إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الجمعة، 6 مارس 2009

العـالـمـيَّـة *

جان ماري مولِّر **
 لقد ظلّ البشرُ ردحًا طويلاً يعيشون منغلقين في خصوصياتهم الثقافية، جاهلين حتّى مفهوم العالمية نفسَه. هذه العالمية مغنم، غايةُ سيرورة طويلة. فالبشر و الشعوب يرجعون، إصرارًا على هويّتهم، إلى القيم المؤسِّسة لثقافتهم الخاصّة و حضارتهم الخاصّة. و شيئًا فشيئًا، أصرّت كلّ ثقافة، على كونها محدودةً و متناهية، على الادِّعاء بأنّها تشتمل على الحقّ المطلق و أنّها، بهذه المثابة، ترمي إلى العالمية. تؤكّد كلّ ثقافة أنّ قيمها تقابل الفرائض الأعمق للإنسانية و تزعم أنّ هذه القيم مدعوّةٌ إلى نيل الاعتراف بها عالميًّا ـ و هذا مفهوم و مشروع.
 لكن، لسوء الحظّ، لدى كلّ ثقافة نزوعٌ إلى إطلاق «absolutiser» المعرفة التي تفرزها و إلى إرادة فرضها على الآخرين فرضًا. تنجم عن هذه الادِّعاءات المتناقضة مناوءاتٌ و تعارُضاتٌ و صِدامات. و يبيِّن لنا تاريخ الماضي و الحاضر أنّه يمكن لهذه النزاعات في سهولة أن تصير دامية و قاتلة، لأنّ كلّ جماعة تستسلم، باسم قيمها الخاصّة، لإغراء محاربة الآخرين.
بذا نظَّر البشرُ عمومًا، إبّان القرون الأخيرة هذه، لـ"العالمي " l’universel،  و فتّشوا عنه عِبْرَ إضفاء الصفة العالمية على ثقافتهم الخاصّة، فابتنوا، مقتنعين بامتلاكهم "الحقيقة"، إيديولوجيا جعلوا منها مُطْلقًا، و أخذوا على عواتقهم مهمّة فرضها على العالم بأسره. خاصّيةُ الإيديولوجيا أنّها تستأثر بمزايا العالمية و تزعم بلوغ العالمي بالقوّة و الغزو و السيطرة، أي بالعنف إذا لزم الأمر. ألم يئنِ الأوان للقطع نهائيًّا مع هذه النظرة التوتاليتارية إلى العالمي التي تسبّبت في هذا العدد كلِّه من المآسي؟!
لتهدئة النزاعات التي تطرأ بين الجماعات و الشعوب، و لإرساء أساس حياة سِلْمية، تعوَّدنا على الدعوة إلى "التسامح" مع الثقافات الأخرى. نؤكّد أنّنا إذا ما بذلنا جهدًا في معرفتها معرفةً أفضل و في فهمها فهمًا أفضل سوف نكتشف ما يتضمَّنه كلٌّ منها من عظمة و نبل. و نصرُّ أنّه ينبغي علينا قبول اختلافاتنا ليعيش بعضنا مع بعض في سلام. هذا صحيح، لكنْ في جزء منه فقط. لأنّه في الواقع، أليست تشابهاتنا بالحري هي التي تولِّد خصوماتِنا و نزاعاتِنا و معاركَنا؟ أليس لأنّنا نقلِّد أغلاط بعضنا بعضًا و أخطاءه نجد أنفسنا محتربين بعضنا ضدّ بعض بهذا التواتر ؟ أليس لأنّ حضاراتنا متشابهة من حيث تشرُّبها ثقافةَ العنف نكاد على الدوام أن نجرِّح بعضَنا بعضًا و أن يبرِّح بعضُنا ببعض ؟
تسعى إيديولوجيا العنف الضروري و الشرعي و الشريف التي تسيطر على الثقافات إلى محو الاختلافات و إلى إبراز التشابهات المرعبة. مذ ذاك، ليس مُلِحًّا، لبناء مستقبل سِلْمي، قبولُ اختلافاتنا بقدر ما هو ملحٌّ رفض تشابهاتنا. عندما يعمل الذهن البشري بنيَّة الخير يُنتِج ثروةً لا تنضب من الإنجازات المختلفة الأشكال؛ أمّا حين عندما يعمل بنيَّة الشرّ، يصبح رتيبًا و تكراريًّا إلى حدّ القنوط. و هكذا، يؤول البشر الذين يحملون على وجوههم وصمةَ العنف إلى التشابه.
بعد تمزّقات القرن العشرين الدامية، هل سنعرف يا ترى كيف نبتكر الحكمة العالمية التي ستتيح لنا العيش معًا في وئام ؟ إنّ التحدّي لَهائل! فهل سنتحلِّى بالفطنة و بالشجاعة لقبول هذا التحدّي؟ هل سنعرف كيف نوقف سيرورة تسوية الثقافات على صعيد واحد و ننحو إلى العالمي، لا بتوحيدها شكلاً، بل بجعلها تتقارب حتّى التلاقي ؟ ينبغي على "حوار الثقافات" أن يتيح تحديد المرجعيات الأخلاقية المشتركة؛ أن يكون حوارًا دون مجاملة و لا مساومة، يُعقَد في صرامة عقلية لا تساهُل فيها. على كلِّ طرف أن يقوم، مسبقًا، بإعمال حسِّ تمييز نقدي في نطاق ثقافته الخاصّة؛ إذ لا يمكن لثقافاتنا أن تتلاقى ـ من غير أن تتمازج ـ إلاّ لقاء هذا الثمن. إذ ذاك فقط سوف نغتني باختلافاتنا. ولا يخدعنَّنا الأمرُ، فالمهمّة شاقّة، لكنّها تنطوي على تحدٍّ هائل!
إنّ أحد الأسُس الممكنة لهذه الحكمة العالمية هي "القاعدة الذهبية"، المصوغة في مختلف المنقولات الروحية، التي يمكن التعبير عنها كما يلي: "ما لا تريد أن يفعله الآخرون بك لا تفعلْه أنتَ بالآخرين." و عليه، فما لا أريده أوّلاً هو أن يجعلني الإنسانُ الآخر أموت. مذ ذاك، يرتبط إلزامُ "القاعدة الذهبية" بالفريضة العالمية للضمير العاقل: "لا تقتل" ! بذا يؤسِّس مبدأ اللاعنف لعالمية القانون الأخلاقي الذي تفرضه على أنفسها طوعًا الكائناتُ العاقلةُ صاحبةُ الضمير.
مع ذلك، فإنّ المنقولاتِ التي نحن ورثتُها، في حين أنزلت العنفَ منزلةً كبيرة و رفيعة، لم تمنح اللاعنفَ عمليًّا أي مكان، حتّى إنّها جهلت اسمَه. مذ ذاك، ينبغي علينا القيام بعمل تمييزيٍّ دقيق بغية الطعن، في شجاعة و جرأة، في كلِّ ما يشرعن العنفَ في ثقافتنا و يضفي عليه حُرمة. كفانا تبرئةً للقتل المرتكَب باسم قضية عادلة! كفانا تشريفًا للعنف كفضيلة الإنسان القوي! ستكون هذه القطيعة مؤلمةً لأنّها جذرية و عميقة. و لسوف نكتشف أنّ كلّ ثقافة من ثقافاتنا كثيرًا ما تعاونت مع العنف، مقدِّمةً له الضمانة و التبرير. فالقطع مع ثقافة العنف، من بعض الوجوه ـ دون أن يعني ذلك أن نضرب كشحًا عن الماضي ـ يعني القطع مع ثقافتنا ـ و ما أصعب أن نطعن في جزء من الموروث الذي ورثناه كإرث حَرام!
في كلِّ موروث من موروثاتنا، ثمّة حجارة أساس يمكن لنا التأسيس عليها لحكمة لا عنفية. كلّ موروث منها ينطوي على "قيم" تضفي على كلِّ إنسان كرامةً و سموًّا و نبلاً و تقضي بأن يكون محترمًا و محبوبًا؛ و هذه القيم تعاكس العنفَ الذي يدَّعي التسلط على حياة البشر و المجتمعات. في كلِّ ثقافة من ثقافاتنا وُجِدَتْ نساءٌ و رجال أعلنوا انشقاقهم، مؤكّدين أسبقيّة هذه القيم على متطلّبات العنف؛ إلاّ أنّ هذه القيم آلت إلى حَجْبها بأدران إيديولوجيا العنف، فأُنكِرَتْ و نُفِيَت. وفاءً لهذه القيم بعينها لا بدَّ أن يقتنع كلُّ فرد منَّا بأن فريضة اللاعنف تؤسِّس إنسانية الإنسان و تُهَيْكِلُها، و بأنّها تمنح حياتَه معنًى و تعاليًا. و سوف نكتشف أنّ هذا الوفاء، فيما يتعدّى القطيعة التي أحدثناها، سوف يقودنا إلى القلب حتّى من ثقافتنا.
إنّنا، عِبْرَ التفكّر في عالمية الجمال، نتمكّن من فهم عالمية الحكمة أفضل الفهم. فالحكمة، كالجمال، تخاطب حريّة الإنسان، دون أن تريد فرض نفسها أبدًا بالإكراه. و الحكمة، كالجمال، تُصالح الإنسانَ مع نفسه، تمهيدًا للمصالحة بين البشر. إنّ عالمية الأخلاق، التي تؤسّس حكمةَ الإنسان العاقل، تبدي مقايسةً عميقة مع عالمية الفنّ: كيمياؤها الموفّقة تجمع بين العالمي و الفريد. فالفنّان يتمكّن من تجاوُز خصوصيات الحضارة التي وُلِد فيها، مُعبِّرًا في الآن نفسه عن أصالة ثقافته الفريدة. إنّ الفنّ يبلغ العالمي، في حين أن الأشكال التي ينتجها ذات تنوُّع وهَّاج. و مهما تكن التحوّلات و التنوّعات التي تنتج عن أشكاله، فإنّ لغتها تخاطب قلبَ كلِّ إنسان. في كلِّ ثقافة، يُعبِّر الفنّ عن الانفعالات نفسها أمام الجمال المأسوي للوجود، عن التساؤلات نفسها عن مآل الإنسان؛ و من خلال هذه التساؤلات، يصوغ الفنّ مساعيه نفسَها و مطالبَه نفسها، مشاعرَ قلقه نفسها و آماله نفسها. لكلِّ حكمة لونُها و موسيقاها و شكلُها، بحسب الثقافة التي أثمرت عنها، لكنّها تساهم جميعًا في التناغم نفسه للتعبير عن عالمية الإنسان.
*** *** ***
ترجمة: محمد علي عبد الجليل
 [*] للمرّة الأولى باللغة العربية يقدّم لنا قاموس اللاعنف لجان ماري مولر المفردات الأساسية لفلسفة تضفي على الوجود معنًى و تزوِّدنا بإستراتيجية تتيح الفعالية في العمل في سبيل تحقيق العدالة، المقوّم الأساسي للوجود الإنساني المجتمعي و المدني. في مسرد المفردات هذا، أراد مولر أن يجمع بين عناصر "مقالة في فلسفة اللاعنف" و بين مقوّمات "مرجع عملي للعمل اللاعنفي". إذ إنّه يرى محقًّا أن هناك صلة جوهرية بين الكلمة الصائبة و الفكر الصائب و العمل الصائب. و القاموس الذي ننشره اليوم، بالتعاون بين أسرة معابر و الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية، بدعم من مؤسّسة نوڤا اللاعنفية، و بمباركة من المؤلِّف، هو ثمرة ثلاثين عامًا و نيفًا من التفكير و العمل. و بمناسبة انتهاء فريق معابر من ترجمة قاموس اللاعنف و تحميله على الشبكة ننشر هذا التعريف من القاموس.
 [**] جان ماري مولر مدير دراسات في "معهد البحث حول الحلّ اللاعنفي للنزاعات". وهو، إلى كونه فيلسوفًا و كاتبًا، يذرع العالم طولاً وعرضًا بدعوة من حركات الدفاع عن حقوق الإنسان، محاضرًا في فلسفة اللاعنف و مدرّبًا للناشطين اللاعنفيين. (المحرِّر)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق