إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الجمعة، 6 مارس 2009

مفهوم الشخص في الفلسفة الديكارتية

لعلّ أكبر حدث في تاريخ البحث الفلسفي المتعلّق بسبر أغوار النفس الإنسانية منذ عهد سقراط الذي دعا الإنسان إلى معرفة نفسه هو اكتشاف الكوجيطو على يد الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت. يمثّل هذا الحدث ثورة حقيقية في حقل الممارسة النظرية التي تجعل من التفكير موضوعا لها. و لفهم هذه الثورة لا بدّ من إلقاء و لو نظرة خاطفة على تاريخ هذه الممارسة قبل مجيء ديكارت ليتسنّى لنا إدراك و فهم مدى عمق التغيّر الذي أحدثه "أب العقلانية الحديثة" في النظرة إلى الذات المفكّرة و طريقة التفكير فيها. و لتحقيق هذا الغرض نرى أنّه من الضروري التذكير بالخطوط العريضة لنظريات المعرفة لدى أكثر الفلاسفة السابقين شهرة من أجل 
مقارنتها مع نظرية ديكارت. و سوف يتمّ التركيز على نظرية المعرفة لدى كلّ من أفلاطون وأرسطو اللذين كان لهما تأثير كبير في تاريخ الفكر على امتداد قرون عديدة.  ترتكز نظرية المعرفة الأفلاطونية على مصادرة أساسية مفادها أنّ المعرفة تتحقّق من خلال الانتقال و الارتقاء التدريجي من المعطى المحسوس إلى النموذج المعقول، حيث تميل الذات العارفة تدريجيّا إلى التجرّد من كلّ ما له علاقة بالعالم المحسوس من أجل الاتّصال بالعالم المعقول و الارتقاء في مراتب المعرفة إلى أن يصل العقل إلى غايته القصوى وهي المشاركة في انسجام العالم المعقول و تناسقه الرياضي. و إذا كان أفلاطون قد جعل من العدد و الماهيات الرياضية المبدأ الذي يقوم عليه انسجام العالم المعقول، فلأنّ العلاقات الرياضية في نظره تظلّ على الدوام ثابتة لا تتغيّر، وهو ما يفسّر خلود العالم. إنّ فعل المعرفة هنا لا يختلف عن فعل الوجود، إنّه فعل المشاركة في الوجود؛ فقد أوضح أفلاطون في كتابه "الجمهورية" كيف ينبغي أن يكون النظام الاجتماعي لكي يتسنّى للإنسان العيش في انسجام مع العالم المعقول كما يتصوّره الحكماء. و من هنا يمكن أن نفهم لماذا أصبح الأفلاطونيون يولون أهمّية قصوى لدور الصورة في عملية المعرفة، و أصبحت معرفة الموجودات عندهم تعني مشاركتها في صورها أو نماذجها المثلى. و لمّا كانت الصورة هي التي تنقل الشيء من الوجود بالإمكان إلى الوجود بالفعل، و لمّا كانت تمثّل حقيقة الشيء أو جوهره، أمكن القول بأنّ فعل المعرفة كفعل الوجود، وهو ما عبّر عنه المفكّر الأمريكي Pedro Amaral بقوله: to know something is just like being something و يعني ذلك، حسب قوله، أنّ المعرفة هي المشاركة في الوجود.، و تعني المشاركة أسلوبا في الحياة ينسجم مع مبادئ الوجود الحقيقي. يتمثّل فعل المعرفة، إذن، في قدرة العقل على أن يصبح كموضوعه، أو أن يكون مطابقا لموضوعه و متماثلا معه، هذا مع العلم أنّ موضوع الفلسفة اليونانية هو الوجود بما هو موجود حسب تعبير أرسطو. ينسجم هذا التصوّر للمعرفة إلى حدّ ما مع نظرية المعرفة الأرسطية. تتبلور المعرفة في نظر أرسطو من خلال تشكّل صورة الشيء في العقل. فإذا كان العقل يدرك صور الأشياء، فإنّ تلك الصور تساهم بشكل أساسي في تشكل العقل. و هكذا يصبح العقل كموضوعه. و لذلك كان معيار الحقيقة في الفلسفة الأفلاطونية و الفلسفة الأرسطية على حدّ سواء هو معيار التطابق أو التماثل بين الفكرة و الموضوع. و ما قام به ديكارت هو أنّه غير هذا التصوّر للمعرفة و كيفية تحقّقها رأسا على عقب: أفرغ العقل و العالم من الصور، و ألقى بمبدأ التماثل جانبا و عوّضه بعملية التمثّل الذهني représentation؛ لم تعد المعرفة تتحقّق من خلال تماثل العقل مع موضوعه، بل من خلال التمثّل الذهني للموضوع بطريقة لا مكان فيها للتماثل الطبيعي. و إذا كانت غاية المعرفة في النظرية الأفلاطونية ـ الأرسطية هي تحقيق التماثل بين العقل و الموضوع، فإنّ ديكارت انتقل بالمعرفة إلى مستوى أرقى من مستوى الإحاطة بالموضوع: لم يقف عند حدود تمثّل الموضوع، بل جعل من التمثّلات الذهنية نفسها موضوعا للتأمّل العقلي، و بذلك دفع بعملية المعرفية إلى مستوى الميتا méta وهو التفكير في التفكير، و قادته تجربته الوجودية إلى اكتشاف بعد جوهري جديد من أبعاد الوجود الإنساني، ألا وهو الوعي conscience. و لأوّل مرّة في تاريخ الفلسفة، ربّما بعد ابن سينا أصبحت لهذا المفهوم دلالة تتجاوز معنى الإدراك الباطني الفوري المباشر، إلاّ أنّ ديكارت لم يحدّد دلالته بشكل صريح، و ظلّ يركّز على بيان أهمّية الوعي و دوره في حياة الإنسان. الوعي باعتباره حجر الزاوية في بنية الشخص لدى ديكارت يمثّل الوعي في نظر ديكارت الصفة المميّزة للإنسان، و العنصر الحاسم في تصوّره لمفهوم الشخص، و تكمن وظيفته في كونه يمكنّنا من الإدراك الفوري للذات المفكّرة. يرى ديكارت بأنّ أكثر الأشياء وضوحا في هذا العالم هي الأفكار، و تنطوي تأمّلاته على مصادرة صريحة إلى هذا الحدّ أو ذاك مفادها أنّ هناك نوعا خاصّا من النشاط المعرفي الذي يجعلنا على اتّصال بتفكيرنا و يمكّننا من التعرّف عليه و الإحاطة به و التحكّم فيه، و بذلك تنكشف لنا طبيعة الفكر و طبيعة الذات المفكّرة. و هذا مثال يوضّح هذه الفكرة: يستطيع زيد أن يستوعب و يفهم عملية حسابية كعملية الجمع مثلا: 2 + 2 = 4  و هذه العملية الحسابية هي سلسلة من عمليات التفكير، و عندما نتأمّل هذه السلسلة تنجلي طبيعة التفكير و طبيعة الذات المفكّرة و الموضوع المفكَّّر فيه، وهذه الأقانيم الثلاثة هي مظاهر تجربتنا الذهنية. ولا يحتاج المرء إلى بذل أي مجهود لمعرفة أصل هذه التجربة المتمثّل في الأنا المفكّرة، أو الأنا الديكارتي، فهي تكشف عن نفسها بنفسها، ولا تستمدّ وجودها إلاّ من ذاتها باعتبارها ذاتا مفكّرة، و هذه الذات مكتفيّة بذاتها، لا تحتاج في وجودها إلى شيء آخر. و لذلك لزم أن تكون السمة المميّزة للشخصية هي الحرّية. فالشخص الذي حصل له الوعي بذاته باعتباره ذاتا مفكّرة، هو بالضرورة كائن حرّ. و هكذا أصبح مفهوم الوعي عند ديكارت مرادفا لمفهوم الحرّية. ذلك لأنّ الوعي يوجد في استقلال عن الجسد ولا يتأثّر بالعامل البيولوجي ولا بعوامل المحيط الخارجي. و لكي تتّضح الفكرة أكثر لا بدّ من استعراض تصوّر ديكارت للإنسان، وهو ما يستلزم تسليط بعض الأضواء على المبادئ أو المصادرات الأساسية التي تقوم عليها فلسفته. ذكر ديكارت في رسالتين وجهّهما للملكة إليزابيت بتاريخ 21 مايو و 28 يونيو من عام 1643 ـ واللتّان يمكن اعتبارهما بمثابة ملخّص مركّز لنتائج "التأمّلات" ـ أنّ فلسفته الميتافيزيقية تقوم على ثلاثة مفاهيم أوّلية، تمثّل في نظره المرتكزات الأساسية لكلّ معرفة إنسانية، وهي المفاهيم التي لدينا عن الروح، و الجسد، و العلاقة بين الروح و الجسد: يتعلّق المفهوم الأوّل بتصوّرنا للروح، و يشمل العقل و الإدراك الحسّي و الإرادة و مختلف النوازع الانفعالية؛ و يتعلّق المفهوم الثاني بتصوّرنا للجسم، وهو مفهوم الامتداد الذي تُرَدّ إليه أشكال الأجسام و هيئاتها و حركاتها؛ و يتعلّق المفهوم الثالث بالعلاقة بين الروح و البدن، وهو مفهوم الوحدة التي تتجلّى من خلال قدرة الروح على تحريك البدن، و قدرة البدن على التأثير في الروح و  إثارة انفعالاتها. يقوم تصوّر ديكارت للوجود بصفة عامة على ثنائية الروح و الجسد: هناك، من جهة، عالم داخلي ذو طبيعة روحية و من خصائصه التفكير و عدم الامتداد في المكان، و يشمل الأفكار و المعتقدات و الانطباعات الحسّية و كلّ التجارب الذاتية؛ و هناك، من جهة أخرى، عالم خارجي ذو طبيعة مادية، و ما يميّزه هو الامتداد و انتفاء القدرة على التفكير، و يشمل الأجسام الطبيعية و القوى الفيزيائية. و ينطبق مبدأ ثنائية الوجود على الإنسان نفسه، و تتجلّى من خلال ازدواجية الروح و البدن. ميّز ديكارت، إذن، بين الروح و الجسد، و لكنّه أقام بينهما علاقة، هي علاقة التفاعل المتبادل التي تجعل منهما وحدة أو كلّية لا انفصام فيها، و هذه الوحدة هي ما يعبّر عنه مفهوم الإنسان. و لكن، ما الذي يجعل هذه الوحدة ممكنة رغم الاختلاف الجوهري الموجود بين الروح و الجسد ؟ يقدّم لنا الدكتور Pedro V. Amaral من جامعة كاليفورنيا جوابا شافيا على هذا السؤال، يقول بالحرف الواحد: "لم يكن ديكارت يتوفّر على مثل ذلك البناء النظري الذي يقوم على نظرية الانسجام الأفلاطونية التي استعملها سواريز Suarez (الفيلسوف السكولائي الكبير) لدعم نظريته المتعلّقة بوحدة الروح و الجسد. و بالنتيجة فإنّه كان على ديكارت أن يبتكر مفهوم "الوعي" consciousness باعتباره العنصر الذي يقوم بالتنسيق بين نشاط العقل و نشاط الجسد. و يعتبر الوعي بالذات، في نظر ديكارت، أكثر الأشياء وضوحا، فقد شكّ في وجود البدن و في وجود العالم. و أمّا الشيء الوحيد الذي لا يطاله الشكّ فهو الوعي بالذات باعتبارها ذاتا مفكّرة: فإذا كنت أشكّ، فإنّ معنى ذلك أنّي أفكّر، و إذا كنت أفكّر فإنّني موجود؛ يمثّل التفكير، إذن، قوام وجودي. هذه فكرة بديهية، و كذلك تعتبر الأفكار المتضمّنة في الذات المفكّرة أكثر الأشياء وضوحا على الإطلاق. و يمكن تعميم المبدأ الديكارتي على النحو التالي: إنّ ما يميّز الإنسان هو وعيه بذاته، و هذا الوعي هو الذي يجعل منه كائنا متميّزا، و يرقى به إلى مستوى الشخص الحرّ المستقلّ.
منقــــول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق