إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الثلاثاء، 17 مارس 2009

قراءات نيتشه و أبعادها النظرية

محمد المزوغي
أستاذ الفلسفة بالمعهد البابوي للدّراسات العربية و الإسلامية. روما، إيطاليا.
فردريك نيتشه لم يكن فيلسوفا بالاحتراف، و لم يتردّد أبدا على كلّية الفلسفة في حياته الدراسية. و الكلّ يعلم أنّه كان، أوّلا و قبل كلّ شيء، فيلولوجيا مختصّا في الدّراسات الكلاسيكية. علم الفيلولوجيا الكلاسيكي هو علم يُعنى بدراسة الآداب القديمة و لغاتها (اليونانية و اللاتينية) دراسة تاريخية نقديّة؛ علم يعتمد التدقيق في النصوص و التحقيق فيها و المقارنة بين المصطلحات و العبارات و تاريخ تطوّرها و التغيّرات التي طرأت عليها عبر العصور. وهو اختصاص ذو مناهج محدّدة و مبادئ عامة مُعترف بها و مُجمع عليها من طرف الدّارسين المختّصين. وهو أيضا علم لا يدّعي لنفسه تجاوز حدوده و لا الدّخول في نزاع مع العلوم الأخرى.
مَن يكتب في الفيلولوجيا عليه أن يتمسّك بقواعد ذاك العلم و بمناهج البحث التي أُرسيت منذ عهود، و أن يستثمر ما آلت إليه البحوث السابقة و المعاصرة. عَدم تمكّن نيتشه من الفلسفة يظهر بوضوح من خلال كتاباته التي تشكو النقص في التوثيق و غياب الاستشهاد بالمراجع و التسرّع في الأحكام و النثر المشبّع خطابة و شعريّة. و لكن الأكثر خطورة هو أنّ نيتشه أخلّ حتّى بالعلم الذي اختصّ فيه أي الفيلولوجيا: فعلا، كتاب نشأة التراجيديا " Die Geburt der Tragödie" هو كتاب فيلولوجي حالم و متوهّم. لقد خرق بذاك العمل، وهو رجل متخصّص، يدرس ذاك العلم في مؤسّسة جامعية عريقة، كلّ المعايير و المناهج التي انبنت عليها الفيلولوجيا. شنّ حربا شعواء على أعلام الفلسفة اليونانية الكلاسيكية و بالأخصّ منهم سقراط و اتّهمه بقتل التراجيديا هو و الكاتب المسرحي يوربيدس الذي استمدّ، حسب زعمه، تعاليمه من سقراط و أدخل العقل و المنطق في أعماله المسرحية. وهي حملة بدأها قبل صدور نشأة التراجيديا في مجموعة من المحاضرات ألقاها في فترة لا تبعد كثيرا عن فترة صدور كتابه نشأة التراجيديا. هذا علاوة على أقوال مربكة و أفكار ناشزة و تُهَم خطيرة، رُكّبت على كَاهل رِجَال مِن العالم اليوناني و على فيلولوجيين معاصرين له و سابقين عليه. وهي أقوال ينقصها التوثيق وغير مدعّمة بشواهد تاريخية دقيقة كما هو معمول به في أي مبحث علمي يستحقّ هذه التسمية.
كتابان اثنان كانا لهما أثر كبير و محدِّد في حياته الفكرية:
* اكتشافه الأوّل في الفلسفة عثر عليه صدفة، دون قصد منه، وهو كتاب العالم كإرادة و تمثّل
 (Die Welt als Wille und Vorstellung) للفيلسوف آرتور شوبنهاور. قرأ ذاك الكتاب بِنَهم و اكتشف عوالم نظريّة جديدة لم يكن لِيَحلم بها وهو شابّ تربّى فكريّا في أحضان الفيلولوجيا و اعتاد التحقيق و التدقيق في النصوص الكلاسيكية و تروّض على استعمال المنهج التحليلي التاريخي المفصّل و النقد المنهجي. و لقد قال واصفا الأثر الذي أحدثه فيه اطّلاعه على عمل شوبنهاور: « كلّ سطر [من الكتاب] يدعو للتسليم، للرّفض، للاستسلام: لقد رأيت في تلك المرآة معكوسة، بحجم رهيب، العالم، الحياة و ذاتي. لقد حدّقت بي، من خلال تلك الصفحات، العين المشرقة و اللامبالية للفنّ. هنا مرّت أمام أعيني الدّاء و الدواء، الطرد و العودة، النعيم و الجحيم». و يبدو أنّ تلك التجربة الفكرية، التي أحدثها فيه الاطلاع المفاجئ على كتاب شوبنهاور، كانت تجربة محدّدة وعميقة وَسَمَت ذهنيته بِسِمَات لازمته طوال حياته؛ على الرغم من أنّه في الأخير، و كعادته، انقلب على أعقابه و ناصبه العداء و شنّع عليه. و ما لازمه من فلسفة شوبنهاور هو جانبها السّلبي أي معارضتها العقل بالإرادة و قاعدتها اللاعقلانية و عدائها للوضعية و للعلم و تشاؤمها العميق و الزّعم بأنّ الخلاص ليس متاحا للإنسان إلاّ عن طريق الفنّ و الموسيقى. و ما كان لأيّ شخص درس الفلسفة بجدّية و تشبّع بروحها النقدية الصارمة أن يفتتن بسهولة بفلسفة شوبنهاور و أن يجاريه في أفكاره و يتبنّاها دون نقاش. بل إنّه من المفروض أن يكون اطّلاعه الشامل على تاريخ الفلسفة و معرفته بمختلف الأنساق الفكرية و العلمية درعا يقيه من التهافت على فكر ما دون إخضاعه لعمليّة تمحيص و نقد عميقين. و قد تمكّنه معرفته الشاملة من وضع فلسفة شوبنهاور في موضعها و تأطيرها في مجالها الخاصّ من تاريخ الفلسفة. «العالم هو تمثّلي» (Die Welt ist meine Vorstellung) بهذه القولة يفتتح شوبنهاور كتابه العالم كإرادة و تمثّل، و معروف في تاريخ الفلسفة أنّ هذه المقولة تميّزت بها النزعة الذاتويّة و كلّ التيّارات الفكرية المماثلة لها. و الفلسفة المثالية ذات المنحى الرومانسي، التي سادت الفكر الألماني في تلك الفترة، هي ذاتوية خالصة لأنّها تختزل الواقع العيني و قيم الحقّ و الجمال في إدراكات الذات و تمثّلاتها: العالم المادي و القيم الأخلاقية من خير و شرّ و جمال و قبح، و القيم العلمية والمنطقية من صدق و كذب و صواب و خطإ هي أمور نسبيّة ترجع أساسا إلى خيارات شخصية تحدّدها الذات دون وجود ما يطابقها في الواقع العيني. و شوبنهاور يثني على الفيلسوف الإنجليزي بركلي الذي، حسب رأيه، عبّر عن تلك الحقيقة المبدئية التي تنصّ على أنّ الوجود هو ما يُدرك (Esse est percipii)، بل إنّ هذا الرأي، حسب شوبنهاور، عبّر عنه حكماء الهند الذين جعلوا من المبدإ الأسمى في تعاليم الفيدانتا حقيقة أن وجود الشيء و إدراكه الذاتي مترادفان. بالتساوق مع هذه الحقيقة "الخالدة" هناك حقيقة أخرى لا تقلّ عنها أهميّة، تمعن في تجذير النزعة الذاتية و تعمّقها، حيث أنّها تنصّ على أنّ «العالم هو إرادتي» (Die Welt ist mein Wille) أي أنّ العالم في ذاته لا وجود له و إنّما وجوده مشروط بالذات المدرِكة و مستنفذ في تمثّلاتها و محكوم بإرادتها الذاتية. و على الرغم من إلمامه الكبير بدقائق علوم عصره فإنّ شوبنهاور ـ و هنا يبرز الجانب السّلبي من تفكيره ـ كان ناقدا و مشكّكا في العلم و في قدرة العقل على المَسك بحقائق الأشياء. و قد استمدّ من كانط ذاك التصوّر حول الشيء في ذاته كحدّ أقصى للمعرفة الإنسانية و تمسّك به و تبنّاه كقاعدة أوّلية لضرب ادّعاءات العقل في إمكانية التوصّل إلى معرفة مطابقة للواقع. العلم لا يعرف إلاّ سطح الأشياء: «الميكانيكا و الفيزياء و الكيمياء تعطينا القواعد و القوانين التي تفعل بمقتضاها القوى [...]: لكن تلك القوى في ذاتها، مهما يُقال و مهما يُفعل، تبقى دائما خاصّيات خفيّة (qualitates occultae)، لأنّ الشيء في ذاته، حينما يَتمظهر و يُبرز لنا تلك الظواهر، فإنّه مختلف جذريا عن الظواهر ذاتها». كلّ القوى الطبيعيّة تبقى، في نهاية المطاف، غامضة الفهم و مستعصية على الإدراك الإنساني لأنّ ظواهر الطبيعة و القوى المسيّرة لها، ليست إلاّ « درجة معيّنة من تموضع الإرادة، أو ما نعتبره نحن جوهرنا الخاصّ؛ أي أنّ هذه الإرادة في ذاتها تقبع خارج الزمان والمكان». على هذا الأساس تغدو المعرفة الإنسانية غير قادرة على المسك بتلك الإرادة الكونيّة، التي هي الشيء في ذاته، و لا حتّى قانون السببية يساعد على اكتناه أسرارها. مبدأ السببية الذي تعتمد عليه العلوم الوضعيّة ليس إلاّ إسقاطا ذاتيّا و لا وجود لما يطابقه في الخارج، لذلك، حسب شوبنهاور، فإنّ « مالبرانش (Malbranche) على حقّ: كلّ سبب طبيعي ليس إلاّ سببا ظرفيّا» أي لا ينبع من ذات الأشياء بل يُلمّح فقط إلى التمظهر الخارجي لتلك الإرادة الواحدة المستعصية على الإدراك الإنساني، بحيث أنّ تمظهراتها المتدرّجة تكوّن العالم المرئي برمّته. لا أريد أن أختزل فلسفة معقدّة و ثريّة، كفلسفة شوبنهاور، في هذه الأطروحات التي نجدها صريحة و جليّة في كتابه العالم كإرادة و تمثّل. و لكن إذا اطّلع شابّ في مقتبل العمر على كتاب فيه أفكار من هذا القبيل مركّزة في جزء كبير منها على التّشكيك في قدرة العلم على إدراك حقيقة الوجود، و إذا كان ذاك الشاب صفحة بيضاء لم ينهل بعد من الفلسفة و لم يتعمّق في أغراضها فمن السهل حدس الأثر البالغ الذي تخلّفه فيه و الأفكار التي تتجذر في ذهنيّته مكوّنة نظرته للعالم. و بالأخصّ إذا لم تكن له ميول علميّة و لا إلمام ببعض دقائقها (كما كان الأمر بالنسبة إلى نيتشه. و الكلّ يعلم جهله بالعلوم الصحيحة و غربته عن الرياضيات التي تندّر بها نُقاده) فإنّه حتما سيعادي العقل و سيحطّ من قيمة العلم و سيتنكّر للتنوير يعني أنّه سيعيش نفسيّا في واقع مغاير لواقعه و في ذهنية مخالفة لذهنية عصره التي أولت العلوم الصحيحة مكانة عالية و بثت روح التفاؤل بالتقدّم و بقدرة العقل البشري على معرفة الكون و التحكّم في الطبيعة و السيطرة عليها و تسييرها. لا يبقى أمامه إلاّ طلب الخلاص و العزاء من نسق مغاير و من مجال ذهني مختلف، و شوبنهاور يقدّم له البديل؛ إنّه الفنّ و العبقرية الفنّية: « أيّ صنف من المعرفة يسمح بتأمّل الحقيقة الجوهرية للعالم ؟... أيّ نوع من أنواع المعرفة تُتأمّل فيه المُثل، التي هي التموضع المباشر للشيء في ذاته، للإرادة ؟ هذه المعرفة الخاصّة هي الفنّ، عمل الإنسان العبقري». و من هذه الفنون يتميّز فنّ الموسيقى لأنّ الموسيقى تعبّر مباشرة عن تلك الإرادة المتعالية، عن الشيء في ذاته و عن المثل المفارقة. ما يفتن القارئ في فلسفة شوبنهاور هو سهولة عباراته و سلاسة أسلوبه و وضوح مفاهيمه و تسلسلها المنطقي، وهي فضيلة كبرى في وقت نحت فيه الفلسفة الألمانية مع هيغل، الذي كان شوبنهاور من أشدّ معارضيه و خصومه، إلى غموض العبارة و تعتّم المفهوم و صعوبة المسك بجوهر التفكير. يكفي قراءة الصفحات الأولى مِن فينيمنولوجيا الروح (Phänomenologie des Geistes) حتّى يصيبنا نوع من الغثيان و يمتلكنا الاستياء و الضجر و أظنّ أنّ قليلا من الناس صبروا على قراءة ذاك المؤلّف من أوّله إلى آخره. لكن مع شوبنهاور الأمر مختلف، إذ يمكن قراءة كتابه في غضون أيّام من أوّله إلى آخره و إعادة قراءته و استيعاب أفكاره الأساسية بيسر و سهولة. و لكن من الصعب الاعتراض على فلسفته و نقد تعاليمه و مبادئ نسقه إن لم يكن القارئ مُلمّا بتاريخ الفلسفة و متخصّصا فيها. و ذه بالفعل هي الحالة التي كان عليها نيتشه فقد كانت معرفته بالفلسفة معرفة سطحيّة لا تتجاوز نطاق المعرفة الفيلولوجية و قد اعترف ياسبرس و كثير من كاتبي سيرته بهذه الثغرة في تكوينه الفلسفي. و قد أدّى به هذا الأمر إلى الارتماء في أوّل نسق فكري صادفه في حياته، لقد تبنّى فلسفة شوبنهاور من خلال كتاب العالم كإرادة و تمثّل مباشرة و دون مقاومة ذهنيّة أو روح نقدية أو تريّث. فلسفة شوبنهاور هي فلسفة الإرادة أي الإرادة مَنظور إليها من جانب ميتافيزيقي؛ و معلوم أنّ الإرادة لا شيء يحيطها و لا منطق يضبطها. في الوقت الذي يعمد فيه العقل إلى تقنين الأشياء وإحكامها فإنّ الإرادة، على العكس من ذلك، تطلق العنان للخيال و الاعتباط و حريّة الاختيار. للعقل مبادئ نظرية ثابتة و قوانين شاملة و قواعد منطقية تحكم فعاليته و تعصمه من الخطأ و تمكّنه من إصابة الحقيقة؛ الإرادة لا يحكمها قانون ثابت وليست من مجال النظرية و لا يمكن تعميم فعاليتها على جميع الفعاليات الفردية الأخرى و لا تصبو نحو الحقيقة لأنّ الإرادة، بما هي كذلك، هي مجال الجواز و الحرّية و الجواز و حرّية الاختيار لا دخل لهما بالحقيقة فالحقيقة من المجال النظري و الإرادة من مجال الفعل العملي. من يولج الإرادة في مجال الحقيقة أو يسبقها على العقل فإنّه لا يعمل إلاّ على محو الحقيقة و فسخ النظر. الإرادة تابعة للعقل و اختيارها نابع من مقايسة عقليّة سابقة للفعل، هذا هو المذهب العقلاني، الإرادة هي الأساس و مبادئ العقل و التفكير تسبقها حرّية الاختيار: أنا أريد إذن أنا أفكّر هذا هو مبدأ المذهب المقابل أي مذهب اللاعقل. معاداة العلم و التنكّر لمبادئ العقل تنبع من هذا التوجّه الفكري و تنتشر كي تكتسح مجالات عدّة تصل بها إلى حدود قصوى في المجال العملي و السياسي، و كلّ التيّارات العنصرية و اليمينية على المستوى السياسي هي من دعاة اللاعقل و تغلّب الإرادة على المنطق. و قد يكون هذا التيّار الفكري له أساسه اللاهوتي في الأديان التوحيدية (أقول أساسه اللاهوتي و ليس استتباعاته العنصرية لأنّ الأديان من حيث المبدأ لا عنصرية فيها) التي أضفت على الإله صفة الإرادة العمياء التي لا يحدّها حدّ و لا مانع لأفعالها و لا تخضع حتّى للتقييم الأخلاقي لأنّ الله غير مجبور على فعل الأصلح كما يقول علماء الكلام الأشاعرة. و تنسحب هذه النظرة على الأفعال الإنسانية و على القيم الموجّهة لها، و كما يقول علماء الكلام المسلمين لا فعل يملك صفة الخير و الشرّ في ذاته و إنّما كلّ الأفعال على البراءة، و فعل الله لا يمكن وصفه بالخير و الشرّ لأنّ هذه المقولات لا تحكمه و لا تنطبق عليه، فالخير ما أوقفه الشرع (أي الإرادة الإلهيّة) و الشرّ كذلك، فلو أنّ الشرع قد أمرنا بالزنا و القتل و السّرقة لكان ذلك أمرا حلالا. و هذه الأقوال مبثوثة في كتب اللاهوتيين المسلمين و اليهود و المسيحيين، وهي، حقيقة، حتّى و إن كانت نابعة من وعي إيماني صادق بعظمة الإله و بقدرته اللامحدودة، قد فتحت ثغرة معرفية و أخلاقية خطيرة جدّا. و قد تفطّن الفيلسوف العربي ابن رشد إلى ذلك حينما قال بأنّ مَن يُطلق العنان للإرادة الإلهية و لقدرتها على فعل كلّ شيء فإنّه يجعل من الله شبيها بالملك الجائر و أفعاله عبثية لا يمكن معرفتها و لا التنبؤ بها، علاوة على أنّ هذا الرأي قد يلحق ضررا كبيرا بالفلسفة و بمبادئ العلوم النظريّة. و لكن هذه الآراء هي أكثر خطورة في ميدان الاجتماع و المعاملات بين الناس نظرا لأنّه تزعزع المبادئ المؤسّسة للأخلاق و الدين، فعلا، إن ساوت أنطولوجيّا بين الخير و الشرّ و جعلت من الفارق بينهما فارقا عرضيّا يمكن أن يتغيّر بحسب الإرادة الإلهية فإنّها قد تؤدّي حتما إلى نوع من النسبويّة السّفسطائية و ابن رشد يقصد الأشاعرة و لاهوتي الأديان الأخرى: « و أمّا قول من يرى... بأنّ أفعاله [الله] لا تتّصف بالجور بل نسبة الخير إليه و الشرّ نسبة واحدة، فقول غريب جدّا عن طباع الإنسان و منافر لطبيعة الموجود الذي في غاية الخير. و ذلك أنّه [حسب رأي الأشاعرة] ليس ههنا شيء هو خير بذاته بل بالوضع و لا شيء هو شرّ بذاته، و يمكن أن ينقلب الخير شرّا و الشرّ خيرا فلا يكون ههنا حقيقة أصلا، حتّى يكون تعظيم الأوّل و عبادته إنّما هو خير بالوضع. و قد كان يمكن أن يكون الخير في ترك عبادته و الإعراض عن اعتقاد تعظيمه، و هذه كلّها آراء شبيهة بآراء بروتاغوراس» و يبدو أنّ آراء أصحاب الإرادوية، إن كانت لاهوتية أو فلسفية، هي في منتهى الخطورة على المستوى السياسي أيضا لأنّها تشرّع، من حيث لا تدري، للاعتباطية و للتسلّط و الظّلم. و لقد ذهب ديكارت إلى أنّ الإرادة الإلهية ليست فقط تفرض قيم الأفعال كما تشاء بل إنّها تفرض قيمة الحقيقة بحرّية و لا شيء يضبطها أو يقنّن اختيارها. هذا حقيقة هوس و لوثة ذهنية و أعتبر أنّ التمسّك بهذه المبادئ و نشرها و تعليمها للناس قد يقودهم إلى التخاذل و الرضا بالأمر الواقع و قد يعطي ذريعة للحاكم للتصرّف مُحاكيا أفعال الإله الاعتباطية وهو الذي عدّ نفسه دائما ظلّ الله على الأرض.
* الكتاب الثاني الذي أثّر في المسار الفكري النيتشوي هو تاريخ المادية للفيلسوف و السياسي الاشتراكي فريدريك آلبرت لانغ (1828 ـ 1875). عن طريق لانغ تعرّف نيتشه على الفكر المادّي عند فلاسفة اليونان القدامى و عند المحدثين، و على نقد المعرفة عند كانط، على الداروينية و مبادئ العلوم الطبيعية الحديثة. و قد كتب قائلا « إنّ العمل الفلسفي الأكثر أهمّية الذي برز في العقود الأخيرة هو دون شكّ عمل لانغ. يكفيني كانط، شوبنهاور و هذا الكتاب لـلانغ ». لانغ رغم توجّهه السياسي الاشتراكي لم يكن من أتباع المادّيّة: لقد كان يعتقد بأنّ المادّية في الفلسفات السابقة على كانط هي التصوّر الوحيد، التقدّمي و المتماسك، الذي يمكن من خلاله تشكيل نظرة علمية للواقع. و لكن بعد كانط فإنّ الماديّة أصبحت نزعة ميتافيزيقية تقارب المثاليّة و يجب التخلّص منها و طرحها. انطلاقا من مسلّمات و اعتمادا على بعض مبادئ فلسفة شوبنهاور فإن لانغ يعتبر مجموع الظواهر التي يدرسها العلم نسبيّة لإدراكاتنا الحسّية، و مشروطة بتكويننا الذهني المحدود و الغير قادر على الوصول إلى معرفة الأشياء في ذاتها. الجانب الإيجابي في كتاب لانغ المتمثّل في الكمّ الهائل من المعطيات التاريخية و السرد الدقيق لنظريات العلماء و الفلاسفة حول المادّية حيّده إن لم يكن قد أجهض مفعوله بتبنّيه هذا الرأي الأخير الذي يشدّد على محدوديّة المعرفة الإنسانية مبدئيّا و ذلك لارتباطها الوثيق بالذات العارفة و بما ركّب فيها من قوالب ذهنية ثابتة و محدّدة. شوبنهاور ولانغ، في نهاية المطاف، يصبّان في نفس المصبّ و يدعّم أحدهما الآخر و من اكتفى بالاطلاع عليهما، كما فعل نيتشه، فإنّه لا يربّي في ذاته إلاّ نزعات لا عقلانية و قناعات فكريّة تحطّ من قيمة العلم و تعادي مبادئ العقل. لست أدري هل أنّ الاطلاع على كتابين أو ثلاثة في الفلسفة يكفي بمفرده أن يجعل أحدنا ملمّا بتشعّبات الفلسفة و بجميع إشكالاتها و محيطا بمعضلاتها التاريخية و لنظرية ؟ و هل أنّ شيئا من هذا القبيل يُمكّن الدّارس من الحيازة على عقل فلسفي نقدي تحليلي ؟ لديّ شكوك في قدرة هذا المنحى في الدّرس أن يربّي وعيا فلسفيّا متينا و أن يكوّن شخصية نظرية مكتملة. دراسة الفلسفة هي دراسة صعبة و شاقّة و تتطلّب تعمّقا و معرفة شاملة (حتّى و إن لم تكن عميقة و مفصّلة) في كثير من الاختصاصات و الميادين العلمية الأخرى. و المثل الأعلى، في ذلك، يعود للفيلسوف اليوناني أرسطو (و فلاسفة الإسلام) الذي، علاوة على كونه فيلسوف ذو عقل نقدي تحليلي فقد كان يملك أيضا ذهنية تجريبية ملتصقة بالواقع، و كان ملمّا بجميع علوم عصره و قد أنتج فيها الكثير و ترك آثارا خالدة. الفلسفة، إذن، تتطلّب التزاما كاملا و تمرينا طويلا دائبا، و لا يكفي، للإلمام بها و لممارستها بالفعل، الاطلاع على بعض الكتب حتّى و إن كانت مشهورة و متداولة في زمانها. و مَن، في عصرنا الآن، عرض له أن اطّلع على الوجود و العدم للفيلسوف الفرنسي سارتر و تاريخ الجنون أو أركيولوجيا المعرفة لــفوكو فإنّه حتما لا يدّعي لنفسه المسك بأسس الفلسفة و لا المعرفة التامّة بها و لا أن يصبح بدوره فيلسوفا. بل، قد تكون تلك الكتب مُظلّلة وم ُفسدة للوعي الفلسفي أصلا.
***********************
1. ذكره، HORST ALTHAUS, Friedrich Nietzsche. Eine bürgerliche Tragödie. Nymphenburger, München 1985 ( trad. it. Nietzsche. Una tragedia borghese, a cura di Mario Carpitella, Laterza, Roma-Bari 1994, p. 64)
2. ARTHUR SCHOPENHAUER, Die Welt als Wille und Vorstellung, Suhrkamp, Stuttgart 1986,
3. المرجع نفسه ص 33
4. « مهما كانت طبيعة الشيء في ذاته، تبقى دائما صادقة نتيجة كانط: أنّ الزمان و المكان و السببية... ليست تعيينات للشيء في ذاته. لا تنتمي إليه إلاّ إذا أصبح ذاك الشيء تمثّلا؛ بعبارة أخرى: تنتمي إلى الشيء كظاهرة فقط و لا كما هو في ذاته. فعلا، تلك الصور، بما أنّ الذات تعرفها و تنشئها من ذاتها، بالاستقلال عن أي موضوع [خارجي]، يجب أن تنتمي إلى ملكة التمثّل، لا إلى ما هو متمثّلا». م. ن، ص، 183.
5. م. ن، ص، 185.
6. م. ن، ص. ن.
7. م. ن، ص، 265.
8. « يقول الإسكندر إنّ قول مَن يقول إنّ العناية تقع بالجزئيات كلّها، قول في نهاية الخطإ على ما يرى ذلك أصحاب الرواق. و ذلك أنّ العناية من تلك إنّما تكون من حيث هي عالمة على ما سلف. و ليس يمكن أن تكون لها علوم حادثة جزئية فضلا عن أن تكون غير متناهية. و القائل أيضا بهذا يجوّر الآلهة ضرورة لأنّه إذا كانت تنحو نحو تدبير شخص فكيف يلحق الشخوص الشرور مع أنّ الآلهة تدبّره: و أعني ههنا مِن أنواع الشرور ما قد كان ممكنا ألاّ يقع به. و أمّا الشرور الضروري و قوعها بالشخص فلقائل أن يقول إنّ ذلك ليس من عند الإله لكنّ أكثر من يرى في أمر العناية هذا الرأي يرون أنّ الأمور كلّها ممكنة للإله، فذلك يلزمهم أن يجوّروه. و أمّا أنّ الأمور ليست كلّها ممكنة فظاهر جدّا: فإنّه ليس يمكن أن يكون الفاسد أزليّا و لا يمكن أن يكون الأزلي فاسدا كما أنّه ليس يمكن في المثلّث أن تعود زواياه مساوية لأربع قوائم ولا في الألوان أن تعود مسموعات، و القول بهذا ضارّ في الإنسانية جدّا». ابن رشد، رسالة ما بعد الطبيعة، تحقيق رفيق العجم و جيرار جهامي، دار الفكر اللبناني، بيروت 1994. ص، 172 ـ 173. (التشديد من عندي)
9. ابن رشد، المرجع أعلاه، ص، 173.
10. انظر في هذا المجال،Dictionnaire de théologie catholique, T. XV. 2° partie. Paris 1950. art . Volontarisme, pp. 3309 et suiv.
11. من رسالة بعث بها إلى صديقه موشاكا سنة 1866.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق