إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الأحد، 15 مارس 2009

العيش في ظلّ التنوّع الثقافي*:

إرفين لاشلو**
الثقافة عاملٌ جبّار من عوامل النشاط الإنساني، فهي موجودة في كلّ ما نراه و نشعر به. "الإدراك البريء" لا وجود له؛ فكلّ ما نراه و نفهمه يصل إلينا مصبوغاً بتوقّعنا، و بقابليتنا على استقباله؛ إذ تتموضع الثقافة في جذوره. فنحن نرى العالم عبّر نظّارات مصبوغة بثقافتنا، و يستخدم عدد هائل من البشر هذه النظارات، حتّى دون أن يرتابوا في وجودها. و هذه النظّارات اللامرئية الملقِّنة للقابلية تؤثِّر بقوّة أكبر من خلال بقاء "النظّارات الثقافية" غير مرئية. فما يفعله الناس، بصورة مباشرة، يتوقّف على ما 
يؤمنون به؛ كما أنّ عقائدهم، بدورها، تتوقّف على رؤيتهم المصبوغة ثقافياً لأنفسهم و للعالم المحيط. و بغضّ النظر عن أنّ الثقافات الحيّة في الوقت الراهن تتعرّض لضغط هائل يميل إلى تسويتها و توحيدها، فإنّها تختلف فيما بينها من حيث قيَمها و عقائدها و تمثّلاتها فيما يخصّ الإنسان و الكون. و إنّ تنوّع الثقافات هذا جدير بالتعرّف عليه عن قرب، حيث إنّه يصوغ مقاصد و سلوكيات البشر الذين ينتمون إلى ثقافة معيّنة، ناهيكم عن أنّ كل ثقافة على حدة، و من خلال تأثيرها في الثقافات الأخرى، تصوغ كذلك العلاقات في العالم المتعدّد ثقافياً. في مجرى التطوّر التاريخي، أنشأت و كوّنت الثقافات البشرية العظيمة رؤيتَها للعالم. و في مطلع فجر التاريخ، كان العالم يُرى باعتباره عالماً ارتدادياً أو إرجاعياً  atavistic (1)، إذ لم يكن البشر وحدهم يملكون أرواحاً، بل كذلك الحيوانات و النباتات. فكلّ ما في الطبيعة كان حيًّا، و ينبوع الماء في البراري المدارية (السافانا) كان يبعث على هلع كبير أمام أرواح و قوى الطبيعة، و كذلك أمام أرواح الموتى؛ والأيل الذي وجد نفسه في قرية ما فجأةً كانت تتمّ مماهاته بروح أحد الأسلاف و قد جاء لزيارة أقاربه؛ و الرّعد كان يعتبر إشارةً من قِبَل الجدّة ـ الأمّ، أو الأب الكلّي القدرة. و قد تمّ إتخام الثقافات التقليدية بحكايات عن الإدراك الحسّي لكائنات غير مرئية، متموضعة في تراتبية رمزية، على امتداد التاريخ المكتوب برمّته. لكن الثقافات الكلاسيكية في اليونان القديمة استبدلت هذ النظرة إلى العالم، القائمة على الخرافة  (myth)، بنظريات و تصوّرات قائمة على المحاكمات، رغم أنّ الأخيرة نادراً ما أُخضعت للمراجعة عن طريق التجارب و الملاحظة. و منذ أزمنة الكتاب المقدّس في الغرب، و على امتداد عدّة ألفيات في الشرق، هيمنت على آراء البشر الإرشادات و الأنماط الدينية. و قد ضعُف هذا التأثير بصورة ملحوظة في القرنين السادس عشر و السابع عشر، عندما ظهرت العلوم التجريبية في أوروبا. و خلال القرون الثلاثة الأخيرة، هيمنت الثقافة العلمية ـ التكنولوجية على العقائد الميثيولوجية و الدينية، رغم أنّها لم تتمكّن من إزاحتها كلّيا. و قد انتشرت الثقافة العلمية ـ التكنولوجية الغربية في عموم الكرة الأرضية في القرن العشرين، و وجدت الثقافات غير الغربية نفسها أمام معضلة ثنائية الحدّ مفادها: هل يجب عليها الانفتاح على الثقافة الغربية، أم أنّ عليها الانغلاق على نفسها و مواصلة اتّباع طرائقها التقليدية، محافظةً بذلك على أنماط حياتها المألوفة وح ِرَفها و عباداتها. الثقافة الغربية ثقافة فردانية، و للفرد فيها موقع مركزي. فهي تعتبر القيم الشخصية و الحريّة و الطموح إلى السعادة أموراً مقدّسة، و ترى أنّ الطبيعة، و جميع الكائنات الأخرى، مسخّرة لخير الإنسان بصورة رئيسية. و الثقافة الغربية، بالإضافة إلى ذلك، ثقافة براغماتية، فهي تنبذ قسماً كبيراً ممّا لا يمكن رؤيته أو الإمساك به، أي ممّا لا يمكنه أن يتجلّى لليد أو العين. و الاستثناء الوحيد هو النظام العقائدي اليهودي ـ المسيحي بإلهه المتعالي، ربّ القدّيسين و الكائنات الغيبية الأخرى، و كذلك الإيمان بخلود الروح. أمّا ما يتعلّق بالأرواح، و كذلك الكائنات اللاجسدية و غير المرئية الأخرى، و التي تختلج أمامها الثقافات التقليدية بإجلال، فإنّ نصير الثقافة الغربية، بما يحمله من المخزون العلمي للعقل، يعمد ببساطة إلى نبذها باعتبارها خرافات، رغم أنّ جمهوراً واسعاً من السكّان يؤيّدون وجهات نظر مناقضة لهذه (على سبيل المثال، و حسب المعطيات التي نشرتها مجلّة  «Life»، في عدد كانون الأوّل 1995، يؤمن 69 % من الأمريكيين بوجود الملائكة). لكن حتّى الثقافة الغربية تُسكِن الكون بكائنات واقعية غير مرئية، و غيبية إلى حدّ ما: أقطاب و تبادلات الجاذبية و الكهرومغنطيسية، و تفاعلات القوى النووية، و غيرها من الوحدات البنيوية للعلوم الطبيعية المعاصرة. و معظم الغربيين و المتغربنين متأكّدون من وجود هذه الأقطاب و التفاعلات، مثلما هم متأكّدون من وجود البشر و الحجارة و الطاولات. في السنوات الأخيرة، و بغضّ النظر عن "استعمار الكوكاكولا" و"الماكدوناليزم"، بدأت قيَم و مفاهيم الثقافة الغربية تواجه مقاومةً. ففي أمريكا الجنوبية ظهرت ثقافة قومية جديدة مختلفة المظهر، حيث تزعج الأمريكيين اللاتينيين تبعيّتُهم لأمريكا الشمالية؛ وهم يعبّرون عن عدم رضاهم عن دورهم كمتلقّين، لا كمؤسّسي تيّارات ثقافية تقوم بصياغة العالم المعاصر. بل إنّ هيمنة الثقافة الأجنبية باتت تعاني سكرات الموت كذلك لدى المتعلّمين و العقلانيين العرب، الذين يرون في التقاليد الغربية عنصر سيطرة على بلادهم؛ إذ يعتبر العرب أنفسهم طرفاً سلبياً في الحوار البينثقافي الذي يربطهم بأوروبا و أمريكا الشمالية، بصورة استثنائية تقريباً. و باتت الهند و بلدان جنوب آسيا  ـ رغم استمرارها في التواصل مع الثقافة البريطانية، هاضمةً الكثير من خواصها المتميّزة ـ  تدافع عن تراثها الثقافي الخاصّ بحماس. و في روسيا تراكمت خبرة تاريخية واسعة للتعامل المنافق مع الثقافة الغربية، و هذا التعامل ما زال قائماً حتّى الآن، و سمته الرئيسية هي الإعجاب بمنجزات الغرب في مجال التكنولوجيا، و كذلك في حقل الثقافة العليا، لكن هذا الإعجاب يترافق، في الآن نفسه، بالخشية من أنّ هذه المنجزات قد تسحق التراث الثقافي الروسي، و تُفقد بذلك الشعب الروسي أصالته. و تناوب الإعجاب و الخشية هذا يميّز كذلك الأمم الشابّة في الصحراء الإفريقية الكبرى؛ هذه الأمم الشحّيحة الطلب على الثقافة الصّناعية، مرفقةً ذلك بجهود كبيرة للدفاع عن تراثها الثقافي. فالمفكّرون العقلانيون (Intellectuals) الأفارقة مشغولون بالبحث عن جذور أصولهم العرقية، في حين يتطلّع قادتهم إلى تقوية الوعي القومي لشعوبهم. إنّ نقائض المقاربات الغربية لرؤية العالم و الذات واقعية تماماً، رغم أنّها لا تكون مدرَكة دائماً. فعلى سبيل المثال، يتمتّع الأمريكيون اللاتينيون بتطوّر روحي أعلى بكثير من سكّان الولايات المتّحدة الأمريكية و كندا. و إنّ لهذا الأمر جذوره التاريخية، إذ إنّ العناصر المتعالية المجرّدة  (Transcendental)  في الثقافة اللاتينية تعود إلى القرن الخامس عشر. و بالنسبة لأمريكا الجنوبية فإنّ علم الكلام المدرسي الكاثوليكي لأوروبا القروسطية ليس أكثر من فلسفة ديرية [نسبة إلى دير]، و قد لعبت دور منظومة اشتقاقية تحمل طابع الحكومة و المجتمع في داخلها، و تتحكّم بكافّة مناحي الحياة. و تعلّم الأمريكيون اللاتينيون أنّ السّعادة تتنزّل من السماء كرحمة من الله، و أنّ هذه الرحمة صلاحية استثنائية من صلاحيات الكنيسة الكاثوليكية؛ لذا لم يكن من المستغرب أن يصبح الخضوع للكنيسة، تماماً مثل الإخلاص للملك و طاعة الله، من بديهيات الأخلاق اليومية. بل حتّى عندما وصل العهد الاستعماري إلى نهايته، لم يحدث تكيّف بين التراث السكولاستي (المدرسي الديني) و بين الفكر العلمي الحديث. لذا فإنّ البراغماتية الأنغلوسكسونية، القائمة على استخدام مفاهيم و مناهج العلوم الطبيعية في التعامل مع المجالات المادية للحياة، أخفقت في ترسيخ أقدامها في أمريكا اللاتينية. كذلك يعدّ المذهب التجريدي Transcendentalism (2) سمة مميِّزة للثقافتين الهندوسية و البوذية في شبه القارّة الهندية، و إنْ بصيغ متنوّعة. و قد تمّ مزجه بالتوحيد (monotheism) و الصوفية في الثقافة الإسلامية. أمّا الثقافات الأصلية لإفريقيا السوداء، فقد تطبّعت دائماً بالروحانية (spiritualism) و الأرواحية  animism (3)، و لم يتمّ مَحْق هذه العناصر لا من خلال تعصّب المبشرّين المسيحيين، ولا من خلال الدعاية الاستهلاكية للشركات العبرقومية (4). و يحتفظ التفكير الشرقي بكثير من سمات عقائده التقليدية، فقد تشكّلت الدائرة الواسعة للثقافات التي خرجت من الصين على امتداد الألفية الأخيرة بتأثير طبيعانية naturalism (5) لاوتزو، و الانضباط الاجتماعي لدى كونفوشيوس، و اهتمام بوذا الصارم بالاستنارة الذاتية. و في القرن العشرين، تفرّعت هذه المصادر الثقافية إلى تيّارات متعدّدة، مولّدة ثقافة "يانانيا" الماوية الأرثوذوكسية، و ثقافة "كونغ ـ داو" الهونكونغية البراغماتية، و كذلك مزيجاً من الطبيعانية و الكونفوشية و البوذية ميّز ثقافة اليابان المعاصرة. و قد احتفظ فرعا هونغ كونغ و اليابان، المنبثقان عن الثقافة الصينية، بالشغف بكلّ ما هو دقيق و عملي. لذا، ليس غريباً أنّ المجتمعات التي انتشرت فيها هذه التقاليد بصورة واسعة لا تجد صعوبة في تبنّي، بل حتّى تطوير، التكنولوجيا الغربية. لكن هذه الثقافات "تحدثنت"، لكنّها لم "تتغربن"؛ فحداثتها المميّزة لها تحتفظ بخاصية ثقافية نوعية. و لهذا السبب بالذات، لا يمكن نقل مهارات الشغل، و الميول الجماعية، الشرقية إلى أوروبا و أمريكا. أمّا كيف يمكن لهذه الثقافات المتمايزة فيما بينها أن تتعايش على كوكبنا الصغير، حيث كلّ شيء متعالق، فهذه أحجية هائلة. إذ من الواضح أنّ كلّ ثقافة تحتاج إلى أن تتطوّر بصورة مستقلّة، محترمةً أصولها و تقاليدها؛ و لكن عليها، في الآن نفسه، أن ترتقي بنفسها إلى القيم و المنظورات التي تسمح لمشايعيها بالعيش في تناغم مع الثقافات الأخرى من جهة، و مع الطبيعة من جهة أخرى. هذا هو المطلب الأساسي، حيث أنّ تصادم الثقافات يشكّل تهديداً جدّياً وخيم العواقب للسلام في الأسرة العالمية، أكثر من نزاعٍ مسلّحٍ ما بين أمّتين أو دولتين. و على الرغم من أنّه يتوجّب علينا، الآن، صنع الشروط الدقيقة للقوانين الفعّالة، و الجذّابة بالنسبة لمعظم البشر، فقد نجحنا، في الوقت الرّاهن، في الوصول إلى إجماع (consensus) ملحوظ فيما يتعلّق بالطبيعة العامة لهذه الشروط / الظروف. و عموماً فإنّ شروطاً كهذه، أيًّا كانت، يجب أن تستجيب لمتغيّرات التطوّر الوطيد و المستديم.
ترجمه عن الروسية هفال يوسف
 هوامش:
*  نُشر هذا المقال في مجلّة "البيئة و الحياة" (العدد 4، 1999)، وهو مقطع من تقرير بعنوان "الدروب المؤدّية إلى الألفيات القادمة"، الذي تلاه المؤلّف في مراسم افتتاح "نادي بودابست" في كانون الأوّل 1996.
**  إرفين لاشلو، المولود في بودابست عام 1933، بروفسور في الفلسفة و قد شغل كرسي الأستاذية في عدد من الجامعات؛ وهو كذلك مدير برنامج الأمم المتّحدة للتعليم و الأبحاث (سنة صدور هذا البحث)، وعميد أكاديمية علوم المستقبل Futurology في فيينا، و مؤسّس الأكاديمية الدولية لأبحاث النّظُم. اهتماماته العلمية الرئيسة هي الفلسفة، علم الجمال، التحليل المنظوماتي و علم البيئة (الإيكولوجيا). و قد ألّف في هذا المنحى 66 كتاباً، صدرت في 18 لغة، و له حوالي 400 مقال و بحث و دراسة. أعماله الأخيرة هي: "الفضاء الخلاّق" (1993)، "الكون المتعالق" (1995)، "البِركة الهامسة" (1996)، "التطوّر: النظرية العامة" (1997) و"المنظور المنظوماتي للعالم" (1997).
كانت آخر منجزات البروفسور لاشلو تأسيس "نادي بودابست"، وهو عبارة عن جمعية غير رسمية و غير حكومية ضمّت الكثير من العلماء و الفنّانين و الكتاب، و شخصيات اجتماعية و دينية، ممّن يهتمّون بحماية الوسط المحيط و بمصير العالم و الأجيال القادمة. و قد تأسّس هذا النادي تحت الشعار الإيكولوجي: "من أجل تعامل حكيم و حريص و مسؤول تجاه الطبيعة".
1 ـ يشير هذا المصطلح إلى اعتقاد مفاده ظهور صفات النسل بعد اختفائها لأجيال، بمعنى أنّ العالم يكرّر نفسه.
2 ـ مذهب يقول بإمكانية معرفة الحقائق عن طريق التفكير المجرّد دون الحاجة إلى إحساسات أو خبرة.
3 ـ وهي العقيدة التي تقول بأنّ لكلّ ما في الكون (من أشياء) أرواحاً.
4 ـ أعتقد أن هذه هي الترجمة الأصحّ، حيث تترجم أحياناً: الشركات المتعدّية للجنسيات، أو الشركات المتعدّدة الجنسيات.
5 ـ مذهب فكري يعلّل الأشياء و يفسّرها استناداً إلى قوانين الطبيعة و مسبّباتها الطبيعية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق