تمهيد:
فعلام تنبني المعايير الأخلاقية: هل أنّها تنبني على أسس
و مبادئ ثابتة و مطلقة، أم على نسبية المصالح و ظرفية الرغبات ؟ و هل أنّ السعادة و
الخير غايات قصوى تنشدّ إلى مثل عليا تعلو على التاريخ أم أنّ المساءلة الفلسفية لمثل
هذه القيم قد تفضي إلى تنزيلها ضمن الواقع المعيش للإنسان و ما يقتضيه من أبعاد إتيقية
؟
ترتبط نظرية القيم
بمجال الممارسة من حيث أنّ القيم هي جملة من المبادئ و القوانين المنظّمة لنشاطاتنا
الاقتصادية و السّياسية و الأخلاقية. فهي المقياس أو المعيار الذي نقيّم به أفعالنا
و إنتاجاتنا بالنظر إلى مدى استجابتها إلى ما يجب أن يكون.
و في هذا الإطار يتنزّل طرح
المسألة الأخلاقية للوقوف على التوتّر الحاصل بين موضوعية أو ذاتية أحكامها، و إطلاقية
أو نسبية مبادئها. رهاننا في ذلك الوعي بمنزلة القيم الأخلاقية في المعيش الإنساني
بما يحمله من توجّه نحو تحقيق السّعادة كمطلب ذاتي من جهة و ضرورة الانشداد إلى قيم
أخلاقية كونية مشتركة يمثّل الخير العام هدفها الأساسي من جهة أخرى.
1 ـ في التأسيس النظري والعقلاني للأخلاق:
أ ـ في غاية الفعل
الأخلاقي: الخير و السّعادة
* الأطروحات الأخلاقية الكلاسيكية:
يقوم التصوّر الميتافيزيقي
العقلاني للأخلاق عموما و التصوّر الأفلاطوني تحديدا
على تصوّر أنطولوجي يتحدّد فيه الإنسان داخل الوجود بما هو ثنائية ( نفس / جسد ) و
يتمّ الرفع من شأن النفس و العقل و احتقار الجسد وهو ما جعل تحقيق السّعادة خاصّة و
الفضيلة عامة مرتهنا بمدى تجاوز عوائق الجسد و تطهير النفس من الرذائل و الشهوات التي
قد تعلق بها. و تبعا لذلك يسعى الفيلسوف إلى إدراك المعرفة الحقّة التي تمكّنه من إدراك
مثال الخير الأسمى لأنّ من يعرف الخير يفعله و تتحدّد السّعادة
على أنّها سعادة عقلية روحية. و حين يتعلّق الأمر بالمدينة فإنّ المدينة السعيدة ترتبط
بمسألة العدالة فالعدالة الطبيعية تفيد أنّ لكلّ إنسان وظيفة حسب طبيعته فالجندي يحرس
و الحاكم يحكم لذلك ترتبط السّعادة في أقصى حدودها بالحكمة
لأنّ الفيلسوف يكون أقدر من غيره على معرفة الخير الأسمى لتحرّره من سلطة الرغبات
و المصالح. و يقرن أرسطو بين
السّعادة و التأمّل العقلي وهو ما يمكّن الإنسان من تحقيق و ممارسة الفضائل الأساسية.
إنّ الفضيلة هي سمة الفعل الأخلاقي يقول أرسطو "
إنّ الفضيلة هي ملكة يكون المرء بحسبها صالحا و يقوم بما يتوجّب عليه على أحسن وجه
" ( الأخلاق إلى نيقوماخوس) و يقول في موضع آخر " يستحيل على المرء أن يكون
فاضلا دون الحكمة العملية أو ملكة التروّي ذلك أنّ الفضيلة تتأتّى نتيجة النظر العقلي
و التعوّد معا فهي علم و عمل يتمّم الواحد منهما الآخر". إنّ الإنسان لا يمكن
أن يكون فاضلا إلاّ إذا اتّبع طريق التوسّط فالفضيلة هي وسط بين إفراط و تفريط ( مثال: الشجاعة فضيلة لأنّها وسط بين الجبن
و التهوّر) و تكون فضيلة الإنسان متّصلة بقوّته و ملكته الخاصّة
وهي القوّة الناطقة بما هي عنوان كماله فكماله كامن في كمال عمل تلك القوّة الناطقة
وهو ما يترادف مع تحقيق السّعادة. نخلص إلى القول إذن أنّ الأخلاق عند الفلاسفة اليونانيين عموما إنّما هي أخلاق السّعادة بما هي الخير الأقصى الذي يطلبه الإنسان.
و تظلّ السّعادة مرتبطة بلذّة التفكير والتأمّل، فالسّعادة تتحدّد على أنّها نشاط النفس
طبقا للفضيلة و أحسن الفضائل هي الفضيلة العقلية.
ب ـ العلاقة بين الواجب و مطلب السّعادة:
مثّلت الفلسفة الكانطية
مراجعة نقدية للتصوّرات التقليدية للأخلاق. إذ يرفض كانط ( 1724ـ 1804) اعتبار السّعادة
مبدأ أعلى للأخلاق باعتبار أنّ مفـهوم السّعادة يتّسم باللاتحدّد و اللاتعيّن وهو مفهوم
مستخـلص من التجربة لا من العقل، فحين نريد
تحديد هذا المفهوم غالبا ما نتّجه إلى الأمثلة التجريبية وهو ما يؤكّد الطابع الحسّي
لفكرة السّعادة كما أنّ مفهوم السّعادة يختلف من شخص إلى آخر، بل إنّه يتغيّر عند الشخص
الواحد استجابة لميولاته الفردية الذاتية وهو ما يعكس اتّصاف هذا المفهوم بالاحتمال
و الخصوصية. إنّ أساس النقد
الكانطي ينبني على القول بخطإ الربط بين الأخلاق
و السّعادة لأنّنا نصبغ على القواعد الأخلاقية الموجّهة للسلوك البشري صيغة مخالفة
و مناقضة لسمات القانون الأخلاقي الذي يكون ضروريا و موضوعيا و شموليا. و تتجلّى المفارقة
إذن في أنّ تأسيس الأخلاق على السّعادة يصبح تحطيما و ضربا لها، لذلك يسعى كانط إلى التأكيد على أنّ العقل هو أساس كلّ القيم وهو
مصدر كلّ القوانين الأخلاقية. و تكمن مهمّة العقل في إيجاد إرادة خيّرة لا تسعى إلى
إشباع نوازعنا و أهدافنا النفعية و إنّما تكون خيّرة في ذاتها باعتبارها الخير الأسمى.
يقول كانط " إنّ مصير العقل الحقّ يجب أن
يتّجه إلى بعث إرادة خيّرة فينا، لا تكون وسيلة لتحقيق غاية من الغايات بل تكون إرادة
خيّرة في ذاتها و من أجل هذا كان وجود العقل أمرا تقتضيه الضرورة المطلقة ". تصبح
إذن الإرادة الخيّرة إرادة عاقلة لأنّها ترجع إلى ملكة العقل و ليس إلى ملكة الرغبة.
و لتوضيح و تدقيق مفهوم الإرادة يستعين كانط بمفهوم
الواجب و يسعى من خلاله إلى التمييز بين الأفعال المطابقة للواجب و الأفعال النابعة
من الواجب، فالأولى تبدو ظاهريا و كأنّها أفعال أخلاقية تراعي الواجب الأخلاقي كمظهر
خارجي لكنّها أفعال تنبع من إرادة غير خيّرة و تحرّكها نوازع و رغبات لا أخلاقية، أمّا
الأفعال التي تتمّ من خلال الواجب ذاته فهي الأفعال التي تنتج عن شعور بالواجب. و لتحديد معنى الواجب قام كانط
بالتمييز بين أمرين موجّهين للسلوك الأخلاقي:
* الأمر الشرطي: هو الأمر الذي يكون مشروطا بغاية أو هدف، إنّه وسيلة ترتبط بطلب المنفعة و الجزاء.
* الأمر القطعي: هو نقيض الأمر الشرطي أي الأمر الذي تنتج عنه أفعال أخلاقية لا تحدّها شروط
فهو أمر نابع من العقل استجابة لمبدإ يقتضي من الفرد الالتزام بالسلوك الأخلاقي احتراما
للواجب.
مثال: تاجران يتجنّبان ممارسة الغشّ. الأوّل يقوم بذلك حتّى
يضمن الحفاظ على حرفائه و تحقيق مزيد من الربح (الأمر الشرطي: رغبة في تحقيق منفعة)
و الثاني يقوم بذلك احتراما للواجب الأخلاقي (الأمر القطعي: ما يجب فعله). إنّ الإرادة الخيّرة
لا تكون خيّرة إلاّ بخضوعها للواجب وهو ضرورة أداء الفعل احتراما للقانون، غير أنّ كانط لا ينظر إلى القانون الأخلاقي بما هو قانون ذاتي
عقلي بل يحاول تأسيس قوانين أخلاقية مطلقة كلّية تستمد قيمتها و كونيّتها من كونية
العقل. و يردّ كانط هذه القوانين إلى ثلاثة قواعد
اعتبرها مسلّمات لكلّ سلوك أخلاقي:
1) قاعدة التعميم و الكلّية: "
افعل طبقا للمبدإ الأخلاقي الذي يجعلك تقدر على أن تريد له في الوقت نفسه أن يصير قانونا
كلّيا " مثال : الانتحار رغبة في التخلّص التي تعترض الإنسان في الحياة يُعدّ
فعلا لا أخلاقيا لأنّه لا يرقى إلى مستوى التعميم لينسحب على كامل الإنسانية، فإذا
أصبح كلّيا مُعمّما فإنّه سيؤدّي إلى فناء الجنس البشري.
2) قاعدة الغائية: "
افعل كما تعامل الإنسانية في شخصك و شخص سواك دائما و في نفس الوقت على أنّها غاية
و ليس على أنّها مجرد وسيلة " مثال: الشخص الذي يعطي وعودا كاذبة إنّما اتّخذ
من الآخرين مجرّد وسائط لا غايات في ذاتها لتحقيق رغباته و مصالحه.
3) قاعدة التشريع: "
افعل بحيث يمكن لقاعدة إرادتك أن تكون في نفس الوقت مبدأ تشريع كلّي" ذلك أنّ الفعل الخلقي
ليس مجرّد امتثال بل هو تشريع لأن يكون كلّ سلوك أخلاقي قانونا كلّيا لجميع الكائنات
العاقلة.
يمكن القول إذن أنّ العقل المحض العملي يشرّع القانون الأخلاقي
للكائن الحرّ المتعالي عن الكائن الحسّي ذلك أنّ "المبدأ الوحيد للأخلاقية يقوم
على الاستقلال تجاه كلّ مضمون". في حين أنّ الأخلاق المؤسّسة على مبادئ حسّية
تجريبية ترجع في مجملها إلى مبدإ السّعادة الشخصيّة وهو ما يضادّ الأخلاقية. فأخلاق
السّعادة لا يمكن أن تزوّدنا بقانون كلّي صوري. و إنّ القانون الأخلاقي في صيغه الثلاثة
ليس شيئا مفروضا على الإرادة بل هو قانون شرعته بنفسها و في طاعتها له حرّية لها. يقول
كانط " أمران يملآن النفس إعجابا و إجلالا،
السّماء المرصّعة بالنجوم من فوقي و القانون الأخلاقي في داخلي " ( نقد العقل
المحض).
2) المراجعة النقدية للقيم الأخلاقية المطلقة:
*
من الأخلاق إلى الإتيقا:
إذا كانت السّعادة ضمن التصوّرات التقليدية مفهوما
أساسيا و مبحثا نظريا يندرج ضمن مسألة الأخلاق فإنّها تُطرح في المجتمعات المعاصرة
في مستوى سياسي و اقتصادي بدلالة الحديث عن حقّ المواطن في السّعادة منذ قيام الثورة
الفرنسية و المقصود من ذلك هو حقّه في المساواة أمام القانون و الاستمتاع بحياته بما
يضمنه له مجهوده الشخصي. وضمن هذا التوجّه الجديد في مقاربة مسألة الأخلاق قام المذهب
النفعي مع جيريمي بنتام (1748 ـ1832) و جون ستيوارت ميل (1806 ـ1873) على اعتبار أنّ الخير يتحدّد
من جهة ما هو نافع أي أنّ معيار قيمة فعل أخلاقي يرجع إلى نفعية نتائجه، و ترتبط الغاية
القصوى من كلّ فعل أخلاقي بتحقيق أكبر قدر من السّعادة بالنسبة إلى أكبر عدد من الأفراد.
إنّ المنفعة ليست في الحقيقة إلاّ القدرة على حساب ما يضمن اللذّة و يُجنّب الألم وهي
مُتوزّعة بين مستويين، يكون الأوّل فرديا و يعبّر عن كلّ ما هو مصلحة و نفع للفرد،
في حين يكون الثاني جماعيا متعلّقا بتحقيق سعادة المجموعة و الزيادة فيها. و قد مثّل
هذا التوجّه شعارا سياسيا مفاده توفير أكبر قدر ممكن من السّعادة لأكبر عدد من الناس.
و من استتباعات هذا الشعار إيثار المنفعة العامة على المنفعة الخاصة، و إقرار أنّ السّعادة
قابلة للحساب وفق عملية جمع أكبر قدر من اللذّة و طرح أكبر قدر من الألم، يقول ستيوارت ميل " ما نعنيه بالسعادة هو وجود اللذّة
و غياب الألم ، أمّا الشقاء فهو وجود الألم و غياب اللذّة " غير أنّ اللذّة لا
تُؤحذ في دلالتها البسيطة الحسّية و إنّما تتحدّد وفق جملة من المقتضيات يحصيها بنتام في:
* المدّة: وهو محدّد لقياس المدّة
الزمنية للذّة، فاللذّة المستمرّة أو الممتدّة زمنيّا أفضل من اللذّة العابرة.
* الشدّة: أي قياس مدى قوّة اللذّة أو ضعفها.
* التيّقن من الإنجاز: حيث أنّ اللذّة المؤكّد حصولها أفضل من تلك التي نشكّ في إنجازها.
* القرب: أي أنّ اللذّة العاجلة أفضل من اللذة الآجلة.
* الخصب: أي النظر في مدى أن تثمر اللذة لذات أخرى.
* الصفاء: أي أن تكون اللذة خالصة غير مصحوبة بالألم.
* الامتداد: أي قياس مدى تعدّي اللذّة من الفرد إلى حصولها من أفراد آخرين.
وهو ما ينقل البحث إلى النظر في المعايير التي تكفل تحقيقها و تمييزها لذلك يعتبر ميل أنّه " حسب مبدإ السّعادة القصوى ... يكون الهدف الأسمى سواء تعلّق الأمر بصالحنا أم بصالح غيرنا هو حياة خالية أكثر ما يكون من الألم ثرية قدر المستطاع باللذّات كمّا و كيفا ". يمكن القول إذن أنّ فضل المذهب النفعي يكمن في التخفيف من وطأة تأثيم مطلب الرّفاه باعتبار أنّ السّعادة لا تتعارض بالضرورة مع اللذّات و المصالح وفق طرح مخصوص. وهو ما شرّع للتعامل مع القيم الأخلاقية تعاملا وضعيا يرفض القول بإطلاقيتها و تعاليها على التاريخ. إنّ القيم الأخلاقية وقائع تاريخية متغيّرة و متحوّلة حسب ما تؤكّده المقاربة المادية التاريخية للأخلاق. فالأخلاق تمثّل من المنظور الماركسي شكلا من أشكال الوعي الايديولوجي و لا يجوز تناولها في استقلالها عن شروط تكوينها المادية الموضوعية أي درجة تطوّر القوى الإنتاجية و طبيعة العلاقات التي تمثّل الأساس المادي للحياة (البنية التحتية) و يعتبر ماركس (1818ـ1883) مجازيا أشكال الوعي مثل جلود الثعبان التي تتحلّل و تُستبدل بفعل تغيّر الواقع الموضوعي. و تبعا لذلك ترتبط القيم الأخلاقية ببنية المجتمع الطبقية و الصراعات الناجمة عنها. مثال: الأمر الخلقي " لا تسرق " لا معنى له إلاّ داخل مجتمعات تقوم على نظام الملكية لأنّه لا سرقة لما هو مُشاع و من ثمّ يكون هذا الأمر مجعولا لحماية الملكية و بالتالي يصبح تعبيرا إيديولوجيا عن مصالح الذين يملكون. يقول انجلز في هذا الإطار " ... إنّ الناس عن وعي أو غير وعي يستمدّون تصوّراتهم الأخلاقية في التحليل الأخير من العلاقات العملية التي يقوم عليها وضعهم الطبقي أي من العلاقات الاقتصادية التي ينتجون و يتبادلون فيها". و يعتبر دوركايم (1858 ـ1917) ضمن مقاربة علمية للأخلاق أنّ التصوّر السائد حول الأخلاق تصوّر خاطئ لأنّه لا يستند إلى رؤية علمية و إنّما مرجعه رؤية أسطورية تقوم على الخيال وهو ما يُفسّر التلازم بين ما هو أخلاقي و ما هو ديني تاريخيا. إنّ الأخلاق في نظر دوركايم تُعدّ ظاهرة اجتماعية بالأساس ذلك أنّ " المجتمع هو الذي وضع فينا عند تربيتنا تربية أخلاقية هذه المشاعر التي تملي علينا سلوكنا إملاء ... فضميرنا الأخلاقي صنعتها و المُعبّر عنها و إذا ما تحدّث ضميرنا كان المجتمع هو المُتحدّث فينا ". فالأخلاق ليست نتاجا لإرادة الفرد كما أنّها لا تجد مصدرها في قوى غيبية متعالية و إنّما يستبطن الفرد بفعل التربية و التنشئة الاجتماعية جملة من القواعد الأخلاقية التي تُصبح فيما بعد بمثابة المبادئ المُلزمة للسلوك و ترتقي هذه المبادئ إلى مرتبة الواجب الأخلاقي. و يفضي هذا القول حسب دوركايم إلى نفي فكرة إطلاقية و شمولية القيم الأخلاقية ، فالأخلاق تظلّ نسبيّة و قابلة للتغير من مجتمع إلى آخر. مثال: القتل قد يكون فعلا شريرا لكنّه قد يكون فعلا خيّرا أخلاقيا في حالات الأخذ بالثأر مثلا. لذلك تبقى الأخلاق قابلة للتبدّل و التغيّر بحكم ارتباطها بتطوّر المجتمعات تاريخيا.
يمكن بلورة المشكل إذن حسب ما يلي:
إذا كان من الممكن اجتناب مزالق فلسفة المطلق الميتافيزيقية في نظرية القيم الأخلاقية فكيف يمكن تفادي التوجّه نحو القول بالنسبية في القيم الأخلاقية و إقرار الريبية ؟ إذا كان من الممكن للمؤرّخين و علماء الأنتروبولوجيا و النفس و الاجتماع الوصول إلى تبرير كلّ نظام خلقي بدرجة متكافئة اعتقادا منهم باستحالة وجود نظام فريد في الأخلاق يتّفق عليه البشر و يلتزم به الجميع فإنّ السلوك الاجتماعي و الواقع الإنساني يكشفان عن قاسم مشترك في الحاجات و المطالب الرئيسية لكلّ الأفراد فالسّعادة تظلّ أمرا مرنا ذلك أنّ استحداث أنساق جديدة للأخلاق تقطع مع المعايير القديمة لا يلغي إمكانية القول بأهمّية ذلك و جدواه بالنسبة لكلّ الإنسانية طالما أنّ الأخلاق كانت منشدّة إلى ـ ما يجب أن يكون ـ و إنّ الاختلاف في الأنساق الأخلاقية لا يُفيد بالضرورة تناقضا يأباه العقل لأنّ الإنسان يتميّز بقدرته على التعقّل لتقدير الممكنات و تقويم السلوك وفق المواقف المتغيّرة لتحقيق توافق كلّي بين الأفراد أو سعادة تشمل الجميع. و على هذا الأساس يصحّ اعتبار الإنسان فردا في أسرة و مواطنا في دولة و عضوا في مجمع إنساني، يرتبط كماله بكمال المجموع الذي ينتمي إليه مع احتفاظه بفرديته و استقلال شخصيته و يصبح أمر الإلتزام بالقيم الأخلاقية أمرا مشروعا و ميسورا ينقلنا من الأخلاق بما هي خطاب معياري ينبني على أسس متعالية و قوامه الأمر و الإلزام ، إلى الإتيقا بما هي فنّ حياة يحضر فيه الآخر لضمان رغد العيش و تحقيق السّعادة.
* الشدّة: أي قياس مدى قوّة اللذّة أو ضعفها.
* التيّقن من الإنجاز: حيث أنّ اللذّة المؤكّد حصولها أفضل من تلك التي نشكّ في إنجازها.
* القرب: أي أنّ اللذّة العاجلة أفضل من اللذة الآجلة.
* الخصب: أي النظر في مدى أن تثمر اللذة لذات أخرى.
* الصفاء: أي أن تكون اللذة خالصة غير مصحوبة بالألم.
* الامتداد: أي قياس مدى تعدّي اللذّة من الفرد إلى حصولها من أفراد آخرين.
وهو ما ينقل البحث إلى النظر في المعايير التي تكفل تحقيقها و تمييزها لذلك يعتبر ميل أنّه " حسب مبدإ السّعادة القصوى ... يكون الهدف الأسمى سواء تعلّق الأمر بصالحنا أم بصالح غيرنا هو حياة خالية أكثر ما يكون من الألم ثرية قدر المستطاع باللذّات كمّا و كيفا ". يمكن القول إذن أنّ فضل المذهب النفعي يكمن في التخفيف من وطأة تأثيم مطلب الرّفاه باعتبار أنّ السّعادة لا تتعارض بالضرورة مع اللذّات و المصالح وفق طرح مخصوص. وهو ما شرّع للتعامل مع القيم الأخلاقية تعاملا وضعيا يرفض القول بإطلاقيتها و تعاليها على التاريخ. إنّ القيم الأخلاقية وقائع تاريخية متغيّرة و متحوّلة حسب ما تؤكّده المقاربة المادية التاريخية للأخلاق. فالأخلاق تمثّل من المنظور الماركسي شكلا من أشكال الوعي الايديولوجي و لا يجوز تناولها في استقلالها عن شروط تكوينها المادية الموضوعية أي درجة تطوّر القوى الإنتاجية و طبيعة العلاقات التي تمثّل الأساس المادي للحياة (البنية التحتية) و يعتبر ماركس (1818ـ1883) مجازيا أشكال الوعي مثل جلود الثعبان التي تتحلّل و تُستبدل بفعل تغيّر الواقع الموضوعي. و تبعا لذلك ترتبط القيم الأخلاقية ببنية المجتمع الطبقية و الصراعات الناجمة عنها. مثال: الأمر الخلقي " لا تسرق " لا معنى له إلاّ داخل مجتمعات تقوم على نظام الملكية لأنّه لا سرقة لما هو مُشاع و من ثمّ يكون هذا الأمر مجعولا لحماية الملكية و بالتالي يصبح تعبيرا إيديولوجيا عن مصالح الذين يملكون. يقول انجلز في هذا الإطار " ... إنّ الناس عن وعي أو غير وعي يستمدّون تصوّراتهم الأخلاقية في التحليل الأخير من العلاقات العملية التي يقوم عليها وضعهم الطبقي أي من العلاقات الاقتصادية التي ينتجون و يتبادلون فيها". و يعتبر دوركايم (1858 ـ1917) ضمن مقاربة علمية للأخلاق أنّ التصوّر السائد حول الأخلاق تصوّر خاطئ لأنّه لا يستند إلى رؤية علمية و إنّما مرجعه رؤية أسطورية تقوم على الخيال وهو ما يُفسّر التلازم بين ما هو أخلاقي و ما هو ديني تاريخيا. إنّ الأخلاق في نظر دوركايم تُعدّ ظاهرة اجتماعية بالأساس ذلك أنّ " المجتمع هو الذي وضع فينا عند تربيتنا تربية أخلاقية هذه المشاعر التي تملي علينا سلوكنا إملاء ... فضميرنا الأخلاقي صنعتها و المُعبّر عنها و إذا ما تحدّث ضميرنا كان المجتمع هو المُتحدّث فينا ". فالأخلاق ليست نتاجا لإرادة الفرد كما أنّها لا تجد مصدرها في قوى غيبية متعالية و إنّما يستبطن الفرد بفعل التربية و التنشئة الاجتماعية جملة من القواعد الأخلاقية التي تُصبح فيما بعد بمثابة المبادئ المُلزمة للسلوك و ترتقي هذه المبادئ إلى مرتبة الواجب الأخلاقي. و يفضي هذا القول حسب دوركايم إلى نفي فكرة إطلاقية و شمولية القيم الأخلاقية ، فالأخلاق تظلّ نسبيّة و قابلة للتغير من مجتمع إلى آخر. مثال: القتل قد يكون فعلا شريرا لكنّه قد يكون فعلا خيّرا أخلاقيا في حالات الأخذ بالثأر مثلا. لذلك تبقى الأخلاق قابلة للتبدّل و التغيّر بحكم ارتباطها بتطوّر المجتمعات تاريخيا.
يمكن بلورة المشكل إذن حسب ما يلي:
إذا كان من الممكن اجتناب مزالق فلسفة المطلق الميتافيزيقية في نظرية القيم الأخلاقية فكيف يمكن تفادي التوجّه نحو القول بالنسبية في القيم الأخلاقية و إقرار الريبية ؟ إذا كان من الممكن للمؤرّخين و علماء الأنتروبولوجيا و النفس و الاجتماع الوصول إلى تبرير كلّ نظام خلقي بدرجة متكافئة اعتقادا منهم باستحالة وجود نظام فريد في الأخلاق يتّفق عليه البشر و يلتزم به الجميع فإنّ السلوك الاجتماعي و الواقع الإنساني يكشفان عن قاسم مشترك في الحاجات و المطالب الرئيسية لكلّ الأفراد فالسّعادة تظلّ أمرا مرنا ذلك أنّ استحداث أنساق جديدة للأخلاق تقطع مع المعايير القديمة لا يلغي إمكانية القول بأهمّية ذلك و جدواه بالنسبة لكلّ الإنسانية طالما أنّ الأخلاق كانت منشدّة إلى ـ ما يجب أن يكون ـ و إنّ الاختلاف في الأنساق الأخلاقية لا يُفيد بالضرورة تناقضا يأباه العقل لأنّ الإنسان يتميّز بقدرته على التعقّل لتقدير الممكنات و تقويم السلوك وفق المواقف المتغيّرة لتحقيق توافق كلّي بين الأفراد أو سعادة تشمل الجميع. و على هذا الأساس يصحّ اعتبار الإنسان فردا في أسرة و مواطنا في دولة و عضوا في مجمع إنساني، يرتبط كماله بكمال المجموع الذي ينتمي إليه مع احتفاظه بفرديته و استقلال شخصيته و يصبح أمر الإلتزام بالقيم الأخلاقية أمرا مشروعا و ميسورا ينقلنا من الأخلاق بما هي خطاب معياري ينبني على أسس متعالية و قوامه الأمر و الإلزام ، إلى الإتيقا بما هي فنّ حياة يحضر فيه الآخر لضمان رغد العيش و تحقيق السّعادة.
منقــــــول
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق