زهير الخويلدي:
لذلك لم يكن مشروعه منصبا فقط حول تعويض روحانية المعرفة
بروحانية الحبّ المهدّدة من قبل اللاعقلانية الطاغية نتيجة هيمنة التقنية و انتصار
التصوّر الوضعي للعلم بل تمحور حول السبل الكفيلة بإيقاظ البشر من سباتهم
الدوغمائي الذي جعلهم يعتقدون أنّهم قادرون في يوم ما على التحكّم في الأزمات التي
يتعرّضون إليها و اقتراح الحلول الجذرية لها. القرار الذي اتّخذه بالتوجّه نحو
الفلسفة لم يكن وليد الصدفة بل نتيجة إيمانه الراسخ بأنّ "الفلسفة
هي نفس الثقافة و روح الحضارة التي شكّلتنا و جعلت منّا نحن ما نحن"
بالإضافة إلى تتلمذه و مقابلته لأهمّ الفلاسفة في عصره و بالخصوص هيدجر
و ياسبرس و مرسال
و برنشفيك. بيد أنّ الشحنة الكبيرة التي دفعته نحو
التفكير في عالم الحياة أتته من التراث اليهودي المستنير و خاصّة تأويلات حاييم
فولوزنار المتحرّرة للتوراة و اعتباره هذا الكتاب "الكلمات الأولى التي
ينبغي أن يصرّح بها من أجل أن يكون للحياة الإنسانية معنى"، كما تأثّر بكلّ
الكتّاب و السياسيين الذين واجهوا الحكم الشمولي سواء الشيوعي أو النازي و حاولوا
إيجاد علاقة جديدة مع المستقبل تتميّز بسخاء إبداعي و قد انخرط هو نفسه في مشروع
مناهضة النازية بكتابته مقال بلور فيه "بعض الأفكار حول الفلسفة
الهتلرية سنة 1934 أين رفض مفهوم الحشد و قاوم سياسة تكبيل الجسد التي تمارسها
الدعاية النازية واعتدائها على قيم الكرامة و الحرّية الشخصية و قد بدأ يتحسّس هنا
المشكل الفلسفي المركزي الذي سيرتبط اسمه به و يرفعه إلى صفّ الفلاسفة الكبار وهو
مشكل علاقة الإنّية بالغيرية فكيف يتسنّى لنا منذ البدء
أن نعلن أن ليفناس هو فيلسوف الغيرية ؟ ماهي علاقة الإنّية
بالغيرية؟ و من يحدّد الآخر؟ هل المطابق هو الذي يحدّد الآخر أم الآخر هو الذي
يجعل من المطابق مطابقا لذاته ؟ كيف يكون المرء ذاته و يصبح أنا ؟ هل عن طريق
الوعي أم عن طريق الإرادة ؟ هل عن طريق القول أم عن طريق الفعل؟ كيف تطرح هذه
الذات ذاتها ؟ هل بالانفصال عن العالم و الانطواء على ذاتها أم بالانخراط في
العالم و الانفتاح على الآخر؟ ما هو الآخر؟ و لماذا أصبح الآن مشكلا فلسفيا
بامتياز ؟ هل هو عدّو للذات أم هو عين الذات كآخر؟ من أين ينبع إحساس الذات
بالضياع في العالم و باللاحماية من الآخر؟ و ماذا تفعل للتغلّب على هذا الخطر
المتأتّي من الآخر؟ كيف يمكن للذات أن تفتكّ مكانا ما تحت الشمس و تنجز كيانها دون
أن تعرّض حياة الآخر إلى الخطر؟ ما هو الطريق الجديد الذي انخرط فيه ليفناس
و ساعده على حلّ معضلة الإنّية و الغيرية ؟ ألا ينبغي أن تتوقّف على اعتبار الآخر
مجرّد شيء و نبدأ في معاملته كشخص ينتمي مثلنا إلى دائرة النوع البشري؟ هل يقدر
الحوار على إزالة سوء التفاهم بين الأنا و الآخر أم يجب أن نتعدّى ذلك نحو
المقابلة rencontre
la و التلاقي وجه لوجه؟ ماذا تضيف المقابلة إلى الحوار؟ كيف تبدأ الذات في
التجلّي l’épiphanie للآخر دون تزييف في لحظة
المقابلة والتلاقي ؟ و ألا يفعل الآخر نفس الأمر من خلال الوجه الذي يتيح له فرصة
التجلّي للذات و الكفّ عن الغربة و الانطواء ؟ و هل يجوز أن نعتبر الوجه visage الجسر الاتيقي المنشود الذي يربط بين العين
و الغير؟ لكن عن أيّ وجه آخر نتحدّث ؟ و ما المقصود بآخر الوجود بالنسبة للذات ؟ ما
نراهن عليه هو تخطّي منطق التنافي و التخاصم و تفكيك قلاع الهويّات المتكتّمة على
ذاتها و مدّ جسور التواصل و التصافي بين الذوات و الأمم من أجل تحقيق مجموعة من
التفاهمات و إنجاز جملة من التشاركات قصد بناء الهويّة الإنسيّة الكونيّة المؤهلّة
لتحمّل مسؤوليّة المحافظة على الحياة الأرضية و تحقيق وصيّة الاستخلاف والائتمان و
التعمير. الأنا و اللانهائي نشر ليفناس سنة 1934
مقالا بعنوان l’évasion عبّر فيه عن رغبته في
الخروج من الوجود و ذلك لتبيّنه أنّ الذات منسحقة من طرف الوجود و بقائها في خدمة
النسق ولاكتشافه فظاعة الممارسات اللاإنسانية التي يحملها التاريخ إلى الناس و سبب
هذه الفظاعة هو ما يحمله الإنسان من كره و حقد على الإنسان الآخر و تفشّي النزعات
العنصرية التي تعتمد على مبادئ الإقصاء و التمركز على الذات و استئصال المخالفين و
تصفيتهم جسديا و معنويا و لذلك حاول ليفناس أن
يعطي الإنسانية اللمسة التي تنقصها لكي تصبح إنسانية بحقّ بحيث تحدّث عن الصداقة و
نادى بضرورة احترام الآخر و الاعتراف بحقوقه و السماح له بالمشاركة و لذلك نظر
لإنسانية الإنسان الآخر l’humanisme de l’autre homme . إنّ خطأ الإنسانية الغربية المهيمنة الأولى هي أنّها جعلت العين
هي دائما التي تحدّد الغير و لم تنظر إلى الغير على أنّه هو الذي يحدّد العين.
الخطأ الثاني، هي أنّها اعتبرت الوجود من أجل الله و اعتبرت الله من أجل الوجود
بينما الله منفصل عن الرغبة بشكل لامتناهي. إنّه آخر الوجود أو الوجود الآخر
المنفصل. لذلك يناهض هذا الفيلسوف الميتافيزيقا الغربية التي سعت جاهدة إلى دمج كلّ
شيء ضمن دائرة المعرفة الموضوعية السببية و همّشت الذات و وقعت في الخلط بين
الطبيعة و الفكر و التاريخ و البنية، و يهتمّ بما أبقته هذه الميتافيزيقا خارجها
من مشاكل و قضايا و يتناول المواضيع التي أسقطتها من حسابها و همّشتها مثل الغيرية
و الجسد و الوجه. إنّ كلّ واقعة مهما كانت غرابتها و تفاهتها تنتمي إلى مجال
الوجود هذا ما أكّده ليفناس و كلّ ما يعزب عن الوجود هو
عدم ولا يتعلّق الأمر هنا بفعل "وجد" الذي يعني "كان" بل باسم
يشير إلى الكائنات و الأشياء و ماهيتها و ما يجعلها هي هي. إنّ الفلسفة هي علم
الوجود أو أنطولوجيا لا يعزب عنها شيء أي هي نظرية للكلّية Totalité أمّا العلم فهو أثر للعقل و مرتبط بالتقنية و يظهر كتفعيل لمعرفة
مسيطرة على الطبيعة. من هذا المنطلق يتحدّث ليفناس
عن شمولية Totalitarisme العقل و يقصد أنّ
المعرفة العقلية هي التي تتحكّم في سلوك الذات البشرية و في حرصنا على أن نفتكّ
مكانا تحت الشمس، إنّه بالمشاركة في هذا الحدوث للوجود تكون الذات هويّتها و تصبح
أنا و هذا الجهد من أجل إثبات الذات يمكن أن ينتج عنه عنف و حرب و ذلك لتضارب
المصالح و تدافع الرغبات و اصطدامها ببعض. ينقد ليفناس الأنطولوجيا
التي تردّ كلّ الموجودات إلى الوجود و يقترح ميتافيزيقا جديدة مهمّتها التطلّع إلى
اللانهائي L’infini الذي لا يختزل في غيره
ولا يمكن أن تحتويه أي كلّية لاهوتية أو تاريخية. الأنا من خلال جسد الآخر يبحث ليفناس
في مقالته المراوغة عن طريق جديد يسمح للذات الإنسانية من الخروج من غلّ الوجود
الزائف و اختراق السلسلة الأكثر صلابة وهو هنا لا يقول شيئا جديدا بخصوص هذا
الطريق بل يكتفي بأخذ مسافة نقدية مع أحلام الشاعر و رغبة الرومانسي التي تصطدم مع
واقع المجتمع و تحفظّات تقاليده. إنّ هذا الطريق الجديد الذي يسلكه ليفناس
لا يحملنا خارج العالم بل يقحمنا في حضن الوجود أي وجودنا الآخر أو آخر وجودنا Autrement qu’être. تساعدنا الفنومنولوجيا على اكتشاف الكيفية
التي نمرّ بها في حياة كلّ يوم إلى الوجود الذي نحن وهي إنجاز حالة من الانفصال Séparation كحدث حقيقي للميلاد و حتّى يحافظ هذا
الميلاد على "مبادأته" لا بدّ أن تدركه الذات في اللحظة التي أنتجها
فيها أو عاشته فيه. و يسمّى ليفناس هذه اللحظة
بحدث الحرّية وهي لحظة تفكّ فيها الذات ارتباطها بالوجود الزائف و تصبح اثنين
واحدة في مواجهة أخرى أي أنا مناظر للآخر. أمّا الإنسان العامي فهو خاضع لسلسلة
الوجود المكبّلة مستسلم لمشاعر الضياع و الكسل و الكسل Paresse هو رفض البدء و العزوف عن الاستئناف، إنّه تردّد أمام قدوم الوجود
و الكفّ عن استقدامه أو تعب من المستقبل و رضا بالحاضر و هذا التعب و الكسل و الملل
هي من الأمور التي تساعد على إنشاء المستقبل بالنسبة للذات و تبيّن لها أنّها ليست
مجرّد صفحة تعكس حقيقة الوجود و أن وجودها بيدها و ليس مجرّد قدر أمّا البدء فليس
فرصة لولادة ثانية بل هو حدث ولادة أصلية و لحظة حرّة و ممتعة تدشّن فترة جديدة
تنطلق فيها الذات نحو الاعتناء بذاتها و ذلك باشتغالها بحراسة ذاتها بذاتها من أجل
تحصينها من الخلاء الذي يملأ الأمكنة و الضجيج الذي يدوّى في الساحات قصد حمايتها
من الإحساس باللاحماية Insécurité. يسمّي ليفناس
هذه التجربة المأساوية التي يحسّ فيها الإنسان أنّه تحت رحمة ضربات القدر بتجربة
الوجود غير الشخصي أو الوجود العام حيث لا يوجد أي صوت يمكن أن يسمع ولا أيّة صورة
يمكن أن ترى و كأن الذات موجودة في الليل ولا تدري ماذا سيحصل لها فهي لا ترى شيئا
و لا تستطيع أن تحرس نفسها بل هذا هو الذي يحرس أنّه الوجود المسلوب من روح
الأشخاص. من هذا المنطلق يصعب على الأنا أن تلمس بأصابعها العمق الغامض للوجود
الذي يسمح بظهور الأشياء في الليل طالما أنّ الوعي مخترق من قبل هذا الضجيج
المتصاعد من الساحات العامة و مرتعب من صمت الفضاءات اللامتناهية أين يصعب عليه أن
يميّز بين الأشياء و الأشخاص. الانفصال لا يعني الانطواء على الذات بل تأكيد
لاستحالة العودة إلى القوقعة و الشروع في الاحتكاك بالهذا و تفكيك الشعور بالخطر
من لقاء الآخر. لحظة الولادة هي منعطف بالنسبة للذات وهي معانقة الوعي للوضوح و انقشاع
الظلمة وهي تحصل في الزمن الذي ينبعث فيه الضوء و تشعل الشمعة و تشرق الشمس و تتلاشى
وضعية بائسة و يدرك أثناءه المرء آخر الدرب... إنّنا نرى ديمومة الأشياء و مهجة
الألفاظ و رائحة العطر و لحن الآلة و نصل إلى الحلّ النهائي أين يأخذ العالم صورة
و تختفي مجهولية الوجود و يقترن الانفصال في الحياة بالشعور بالغبطة كسعادة و "الغبطة
وسيلة حياة مثلما كانت الريشة وسيلة كتابة" وهي لا تدرك بالعودة إلى الذات و عندما
يفهم المرء ما يحصل له بالإحساس بالهوّية عن طريق انخراط الجسد في عالم الحياة لأنّ
"الجسد ليس ذلك الدخيل الأبديّ" الذي يحطّم وثبة الفكر الحرّة و يعيده
إلى شروطه الأرضية كالقبر الذي ينتظره بل هو الأقرب إلي الذات من باقي أشياء
العالم و الأكثر ألفة و الذي يتحكّم في مزاجنا و نشاطنا و حياتنا النفسية، أليس
الجسد هو أساس الإحساس بالهوية "ألا نثبت ذواتنا في هذه الحرارة الفريدة التي
تنبثق من جسدنا قبل تفتح الأنا الذي سيدعى التميّز عن الجسد؟". الحياة هي
الدلالة الخاصة بالغبطة التي تنتمي إلى مجال الإحساس و الجسد وهي ليست انفصالا
بالمقارنة مع الكلّية بل مصدر الهامّ ينادي بالتعالي في النفس الداخلية. يقول ليفناس
في هذا السياق: "كلّ غبطة بهذا المعنى هي تغذية،
أمّا الجوع فهو الحاجة و الحرمان بامتياز. إنّ الحياة في... بهذا المعنى ليست مجرّد
الوعي بما يشغل الحياة. هذه المضامين تعاش: إنّها تغذّي الحياة. إنّ المرء يحيا
حياته". يحدث ليفناس منعطفا
فكريّا يتجاوز به منعطف الحداثة الذي أحدثه ديكارت لأنّه
عندما صرّح: أنا شيء يفكّر فإنّه ربط الوجود بالتفكير و لكنّه فصل الذات عن الواقع
المعاش و عن الحياة اليومية لكن ما يثير الإعجاب في الكوجيتو
الديكارتي هو لفظ شيء و آيته في ذلك أنّ الشيء يقطن مكانا ما و له مأوى و الوعي
بوصفه شيء مفكّر لا يخرج عن هذا الوضع فهو شيء متحيّز، إنّ كلّ من يفكّر يرتكز في
تجربة تفكيره دائما على قاعدة يجمع نفسه حولها و يصبح سيّدا على ما يفكّر فيه و هذه
القاعدة هي الجسد بوصفه حدث الوعي و حدثان الوجود. على هذا النحو يجري الجسد
انقلابا في علاقة الإنسان بالواقع و في عالم ذات البين Intersubjectivité طالما أنّ الوعي يكون عالم الذات عن طريق الجسد دون أن يقوم
بتجريده أو يغادره يقول ليفناس في هذا
الصدد: " يبدو
الجسد دائما و أبدا من أجل أن يكون أكثر من كومة من المادة، إذ يمكن له أن يكون
أكثر كثيرا وأقلّ قليلا من مجموعة أجزائه...الوجه و العينين بوصفها مرايا الروح هي
أعضاء التعبير بامتياز. لكن روحانية الجسد لا تقطن قدرته على التعبير عن الداخل. الجسد
لا يعبّر عن الحدث انه هو نفسه هذا الحدث". الذات
ليست خارج العالم بل متجذّرة فيه عن طريق الجسد، إنّها في البيت حيث مربض الجسد و مأواه
و المأوى ليست القوقعة و العزلة و نهاية الحياة الإنسانية و انغلاقها بل شرطها
الضروري و بدايتها، ألم يأتي الأنا إلى العالم داخل البيت و بدأ انطلاقته نحو
الوجود من عتبته ؟ إنّ المأوى من حيث هو شقّة ينتمي إلى عالم الأشياء و لكنّه من
حيث هو بيت الإنسان يجعل العالم الحميمي الذاتي ممكنا، إنّه ليس مكان الوحدة و العزلة
بل مجال لممارسة حقّ الضيافة و الانتظار و الاستقبال لجميع زائريه دون تحفّظات، إنّه
وجود الجسد و جسد الوجود و مكان لقاء الأنثى و تحوّل الأنثى إلى وجود بالنسبة
للذكر، بعبارة أخرى لم يعد الوجود الأنثوي داخل البيت آخر الوجود أو الوجود الآخر
بل يصبح وجود الأنثى هو الشرط الضروري لذكورة الوجود إقبالا و انفتاحا. الأنا من
خلال الوجه "الوجه هو الهويّة عينها للكائن"
تدور فلسفة ليفناس حول مقولة الآخر كفكرة مركزية تعطي للوجود معنى.
و الآخر يتجلّى من خلال مقولة الوجه الذي
يمثّل مرآة عاكسة لشخصية الأنا و كينونته التي ينبغي على الآخر أن يحترمها و يعترف
بمنزلتها. وهو ما يؤدّي الى تأسيس علاقة ذات البين ترتكز على فكرة اللاتناهي من
جهة مناظرة الأنا للآخر و تبادلهما المسؤولية من أجل المحافظة على الحياة على
الأرض. و تلعب اللغة دورا أساسيا في العلاقة بين الأنا و الآخر فهي تجعل العلاقة
بين المتحاورين ممكنة و تسمح بتبادل المعارف و المعلومات بينهم و تحقّق التواصل
بين جميع الفرقاء لأنّه حتّى في حالة اندلاع النزاع و الصراع بين مجموعة من
الأطراف فإنّ اللغة تظلّ في قلب الأحداث و تبقى الوسيلة الوحيدة لإجراء مفاوضات من
أجل الوصول إلى تسويات ظرفية و اتّفاقات ترضي الجمي و تبلور السلم الاجتماعية، إذ
يقول ليفناس في هذا الشأن: "يمكن أن نسمّي حوارا هذه
المقابلة التي يدخل عبرها المتحاورين إلى فكر الآخرين حيث يعطون للحوار قيمة. و يمكن
أن نسمّي اجتماعية وحدة أشكال الوعي المتعدّدة الداخلة في عين الفكر". هذا
الحوار كفيل بإيقاف النزاع و تحييد العنف و إرجاع الناس إلى طبيعتهم العاقلة و تمكينهم
من السيطرة على أهوائهم و تثقيف طبيعتهم العدوانية و تكوين الحقيقة عن طريق
الإجماع Unanimité و يربط ليفناس
هذا الحوار بالمحايثة حيث تظلّ الذات ملتصقة بذاتها و منهمكة في الاعتناء بوجودها
و يربط بين إثبات الذات و الانفتاح على الآخر و احترامه حيث يحدّد المطابق le même الآخر L’autre و يحدّد الآخر بدوره المطابق لكن ليفناس ينبّهنا
إلى أنّ وراء كلّ اقتناع convaincre توجد غلبة vaincre وهيمنة و قهر و بالتالي يبرز خطر العنف مجدّدا في علاقات ذات
البين و بالتالي ثمّة تخوف من اعتبار الآخر كمجرّد شيء و موضوع للرغبة و أداة
للاستعمال و من أن ينظر إليه الأنا على أنّه ضدّا و عدوّا و مزاحما يجب إزاحته و القضاء
عليه. يتجاوز فلاسفة الحوار هذه المعضلة بتأكيدهم أنّ لحن الأصوات و شذى المعاني
المتبادلة و ليس دلالة الكلمات هي التي تصنع هذه العلاقة المتكافئة. و أن شكل
العلاقة التي تنجزها اللغة هي علاقة أنا ـ أنت و ليس شكل العلاقة أنا ـ هو إذ
عندما يتكلّم كائنان بشريّان و يستعمل كلاهما لغة التخاطب فإنّ الأنا يتوجّه إلى
الآخر و يقول له أنت قبل أن يبدأ في الحديث عن نفسه. و في هذا التوجّه نحو الآخر
بالحديث خروج عن النرجسية الفارغة و اعتراف بالآخر و احترام له كطرف حقيقي في
الحديث. يقول ليفناس حول هذا الموضوع: "أن نتحدّث مع الآخر هو
في نفس الوقت أن نعرف الآخر و نجعله يعرفنا، فالآخر هنا ليس فقط معروفا بل و أيضا
مرحبّا به، ليس فقط مسمّى بل و أيضا مدعوّ من طرفنا. أنا لا أفكّر في كلّ ما هو
بالنسبة إليّ فقط بل و أيضا و في الآن نفسه أفكّر في كلّ ما هو بالنسبة
إليه".العلاقة الشرعية بين الأنا و الآخر هي إذن مقابلة Rencontre و تقتضي هذه المقابلة المحافظة على المسافة
و البقاء في حالة الانفصال بين الطرفين لأنّه بمجرّد أن أتعلّق بما يقوله عني أو
يتعلّق هو بما أقوله عنه فإنّ الاتّصال يتحوّل إلى ذوبان و انمحاء و المقابلة تتحوّل
إلى علاقة تطابق بين الأنا و الآخر و بالتالي لم يعد هناك لا أنا و لا آخر بل مجرّد
شيء واحد هو المثيل Même أو المطابق Identique . إنّ المقابلة تجرى عندما يتمّ احترام المسافة التي تفصل بين
الطرفين و تسمح لهما بالتواجد معا و العيش سويّا و المسافة الضرورية ليست مسافة
مكانيّة بل مسافة زمنيّة و ثقافيّة و تاريخيّة وهي غير قابلة للتذليل و الاجتياز
لأنّها هي التي تسمح للغيرية للوجود عند الطرفين. نعثر على خاصّيات الحوار
المتعالي في علاقة الترابط بين الأنا و الأنت لكونها علاقة اتيقية متعادلة و هذه
هي صورة الحوار المتعالي أو التعالي بالحوار من أجل إتاحة الفرصة للأنا لكي يقابل
الآخر و للآخر من أجل مقابلة الأنا دون أحكام مسقطة و دون برمجة مسبقة. بيد أنّه
ثمّة تخوّف من أنّ علاقة الترابط يمكن أن تمحي الغيرية و تفسخ الخاصّية التقابليّة
للطرفين لأنّ "المقابلة الحقيقية تحدث بين كائنات لا تعرف بعضها
البعض"، لإزالة هذا التخوّف يقترح ليفناس
أن تكون العلاقة بين ذات البين علاقة تناظر و تقابل أين يكون كلّ واحد في خدمة
الآخر و ليس علاقة تنازع أو تطابق لأنّ التنازع بل و حتّى التطابق يؤدّي إلى
انتفاء أحد الطرفين و القضاء بالتالي على العلاقة و تنعدم شروط المقابلة و وضعية
الحوار. إنّ الحوار يتضمّن كلاما أرسله إلى الآخر و ردّا من الآخر يرسله إليّ إنّه
يفترض الانخراط في لعبة تبادل للرسائل بين الباثّ و المتقبّل وهو يوقظ عندنا روح
المسؤولية لأنّه ينبغي أن يجيب كلانا على ما هو مرسل إليه من نداء و لا أحد
بإمكانه أن يعوّضنا في ذلك لأنّ الكلام موجّه إلينا و ليس لأحد آخر. إنّ الحوار
يخرج المرء من وحدته الصمّاء الفارغة أي من أنانته و يقحمه ضمن الكلّية التي هي
نتيجة إجماع المتحاورين على الحقيقة وهي ليست تطابقا بين العقل و الواقع بل رفع
المتحاورين للغطاء عن أسرار الواقع لرؤية وجهه الحقيقي طالما أنّ العلاقة أنا ـ أنت
هي مكان حدوث الاتيقا و طالما أنّ الأنا أثناء مقابلتها بالآخر تأخذ بعين الاعتبار
الكلّ أو تطمح إلى أن تتكلّم باسم الكلّ ولا تكتفي بالكلام عن الفرديّ الجزئيّ. يتراوح
وجود الذات بين الاستقالة و الارتماء في الوهم بالانطواء في النوم من أجل الحلم
بعالم آخر أفضل و لكن ليفناس يرفض هذا
الحلّ و يعتبره جزءا من شجاعة الانتحار أين تسقط الذات بين حبائل الهيمنة خوفا من
الموت أو رعبا من تجربة الهناك و يبحث هذا الفيلسوف عن النسيج الذي يشدّ الذات إلى
الوجود في قلب المحايثة و في اليومي أين تتواجد عبر الصور وعن طريق فعل السكن و تشعر
بالغبطة حين ينفتح أفق الجسد على جدّة أصيلة. يقول في هذا السياق: " إنّ
اختراق قوقعة العزلة هو وحده الذي يسمح لنا بالنفاذ إلى آخر الوجود بطريقة مغايرة
عنه". علاوة على ذلك يؤكّد ليفناس
على الدور الاتيقي للوجه في العلاقة التناظريّة بين الذات و الغير لأنّه عندما
تتوجّه الذات نحو ذات أخرى فإنّها تحاول على التوّ معرفة من تكون و تفهم ماذا تريد
و تقول لها ما تنتظره منها و لن يتسنّى لها تحقيق هذه المقابلة إلاّ بمنحها وجهها
و بالتعرّف على وجه الذات الأخرى، في هذه العلاقة أي أثناء المقابلة بين شخصين نحن
لسنا فقط أمام فهم و معرفة بل أمام وجه لوجه face
à face و"الوجه يحدثّني و من هنا يستدعيني إلى
علاقة دون قياس مشترك مع قدرة تمتحن". لكن تبادل الكلام هو أكثر من تبادل
المعارف لأنّ هذا الشخص الذي يكلّمني لا أفكّر فيه كما هو بل أتحدّث إليه فهو
مشارك لي في علاقة تجعلني حاضرا دائما و أبدا بالنسبة إليه و تجعله حاضرا دائما
بالنسبة إليّ و من هنا ينشأ الاحترام و الاعتراف المتبادل. لقد تحدثّت إليه و تحدّث
هو إليّ و بالتالي أهمل الوجود الجزئي الذي يخصّه و انخرط في الكلّي. عندئذ يكون
الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يستطيع عندما يلتقي بغيره ألاّ يعبّر له عن
سعادته بهذا اللقاء أو سخطه و امتعاضه الشديد. يتميّز اللقاء عن المعرفة بكونه يوجّه
إلى الآخر تحيّة و سلاما و يترجم موقفا إنسانيا و ليس مجرّد لقاء تعارف لأنّه
عندما أتحدّث مع غيري فإنّ الأمر لا يتعلّق بتبادل الكلام معه بل باستدعائه و استضافته.
هنا ليس الآخر هو الذي يفرض عليه الأنا هيمنته بل ذاك الذي يحافظ على نفسه و يتماسك
في خارجيته. إنّه الشخص الذي يتحدّث إليه الأنا و يوجد خارجه و الذي يستمدّ
مرجعيته من ذاته و ليس هو فقط موضوع الحديث أو ذاك المشار إليه بالهو. يتدخّل
الوجه بطريقة حاسمة في انفتاح الإنّية على الغيرية و في تحول الغيرية إلى شرط
إمكان إثبات الإنّية لأنّ الآخر عبر وجهه يظهر للأنا في خارجيته و غرابته وتميّزه،"
إنّه من خلال الوجه يتجلّى الآخر للأنا" بل إنّ الإنسان هو الكائن الوحيد
الذي يمتلك وجه و يتميّز عن الآخرين بوجهه بينما الأشياء والكائنات الأخرى ليس لها
وجه ولا تتميّز عن بعضها البعض بهذه الخاصّية لأن لها نفس الملامح و الصفات و بالتالي
فالوجه إنساني أو لا يكون. إنّ تجلّي وجه الآخر للأنا يتمّ عبر النظرة و النظرة
ليست مجرّد الرؤية الحسّية بل التمعّن و التحديق و الإبصار لأنّه كما يقول هيدجر:
"ليس المهمّ أن نرى بل الأهمّ أن نبصر في ما نراه"
والوجه ليس مجرّد الجبهة والأنف و الفم و العينين و الوجنتين بل هو بصمة الشخصية و
رمزها العلني و أكثر الملامح مجلبة للانتباه و كما يقول ليفناس:
" دلالة الوجه تكمن في البعد الجديد الذي يفتحه في إدراك الوجود"،
و المقصود أنّنا نحن موضوع الإدراك بحكم الاختلافات في الوجه و التي تعطينا كيفيات
تميّزنا. يتميّز الوجه بمجموعة من الخصائص مثل النقاء الأصلي و المقاومة
اللامتناهية و الخارجية الجذرية، فالتجلّي كوجه ليس انكشافا لعالم باطني بل خارجية
الوجه هي هنا ما لا يمكن إخفائه و الاضطلاع به و تحمّلها، إنّها من الآن فصاعدا
تقدّم نحو اللانهائي و البرانيّة الجذرية، فالآخر ليس له أن يعبّر و يظهر إلاّ عن
طريق وجهه و الوجه هو بالتحديد هذا الظهور الاستثنائي للذات بذاتها. تجلّي وجه
الأنا للآخر هو زيارة الآخر عن طريق وجهه المختلف و بالتالي يفتح الوجه نوافذ
الذات للزائرين و يسمح لها بزيارة الآخرين عبر وجوههم و هكذا يدخل الوجه إلى
عالمنا عبر حقل غريب و الإنسان الغريب يأتي إلينا من الخارج منفصلا عبر وجهه
المتجلّي و يعترف ليفناس أنّ: "دلالة
الوجه في تجرّده هو في معناه اللغوي خارق للعادة و خارج كلّ نظام و خارج كلّ عادة".
"الأنا ليس الكائن الذي يبقى في وجوده
هو عينه بل الكائن الذي يرتكز وجوده على التماهي و على البحث عن هويّته من خلال كل
ما يحدث له...". السؤال الذي استفزّ الفيلسوف امنيال
ليفناس (1906 / 1995) كثيرا و أثار
فيه عدّة استفهامات هو تخوّفه من وجوده في عالم لا يحمل أيّة جدّة ممكنة و انخراطه
في حياة خالية من الأمل و معدّة بشكل مسبق دون ضمانات للاستمرار في البقاء و المعطى
الذي عزّز تخوّفه هذا أن لا أحد من المجموع البشري يملك أي نوع من أنواع القدرة
على التغيير و الاختيار و
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق