مهذب السبوعي
تقـــديم:
تصـــدير:
[هناك بين لفظتي" العالمي" و
" الكوني" تشابه خادع. إنّ الكونية هي كونية حقوق الإنسان، و الحرّيات،
و الثقافة، و الديمقراطية. أمّا العولمة فهي عولمة التقنيات، و السوق، و السياحة،
و الإعلام.] جون بودريار.
[ ليس
الإرهاب الرّاهن حفيد تاريخ تقليدي للفوضى و للعدمية و للتعصّب. إنّه معاصر
للعولمة.] جون بودريار.
من نافلة القول الإيعاز أنّ لعبة المفاهيم؛ لعبة للفيلسوف وحده، غير
أنّه من غريب ما يحدث أن يطأ غير الفيلسوف أرض المفاهيم و يسعى إلى مقاسمته لعبته
أو مشاطرته أديم أرضه. و ساعتها نخشى على "صديق المفاهيم" (1)
خشيتنا على المفاهيم ذاتها، خشيتنا
على الصديق أن لا يعود صديقا، فمن دلالات الصداقة؛ الصدق في الصحبة؛ إنّ الصديق الصدوق الصادق هو الذي تتملكّه الغيرة بمحبوبه / صديقه فلا يقبل و لا يرضى معه شريكا. ألم يقل ابن عربي في الحبّ " الحبّ أن يقول المحبوب لمحبوبه يا أنا " (2)،
على الصديق أن لا يعود صديقا، فمن دلالات الصداقة؛ الصدق في الصحبة؛ إنّ الصديق الصدوق الصادق هو الذي تتملكّه الغيرة بمحبوبه / صديقه فلا يقبل و لا يرضى معه شريكا. ألم يقل ابن عربي في الحبّ " الحبّ أن يقول المحبوب لمحبوبه يا أنا " (2)،
الخشية كذلك على المفاهيم أن "يستدخل" عليها من لم يكن قد
تمرّس بالحذر في قدّ الكلام، فلا نفرّق لحظتها بين الألفاظ و مخاتلاتها و المفاهيم
و محاذيرها. نقول هذا القول و نحن نطرق باب الزوج المفهومي؛ عالمي / عولمي لا مجرّد
تنبيه إلى الحذر من التشابه الظاهري، بل تنبيها كذلك إلى ما قد يطرأ على قولنا من
تداخل لا واعي بين ما هو فلسفي و ما هو لا فلسفي، الذي قد يسحبنا إليه ما بين
العالمي و العولمي من جذور اشتقاق ايتيمولوجية واحدة (العالمMonde
).
هذه المحاذير العامة، تنجر عنها محاذير خصوصية و نحن نأشكل القول حول
هذا الزوج المفهومي، فالتفطّن إلى وجوب الحذر حيال المفاهيم ينبّهنا إلى لزوم
الحذر حيال عملية أشكلة المفاهيم، فالمفهوم لا يحيل إلى مجال الحدّ فحسب بل يحيل
كذلك على مجال الإشكال. وهو ما يقتضي منا التفطّن إلى الفارق بين ما يثيره مفهوم
العالمي و ما يثيره مفهوم العولمي من إشكاليات، و إن كان لنا و نحن نتحسّس السبيل
إلى المعالجة نقع على حذر المفهمة و حذر الأشكلة فليس لنا إلاّ أن نمدّد المحاذير
إلى ما يمكن أن يلتبس علينا من تشابه الوعود؛ وعود العالمي و رهاناته و وعود
العولمي و رهاناته، بين العالمي كوعد في حدّ ذاته، و العولمي كإيهام بالوعد. على
هذه المحاذير الثلاث نفتتح القول في ثنائية العالمي، العولمي؛ فأي حظّ في الحقّ
للشبه و التشابه بينهما ؟ أم أنّ الأمر لا يعدو أن يكون مجرّد شبهة لا غير؟
I ـ العالمي، العولمي: شبه الاسم و شبهة
الدلالة:
يمكن أن نباشر تحديد العالمي على جهة كونه نزوع الإنسان إلى أن يكون
كونيّا، نزوع قائم على قاعدة التعدّد و التنوّع و الاختلاف علامة ثراء الإنساني و
غناه، نزوع يخاطب الإنساني فينا من حيث نحن كلّ جامع ثري باختلاف أجناسه و تنوّع
أوطانه و تعدّد ثقافاته. و على هذا الأساس يمثّل مفهوما ذو خصوصية أنطولوجية / أنثربولوجية. العالمي قائم كذلك حيث كونية القيم
و المثل الإنسانية العليا، فهو بهذا المعنى مفهوم ذو طابع ايتيقي ينقلنا من حيّز
فردانيّتنا إلى مجال كونيّتنا. العالمي؛ وجودا و قيمة يمثّل نزوعا إذن فهو مطلب
بشري، مطلب في وحدة الوجود و مطلب في وحدة القيم، من جهة كونه مطلبا فهو غاية
الغايات. على هذا النحو كان هذا المطلب غاية الفيلسوف من نظام المدينة (Polis) عند اليونان إلى الإنسان الشمولي في
الفلسفات المعاصرة. فمن إجابة سقراط عن سؤال من
أي بلد هو ؟(3) إلى تصوّرات الرواقيين عن البشر
كمواطني عالم واحد، إلى المحايثة السبينوزية و تصوّره
عن الجوهر الواحد، إلى مشروع كانط في السّلم
الدائمة إلى المطلق الهيغلي و أممية ماركس
كان العالمي طموح الفلاسفة و مطلبهم إلى حدّ يجوز لنا أن نقول معه أن العالمي
كمطلب ايتيقي سليل الفلسفي أو هو الفلسفي ذاته إذا كانت الايتيقيا هي الفلسفة
بامتياز. فالفلسفة هي الفضيلة ، لو جاز لنا أن نغضّ الطرف عن الفويرقات الدلالية
بين الاتيقيا و الأخلاق. و فضيلة الفضائل هي أن يوجّه و عينا و سلوكنا بمطلب
الإنساني في عالميته و كونيته. الذات بذاتها و بالآخر، آخرها لا الآخر Autre بدلالة الغريب étranger بل
بدلالة الآخر / القريب. في دلالة العالمية وحدة المتنوّع و المختلف وحدة الالتقاء،
التقاء الوجه بالوجه لا بدلالة التواجه بل بدلالة التعرّف أو المعرفة و العرفان
بما في العرفان من دلالة "العرفان بالجميل" و "جميل" الذات
على آخرها هو جميل الإنسان على الإنسان، هذا الجميل الذي ليس له من فضاء سوى فضاء
الكونcosmos فضاء الكونيةcosmotisme حيث وجود الإنسان في الكون هو
وجود تعلّق به معاني الإنسانية حيث "ليس أجدى
للإنسان من الإنسان" على حدّ عبارة ريكور
المأخوذة عن ميرلوبونتي، إنسانية الكائن في كونيته أي في
خروجه من قمقم الأنانة و انفتاحه على الغيرية و اعترافه بحقّ الآخر في أن يكون
آخرا. في فضاء العالمية يلتقي المحلّي و العالمي على جهة التجذّر في التربة
الوطنية مع الانفتاح على كونية الكون الذي لولاه لا معنى لما هو محلّي أو وطني أو
شخصي. في فضاء العالمية يلتقي الإنسان بالإنسان لقاء لا معنى لإنسانيته خارجه. إنّ
هذا اللقاء الإنساني المختلف هو لقاء اللاتماثل، فاللاتماثل هو الشرط الأساسي
للنظام و هو واقعة الطبيعة. فكأنّ اللاتماثل هو القدرية الوحيدة في الطبيعة بل لعلّها
نعمتها. فجميع الكائنات الحيّة ـ لو جاز لنا أن نتكلّم بلغة البيولوجيا ـ تضمن
بقاءها و إعادة إنتاج ذاتها بالانفتاح على آخرها، يقول فرنسوا
جاكوب:" إذا كان يجب أن نكون اثنين معا لكي نعيد إنتاج ذاتنا فإنّ
ذلك لكي ننتج آخر مغاير لنا"(4) إنّ الذي
سيخلّدني هو شخص آخر مختلف عنّي، فالأنا هو الذي ينتج الآخر واختلاف الآخر لا
غربته هو شرط البقاء و هذا الإنتاج ليس مجرّد فعل إنتاج بيولوجي ناتج عن غريزة
جنسية بل هو كذلك إنتاج و إعادة إنتاج ثقافي. فرغبتي في إنتاج نفسي هي التي تفترض
منّي تفاعلا مع الآخر لا نتاج آخر هو ثالثنا لكنّه ليس الثالث المرفوع.
إنّ مشروع إعادة إنتاج الذات هو مشروع التمعين في علاقة دلالية لأنّ
الأمر لا يعدو أن يكون عملية لتوحدّ المختلف و اللاتماثل. فلقاء اللاتماثل هو
الوحيد اللقاء المنتج للمعنى، أمّا لقاء التماثل فهو لقاء عقيم ينفي اللقاء ذاته
ليتحول إلى لعبة للتشابه و المجاملة أكثر منها لقاء إرادات تسعى إلى الإنتاج. إنّ
لقاء الأنا بالآخر ليس لقاء نفي و ذلك لأنّ كلّ واحد منها و هو يسعى إلى تأكيد
أناه ينتج الآخر فيه ولو على جهة السلب، فعندما نسلب الآخر فينا فنحن نراكمه
داخلنا مجموعة مسلوبات، لذلك يؤدّي تفاعل الأنا . الآخر إلى إنتاج ثالث هو بدوه
متكثّر و مغاير للاثنين فجدلية النفي و التأكيد هي وحدها جدلية اللقاء المثمر،
لقاء اللا تماثل. على هذا الأساس فإنّ كلّ مشروع يؤكّد على التراتبية و الهرمية و
الهيمنة في علاقة الإنسان بالإنسان هو مشروع منافي للطبيعة الإنسانية، فالعقاب و
السجن و إرادة الصهر و الدمج كلّها آليات و إرادات تنفي كينونة الكائن من جهة أنّه
كون و كلّ على هذا الأساس يعتبر العديد من الفلاسفة و الأنتربولوجيون أمثال
شابيرا و مرقان Morgan
أنّ القوّة ليست ملازمة للنظام لأنّها ليست من طبيعة الإنسان. من هنا
يمكن أن نفهم قيمة المشروع الابستيمولوجي لفلاسفة نادرين أمثال فوكو
وجاك لاكان و دريدا
و دولوز عندما قاموا بقلب الاتّجاه البنيوي الذي يؤكّد
على وجود بنية واحدة لكلّ الأشياء و أنّ المختلفات لها أصل واحد يتكرّر في الظواهر
. فقد قام هؤلاء بتفكيك البنية على اعتبار أنّ البنية ليست سلوكا ثابتا و أنّها شيء
ذهني ليس له علاقة بالسلوك. من هنا نفهم رفض فوكو
للنظام باعتباره في الأصل زائف. في فضاء العالمية إذن لا معنى للتماثل ، بل لا
معنى للكونية و للذات إلاّ داخل هذا المجال اللاتماثلي. لكن هل تتناسب هذه المعاني
مع دلالة العولمة حتّى تكون بمثابة الواقعة الطبيعية التي لا مفرّ من الخضوع لها و
القبول بها و الترويج لنمط تصوّرها عن علاقة الأنا بالآخر الكونية بالخصوصية،
الإنسان بالإنسان ؟ إنّ الإحراج الذي سبّبه لفظ العولمة للفلسفة هو إحراج فعلي و
حقيقي إلى الحدّ الذي يمكن معه القول أنّ الفلسفي في حدّ ذاته صار مهدّدا، إحراج
وجود الفلسفة و مشروعية هذا الوجود و جدواه ـ فأي جدوى و أي فعالية تقدّمها الفلسفة كمبرّر
لوجودها في زمن ليس فيه من مشروعية إلاّ لسرعة التداول، تداول الأموال، تداول
المعلومة، تداول المنافع. إحراج فهم العولمة هو إحراج تأصيل المفهوم، إحراج مصير
الفلسفة و مستقبلها في زمن صار فيه المستقبل أشدّ الأشياء قربا و أبعدها في نفس
الآن. من شأن تأصيل المفهوم أن يرفع عديد مواطن اللبس و أن يحدّد ليس وجهة اللفظ
فحسب بل كذلك وجهة إمكان حديثنا في العولمة، فقد استعمل اللفظ من قبل منظَري
العولمة في شبكة علامات توحي كلّها بوحدة المنافع و المصالح و وحدة القدر و المصير
أي في النهاية وحدة النَوع الإنساني، وهو ما يوحي بأنّ الحديث في العولمة سليل
الحديث عن الكونيَة، بل باتت العولمة و كأنّها المجال الذي تحقّقت معه طموحات
الحداثة و طموحات فلاسفتها في بلوغ درجة كونية النوع الإنساني و كونية قيمه و رهاناته.
لهذه الاعتبارات صوّرت العولمة على أنّها نتيجة حتميَة أو هي واقعة طبيعيَة كلّ
وقوف في مواجهتها هو وقوف ضدّ مجرى التاريخ أو ضدّ الطبيعة الإنسانية بما في معنى
مقولة الطبيعة من قدرية. اللبس الواقع و المقصود أحيانا هو لبس بين مفهوم العولمة
و مفهوم العالمية إذا استعمل مفهوم العولمة Globalisation
بدلالةMondialisme عالمية و أحيانا بدلالة Mondialisation و ذلك لإبراز الطَابع
الكوني و الإنساني للعولمة، بل لقد ذهب منظرّو العولمة إلى حدَ استعمال اللفظ
بدلالة كوسمولوجية Cosmotisme .استعمال
هذه المغالطات المفهوميَة أدّت ببعضهم إلى حدّ السطو على الهيغلية
في وصف العولمة على جهة كونها علامة نهاية التَاريخ (5).إحراج
فهم العولمة كذلك هو إحراج التاريخ و موقع الحدث من التاريخ ، فلقد استعمل لفظ
العولمة في سياق يوحي بالفرادة التاريخيَة لتحقيق نموذج لا سابق له في التاريخ،
لذلك صوّر الحدث على أنّه نهاية التاريخ باعتباره يعبّر عن عصر نهاية الايدولوجيا،
غير أنّ تفكيك اللفظ و تفكيك الحدث يبرز ما لفكرة الفرادة التاريخية من مغالطة. فعلى
مستوى اللفظ يعود لفظ العولمة إلى أصل لاتيني "موندوس" Mundus و
تعني الكون و من بين دلالات هذا اللفظ الشَموليَة Globalisation و مصطلح الشمولية يمكن
تأوّله على أنّه دلالة التوسّع المفترض للنشاط الاقتصادي على حساب مختلف الأنشطة
الإنسانية، كما يفيد توسّع التبادل على صعيد الكوكب سواء كان ثقافيا أو سياسيا، كما
تفيد الشمولية كذلك تفكيك الهويّات القومية و إزالة الحدود في صلب شبكات التبادل
العالميَة. فاستعمال اللفظ بدلالة الكون و بدلالة الشمولية بما فيه من توسّع لنشاط
ما على بقيّة الأنشطة و توسّع هذه الأنشطة لتشمل العالم في مختلف أرجائه ليس علامة
مميّزة للعولمة الحديثة فحسب، بل هي ميزة كافة العولمات (إن جاز القول) التي حدثت
عبر التاريخ و لنا في التاريخ استعمالات لألفاظ مشابهة دلاليا للفظ العولمة وإن
كانت تختلف عنها في مستوى الاسم، فألفاظ كالأسلمة و النصرنة و قبل ذلك الرَومنة هي
ألفاظ تشير إلى دلالة كوسمولوجيَة و دلالة شمولية تجعل من نموذج ما، نموذجا يوهم
بالعالمية. فإن كان النموذج الحالي يميل إلى تغليب ما هو اقتصادي على بقية الأبعاد،
فذلك لا يعطيه الحقّ في الفرادة التاريخية فالنموذج التهويدي و النموذج التنصيري
كلّها نماذج تميل إلى تغليب البعد الروحاني على بقيّة الأبعاد مثلما كان نموذج
الرومنة يميل إلى تغليب البعد الحضاري. و تفكيك هذه الأحداث التاريخية كأحداث تكشف
عن كون كلّ حدث منها كان يدّعي العالمية مثلما يدّعي الحدث الحالي، فمقولة
"شعب الله المختار" توصي بأنّ الله اختار بني إسرائيل ليكونوا أسياد
العالم و يجعل نظام حياتهم و معتقدهم يسود كافة أرجاء الأرض، كما أنّ توجيه الرّسالة
المحمّدية للعالمين، يعني أنّها لا تخصّ عالم البشر فحسب بل تشمل كذلك عالم
الأشياء، حيّها و جمادها، و لعلّ المقولة الرّشيديّة (نسبة إلى هارون
الرشيد) "أمطري حيثما شئت فخراجك راجع إليّ" تشير بكلّ وضوح إلى
كونيَة النموذج الخراجي و شموليته الأرض من الهند إلى السند، كما درجت العبارة
التي لا تشير إلى أمكنة جغرافية بعينها بقدر ما تشير إلى كافة أصقاع الأرض. كما أنّ
مقولة "كلّ الطرق تؤدّي إلى روما" تحمل هذا الطابع الكلياني لروما
الحضارة لا روما المكان. العولمة إذن في مختلف تجلّياتها التاريخية ليست سوى عملية
فرض نموذج معيّن على العالم و تسويقه على كونه، اللحظة الفريدة من نوعها و التي لا
سابق لها في تحقيق طموح الإنسانية في العالمية و الكونية .
II ـ العولمة / الأمركة و مقوّماتها:
على أساس ما تقدّم ليس لنا إلاّ أن نحذر من الخلط استعماليا بين
معاني العالمية و الكونية من حيث هي مطالب إنسانية و العولمة من حيث هي إرادة فرض
نموذج معيّن (ديني أو سياسي أو ثقافي أو اقتصادي ...) على العالم، و على اعتبار أنّ
العولمة الحالية ليست سوى فرض للنموذج الأمريكي على العالم، هذا النموذج الاقتصادي
الأرقى للرأسمالية الذي يعمل على تغليب ما هو اقتصادي على بقيّة الأنشطة الإنسانية
ممّا يجعله ينظر إلى بقيّة الأنشطة نظرة نفعية براغماتية فتراه يسلّع كلّ شيء
(تسليع الثقافة، تسليع الفنّ، تسليع المعرفة، تسليع السياسة...) يعتبر سمير
أمين (6) أن العولمة الحالية ليست سوى مرحلة تاريخية للرأسماليَة هذا النظام
القائم على إرادة الهيمنة و الذي عرف مرحلتين سابقتين: الأولى هي المرحلة الكولونيالية
(مرحلة الهيمنة العسكرية) و الثانية هي المرحلة السياسية (مرحلة التبعية السَياسية)
و الثالثة و التي هي مرحلة العولمة هي حالة الهيمنة الاقتصادية و التي يمثّل
المثال الأمريكي نموذجها. و يجب أن نلاحظ أنّ بلوغ المرحلة الثالثة لا يعني زوال
المراحل السابقة بل هي مراحل يتمّ دمجها و صهرها معا في بعد واحد. حيث تتحقّق
الهيمنة باستخدام الأبعاد الثلاثة. و قد استحوذ النموذج الأمريكي على إرادة صهر
هذه الأبعاد الثلاثة لتحقيق إرادة الهيمنة و يقوم هذا النموذج على خمسة عناصر
أساسية على نحو ما يلخّصها أبو يعرب المرزوقي
و هذه الأبعاد الخمسة هي :
1 . قرية المواصلات الأمريكيّة .
2 . وحدة السوق الأمريكيّة .
3 . حضارة
الاستهلاك الأمريكيّة .
4 . وحدة
النمط المعيشي الأمريكي .
5 .الديمقراطية الأمريكية .
إنّ مقولة "العالم قرية " هي من المقولات الأساسية التي
يسعى من خلا لها منظرّو العولمة إلى إظهارها على جهة كونها نموذج عالمي وعلى أنّها
مآل طبيعي للأشياء إذ أن المآل الطبيعي للإنسان التوحّد و التواصل. و القرية ليست
سوى ذلك المكان المحدود في أبعاده الفيزيائية و الذي يسهل فيه التواصل رغم بساطة
الوسائل أو انعدامها. إلاّ أنّ عالم الاتّصالات الحالي من حيث هو عالم رقمي هو
عالم اختزالي يختصر المكان و الزمان و يذهب إلى حدّ إلغائها. غير أنّنا لو نظرنا
إلى هذه المقولة نظرة نقدية سنصل إلى أنّ العولمة إذ تلغي الزمان و المكان أو في
سعيها إلى إلغائهما تلغي الإنسان ذاته، إذ لا معنى للإنساني إلاّ متجذّرا في موطنه
منفتحا على تاريخيّته، فالتآمر على التاريخ الذي نشهده اليوم من خلال قصف
الطَائرات الأمريكية لمتحف بغداد و نهبه بعد ذلك، و نهب الآثار الفرعونية ليس سوى
عملية تصفية حساب مع الزمن الإنساني من قبل نظام عولمي جديد يلغي من حساباته الزمن
و التاريخ لأنّه يفتقدهما. لذلك يتّهم كلّ من يعير اهتماما بالتاريخ بالماضوية و
الأصولية، و يحرّم الحديث في الماضي باسم المستقبل و باسم الحداثة. فالمستقبل هو
ما نستعدّ دوما لاستقباله بما في الاستقبالية من ولع الانتظار و نشوة اللقاء
بالزمن الآتي، غير أنّ العولمة تلغي نشوة اللقاء بالمستقبل من خلال العمل على
تشريع حدوثه، فتحوّله إلى كابوس جاثم على الصدور، غموض مرعب، فيصير كلّ ما سيأتي
محمولا على توقّع الكارثة فلا غرابة أن تبرز اليوم علوم لتوقّع الكوارث
(المستقبليات) و كأنّنا صرنا لا ننظر إلى الزمن إلاّ على جهة كارثية. عولمة الاتّصالات
التي جعلت "العالم قرية " تختزل المكان إلى الحدّ الذي يضيق فيه بأهله
على رحابته، فيغيب حسّ المواطنة و الشعور بالانتماء و يصير كلّ العالم هو السكن
دون أن يقدر أي عالم على أن يلفّني بسكناه فيصدق عليّ ساعتها قول أبي العتاهية:
طلبت المستقرّ بكلّ أرض فلم أر لي بأرض مستقرّا (7)
لكن هل أنّ عولمة الاتّصالات تحقّق فعلا التواصل ؟
إن كانت وسائل الاتّصال الحديثة تنجح في تحقيق الاتّصال إلاّ أنّها
تفشل في تحقيق التواصل، بل إنّها تجعل من الاتّصال بديلا عن التواصل، و الإنسان
كائن تواصلي و ليس كائنا اتّصاليا، فالاتّصال لا ينقل إلى الآخر سوى سطح الأنا
(معلومة، فكرة، خبر....) و لكنّه لا ينقل إليه كينونته، أمّا التواصل فهو انتقال
كينونة الذات إلى عمق وجود الآخر و بذلك أخرج من قمقم الأنا إلى حيّز وجود الآخر، شبيهي
و المباين لي على نحو ما يؤكّد ادغار موارن (8)
التواصل وصل و الوصل لا يكون إلاّ مباشرا و حميميا بهذا هل مازال "العالم
قرية " " أليس العالم سوى مجرّد فندق يقطنه غرباء وسيلة نزلائه في
اللقاء بالإنسان ما يتوفّر في الغرف من آليات إعلامية لمشاهدة الإنسان و الإنصات
إليه فيصير عالم الأفراد مسكونا بالصورة و الصوت لكن مع إلغاء التخاطب في
حقيقته" (9). إنّ حقيقة الثورة الاتّصالية تكمن في "تقوية وسائل الاستعلام
على البشر" لمزيد إخضاعهم رمزيا و التحكّم
فيهم. فيصير من منظور حداثوي أنّ الأكثر حداثة هو الأقدر على استيعاب الثورة الاتّصالية:
أي الأقدر على تسليم ذاته لهذا الوحش الجديد و كأنّنا بمحضر دعوة سقراطية
جديدة تقول لنا: سلّم نفسك بنفسك لكلّ من هبّ و دبّ. و لو لخّصنا البعد الثاني
"وحدة السوق الأمريكية" سنجد أنّ العامل الحاسم في العولمة الاقتصادية
تمثّل في تحرير التجارة و المبادلات و أساسا تحرير النقد من سيطرة الدولة الذي بدأ
سنة 1973 مع إلغاء أسعار الصرف الثابتة لعملات البلدان الصناعية الكبرى (أمريكا،
كندا، ألمانيا) ثمّ وجدت بقيّة الدول نفسها مجبرة على اتّباعها. و قبل ذلك و منذ
سنة 1944 تمّ استبدال قواعد النظام الدولي بحيث صار على جميع الدول أن تعمل على
الحفاظ على أسعار عملاتها الثابتة حيال الدولار الأمريكي. إنّ عولمة المبادلات
الاقتصادية لا يمكنها أن تؤدّي إلى عالمية الرّفاه بل تؤدّي إلى القضاء على الرّفاه
ذاته من خلال تكريس الاحتكار و مراكمة الربح وهو ما أدّى بمؤلفي كتاب "فخّ
العولمة " إلى اعتبار مجتمع العولمة هو مجتمع الخُمس الثريّ و أربعة أخماس
فقراء لانحسار الثورة في يد خُمس الأفراد في العالم. أمّا إذا نظرنا إلى عنصر
الاستهلاك فإنّ العولمة لا تؤدّي إلاّ إلى عولمة قيم استهلاك إلى حدّ كأنّها تعود
بالبشرية إلى مرحلتها الفميّة stade orale حيث
صار كلّ شيء قابل لأن يبتلع إلى حدّ صار معه الإنسان محكوما بنزعة كوسموفاجية Cosmophagique نزعة إرادة أكل الكسموس، تقلّص
كافة أبعاد الإنسان إلى بعده الغاذي فيصير الإنسان حيوانا آكلا. لكن ماذا يستهلك
الإنسان ؟ إنّ نموذج الماكدونالد Mackdonald و الهمبورقر Hambourger والنمط الأمريكي في البناء والرقص Makarina و تسريحة الشعر، إنّ النماذج
الاستهلاكية السائدة في العالم، إذن النمط المعيشي الأمريكي هو الذي تتمّ عولمته
مثلما تعولم الديمقراطية لا بمعناها الأنواري أو المعنى الذي صاغته الثورة
الفرنسية بل بالمعنى الأمريكي الذي لا يجعل من مبادئ حقوق الإنسان مسارا بشريّا
طبيعيّا بل يشرّع لما يسمّى إمكان نشر القيم بالقوّة، و يشرّع لإمكان تلازم
معتقدات دينية موغلة في القدامة مع قيم مدنية جديدة كلّ الجدّة، على خلاف
الديمقراطية الأنوارية التي هي ديمقراطية علمانية بالأساس. نحن إذن إزاء نموذج محدّد
يفرض نفسه على العالم تحت شعارات حداثوية تحاول توظيف منتجات الحضارة البشرية في
كونية القيم توظيفا ايديولوجيا ممّا يجعل من العولمة التي تقدّم نفسها بديلا عن
صراع الايديولوجيات لا تفعل ذلك إلاّ كعنوان خفيّ لايديولوجيا قديمة لبست ثوبا
جديدا، ايديولوجيا الهيمنة على العالم و إخضاعه. لكن ما هي العوامل المنتجة
للعولمة كايديولوجيا ؟
III ـ غزو السياسي الفلسفي أو العولمة كاغتصاب
للذاتوية :
علينا بداية أن نميّز بين الذات و الذاتوية، فإن كنّا نستخدم الذات
كرديف للأنا، فإن الذاتوية ليست سوى نزعة تضخيم الذات إلى الحدّ الذي صارت معه
الذاتوية مكمن مقتل الذات. فإن كنّا لا نظيف جديدا إن قلنا عصر الحداثة هو عصر
ولادة النزعة الذاتوية هذه النزعة التي بموجبها لم يعلن فحسب عن ولادة إنسان الأنا
/ الذات كمركز للتفكير الفلسفي و كمركز للوجود، بل الإعلان كذلك عن كون العالم صار
ليس أكثر من صورة تنشئها الذات وهي تتأمّل ذاتها و تتأمّل الأشياء و لا معنى لأي
شيء خارج الذات (الأشياء، الآخر) إلاّ المعنى الذي تهبه الذات فمنذ ديكارت
مرورا بكانط و سبينوزا
و هيغل وصولا إلى برغسون
كان الأنا يتضخّم شيئا فشيئا إلى الحدّ الذي انزاحت معه الذات إلى الذاتوية، لكن
ماذا يمكن أن يعني هذا الانزياح الحداثوي الغربي إلى الذاتوية ؟ إنّ ميلاد
الذاتوية يدلّ من بين ما يدلّ عليه: حلول الذات الإنسانية محلّ الذات الإلهية، فلقد
صار الإنسان بديلا عن الإله هو العارف و المشرّع و الحاكم و منتج القيم و واهب
المعنى، و لعل شعار سيادة الإنسان على ذاته وعلى الطبيعة يختزل هذا المعنى
التأليهي الإنساني في مقابل انكفاء الله إلى سماء عالمة، ناظرا لا فاعلا شبيه
تماما بالإله الأبيقوري الذي لا شأن له بعالم الأرض و عالم
الناسوت. فالذات الإنسانية صارت تتملّك ذاتها و عالمها كقوّة دهريّة جبّارة لا هدف
لها إلاّ في تجسيد قانونها المطلق، قانون الأرض لا قانون السّماء كتعبير عن قوّة
البقاء وجهد الاستمرار. يدلّ ميلاد الذاتوية كذلك على ولادة النزعة الانتصارية ـ الاستحواذية
للأنا من حيث كونه يضع أناه في المركز و يلحق الكلّ بذاته متبجّحا متغطرسا على كلّ
ما ليس أنا وهو ما جعل باسكال يصفه بكونه
"ظالم من حيث أنّه يجعل ذاته مركزا لكلّ شيء، وهو متعب للآخرين من حيث أنّه
يريد استعبادهم فكلّ أنا هو العدوّ و يودّ لو يكون مستبدّا بالجميع " (10) فالأنا محكوم بإرادة امتلاك ذاته أوّلا ليقدر على امتلاك الآخرين
ثانيا فالأنا محكوم بالعنف التملّكي الاستحواذي على ذاته و على كلّ ما ليس ذاته،
فنصيبه من الوجود كلّ الوجود يقتلع اقتلاعا ولا يستجدى استجداءا. فالأنا الحداثوية
أنا غازية للعالم بما تمتلكه من ترسانة المعارف بالذات و بالعالم، محطمّة للقيود، لاغية
للحدود، فمن كوجيتو ديكارت، إلى نقدية كانط،
إلى جدلية هيغل كان الأنا يشقّ مسيرته الانتصارية، الاستحواذية
كارها لكلّ نديّة و غيرية فحتّى الاعتراف بالآخر في جدلية السيّد والعبد الهيغلية
ينتزع انتزاعا عبر الصراع، فالغيرية بالنسبة للأنا الحداثوي فاسدة المنشأ خبيثة
المصدر. كما أنّه لا يفوتنا أنّ الذاتوية من حيث هي نزعة انتصارية ـ استحواذية هي
نزعة عقلانية من حيث أنّ الأنا عقل سواء في صورته الديكارتية
كأنا أفكّر أو في صورته الكانطية كعقل عارف
بحدوده أو في صورته الهيغلية كعقل مطلق،
فالعقلانية في كلّ ذلك هي عنوان أساسي من عناوين الحداثة الغربية. على هذا الأساس
كانت فلسفة الحداثة هي في أساسها فلسفة وعي، فلسفة الذات الواعية بذاتها لذلك كانت
الذاتوية كمفهوم و كنزعة هي المعبّرة عن هذه الفلسفة، من حيث أنّ الذات هي محلّ
الوعي و الحامل لظواهره. بناءا على هذا المنحى الانتصاري ـ الاستحواذي التأليهي
العقلاني للذاتوية لم تعد الذاتوية نموذجا في بنية المشروع الغربي فحسب بل إنّها
ترقّت باستمرار و تغذّت بمحاصيل التاريخ الكوني و احتكرت حركة التقدّم العالمي.
فمن تحقير الذات، خلال الحقب الدينية، إلى تعظيمه حتّى درجة التأليه مع انتصارات
التقدّم العلمي و السياسي، كانت الفلسفة العقلانية هي الموجّه للذاتوية لكن ما
الذي حدث بالضبط ؟ لقد أدّى الطابع الاستحواذي ـ الانتصاري للأنا فيما أدّى إليه، إلى
التضايف بين الذات و المركز، فصارت الذات هي نقطة الثبات وسط المتغيّرات، ففي عالم
محكوم بالصيرورة ليس لنا إلاّ الاحتكام بالذات و اللجوء إليها بما يعنيه اللجوء و الملجأ
من مناعة الحصن فالتمركز على الذات هو الاحتماء بحصن منيع مانع لكلّ تهديد و من
شأن هذا الحصن أن يصير مصدر كلّ تهديد للحصون الأخرى، غير أنّ انتصارية هذه الذات
المتمركزة على ذاتها لم تقف عند حدود الأنا / الذات بالمعنى الفلسفي الحداثوي بل تعدّته لتعلن
عن مركزية من نوع آخر هي المركزية الأروبية و بين مركزية الذات و المركزية
الأروبية هناك جنس قرابة و جنس تباعد في نفس الوقت. و القرابة تبرز من جهة أنّ
الثانية سليلة الأولى، فالمشروع الحداثوية الذي أنجب مركزية الذات هو مشروع غربي /
أوروبي مولدا و تاريخ ولادة ، أمّا التباعد بينها يتمثّل في مجال اشتغال كلا
المفهومين، فإن كان مفهوم مركزية الذات هو مفهوم من سجلّ فلسفي خالص باعتباره
عنوان المشروع الفلسفي للعقلانية الغربية الحديثة فإن مفهوم المركزية الأوروبية
على الرغم من كونه سليل مفهوم مركزية الذات هو مفهوم من سجلّ سياسي بالأساس. فأن
نحدّد الذات بماهية مجرّدة كالعقل مثلا فذلك شغل الفلسفة و دأبها أمّا أن نحدّد
الماهية بعرق أو بجنس بشري أو بحدود جغرافية فذلك عمل أوّلا لا فلسفي و ثانيا موظّفا
لغايات ايديولوجية لا بدّ من الكشف عنها. و لعلّ هذا هو المتعطّف الخطير للمشروع
الغربي الذي أدّى في آخر مظاهره إلى ما نسمّيه اليوم العولمة. يذهب كلود
لفي ستروس في كتابه "العرق و التاريخ" إلى أكثر من ذلك إذ أنّ
المركزية الاتنية ليست نزعة طارئة على الفكر الغربي بل هي تعود إلى تقليد غربي
قديم يجد جذوره في الثقافة اليونانية ـ الرومانية ـ التي تدرج كلّ ما لا يشترك معها تحت اسم
"البربري" و فيما بعد استخدمت الحضارة الغربية تعبير "المتوحّش"
في المعنى ذاته " فكلمة بربري تقود من الناحية اللغوية إلى غموض أغاني
العصافير و جمجمتها بمواجهة القيمة التعبيرية للغة البشرية و كذلك كلمة متوحّش
التي تعني أنّه آت من الغابة، تذكّر بنوع من الحياة الحيوانية في مقابل الثقافة
الإنسانية. و في كلتا الحالتين نرفض القبول بواقعة تنوّع الثقافة نفسها، و نفضل أن
نرمي خارج الثقافة أو في الطبيعة كلّ ما لا يتفّق مع القواعد التي نعيش
عليها" (11). فلقد تمّ اختطاف المشروع الفلسفي للعقلانية
الغربية من حيث هي عقلانية الذات المعتدّة بذاتها و بانتصاراتها و بما حققّته من
نجاحات و تقدّم، فلقد تمّ اختطاف المشروع الفلسفي لهذه الذات و تحويل وجهته قبلة
غايات سياسية، فالنزعة الذاتوية تمّ اغتصابها كذاتوية ابستيمولوجية ديدنها تحقيق
وعي الذات بذاته من قبل ذاتوية جغراسياسية ديدنها فرض نموذج سياسي على جغرافية
العالم. لقد تمّ اقتناص الحداثة الانتصارية سياسيا مع ولادة مجتمع الرّفاه و تحوّل
أوروبا إلى نموذج للإنساني. فلقد جنح العقل والخيال الغربيين بالذاتوية من ربط
التقدّم بتطوّر العلم و فتوحاته إلى ربطه بالخصائص الاستثنائية للذاتية الغربية
الأوروبية و إمكانياتها في التفوّق الدائم، و كأنّ الإله ينزل من سمائه ليرتدي قبّعة
الرجل الأبيض. و قد أدّى ذلك إلى ولادة نموذج حضاري كلياني تمّ تبريره في حضارة
التوسّع و العنف. لقد تمّ تحويل وجهة المشروع الفلسفي إلى مشروع سياسي ايديولوجي و
المسؤول عن ذلك هي النزعة الذاتوية الاستحواذية ـ الانتصارية التي احتكرت ثقافة التقدّم الغربية و
حوّلتها إلى قابلية سياسية للأدلجة المحتكمة إلى الاعتقاد في عنصرية التفوّق، و هذا
ما يفسّر المفارقة التي عاشتها أوروبا مركز العلم و العقلانية و مركز التعصّب و العنف
في نفس الوقت. فأشدّ مظاهر التعصّب (الفاشية و النازية) ولدت بأوروبا و أشدّ مظاهر
العنف في التاريخ (الحربين العالميتين) انطلقت منها. إذن هناك تساوق بين النزعة
الذاتوية في الفلسفة و النزعة الذاتوية السياسية، فلقد تساوق صعود الذاتوية فلسفيا
مع نشأة القوميات و لقد تردّد لفظ الأمّة أوّل ما تردّد في الخطاب السياسي و الثقافي
الأوروبي، و كانت ألمانيا هي حاضنته الأولى، و لم يكن هذا اللفظ فقط علامة وحدة
اللسان بين مجموعة بشرية ما، بل كان كذلك علامة على تفوق تلك المجموعة البشرية إلى
الدرجة التي توحّدت فيما بينها و صارت أمّة بين الأمم، و كان كذلك كفيلا بنشأة
الدولة / الأمّة التي أنشئت على قاعدة نحن / العالم، خاصّة اذا تمثّلنا المنزلة
التي تحتلّها الدولة في فكر أحد أبرز أعلام الحداثة الغربية و نقصد بذلك هيغل.
فلقد أعطت الأمّة في أوروبا لنفسها حقوق سلبتها عن الآخرين لا مثيل لها في التاريخ
و ذلك احتكاما إلى وهم التفوّق المطلق، التفوّق المسكون بهاجس التعدّي على الآخر و
بلوغ السيطرة الآحادية على العالم .
IV ـ من السياسي إلى الايتيقي :
إزاء هذا الراهن الذي يستقبلنا في فضائه العنفي و الإقصائي الذي يزخر
به مجتمع الاستهلاك و إيهام الصورة و سيمولاكر المشهد، إزاء هذا الرّاهن الذي فرض
على العالم نموذجا عولميّا تقولب فيه الثقافة و السياسة و الاقتصاد وفقا لنموذج
يعمل على صهر كافة الإرادات؛ المعرفية و القيمية و السياسية ضمن إرادة كليانية
تعمل على إحكام سيطرة القيمة التبادلية و التوالد السرطاني للاحتياجات و تغذية وهم
السيطرة على الحياة و إدارتها و اتّخاذها رهانا سياسيا بل و تضخيم الأمل الكاذب
بإمكان مواجهة العجز و الشيخوخة و الموت. إزاء هذا الراهن الإنساني العطوب كيف
علينا أن نتفكّر الإنسان و نعيد الأمل في المراهنة على الفلسفي، المراهن على مطلب
الحقّ، على الكينونة و وحدتها و وحدة قضاياها ؟ إنّ المشكلات التي يعيشها الإنسان
اليوم بمفعول هذا الاستحواذ الايديولوجي و السياسي بالراهن الحداثوي و بمشروع
الإنسانوية تفترض مسؤولية ايتيقية نراهن من خلالها على "إنسان إنسانيّ في
وجوده و كينونته فيما يقتضيانه من معقولية و من اقتدار" (12)
فإنسانية الإنسان ليست ماهية محدّدة أو أمرا معطى بل هي مشروع يتحقّق
في العالم من خلال رحلة النضال من أجل اكتساب المعنى و نحت الكينونة ألم يدعو ألبار
كامي في كتابه « L’homme révolté » إلى "أن
نحيا الحياة كبطولة يومية"؟ إنّنا في حاجة اليوم إلى الايتيقا أكثر
من أي وقت مضى خاصة و نحن نعيش وضعا تناقصت فيه الثقة في الساسة و السياسة و في
قدرة العلوم و التقنيات على الإحاطة بمعضلات الراهن و مشكلاته إضافة إلى ما نعاينه
من تأزّم و انحدار في القيم إنّ التوجّه
الذي نلاحظه في الفلسفة المعاصرة صوب الايتيقا يمثّل إحياء للروح اليونانية للخطاب
الفلسفي، هذا الخطاب المتسائل عن أسس و مبادئ الفعل الإنساني، فالفلسفة ذاتها
كميتافيزيقا هي بالأساس ايتيقا، فمنذ أفلاطون
وأرسطو كانت الفلسفة بحثا في إمكان تأسيس الأفعال على
القيم التي يوجّهها الخير. و لعل هذا ما يفسّر مكانة المبحث الايتيقي في الفلسفة
الرواقية وانهمام فيلسوف كالفارابي بالسعادة
و أن تنبسط السبينوزية كمذهب بطريقة ايتيقية ...الخ، فليس
للفلسفة إذن إلاّ أن تعاود المصالحة مع روحها و دربها و دأبها، أليست الأزمات دالّة
على أنّنا فقدنا هويّتنا ؟ و لعلّ هذا التوجّه المعاصر الذي نجده لدى فلاسفة كثر
من أمثال ليفيناس ـ و الذي
قام بتحويل المشروع الهيدغيري من
الأنطولوجيا إلى الايتيقا ـ هو الذي سيعيد للفلسفي حظوته في الفلسفة و
ينتشله من ربقة السياسي و الايديولوجي. يحمل لفظ الايتيقا في معنى من معانيه
اليونانية على دلالة الانهمام le souci فإذا كان الانهمام عند
اليونانيين يمثّل نوعا من الضيق و الضجر و القلق الناتج عن الالتزام بالحياة
السياسية و صراعاتها فإنّ هذا المفهوم سيتّخذ عند سقراط
منحى آخر هو منحى " الانهمام بالذات" الانهمام بالكينونة الخاصة. على أن
التركيز على الذات ليس تعبيرا أنانيّا بل هو انهمام بالآخرين في نفس الآن،
فالانهمام السقراطي موجّه إلى الكينونة التي تصل إلى الكلّي عن
طريق الحوار و بالتالي عن طريق العقل و هو ما يحدث تقاطعا بين الذاتي و الجماعي.
هذه الدلالة للانهمام بالذات نجدها تخترق النصوص الفلسفية من أفلاطون
إلى الرواقيين والابيقوريين.
بهذا المعنى فإنّ مهمّة الايتيقا تتمثّل في إيجاد تناغم من مطالب الحياة الفردية و
إلزامات القواعد و الأعراف الاجتماعية بحثا عن حياة فاضلة بالمعنى الذي تكون فيه
الفضيلة هي تمام كينونة الكائن. بهذا الاعتبار يكون الوجود الايتيقي "انتماءا
لما هو عام و في نفس الآن خصيصة فرادة ، فالأكثر اشتراكا هو في نفس الوقت الأكثر
تفرّدا على أنّ التفرّد لا يجب أن يفهم كإشارة إلى الفرد المنعزل و المفصول عن كلّ
علاقة بالآخرين" (13). في إطار
هذا المشروع الايتيقي الذي نرومه كبديل عن الارتهان للسياسي علينا أن نكفّ عن
الاعتقاد في أنّ الوجود مع الآخر إمّا أن يكون تناحرا حربيا ينتحر فيه الإنسانيّ
على وقع العنف المؤسّسي أسلوبا و منهجا أو أن يكون نعيما فردوسيّا تسوسه الوحدة و
التناغم، فاللقاء بالآخر ليس له أن يكون لقاءا مثمرا إلاّ إذا كان تأكيدا للتغاير
يكون بمقتضاه " الآخر هو أنا آخر و ليس آخر غيري "(14)،
وهو ما يجعل من تبادل الاعتراف لا يكون اعترافا حقيقيا إلاّ إذا كان "اعتراف
أنداد سلما و حربا"(15)، و هو ما
يجعل من حوار الثقافات و الحضارات الراهن أكذوبة كبرى لكونها تجمع بين الغالب و المغلوب،
القاهر و المقهور في أفق واحد. فالحوار الحقيقي " هو قسمة و شراكة و رغبة
الوجود التي لا تبحث عن الإهلاك و لا يفرحها تعديم وجود الآخر و لا يحزنها عدم
الحلول محلّه بل هي ترى في تزايد اقتداره ثراء لاقتدارها و في تعاظم قوّته امتدادا
لقوّتها"(16). يمكن في هذا الإطار أن نقدّم لملامح مشروعين
ايتيقيين؛ مشروع " ايتيقا النقاش" لهابرماس
و مشروع "ايتيقا الحوار" لجيل دولوز.
يتحدّث هابرماس في مشروعه الايتيقي عمّا يسمّيه العقل التواصلي
و هو مفهوم يدلّ على استخدام العقل استخداما منفتحا على التنوّع و الاختلاف و
النقد، و يقابله الاستخدام المنغلق و الأداتي للعقل و الذي آل إلى سيادة نموذج
نسقي كلياني و استردادي ترتّبت عليه تبعات عملية خطيرة تمظهرت في أزمة الحضارة
الغربية و هذا الوضع هو الذي يقتضي تفعيل دور الفلسفة في إنتاج معقولية نقدية تحرّرية
تقوم على إعادة تصوّر للعقل وفق مقتضى الانفتاح و التواصل ممّا يستوجب الاحتكام
إلى مشروع ايتيقا النقاش القائم على استثمار الكلّي العملي للأخلاق الكانطية
و الذي يسعى إلى ترسم ملامح قيمية كلّية للتواصل مثل الوضوح و الجدّية و الصدق و
هي قيم كلّية مشتركة، فالايتيقا التي تحتاجها المجتمعات الحديثة بعد أن فقدت
الإحداثيات المرجعية التي كانت تؤمن تماسكها هي ايتيقا النقاش من حيث كونها ايتيقا
بينذاتية. "و تقوم هذه الايتيقا على التسليم بأنّ المشاركين في نقاش ما
بإمكانهم أن يشاركوا من حيث هم أحرار في البحث عن الحقيقة بحثا وحدها قوّة الحجة
الأفضل لها حقّ التعبير عن ذاتها فيه"(17).
أمّا جيل دولوز فهو يرى أنّنا
لسنا في حاجة إلى التواصل الذي يغمر كلّ مناحي الحياة أي لسنا في حاجة إلى النقاش
الذي لا يزيد الذات إلاّ ترهّلا و تورّما بقدر حاجتنا إلى الحوار حتّى و إن كان
تحاورا للذات مع ذاتها إذ وحده الحوار سليل الإبداع و ما دام الفيلسوف مبدعا
للمفاهيم فهو في حاجة إلى الحوار لا إلى لغو النقاشات و ضوضائها ، فالحوار هو
الخاصّية الايتيقية للعلاقة بالآخر فردا أو جمعا.
إنّ مشاريعا ايتيقية كالتي أشرنا إليها تبرز أهمّية المآل الايتيقي
للفلسفي في معالجة الراهن و معالجة ما انجرّ عنه من استتباعات خطيرة على الكينونة
و على المعنى، ليس هذا فحسب بل يبرز كذلك مدى التخاصر و الانشباك بين الفلسفة و
الايتيقا، فما جعل الفلسفة تحيد عن مشروعها الكوني هو اختطاف السياسي و الايديولوجي
للفلسفي في لحظة لم تكن فيها الايتيقا تحوز المكانة التي تليق بها و بالفلسفة.
خاتمـــة:
إنّ اختطاف السياسي للفلسفي هو الذي أدّى إلى نشأة حضارة العنف التي
هي وليدة الأنا الاستحواذي ممّا يجعل العولمة وريثا شرعيا لهذه الحضارة و تعبيرتها
الأكثر كثافة و اختزالا. لذلك نبّهنا منذ البداية إلى ضرورة الحذر حيال استخدام
مفاهيم من جنس العالمي و العولمي فكلاهما يشغل حيّزا مختلفا عن الآخر، حيّز
الفلسفة و فعل الانهمام بالذات و حيّز الايديولوجيا و فعل الانهمام بالمصلحة. و منذ
هذه اللحظة التي يطأ فيها الايديولوجي مجال التفلسف نجد أنفسنا في شباك مفارقة
يعسر الفكاك منها، مفارقة ميدان متوزّع و منشطر على ذاته، فإن كانت السياسة، ميدان
صراع من أجل المصالح، فالفلسفة هي ميدان البحث عن الحقّ. نحن إذا أمام مجالين
يقعان على طرفي نقيض؛ مجال المخاتلة من أجل المنفعة، بما تعنيه المخاتلة هنا من
ضروب التوسّل بكافة فنون الخداع و المراوغة عملا بما يدّعي "تكتيكا " في
السياسة و على الطرف المقابل مجال المخاتلة من أجل المعنى و الدلالة، لما تعنيه
المخاتلة هنا من ضروب التسلّح بكافة فنون التروّي، طلبا للحقّ في ذاته، حيطة من
الغلط و حذرا من المغالطة. مفارقة دخول السياسي على الفلسفي هي كذلك مفارقة السلم
و العنف، إذ أنّ السياسة من حيث هي "فنّ إدارة الممكن الموجود" ليس لها
إلاّ أن تجد ذاتها في تماسّ أساسي مع ميدان العنف واقعا و ممكنا في حين أنّ
الفلسفة من حيث هي ـ فنّ الممكن المنشود ـ ليس لها إلاّ أن تجد ذاتها في تنافر
أساسي مع العنف كائنا و ممكنا. فأيّ مغالطة هذه التي يشرع فيها التقاء ما لا يلتقي،
و يجتمع ما يتعذّر جمعه ؟ أي حيلة نريدها أن تنطلي: حيلة الفيلسوف المتسلّح بخطاب
اللوغوس أم حيلة السياسي المتمنطق بأحاييل الايديولوجيا ؟ و ما حيلة المتحيّل و ما
مسعاه، إنّ كان السعي ليس سوى سليل المسعى بما يحمله اللفظ من دلالة الصراط نسير
عليه في خطّ سير لا نحيد و كأنّنا على ممشى من الحكمة و الفطنة مسطور ؟ و إذا لم
تكن الحكمة في السعي على صراط الحكمة المستقيم، فلا نملك ساعتها إلاّ أن نعلن بين
الناس خيبة المسعى.
الهوامش:
1) G.Deleuze et F.Gattari, « qu’est – ce –que –la philosophie ? »
« idéa » éd. Cérès Tunis 1993,P.9.
2) محي الدين بن عربي "الفتوحات
المكيّة"، دار المعارف، مصر
3) كانت إجابة سقراط أنّه من العالم و لم يقل
من أثينا.
4) فرنسوا جاكوب، "لعبة الممكنات: بحث
في تباين الحي"، دار الحصاد، دمشق 1991 ص: 20
5) فرنسيس فوكوياما
6) سمير أمين، "ثقافة العولمة و عولمة
الثقافة" نشر دار الفكر بدمشق "سلسلة موازية نقدية".
7) صدّر به محمود المسعدي روايته
"حدّث أبو هريرة قال" المنشورة عن دار الجنوب، سلسلة "عيون
المعاصرة"
8) ادغار موران « l’humanité de l’humanité », éd. Seuil 2001,
P80
9) أبو يعرب المرزوقي:"العولمة
المافوية" مقال منشور بمجلّة الفكر العربي المعاصر
10) B.Pscal, « Pensées », éd. Librairie générale Française, Paris
1972. parag. 455-p.209
11) كلود لفي ستروس "العرق و
التاريخ" ترجمة سليم حداد، المؤسّسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع.
الطبعة الأولى 1982 .
12) عبد العزيز العيادي، "ايتيقا الموت
و السعادة". المغاربية للطباعة و النشر و الإشهار. الشرقية تونس. الطبعة
الأولى أفريل 2005 ص: 23
13) المصدر السابق ص: 34
14) المصدر السابق ص: 37
15) المصدر السابق ص: 37
16) المصدر السابق ص: 38
17) De l’éthique de la discussion, éd. Du cerf, Paris 1992 P140 (
J.Habermas
المقال رائع من جهة احتفائه باللغة و المفهوم,نتمنى أن تكون المواقف في مستوى هذا النوع من الكتابة.
ردحذفأ.ت.ث
كلام فلسفي بامتياز 👏👏👏
ردحذف