إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الاثنين، 30 مارس 2009

المواطن و الإنسان ذو البعد الواحد

سلمى بالحاج مبروك
تمهيــد
إنّ ما يبرّر اهتمامنا بمسألة المواطن من خلال كتاب ماركوز "الإنسان ذو البعد الواحد" إنّ ماركوز ـ باعتبار انتمائه لمدرسة فرانكفورت النقدية ـ  تسعى للكشف عن تحوّل العلم و التقنية إلى إيديولوجيا أمكن من خلالها إحكام قبضتها على الإنسان، و تحويل عقله من عقل أنواري إلى مجرّد عقل أداتي. و قد نجح ماركوز في الكشف عن عنف الاستغلال النسقي للطبيعة و الإنسان. فالفكر تمّ احتواءه من قبل السلطة و جُرّد من حقّ الرّفض و أصبح سلعة و اللغة بدورها تشيّأت و لم تعد تمثّل مأوى الوجود و مسكنه و إنّما 
أداة للإشهار السلعي تمرّ عبره تربية الجمهور و تطويعهم ممّا يهيِّئ لحمق سياسي. و تمّ تسخير العلم لممارسة التسلّط التي ازدادت حدّتها في الواقع الاجتماعي، فإرساء قوانين عامة للظواهر الطبيعية تلاه نقل القالب نفسه الذي مهّد لإخضاع الشعوب وفقا لمراسيم و قوانين المستبدين، و إخضاع المواطنين لأوامره و قوالبه مجنّدا إيّاهم تجنيدا شموليا تنظّمهم على الشاكلة نفسها و تتحكّم بهم قسرا. و حتّى العلوم الإنسانية لم تسلم هي الأخرى من التسخير من طرف السلطات السياسية و الاقتصادية. "فمثل هذا المجتمع قد يتطلّب تقبّل مبادئه و مؤسّساته. فلا يعود من دور للمعارضة غير مناقشة الاختيارات و الحلول السياسية البديلة و البحث عنها داخل الوضع القائم و سواء كان النظام مستبدّا أم غير مستبدّ، فليس لذلك من أهمّية مادام يعمل على التلبية المتدرّجة للحاجيات." ص:38 ـ إنّ هذه الصورة الحقيقية للمواطن في عصر التقنية هي التي دفعتنا لاختيار كتاب "الإنسان ذو البعد الواحد" من أجل اختبار الوضع الحقيقي للمواطن، خاصة و نحن نشهد عصرا يكثر فيه الحديث عن حقوق المواطن داخل الدولة و ضرورة احترام مبدأ المواطنة حتّى أصبح تقدّم الدول و حداثتها مرهون بمدى استجابتها لاحترام مواطنيها. فهل نجد حقّا مثل هذا التقديس للإنسان و المواطن بصفة خاصّة داخل الدول الصناعية أم أنّ مواطن هذه الدول حاله حال المجتمعات النامية يعيش اضطهادا و تهميشا تحجبه غشاوة السّعادة التي خرجت من معطف صناعة التسلية و الترفيه و ثقافة الاستهلاك ؟ لمّا كانت المواطنة همّا فلسفيا بامتياز انشغل بها مؤسّسو الفلسفة السياسية الحديثة و اعتبروها من مقوّمات الدولة الحديثة نظرا لارتباطها بقيم الحرّية و المساواة و المسؤولية و ابتغاء الخير العام، فإنّه لا بدّ من ربطها بأصلها وهو الإنسان حتّى نفهم مدى استجابة فكرة المواطن لطموح الإنسان في أن يعيش الحرّية و العدالة و المساواة. وهو ما يدفعنا للبحث و التساؤل عن طبيعة علاقة الإنسان بالمواطن. فمن المفارقات التي يخفيها الموجود الإنساني أنّه ينتمي لمملكة الطبيعة و للعالم الحسّي التجريبي من جهة، و لمملكة الحرّية و العالم العقلاني من جهة أخرى. فهو حيوان سياسي معرّض للأهواء و فساد المآل من ناحية أولى و كائن عاقل يتوق إلى السموّ و التجاوز و يقدر على احترام مقتضيات العقل و الالتزام بالمواثيق و العهود من ناحية أخرى، إنّه يتواتر بين الحقوق و الواجبات، وهو كائن يملك فردية و خصوصية و يدافع عن حرّيته وهو كذلك يحتاج للاجتماع مع الآخر، و هذا الاجتماع يفرض عليه جملة من القيود. إنّ هذه التوتّرات الإحراجات هي التي تشرّع لضرورة استنطاق الوجود الإنساني و تنزيله المنزلة التي يستحقّها و التعرّض للصعوبات التي تثيرها مسألة اندراجه ضمن عالم قيمي و سياسي و حتّى اقتصادي. و قد آثرنا كتاب "الإنسان ذو البعد الواحد" لأنّه يكشف هذه المفارقة. فما مدى أصالة الإنسان المواطن في مجتمع الإنسان ذو البعد الواحد ؟ و هل نحن في حقبة المواطن خاصّة و أن هذا العصر لا يدعي لنفسه أنّه نجح في ترسيخ مبدأ المواطنة فحسب بل تعدّاها للحديث عن المواطن العالمي في ظلّ انتشار ثقافة حقوق الإنسان. فهل نجحنا حقّا في ترسيخ مبدأ المواطن ؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بدّ أن نتعرّف لأهمّ التحوّلات التاريخية التي أوصلت الإنسانية إلى فكرة الإنسان من جهة و فكرة المواطن من جهة أخرى، خاصّة و أنّ مبدأ المواطن لا يمتلك مشروعية إلاّ داخل نظام سياسي بمعنى آخر داخل الدولة، على خلاف مفهوم الإنسان الذي يبدو أكثر عمومية أو هو مفهوم متعالي و مجرّد و بالتالي فهو ليس مشروط بزمان أو مكان محدّد. فمفهوم الإنسان يبقى تصوّرا قبليا على خلاف المواطن الذي يتمتّع بقبلية و لكنّها عملية بما أنّه يتنزّل في سياق حقوقي و سياسي. و ممّا يعقّد المسألة أنّ البعض يعتبر أنّ سؤال ما هو الإنسان هو سؤال حديث طرحه كانط في كتاب "المنطق" عندما ردّ الأسئلة التالية:
ـ  ماذا يمكنني أن أعرف؟
 ـ ماذا يجب علي أن أفعل؟
  ـ  ما الذي يجوز لي أن آمل؟
إنّ السؤال المركزي في الفلسفة هو سؤال "ما الإنسان"؟ و بالتالي فإنّ الإنسان كما يقول فوكو في" كتابه "الكلمات و الأشياء" في الفصل المخصّص للعلوم الإنسانية "الإنسان مخلوق جديد في الحقل المعرفي و اختراع حديث العهد أبدعه العلم"، و يؤكّد أنّ ما كان موجودا قبل القرن الثامن عشر ليس الإنسان بل العالم و الكائنات البشرية و النظام أمّا الإنسان فقد كان غائبا. و الفلسفة عبر مختلف أشكالها قد رسّخت هذا النسيان. إذ قامت الفلسفة الإغريقية على تمجيد الطبيعة و نظام الكوسموس المتميّز بالتفاضل والتناغم و على اعتبار الموجود البشري خلية صغرى ضمن النظام الكلّي للعالم. في حين كان مفهوم المواطن حاضرا آن ذاك. فقد وردت كلمة المواطن في كتابات الفلاسفة القدماء إلى جانب كلمات الأمّة و الشعب كتعبير عن أفراد المجتمع، ممّا يدلّ على أبعاد المواطنة و أهمّيتها منذ القديم. غير أنّ المواطنة اليونانية كانت مشروطة بعدّة شروط، فانبنت على التفرقة و التمييز و لم تشمل كلّ الناس بل انحصرت في فئة معيّنة انطلاقا من الانتماء الجنسي و العرقي و الطبقي و بقي الأطفال و النساء و الغرباء و العبيد و المرضى خارج دائرة الإنسانية و المواطن. و لم يسمح بالحراك السياسي و ظهرت نظرة سكونية للأشياء و للأشخاص دعمها الفكر الديني في القرون الوسطى عندما اعتبر التقوى إحدى مقوّمات الشخصية الإنسانية و عندما أصبحت الملكية تحدّد إنسانية الإنسان، فالإنسان إنسان بقدر ما يملك، يملك ذاته و يسيطر على نوازعه ثمّ يملك سلطانا على الأشياء أمّا العبيد فهم خارج دائرة الإنسانية و المواطن لأنّهم ملك لغيرهم. أمّا الحقّ الإنساني فهو تابع للحقّ الإلهي أو لحقّ الأقوى و لم يكن شاملا أو كونيا بل كانت المساواة في عدم المساواة. و لئن انبنت النظرة القديمة للإنسان و الطبيعة على التراتبية و التفاضل و أنشأت خطابا سياسيا يحتقر الإنسان العادي و يبحث عن أفضل النظم فإنّ النظرة الحديثة انطلاقا من رؤيتها العلمية و الآلية قد أحدثت قطيعة مع التصوّر الأنطولوجي و استبدلته بتأسيس أنتروبولوجي ينطلق من فكرة الطبيعة الإنسانية في حالة الطبيعة و مبرّرات انتقالها للحالة الاجتماعية من خلال العقد الاجتماعي و لم يكن ذلك ممكنا إلاّ بتصوّر الأفراد على أنّها مجرّد قوى متصارعة من أجل حفظ الكوناتوس.  هذا التساوي في القوى سيؤدّي إلى إلغاء النظرة التراتبية للإنسان وهو ما سينعكس فيما بعد على مفهوم الفرد داخل الدولة أو المواطن. و من هنا ستنشأ فكرة المواطن الذي سيحدّد من خلال منظومة الحقوق و الواجبات بتعميم مبادئ الحرّية و العدالة و المساواة دون تمييز. فهل معنى ذلك أنّ مفهوم المواطن لا يكتسب دلالته الحقيقية إلاّ داخل مؤسّسة الدولة ؟ بمعنى آخر هل عندما نكون خارج الدولة لا نكون مواطنون و عندما نكون داخل الدولة نكون مواطنون ؟ أليس "الإنسان ذو البعد الواحد " هو داخل الدولة و لكنّه في نفس الوقت قد فقد هوّيته كمواطن ؟ ثمّ أليس الإنسان ذو البعد الواحد هو إنسان المجتمعات الصّناعية التي انبنت على أسطورة الديمقراطية و احترام حقوق الإنسان و المواطن هي نفسها التي تنتهك المواطن و حقوقه فكما يقول ماركوز "الديمقراطية هي التي تلغي بنفسها و بكلّ دعة و اطمئنان مبادئ الديمقراطية". و على الرغم من تبنّي مفهوم المواطن في كافة الدساتير و البرامج السياسية و المواثيق الدولية المتعلّقة بحقوق الإنسان فإنّ هذه الفكرة الجذّابة و الجميلة للمواطن و كأنّها ظلّت مجرّد نوايا حسنة لا تعكس صورة المواطن كما هو في الواقع الدولي. فأمام تضخّم مقولات حقوق الإنسان و المواطن في مستوى نظري و تكثّف حضورها في الخطاب السياسي، لم يعادله نفس الاهتمام في الواقع. فها هي المجتمعات الصناعية المتقدّمة كما يرى ماركوز "تتطوّر نحو مجتمعات مغلقة بدون معارضة"، إنّه مجتمع ينحو نحو التوتالتارية بسب مركّب علم ـ تقنية ـ إدارة و أشكال جديدة للمراقبة وهو ما يعني أنّ ما يسمّى بالعلم و التقنية هي مشبعة بالإيديولوجيا و تختلط بالسياسي و الاجتماعي. و كتاب ماركوز بما يحمله من توصيف لواقع تداخل فيه العلمي بالتقني و السياسي يوفّر لنا أرضية نقف عليها للبحث عن دلالة المواطن و منزلته كما نظّرت له الفلسفة السياسية الحديثة ثمّ اختبار هذه المنزلة على ضوء ما جاء في كتاب ماركوز "الإنسان ذو البعد الواحد" من تشخيص لحالة المجتمع الصّناعي الرأسمالي. فهل نجح هذا المجتمع في صناعة صورة مثالية و راقية للمواطن أم أنّ رغم ما تدّعيه هذه المجتمعات من تقدّم علمي و تقني و ادّعاء باحترام لحقوق الإنسان لم يعمل في حقيقة الأمر إلاّ على تشظّي فكرة المواطن و العمل على سحقها تحت ركام الإنتاج و الاستهلاك لتظلّ فكرة المواطن مجرّد صورة واهمة لا توجد إلاّ في خيال الفلاسفة و منظّري السياسة ؟ ما هو مفهوم المواطن و القيم المرتبطة به ؟ و ما علاقة المواطن بالإنسان ذو البعد الواحد هل توجد مسافة و تباعد بينهما أم أنّ المواطن ما هو إلاّ الإنسان ذو البعد الواحد ؟ و لعلّ المعضلة الأكبر تتمثّل في ارتباط ترسّخ مفهوم المواطن بتقدّم المجتمعات الصّناعية و في نفس الوقت سعي هذا المجتمع إلى تربية أفراده على حبّهم لذواتهم و حبّهم لمنافعهم و مصالحهم الخاصّة و تحقيق سعادتهم على حساب شقاء الآخرين. فهل يمكن لمثل هذا المجتمع أن يصنع منهم مواطنين أحرارا ؟ و هل يمكن القول إنّ ما يكشف عنه ماركوز هو تقلّص المسافة المفترضة بين المواطن الحقيقي و الإنسان ذو البعد الواحد. فهل من مخرج لهذا المأزق الذي وقع فيه المواطن ؟ و كيف يتحقّق ذلك ؟ هل بإعلان الثورة على هذه الصورة النمطية للمواطن الذي فقد بشكل هادئ مواطنته خاصّة و أنّه لم يعد له ما يخسره سوى أغلاله ؟ أم أنّ الثورة على هذا الوضع بات مستحيلا و مستبعدا في عالم يخشى أن يفقد مع الثورة امتيازاته ؟ و ما نراهن عليه في هذا البحث هو كشف زيف ادّعاءات العقل التقني بأنّه بلغ مرحلة من احترام الإنسان و حقوق المواطن إلى مرحلة نهائية و مثالية و كشف حقيقة الديمقراطية بلغة ماركوز التي أصبحت كما يقول "إنّ الديمقراطية تدعم السيطرة بشكل أقوى من الحكم المطلق ".
Ι ـ في التمييز بين الإنسان و الإنسان ذو البعد الواحد
ـ أ ـ ما هو الإنسان ؟
يعتبر سؤال "ما هو الإنسان ؟ " من أعقد الأسئلة و أصعبها لتناقض الفلاسفة فيما بينهم و عجزهم عن إيجاد تعريف موحّد له و لعلّ هذه الصورة تؤكّد أنّ الإنسان في الفلسفة ليس إنسانا أحادي البعد بل متعدّد الأبعاد و الدّلالات إذ لو كان الإنسان أحادي البعد لاتّفق الفلاسفة فيما بينهم على إيجاد تعريف موحّد له. و إذا انطلقنا من القرن الثامن عشر الذي عرف انشغالا حقيقيا بالإنسان كما أشار إلى ذلك ميشال فوكو، و القرن الذي سبقه وهو عصر الثورة العلمية، فإنّ ملامح هذا العصر عرفت تحوّلات كبيرة من بينها توحيد قوانين الطبيعة و في نفس السياق تمّ إدراج الإنسان ضمن جسم اجتماعي  و اقتصادي و سياسي، و وحّد ديكارت كلّ البشرية تحت نفس الصفة وهو العقل و أعلن أنّه أعدل الأشياء قسمة بين الناس و قام بتحديد الإنسان انطلاقا من جوهرية التفكير فتحوّل الإنسان إلى مفهوم جوهري و كوني و في نفس السياق تمّ كسر التحالف القديم بين الإنسان و الطبيعة و استبدلت بمقولة الغزو و السيطرة و حدّدت أهداف الإنسان "أن يصبح سيّدا على الطبيعة و مالكا لها" فأعلى من شأن الإنسان و تمجيد الذات و بدأت تتشكّل صورة ريادية للإنسان تتمحور حول الذاتية و الفردية و الحرّية، و تمخّض عن هذا الاهتمام خطاب فلسفي يجعل من سؤال "ما هو الإنسان"؟ السؤال الفلسفي بامتياز الذي أدان كلّ التصوّرات الميتافيزيقية و الدينية و الأخلاقية التي تراكمت حول مفهوم الإنسان و الذي أرّخ لانحلال نمط من التفكير و بشّر بنهوض نمط جديد يقلّص من حضور الإله في العالم و يكثّف من حضور الإنسان. و حتّى عندما حاولت العلوم الإنسانية دراسة الإنسان بتحويله إلى كائن اقتصادي و اجتماعي و سياسي فإنّ هذا يؤكّد على الإنسان في جوهره كائن متعدّد الأبعاد لا يمكن اختزاله في بعد واحد وهو ما جعل بول ريكور ينادي بإيجاد أنتروبولوجيا جديدة بعد الرجّة التي حصلت مع كلّ من نيتشه و ماركس و فرويد يقع النظر فيها للإنسان انطلاقا "من إمكانية قيام أنتروبولوجيا فلسفية قادرة على الاضطلاع بجدلية الوعي و اللاوعي "سجال التأويلات" بمعنى أخذ كلّ ما يساهم في تحديد مفهوم الإنسان دون إقصاء أي بعد حتّى و إن كان يرمز للضعف الإنساني و الهشاشة وهو ما تحاول الفنومينولوجيا تقديمه للإنسان في سياق إنقاذه من الضياع في العالم و تلاشي معاني وجوده. فإذا كان هدف الفلسفة دائما التدخّل لفرض وجهة نظرها حول مفهومها للإنسان فمن أجل إنقاذه من الاختزال و الابتذال و الدّفاع عن هوّيته المتنوّعة بوصفه كائنا رامزا و الرمزية تحيل إلى تعدّد دلالات و معاني الإنسان يتراوح وجوده بين العلمي و الفنّي و الديني و الأسطوري. فإذا كانت حقيقة الإنسان بهذا الثراء و التنوّع فلماذا انقلبت إلى صورة متصحّرة و شاحبة تنمّ عن استفراغ دلالي و قيمي ؟ و لماذا أصبح الكائن المتعدّد الأبعاد كائن ذو بعد واحد ؟ ثمّ ما المقصود بالإنسان ذو البعد الواحد ؟
 ـ ب ـ من هو الإنسان "ذو البعد الواحد" ؟
بالعودة إلى كتاب ماركوز "الإنسان ذو البعد الواحد" نستطيع أن نتبيّن ما الذي يقصده ماركوز بالإنسان ذو البعد الواحد إذ ورد في الفصل الأوّل من نفس الكتاب و المعنون "أشكال الرقابة" ما يلي "تتحدّد إنسانية الإنسان بالحاجة و القدرة على تلبية هذه الحاجة" و يواصل "لم يعد هناك غير بعد واحد ماثل في كلّ مكان و تحت شتّى الأشكال". ما نلاحظه من هذا التحديد للإنسان أنّ ما هو حيواني أصبح يحدّد ما هو إنساني وهو نفس ما انتهى إليه ماركس عند حديثه عن اغتراب الإنسان في النظام الرأسمالي عندما يقول ما هو إنساني يصبح حيواني و ما هو حيواني يصبح إنساني. فالمجتمع الصّناعي قد نجح في استبدال الهوّية العقلانية بأخرى حيوانية من خلال اختزال إنسانية الإنسان و ردّها إلى بعد واحد وهو إرضاء الحاجيات أو الاستهلاك فالإنسان إنسانا بقدر ما يستهلك. إنّ هذه الرؤية الجديدة للإنسان تتناقض مع ما أرادت الفلسفة أن يكون عليه الإنسان و خاصّة فلسفة الأنوار، فإذا كان هذا الفكر يذهب في اتّجاه "إيلاء مكانة هامّة للإنسان كقيمة مركزية نظرية و عملية" كما يقول هابرماس في كتابه الخطاب الفلسفي للحداثة، فإنّ هذا التصوّر بدأ يتهاوى تحت ضربات مطرقة من يسمّيهم ريكور بأقطاب الظنّة لتحلّ محلّ الذات المفكّرة و المريدة و الفاعلة و الشفّافة ذات مكسورة و جريحة و غير عارفة بذاتها خاضعة لحتميات لا شعورية و اجتماعية يداهمها اللاعقل و الوهم وهي مجرّد ذات منفعلة. وهو ما انتبه إليه ماركوز في سياق حديثه عن الحرّية في المجتمع الصّناعي عندما يبيّن أنّ تحوّل الإنسان إلى مجرّد كائن مستهلك لا يهتمّ إلاّ بإرضاء الحاجيات المادية قد سلب منه خاصيتي الحرّية و العقل و هما جوهر الإنسان في الفلسفة الأنوارية "إنّ تقنيات التصنيع هي تقنيات سياسية و من هنا فإنّها تدين سلفا أهداف العقل و الحرّية" ص:45 ـ نحن إذن في عصر يعلن انقلابه على مشروع "سيادة الإنسان" و أمام فلسفة تنبني عل أنقاض فلسفة الأنوار معلنة خيانتها لهذا المشروع باستبدالها وثن العقل بوثن اللاعقل فتمّ اغتيال الكوجيتو الديكارتي و استبداله بصور فقيرة و مرعبة للإنسان ردّت وجوده إلى مجرّد امتداد طبيعي و بيولوجي. إنّ هذا الاختزال للإنساني فيما هو حيواني و علمي و مادي انتهى إلى سلب الإنسان تنوّعه و تعدّده و حصره في بعد واحد وهو البعد الحيواني مقابل استبعاد للتصوّر القيمي و الأخلاقي الذي يجعل منها كانط مبرّر استحقاق الإنسان للكرامة، و كأنّنا أمام وضع فلسفي شديد الاختلاف أتقن فيه التقدّم العلمي بناء الأشياء و لكنّه أفلس و فشل في بناء الإنسان. نحن في وضع نحتاج إلى تحرير، بمعنى آخر نحتاج للعقل لنتحرّر و لكن العقل نفسه يحتاج إلى من يحرّره. انطلاقا من ذلك يمكن أن نتعرّف لملامح هذا الإنسان فكيف حدّد ماركوز هذه الصورة ؟
ـ  ج ـ ملامح الإنسان ذو البعد الواحد
من خلال كتاب ماركوز نستطيع أن نحدّد ثلاثة ملامح أساسية هي التالية: التشيّؤ، الاستهلاك و الاغتراب.
*  التشيّؤ: يقول كيكغارد "إنّك تلغيني إذا وضعتني في نظام" وهو نفس ما ذهب إليه ماركوز عند حديثه عن النزعة التشيئية للعلم قائلا "إنّ هذه الذات تسلب من دورها الأخلاقي و السياسي و الجمالي من حيث دورها يختصر في الملاحظة الخالصة و القياس و الحساب الخالصين" . فالتشيّؤ ظاهرة يصبح في ظلّها الناس موضوعات تسيّرهم ميولات تكنولوجية و اقتصادية في آن معا و تحدّد سلوكهم مصالح اجتماعية محدّدة. إنّ الفرد في المجتمع التقني الرأسمالي يخوض علاقات تنهض على الكمّ و التراكم الإنتاجي فيما يتعلّق بتعامله مع المواضيع و الأشياء. أي أنّ علاقته تحدّدها روح المقايضة و المنفعة الخاصّة. و من هنا فإنّ روح المقايضة تعتبر عاملا كبيرا يساهم في بلورة ظاهرة التشيّؤ العامل الثاني هو التملّك والتشبّث بالأشياء المصنوعة و بنشوة الاستهلاك فليس غريبا أن نرى أن التمسّك بالأشياء المصنوعة أيسر من الالتزام بالعلاقات الإنسانية. إنّ تحول جميع النشاطات إلى سلع يعتبر أساس حالة التشيّؤ و تظهر ظاهرة التشيّؤ على ثلاثة مستويات:
* أوّلا: أن المجتمع الاستهلاكي ينزع على الدوام إلى خلق و استنباط رغبات جديدة.
* ثانيا: إنّ حبّ التملّك للأشياء يصبح الحافز الرئيسي للأفراد وهو ما يجعل الأشياء تتحكّم في الإنسان.
* ثالثا: أن مقدرة الإنسان تكمن في قيمة الأشياء التي في حوزته و التي يرى فيها قيمته الذاتية المتوارية. إنّ هذا التشيّؤ الذي يقع فيه الإنسان يردّه إلى التكنولوجية العلمية التي تميل إلى دراسة الأفراد بطريقة موضوعية علمية تبرّر ما هو قائم إذ يقول في هذا السياق "إنّ التجريبية في ميدان العلوم الاجتماعية تتوخّى توقّع سلوكات الأفراد و الجماعات بحيث ليس هناك فرق بين الذات  و موضوع المعرفة و ما يهمّها ليس دراسة تكوّن المجتمعات البرجوازية إنّما عرض أشيائه و موجوداته و أفراد المجتمع بوصفهم أشياء و وقائع و أرقام و بيانات و معادلات" وهي تعلن دون خجل "أنّ كلّ ما يمكن ملاحظته لا يعدو أن يكون في نظرها أشياء و محض أشياء". إنّ النظرة العلمية التي تعيد إنتاج الظاهرة الإنسانية كظاهرة منظّمة و دقيقة متكيّفة و مندمجة يجب أن لا يحجب الصورة الخادعة لمجتمع قائم على صنمية السلعة و تسيّد النزعة الاستهلاكية الذي سيغيّر مفهوم الإنسان من ذات تفكّر إلى ذات تستهلك، فقد انقلب العقل تنّينا أداتيا تجاوز صانعه بكثير، و هذا الصانع أصبح يعلن "أنا أستهلك فأنا موجود"، فاستبدل كوجيتو التفكير بكوجيتو الاستهلاك .
فما معنى أن يتحوّل الإنسان إلى كوجيتو مستهلك ؟
*  الإنسان بوصفه كوجيتو مستهلك :
إنّ سمة المجتمع الصّناعي كما يراها ماركوز أنّه مجتمع الوفرة و المقصود بالوفرة في مستوى المنتوج و السلعة فهو له فائض إنتاج من السلعة من جهة وهو أيضا مجتمع الرّفاه و الرّفاه ما يحقّق راحة الناس و إحساسهم بالسّعادة فالتقنية تزيل العناء لأنّ ما اعتاد الإنسان القيام به يصبح موكولا للتقنية و للآلة. فما يميّز المجتمع الصناعي هو تحويل الإنسان نحو هدف واحد تتمثّل في خلق لدى الإنسان "حاجة لا تقاوم إلى إنتاج و استهلاك ما هو زائد عن الحاجة" [1] بل إنّ الإنسان لا يتعرّف على نفسه إلاّ من خلال البضاعة و مدى امتلاكه للأشياء "فالناس يتعرّفون على نفسهم في بضائعهم  و يجدون جوهر روحهم في سيّاراتهم و جهازهم التليفزيوني الدقيق الاستقبال" فأيّ نموذج يقدّمه المجتمع الصناعي في مجرّد أفراد لا همّ لهم سوى مزيدا من الاستهلاك و تحوّلهم إلى مجرّد رغبة لامتناهية في الاستهلاك. و أي وعي مشروط بمدى تلبيته للحاجيات ؟ إنّه بلغة هيجل مجرّد "وعي شقي" وهو بلغة ماركس "وجود مغترب". فما معنى أن يكون الإنسان مغتربا ؟
* إنّ الإنسان مغترب:
لقد حدّدت الموسوعة الفلسفية العربية الاغتراب كما يلي " الاغتراب بالمعنى الحقيقي هو التنازل عن الملكية لصالح آخر، و تعني في الطبّ الاضطراب العقلي الذي يجعل الإنسان غريبا عن ذاته و مجتمعه و نظرائه أمّا في الفلسفة فتشير إلى غربة الإنسان عن جوهره و تنزّله عن المقام الذي ينبغي أن يكون فيه، فالاغتراب نقص و تشويه  وانزياح عن الوضع الصحيح و قد بدأت هذه المقولة مع هيقل و ماركس و وجدت بعض سماتها في فلسفة هوبز و روسو "بهذا المعنى للاغتراب دلالات عدّة فهو يمكن أن يكون اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي أو إيديولوجي و يبدو أنّ الاغتراب بوجوهه المتعدّدة يجد له مكانا في كتاب ماركوز فانطلاقا من الفصل الثاني الذي يحمل عنوانا له "انغلاق العالم السياسي" و ما يمثّله مفهوم الانغلاق من دغمائية و انسداد في الأفق، فعلى الصعيد الاجتماعي و الاقتصادي يظهر الاغتراب حين يصبح "الاقتصاد وشيج الارتباط بنظام عالمي من التحالفات العسكرية و الاتّفاقيات النقدية و المعونة التقنية و خطط التنمية" و في نفس السياق "و في الوقت ذاته تتلاشى الفوارق بين العمّال والفنّيين و النقابيين و أرباب المصانع". فينعدم أي شعور بالاغتراب لأنّنا أمام اغتراب مضاعف اغتراب الإنسان داخل هذا النظام الصناعي و عدم الوعي بالاغتراب وهو ما يعني أنّ الاغتراب ذاته مغترب، و يبلغ الاغتراب حدّته على الصعيد السياسي " بتزايد صعوبة التمييز بين برامج الأحزاب الكبيرة التي بلغت درجة متماثلة من الرّياء و هذا الاتّحاد بين المعارضين يثقل بوطأته على إمكانيات التغيير الاجتماعي". نستنتج أنّ التواطؤ بين المعارضة و الحزب الذي يوجد على هرم السلطة أصبح واضحا سواء في مجالات النقابات أو السياسة بحيث يصعب التمييز بين برامج الأحزاب و أهدافها نظرا للتماثل و التجانس و حتّى "الثقافة الرفيعة" التي من المفروض أنّها تخلق أفقا من الحلم و التحرّر لم يعد بإمكانها أن تقدّم مثل هذا الحلم لأنّها انغمست بدورها في فضاء من السلم و اللامبالاة و اندمجت بالنظام القائم "فاتّخذت شكل البضاعة فموسيقى الروح هي أيضا موسيقى تجارية" إنّه الاغتراب إذن على جميع الأصعدة فها هو التشويه يبلغ أشدّه بفقدان الأدب دوره المتمثّل في نفي النظام لتصبح مهمّته توكيد النظام القائم، نظام الاغتراب والتصحّر الوجودي و الانسحاق و حتّى أمل الإنقاذ لم يعد قائما بعد أن امتلأ الوجود اغترابا و لم يعد للمجتمع من وظيفة سوى إعادة إنتاج شروط اغترابه، و ها هي "الدعاية و الصورة التلفزية و البرامج السياسية تمارس هيمنة خفية على الإنسان إنّها ميكروفيزياء الاغتراب و حتّى اللغة أصبحت يدورها امتثالية" فلغة هذا العالم هي لغة توحّد و توحيد تعكس الرّقابات و لكنّها تصبح بوجه خاصّ هي نفسها أداة رقابة". إنّ هذه اللغة ذات طابع استبدادي رقابي تمنع تطوّر المعنى نظرا لأنّها تخلق صورا ثابتة تفرض نفسها فيها. ننتهي إذن إلى حالة من الاغتراب الكلّي يعيشها الإنسان في المجتمعات الصناعية تحول بينه و بين تحرّره. فكيف سيؤثّر وضع الإنسان الأحادي البعد و المغترب على مفهوم المواطن و على وضع المواطن داخل المجتمع الصّناعي ؟ هل يمكن لمفهوم المواطن و حقّ المواطنة أن تنقذ الإنسان من الاغتراب أم أنّ المواطن ذاته مغترب ؟
ΙΙ ـ في مفهوم المواطن و علاقته بالإنسان ذو البعد الواحد :
أ‌ ـ  مفهوم المواطن:
 إذا كان مفهوم المواطن قديما كان حكرا على فئة قليلة من الناس احتكرت لنفسها حقّ السيادة على الشعب لتجعل من العامة أداة استغلال و ترفيه بينما تتركهم يعيشون كالسوائم. مستعملة في ذلك الحقّ الإلهي، استمرّ هذا الوضع إلى أن ظهر العصر الحديث منفتحا على حقيقة جديدة و انطلاقا من فلاسفة عصر الأنوار من أمثال روسو و لوك و مونتسكيو.. و اعتبروا أنّ الحقوق تعود إلى الإنسان بمجرّد ولادته و هي حقوق طبيعية في المساواة و في الملكية و العدالة. و أعلنوا أنّ المواطنة حقّ للجميع و ليست وقفا على فئة و أنّهم سواء في إدارة الشؤون العامة. و جاء في تعميم المواطنة في أوّل وثيقة رسمية هي "إعلان حقوق الإنسان و المواطن" الصادرة سنة 1791 كانت غايتها وضع حدّ لمصادرة الإنسان في شخصه و أمواله و حرّيته من قبل الحاكمين و إغفال مبادئ الحرّية و المساواة و الحقّ في التملّك و قد تطوّر مفهوم المواطن بانتقال الدولة من الوضع البوليسي إلى دولة تقوم على الديمقراطية الاجتماعية و حقّ الحياة و العمل للجميع. بالعودة إلى المفهوم الاشتقاقي لكلمة مواطن فإنّ هذه الكلمة في اللغة الفرنسية يمكن تعريفها من خلال اشتقاقها اللغوي " Civitas" اللاتينية المعادلة لكلمة « Polis » اليونانية و معناها المدينة كوحدة سياسية مستقلّة فالمواطن ليس فقط ساكن المدينة ففي روما و أثينا لا يتمتّع كلّ السكّان بصفة المواطنين. غير أنّ ما يجب الانتباه إليه أنّ مفهوم المواطن يرتبط ضرورة بمفهوم الدولة. إذ لا يمكن الحديث عن المواطن خارج الدولة رغم أنّ الحقوق التي يتمتّع بها المواطن داخل الدولة سابقة على وجودها، إنّها حقوق طبيعية تخصّ الإنسان بوصفه إنسانا و هي حقوق مقدّسة لا يمكن التنازل عنها لأنّها ترتبط بجوهرية الإنسان. حتّى أنّه وقع الربط بين حقوق الإنسان و المواطن ذلك أنّ احترام حقوق الإنسان ضروري لممارسة حقوق المواطن. و عندما نلاحظ المادة الثانية لإعلان حقوق الإنسان "إنّ هدف كلّ تجمّع سياسي المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية الدائمة..." إنّ ما تبلغه هذه المادة أنّ الإنسان لم يوجد من أجل الدولة كما أعتقد هيجل بل جعلت الدولة لخدمة الإنسان. و يمكن أن نتبيّن علاقة الدولة بالمواطن بوضوح عند روسو في الفصل السادس من كتاب العقد الاجتماعي متحدّثا عن الدولة التي ستتأسّس وفق ما يسمى "بالعقد الاجتماعي" قائلا: "و هذه الشخصية العامة، التي تتكوّن هكذا من اتّحاد الشخصيات الأخرى كانت تحمل قديما اسم "المدينة" أو الحاضرة و تحمل الآن اسم "الجمهورية" أو "الهيئة السياسية" وهي التي يسمّيها أعضاؤها "دولة" إذا كانت سلبية غير عاملة و"هيئة السّيادة" إذا كانت عاملة... و أمّا الشركاء فيتسمّون في وجه جماعي مشترك باسم "الشعب" و يطلق على الأفراد اسم "مواطنين" على أنّهم مشتركون في سلطة السّيادة، و "رعايا" بصفة كونهم خاضعين لقوانين الدولة." [2] إنّ مفهوم المواطن من خلال تحديد روسو هو مواطن من جهة كونه يشترك في سلطة السّيادة أو ما يطلق عليه بالحقوق، أمّا المقصود بالرعايا فإنّها تعني الحالة التي يكون فيها المواطن خاضعا لقوانين الدولة و هو ما يعبّر عنه بمسألة الواجبات. فالمواطن من هذا المنطلق هو فرد يندرج ضمن الدولة و هو مثلما له حقوق له واجبات و هو مثلما يكون حرّا و سيّدا يكون في نفس الوقت مطيعا للقوانين و خاضعا لها. غير أنّ خضوع المواطن للقانون لا يعني أنّ المواطن قد سلب حرّيته لأنّ مفهوم الحرّية عند روسو يقترن بالقانون "فولدت الحرّية يوم ولد القانون" و بالتالي خضوع المواطن للقانون لا يعني أنّه فقد خاصية الإنسانية الحقيقية فهو: "إذا منح كلّ واحد نفسه للمجموعة كلّها فإنّه لم يمنح نفسه لأحد." [3] لأنّه في نهاية المطاف لا يخضع لسلطان أحد و هو بهذا يحافظ على حرّيته. إنّ هذا التحديد لمفهوم المواطن يضعنا أمام ارتباط هذا المفهوم بالدولة إذ لا وجود للمواطن خارج الدولة فقد ورد في الموسوعة العربية العالمية المواطنة بأنّها اصطلاح يشير إلى الانتماء إلى أمّة أو وطن و في قاموس علم الاجتماع المواطنة هي مكانة أو علاقة اجتماعية تقوم بين فرد طبيعي  و مجتمع سياسي و من خلال هذه العلاقة يقدّم الطرف الأوّل الولاء و يتولّى الطرف الثاني الحماية، و تتحدّد العلاقة بين الفرد و الدولة عن طريق القانون. إذا كان تأسّس الدولة اقترن بضرورة حماية الحقوق الطبيعية و تحويلها إلى حقوق مدنية تتجلّى في فكرة المواطن إذ يجعل سبينوزا من تأسيس الدولة غاية محدّدة و هي تحقيق الحرّية إذ يقول في هذا السياق في كتابه رسالة في اللاهوت و السياسة: "إنّ غاية الدولة لا تتمثّل في جعل البشر يمرّون من وضع الكائنات العاقلة إلى وضع السوائم... إذن فغاية الدولة في الواقع هي الحرّية.." [4] فإنّ هذا التحديد يمكن لنا أن يقدّم حقيقة المواطن أو خصائص المواطن: فما يمكن أن تكون هذه الخصائص.
مكوّنات المواطنة: 
للمواطنة عناصر و مكوّنات أساسية ينبغي أن تكتمل حتّى تتحقّق المواطنة وهي التالية:
الانتماء:  إذ أنّ من لوازم المواطنة الانتماء إلى وطن و الانتماء هو شعور داخلي يجعل المواطن يعمل بحماس و إخلاص للارتقاء بوطنه و الدفاع عنه. و من مقتضيات الانتماء أن يفتخر الفرد بوطنه و أن يدافع عنه و يحرص على سلامته أمّا المكوّن الثاني لمفهوم المواطنة هي منظومة الحقوق و الواجبات: فمفهوم المواطن يتضمّن حقوقا يتمتّع بها جميع المواطنين و هي في نفس الوقت واجبات على الدولة و المجتمع و منها:
 ـ ضمان الحرّيات الشخصية مثل حرّية التملّك و حرّية العمل و حرّية الاعتقاد و حرّية الرأي.
ـ ضمان العدل و المساواة و توفير الحياة الكريمة و الخدمات الأساسية من صحّة و تعليم.
في مقابل الحقوق التي يتمتّع بها المواطن عليه واجبات فمثلما واجبي هو حقّ عند غيري فإنّ حقوقي هي واجبات عند غيري. و لئن ارتبط مفهوم الحقّ بالحرّية فإنّ الواجب كمفهوم أخلاقي ارتبط بالإلزام و من أهمّ الإلزامات هو احترام حرّية الآخرين و الدفاع عن الوطن و الانتخاب. نستطيع أن نقول أنّ رغم تعدّد الخصائص التي تحدّد مفهوم المواطن فإنّ أهمّ ملامح فكرة المواطن هي فكرة الحقوق و الواجبات. و أنّ علاقة الدولة بالمواطن تقوم على أساس هذه العلاقة. إذ الدولة وجدت من أجل حماية حقوق الأفراد و هو ما عبّر عنه فلاسفة العقد الاجتماعي عندما جعلوا الغاية من الدولة هي ضمان الأمن و السلام مع هوبز و حفظ بقاء الأفراد أو حماية حقّهم في الحياة و حماية حرّياتهم و ممتلكاتهم في مقابل هذه الضمانات التي تقدّمها الدولة لمواطنيها، هم مطالبون بجملة من الالتزامات أو الواجبات ذلك: "أنّ الحرّية تحتاج إلى حدود و أنّ إذا استطاع أحد الناس أن يضع ما تحرمه القوانين فقد الحرّية، و ذلك لإمكان قيام الآخرين بمثل ما فعل." [5] فأهمّ الواجبات هي احترام القوانين و احترام حدود الحرّية. فالواجب في علاقة الدولة بمواطنيها أن تقوم على أساس الاحترام المتبادل كما يسمح ضمان الحرّية و تجنّب مخاطر الاستبداد و الاغتراب السياسي حتّى يكون الإنسان مواطنا حقيقيا حرَّ التفكير و مضمون الحقوق. هذا ما راهن عليه الفكر السياسي في عصر الأنوار و هذه الفكرة التي سعت رسمها الفلسفة السياسية للمواطن و الدولة، مواطن إنسان يتمتّع بكلّ حقوقه السياسية و المدنية و الاجتماعية و الاقتصادية و دولة تتبنّى على أساس المشروعية و الإرادة العامة و استمراريتها مشروطة بمدى استجابتها للإرادة العامة مستندة في ذلك إلى سلطة القانون و قوّته. رغم ما يثيره الجمع بين القانون و القوّة من مشكل في الدولة ذلك أنّ الدولة بهذا المعنى تحتاج لتطبيق القانون إلى نوع من القوّة و هذه القوّة هي ما يسمّى بالعنف المشروع و قد اعتبر ريكور في كتابه التاريخ و الحقيقة أنّه "ظهر مع الدولة ضرب من العنف له سمات شرعية و هذا الجمع بين القانون و الدولة يمثل مشكلا." [6] لكن مهما تكن الصعوبات فالمهمّ في هذا الجمع هو حماية المواطن و حقوقه من الاعتداءات. فإذا كانت الدولة حريصة على تحقيق فكرة المواطنة فكيف حال المواطن في ظلّ الحضارة المعاصرة و الدولة الصناعية و هل استجابت فكرة المواطن في كتاب الإنسان ذو البعد الواحد للمواطن الحقيقي أم أن الإنسان ذو البعد الواحد ما هو إلاّ صورة مقلوبة عن المواطن ؟
III ـ في التمييز بين المواطن و الإنسان ذو البعد الواحد:
نتبيّن بالعودة إلى كتاب ماركوز الإنسان ذو البعد الواحد و محاولة اختبار صورة المواطن على ضوئها أنّ ملامح حضارة التصنيع و ما تميّزت به من تركيز على المنفعة و المردودية و الحسابية التقنية في مقابل استبعاد القيم مثل الحرّية أدّى إلى تشظّي صورة الإنسان و من خلفها صورة المواطن و بدأت أعراض الحضارة بما تحمله من أمراض تنتقل إلى المواطن. فما هي ملامح حضارة التصنيع و كيف ساهمت هذه الأعراض في تفتّت فكرة المواطن و أين تظهر ملامح هذا التفتّت ؟
أ‌ ـ ملامح حضارة التصنيع و تشظّي المواطن:
تتميّز حضارة التصنيع كما أبرزها ماركوز في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد، بأنّها حضارة يغلب عليها مبدأ المردودية، و أن علاقة الإنسان بالإنسان هي علاقات نفعية عقلانية مجرّدة تعاقدية نفعية براغماتية شرسة و تهيمن في ظلّ هذا التصوّر رؤية للإنسان بأنّه ذو بعد واحد، إنسان طبيعي مادي يختزل إلى قوانين الطبيعة و يخضع إلى حتمياتها و يصبح جزءا لا يتجزّأ منها. و تظهر الرؤية النفعية للإنسان من خلال العملية الاستهلاكية التي تقوم بتغيير وجه العالم و الحياة الاجتماعية  و تحوّل كلّ شيء إلى سلعة بحيث يصبح لكلّ شيء مقابل و خاضع للتبادل النفعي. و قد تحدّثنا عن هذا الجانب المتشّيء و المغترب للإنسان في العنصر المتعلّق بالبحث في معنى الإنسان "ذو البعد الواحد" فكلّ شيء في هذا المجتمع خاضع للنظام غير أنّ النظام بهذا المعنى هو عنصر إفساد. فهل يمكن أن نتحدّث عن مواطن في ظلّ هذا النظام ؟ لو تتبّعنا السياق السياسي الذي من المفروض أن تتحقّق فيه المواطنة لوجدنا أنّه ملغّم بالعديد من الانتهاكات فإذا كان شرط تحقّق المواطن هو تمتّع المواطن بأهمّ حقوقه مثل الحرّية و الديمقراطية  و احترام إنسانية الإنسان فإنّ خاصية المجتمع الصّناعي و سياسة البعد الواحد "يلقى تحبيذا من صنّاع السياسة" فتقنيات التصنيع هي تقنيات سياسية و من هنا فإنّها تدين سلفا أهداف العقل  و الحرّية".[7] فما تعمل عليه القوّة السياسية داخل المجتمع ليس حماية الحرّية الإنسانية بل تسعى إلى إلغائها عبر ممارستها لأنواع من الرقابة و الإخضاع للنظام فالحكومة كما يقول ماركوز لها دور قوّة "الرقابة" [8] إذا كان المطلوب هو التعدّدية داخل المجتمع السياسي الديمقراطي فإنّ البعد الواحد قد ألغى فكرة التعدّدية السياسية بقضائها على برامج المعارضة. و هو ما حوّل: "برامج الأحزاب الكبيرة التي بلغت درجة متماثلة من الرياء." [9] حيث لا يستطيع المواطنون التمييز بين الأحزاب لقوّة اتّحادهم و تماثلهم ممّا يعسّر إمكانية التغيير الاجتماعي و الإبقاء على نفس النظام القائم و يحصل اندماجا سياسيا. و إذا كان من حقّ المواطن حرّية التفكير و التعبير فإنّ المجتمع السياسي الصّناعي من خلال العقلانية التكنولوجية يطمح إلى تصفية العناصر المعارضة و المتعالية في "الثقافة الرفيعة" بما يحجب عنها القدرة على إبراز مظاهر التناحر و الاختلال في الواقع الاجتماعي لأنّ هذه الثقافة آخذة في التلاشي لتحلّ محلّها ثقافة استهلاكية تنتج بكثرة و تستهلك بكثرة سواء كانت موسيقى أو أدب "لأنّ أدب المجتمع الصّناعي ليس مهمّته نفي النظام القائم بل توليده." [10] و حتّى كلمات الحرّية التي يلفظها الزعماء و السياسيون في حملاتهم على الشاشات مجرّد كلمات دعائية لا معنى لها." [11] و حتّى اللغة أصبحت مجرّد لغة آمرة و منظّمة "وهي التي تحثّ الناس على العمل و الشراء و القبول." [12] إنّ كلّ هذا لا يمكن أن يعكس إلاّ صورة لإنسان خاضع مسلوب التفكير و الإرادة و الكلام إنّهم مجرّد سوائم و ليسوا مواطنين لأنّ المواطن من حقّه أن يعبّر بحرّية و يفكّر و يقبل و يرفض و يتصرّف بحرّية غير أنّ المجتمع الأحادي يسلبه كلّ هذه الحرّيات بمختلف أنواعها و لن يبقى لديه من حقّ سوى حقّ القبول و الامتثال. فأين هو المواطن أمام هذا الزخم من الإملاءات و التجاوزات ؟ و إذا كان شرط المواطن هو تمتّعه بالديمقراطية فإنّ ديمقراطية النظام الصناعي: "هي التي تلغي بنفسها و بكلّ دعة و اطمئنان مبادئ الديمقراطية." [13] نستطيع أن نلخّص جملة الانتهاكات السياسية كما يلي فرض الرقابة و التحكّم و التلاعب عبر اللغة  و وسائل الدعاية، مراقبة لصيقة على كلّ إنسان أو مواطن و تشجيعه فقط على القبول و منعه من حرّية الاختيار و الرفض و التميّز و تلخيصه في منظومة الخضوع و الطاعة و الاستهلاك. أمّا السياسيون فهم في وضعية تتميّز "باستقلالهم تجاه الإرادة الشعبية الذي صار متعاظما و هذه الإرادة أبعد ما تكون عن السّيادة و الاستقلال الأصليين." [14] فتحوّل الشعب إلى ضحية ألاعيب السياسيين و تزييفاتهم من خلال حضورهم المتواصل في الشاشة بحيث أنّ المواطن لم يعد حرّا حتّى في وقت فراغه "لأنّ أوقات الفراغ ما تزال جزءا من السياسة و السيطرة و الهيمنة." [15] إنّ المواطن قد تكيّف و تضاءلت أبعاده و تقلّصت حرّية تفكيره و تحوّل عقله من عقل ناقد إلى عقل إيجابي متكيّف مع الواقع القائم. إنّ ما يمكن الخلوص إليه أنّ حضارة التصنيع تتميّز باللاعقلانية غير أنّ هذه اللاعقلانية أصبحت تتمتّع بحقّ المواطنة و أنّ هذه الحضارة توجد في مأزق كبير لأنّها تغافلت عمّا يصير به الإنسان إنسانا و هو كرامته التي ضاعت قداستها. فهذه الحضارة اتّسمت بوأد القيم الإنسانية تحت ركام اقتصاد المزاحمات مقابل انتصار قيم التنافس و المردودية و النفعية و الاحتكار و هو ما ساهم في نماء التدرّج الخلقي و تعارض المصالح و انعدام روح المواطنة  و التعاون و أمسى المجتمع ذو بعد واحد مجتمع الإنتاج من أجل الاستهلاك و التجارة من أجل إنماء الدخل لتتحوّل التجارة من تبادل لإرضاء الحاجات الحياتية إلى صراعات تقتضي العنف و التحايل  و الخداع و التركيز على القوّة العسكرية التي تطوّرت من أداة للدفاع عن النفس و الأوطان إلى أداة للسيطرة و التهديد و فرض الرأي و البضاعة و الفكر و الإيديولوجيا. فكيف انعكس التقدّم التقني على صورة المواطن ؟
ـ  ب ـ فكرة المواطن على ضوء التقدّم التقني:
نخلص إذن ممّا سبق أنّ ملامح المواطن داخل المجتمع ذو البعد الواحد تميّزت بتسارع خطواتها نحو هاوية اللاعقل و التشيّؤ و الاغتراب عن طريق عقلها الأداتي، هذا العقل الذي استفرد بحياة الإنسان الاجتماعية من خلال طبيعته السلطوية العنيفة الآمرة و حوّلها إلى مجرّد نسق انبطاحي و أمام خواء قيمي مقابل تزايد مفرط أمام نزعة استهلاكية زائفة و حاجات زائفة و صناعة اللذّة و التسلية. أمام كلّ هذا تشظّت فكرة المواطن و أصبحت تئنّ تحت تأثير وسائل الدعاية و أشكال التسويق و أنماط السلوك المرتبطة بنظام إنتاج صناعي و رأسماليحصرت علاقات الناس ببعضهم عن طريق عقل حسابي نفعي. فإذا كان من أبعاد المواطنة التضامنية هو تنازل المواطنون عن أنانيتهم و وضع المصلحة العامة قبل أي اعتبار حفاظا على الوطن، فإنّه لم يعد ممكنا الحديث عن المواطن. إذ كيف لمجتمع يربّي أفراده على حبّهم لذواتهم و منافعهم  و مصالحهم الخاصّة و تحقيق سعادتهم على حساب شقاء الآخرين أن يصنع منهم مواطنين أحرارا ؟ يبدو أن فكرة المواطن في المجتمع الصّناعي آخذة في التلاشي و لن يبقى من المواطن سوى الأسير. لكن هل من أمل في تحرير هذا الأسير و إرجاعه لحالة المواطن ؟ يبدو أنّ ماركوز غير متفائل لا سيما و أنّ "المواطن الأسير" يحمل ثقافة الجلاّد، مثقل بأصفاده، إذ أصبح الأجراء و العمّال يتدثّرون بقيم و حاجيات زائفة فهم مجرّد أدوات خاضعة للنظام و عقولهم المستسلمة لم تعد تقدر على التغيير و الثورة لأنّها انخرطت في هذا النظام و حصل تزييف في وعيها بواسطة التماثل "فإذا كان العامل و ربّ العمل يشاهدان نفس البرنامج التلفزيوني و إذا كانوا جميعا يقرؤون نفس الصحيفة فإنّ هذا لا يدلّ على زوال الطبقات و إنّما يشير على العكس إلى مدى مساهمة الطبقات السائدة في تحديد الحاجيات..."  فإذا كان هؤلاء مشغولون بالاختيار بين تشكيلة هائلة من البضائع و الخدمات فإنّها تظلّ مجرّد حرّية وهمية زائفة "إذ أنّ قدرة المرء على اختيار سادته بحرّية لا تلغي السادة و لا العبيد."  و بالتالي لا سبيل إلى تحرّر هذه الطبقة بعد أن تماثلت و خضعت في دولة الرفاهة التي لم تنجز سوى افتقاد الحرّية في إطار ديمقراطي. إنّ الحرّية الوحيدة المتبقّية "للمواطن الأسير" هي رضاءه التخلّي عن حرّيته بكلّ ديمقراطية. فإذا كانت بداية المجتمع الصناعي قد تأسّست على الحقوق و الحرّيات فإنّ مرحلة متقدّمة تصبح ما به قام المجتمع لا قيمة له أمام تصاعد وتيرة الإنتاج و الاستهلاك. فهل من مخرج لمواطن فقد مواطنته ؟ إذا كان ماركوز قد فقد ثقته في الطبقة العاملة باعتبار اندماجها في النظام القائم فإنّه يجعل باب الأمل مفتوحا أمام المعطّلين والمهمّشين في المجتمع الصناعي لإحداث تغيير؟ فهل معنى ذلك أنّ المواطن الحقيقي هو الإنسان المهمّش باعتباره ما زال قادرا على الرفض و التمرّد و الثورة و قول "لا" أمام السلطة الاستبدادية ؟ إنّ الوعي بالأخطار  و بحجم الاغتراب هو الذي يمكن أن يدفع باتّجاه التعبير عن المأزق و تكوين رأي عام يتوق للتحرّر من الاستيلاب. حتّى يتمكّن المواطن من استعادة مكانته الحقيقية باعتباره إنسانا له واجبات داخل الدولة يجب احترامها و هو حقّه في التعبير و النقد و التفكير و حقوقه المتعلّقة بحياة كريمة و لا يتمّ له ذلك إلاّ بوضع برنامج تحريري يقطع مع صورة الإنسان ذو البعد الواحد، و ذلك بالقطع مع ما هو كائن و فضح الفوضى الفكرية و الأخلاقية و السياسية و الاقتصادية التي تقصي القيم سواء كانت جمالية أو أخلاقية، إذ من المفروض أنّ حضارة التصنيع جاءت من أجل تيسير حياة الناس و لكي تعمّم الرخاء و تنشر الحرّية و الديمقراطية لا أن تجوّع المواطن و تستعبده و تسلبه حقوقه و تحوّله إلى مجرّد بهيمة. و أسوأ ما في الأمر حلول الانغلاق في المجتمع من خلال تعميق الهوّة بين أقلّية في يدها الحلّ و العقد و اتّخاذ القرار و خضوع وسائل الاتّصال الجماهيري من ثقافة و فنّ و إعلام تحت سلطة هؤلاء. لقد فات الأوان، إذ انفلتت التقنية من قبضة الإنسان و عوضا أن يصارع بها إنّه يصارعها. لذلك لا بدّ من مراجعة الأوضاع و نقدها و إيجاد منظومة قيم تستطيع أنسنة الحضارة و إنقاذ المواطن من البعد الواحد حتّى يتمكّن من استرداد كلّ حقوقه التي تضمّنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لأنّ حقوق الإنسان من حقوق المواطن. فهل تنجح الفلسفة في إنقاذ ما هدّمته التقنية عندما تعيد التفكير في مسألة المواطن ؟.
هوية حضارة التصنيع و آليات اشتغالها
لقد بدأت اللاعقلانية تتمتّع بحقّ المواطنة. فحضارة التصنيع بما هي راهنة تعاني أزمات خانقة و مآسي خطيرة لأنّها تغافلت عمّا يصير به الإنسان إنسانا عندما نظرت إليه كوسيلة لا كغاية و ذلك من خلال الإمعان في إرباك هذا الإنسان و التجرّؤ عليه بطريقة الترصّد وا لإصرار على اغتيال ما هو إنساني فيه عبر منهج يعتمد على الآليات التالية :
-  وأد القيم الإنسانية تحت ركام اقتصاد المزاحمات.
-  انتصار أخلاق التنافس و المردودية و النفعية و الاحتكار.
-  تغذية الفوارق بين أبناء المجتمع الواحد و تنميط العلاقات حسب المصالح ممّا يساهم في انعدام الشعور بروح المواطنة و التعاون.
-  طغيان المصالح الخاصّة و ما تفرضه على الجميع من التعامل بطريقة ذرائعية و حذرة  و انتهازية.
-  المجتمع ذو البعد الواحد مجتمع الإنتاج من أجل التجارة و الاستهلاك و إنماء الدخل بما يحوّل التجارة من تبادل لإرضاء الحاجات الحياتية إلى صراعات تقتضي العنف و التحايل و الخداع و التركيز على القوّة العسكرية لضمان البقاء الاقتصادي. فهل من مخرج ؟ بعد تراجع العقلانية المطلقة كان الاعتقاد أنّ التكنولوجيا هي المنقذ. فبعد التفاؤل، جاء وقت الحيرة و التساؤل عن نجاعة التقنيات الجديدة التي غزت علوم الطبيعة، كما غزت علوم الإنسان.
-  و ها هي التقنية تحوّل الإنسان من وضع السيادة و السيطرة و العمل إلى وضع البطالة و التهميش و توسّد قارعة الوجود. إنّ إنسان العولمة غارق في عزلة بلا انتماء و لا أفق، حاقد على المجتمع  و الحضارة الصناعية لأنّها نفته في فردانية خانقة بلا حضور لا في الحضارة الإنسانية و لا الثقافة القومية و لا داخل ذاته لا سعادة و لا اطمئنان و لا مسالمة حضارة بلا أنسنة و لا إنسان.
-  إنّ المنظومات الغربية القائمة على الأجهزة المصرفية و قنوات التبادل التي تخلق حاجات جديدة على حساب الحاجات الضرورية للعيش، تحتكر السوق، و ترفع أثمان بضاعات و تخفّض أخرى حسب مصالح الشركات القومية الكبرى و المتعدّدة الجنسيات.
و هو ما أ وصل الحضارة ذو البعد الواحد إلى طريق مسدود هاجسها الأوحد التسلّح للدّفاع عن المكتسبات الصناعية، فلا بد أن يحتاط كل طرف فيتسلح أكثر و يراقب عن كثب إمكانية الآخرين الاقتصادية و العسكرية. و من الدبلوماسية ما انقلبت إلى جوسسة. و حوّلت الطاقات الفكرية  و المادية للحضارة إلى استعداد دائم للصراع و لم يعد من حديث سوى عن الحروب الاستباقية و ما تحمله من مصير مرعب و إفناء للبشرية. إنّ المنحدر الخطر الذي سقطت فيه الإنسانية هو نوع من الخطيئة الثانية الذي يستدعي التكفير عنها وسائل عمل مشتركة تبدأ :
-  بلحظة الوعي بهول الأخطار كما هي. للتعبير عن هذا المأزق بشكل واضح و تكوين رأي عام يتوق للتحرّر من الاغتراب و الاستيلاب.
-  في مقابل تصوّر صعوبة إيجاد البديل المتمثّل في استعادة المواطن الحقيقي مقابل المواطن الزائف و الوهمي يجب وضع برنامج يقاوم انحرافات حضارة التصنيع و حضارة الإنسان ذو البعد الواحد.
-  قطع مع ما هو كائن: لكن يجب أن لا يأخذ ذلك على أنّها دعوة لمحاربة التقنية و التقدّم بل لا بدّ أن يستهدف فضح الفوضى الفكرية و الأخلاقية التي تبعد عن القيم الإنسانية الشاملة من جرّاء هيمنة التكنولوجيا و المنافسة..
-  تحرير الوسائل الإعلامية و الثقافية من هيمنة و رقابة رأس المال و تحويلها من ملكية لأقلّية سياسية و اقتصادية ذات مصالح ضيّقة إلى ملكية جماهرية ديمقراطية همّها الدفاع عمّا يكون به الإنسان إنسانا و فضح كلّ أشكال التعدّيات و الانتهاكات التي تحصل في مجتمع ما بمعنى أن تصبح الثقافة بمختلف أشكالها أكثر إنسانية و أكثر كونية حتّى تتمكّن من تحطيم تنّين العولمة الظالم. قد يرى البعض أنّه فات الأوان بانفلات التقنية من قبضة الإنسان إذ عوض أن تكون أداة مصارعة الإنسان في الانتصار على قوى الطبيعة القاسية تحوّلت هي ذاتها إلى وسيلة تساهم في قتل الإنسان لذلك لا بدّ من مراجعة الأوضاع و نقدها و إيجاد منظومة قيم تستطيع أنسنة الحضارة و إنقاذ الإنسان من البعد الواحد.
المراجع:
1 ـ هاربرت  ماركوز: "الإنسان ذو البعد الواحد". ترجمة جورج طرابيشي، منشورات دار الآداب – بيروت – الطبيعة الثالثة. 1988.
 2 -  علاء طاهر: مدرسة فرانكفورت من هوركايم إلى هابر ماز. منشورات مركز الإنماء القومي – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى.
3 -  محمد سبيلا: "الحداثة و ما بعد الحداثة" : دار توبقال للنشر. الدار البيضاء.
4 -  حسن مصدق: "مدرسة فرانكفورت".
5 -  الموسوعة العربية العالمية.
6 -  ماركوز: "العقل و الثورة"، ترجمة إبراهيم زكريا، بيروت
7 -  ماركوز: "إيروس وحضارة"
8 -  إمام عبد الفتاح: "هوبز فيلسوف العقلانية" القاهرة 1985.
9 -  كارل ماركس: "المسألة اليهودية" دار مكتبة الجيل بيروت.
10 - مونتسكيو: "روح القوانين" ترجمة عادل زعيتر. القاهرة 1953.
11 - اسبينوزا: "رسالة في اللاهوت و السياسة" ترجمة حسن حنفي: القاهرة 1971.
12 - الوثيقة العالمية: "لإعلان حقوق الإنسان".
Christian Godin : Dictionnaire de philosophie : Fayard / Editions du Temps, 2004.
Paul Ricœur : Histoire et vérité : Collection Esprit / Seuil, Paris 1955.
Hannah Arendt : Les origines du totalitarismes, t, 2 : L’impérialisme, Ed, Fayard.
Paul Ricœur : Le conflit des Interprétations, Ed, Seuil.
Jean, Jacques. Rousseau : Du contrat Social. Garnier Flammarion.
Habermas : La technique et la science comme « idéologie, ed, Gallimard, Paris, 1973.
الهوامش:
[1] هربرت ماركوز الانسان ذو البعد الواحد ص43
[2] روسو: "العقد الاجتماعي.
[3] روسو: نفس المرجع السابق.
[4] اسبينوزا: "رسالة في اللاهوت و السياسة."
[5] مونتسكيو: "روح القوانين" ترجمة عادل زعيتر، القاهرة 1953. ص. 225.
[6] بول ريكور: "الحقيقة و التاريخ".
[7] ماركوز: "الإنسان ذو البعد الواحد". ص. 54.
[8] ماركوز: نفس المرجع السابق.
[9] ماركوز: نفس المرجع السابق.
[10] ماركوز: نفس المرجع السابق. ص. 93.
[11] ماركوز: نفس المرجع السابق. ص. 93.
[12] ماركوز: نفس المرجع السابق. ص. 93.
[13] ماركوز: نفس المرجع السابق. ص. 135.
[14] ماركوز: نفس المرجع السابق. ص. 135.
[15] ماركوز: نفس المرجع السابق. ص. 135.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق