفع الملكية الخاصّة، و المبادرة الفردية، و حماية القانون، تكتمل سيطرة الإنسان بواسطة التكنولوجيا على مصادر الطبيعة، و تسود الرفاهية، و يتحرّر الإنسان نهائيا من ربق الحاجة، و ذلّ الفقر، كما تؤدّي التكنولوجيا من ناحية أخرى إلى تشكيل الثقافة الإنسانية الجديدة التي توحّد بين البشر عبر محيط العالم، وهي ثقافة عمادها هجر التعصّب للايديولوجيات التي كانت أصل الشرور و الحروب. هذه الفرضيات التبسيطية كان يمكن قبولها لو آمّنا أوّلاً أنّ حاجات النوع الإنساني حاجات مفهومة و محدّدة المقدار، و لو آمّنا ثانياً أنّها حاجات متشابهة بمعنى أنّ البشر جميعاً يشتركون فيها بلا استثناء، و لو آمّنا ثالثاً بأنّ تلك الحاجات قابلة فعلاً للإشباع، و لو آمّنا أخيراً بأنّ الدول التي وصلت إلى سقف التاريخ، وهي الدول الليبرالية حسب توصيف فوكاياما، قد قدّمت لنا دليلاً عملياً واحداً على ما سبق، أي لو أنّها كفّت عن سلوك الهيمنة و التطفّل على ثروات الشعوب التي لم تصل بعد إلى حدّ التاريخ  !
تناقضات النظرية :
و هنا تسفّر إحدى تناقضات نظرية فوكاياما، إذ يقرّر أنّ تاريخ الإنسان يقوده نزوع الإنسان نحو التفوّق و الحصول على اعتراف و تقدير الآخرين، و ذلك ما حصل عليه الإنسان الغربي بنضاله المستميت ضدّ الأيديولوجيا الاشتراكية حتّى قهرها و نال ذلك الاعتراف الكبير.. يقول فوكاياما "إنّ حبّ الظهور و التفوّق كان رائد كفاح الإنسان منذ فجر التاريخ، و قد ظلّ الإنسان يخوض المعارك حتّى الموت ليظفر بذلك المجد المرموق. و قد أدّت تلك المعارك إلى ظهور طبقة الأرستقراطية المترفّعة ذات القيم العليا، و كذلك طبقة العبيد التي منتهى أملها أن تسود المساواة بين البشر، لا أن تحصل على شرف التفوّق و الاعتراف". هذا التطلّع البورجوازي نحو المجد يعدّه فوكاياما نبلاً و شوقاً روحياً يتعالى على المطالب المادية، و يضحّي بهذه المطالب كما يضحّي بالروح العزيزة حتّى يتحقّق ذلك المطلب العلوي العسير، و هذه هي الفضيلة الأساسية التي يميّزها فوكاياما بين طبقة "الأحرار" و طبقة "العبيد" التي يضعها قريباً جدًّا من مرتبة "الأنعام و الدّواب"، و لكنّه مع ذلك يعود ليمجّد ( الليبرالية ـ منتهى التاريخ ) لأنّها ستخفّف حدّة هذا الصراع، وحدّة تلك الفوارق السحيقة بتحقيقها لمطلب "العبيد" المقهورين في المساواة. و بعد ذلك فإنّ فوكاياما الذي يبشّر بالليبرالية نهاية سعيدة للتاريخ، سرعان ما يفاجئنا بأفكار تصادم تلك البشرى. و ها هو يبدي أسفه لأنّ الليبرالية تؤدّي إلى خمود طموح السّادة التوّاقين إلى المجد و إلى الخلود، و تهبط بهم إلى مدارك البشر العاديين، أي "العبيد"، و تجعل من الحياة برمّتها متاعاً مادياً مجرّداً من التطلّع البعيد، و من التوق إلى ذرى الروح، و ها هنا يعيش البشر جميعاً كحيوانات "لا تستثنى من ذلك إلاّ عصابات الإجرام التي يجرؤ أفرادها على المخاطرة و التضحية بأرواحهم في سبيل حبّ الظهور و انتزاع اعتراف الآخرين ببطولاتهم و تميّزهم على سائر القطيع". إنّ رتابة الحياة التي يجلبها نمط الحياة الليبرالية المرفّهة ستؤدّي مجدّداً إلى اضمحلال حياة الإنسان، و قد تدفع به إلى أن يهبط من قمّة هرم التاريخ إلى سفحه ليبدأ نضاله الشاقّ من جديد، و تلك واحدة أخرى من نقاط عدم الاتّساق في نظرية فوكاياما عن نهاية التاريخ، و لكنّها يمكن تفسيرها بنزوع صاحبها نحو التلفيق و التردّد ما بين المطالب الدينية الأصيلة لأوغستين، و المطالب المادية التي صاغتها فلسفة عصر التنوير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق