عزّ الدين الخطابي
1 ـ
رهانات و مفارقات التواصل:
تتوزّع القضايا المقترحة في هذه الدراسة على فضاءين
وهما: فضاء الرّهانات و فضاء الممكنات. فالأوّل يشمل رهانات وم فارقات العملية
التواصلية و التي أثارها باحثون في حقول متعدّدة [ علوم الإعلام، بسيكولوجيا،
سوسيولوجيا الخ…]. أمّا الثاني فيتضمّن الممكن الكانطي و
الممكن الهيجيلي
في تبليغ الفلسفة و تعليمها. و نودّ الإشارة هنا إلى أنّنا سننطلق من فرضية مفادها
أنّ الفلسفة تواصلية، متجنّبين الخوض في النقاش الذي أثاره جيل
دولوز و فليكس
غاتاري عبر المصادر القائلة بأنّ الفلسفة لا تتأمّل
و لا تفكّر و لا تتواصل. فكيف تتوزّع المساحات و الأدوار على هذين الفضاءين ؟
رغم أنّ القاعدة التواصلية تبدو بسيطة و شفّافة، حيث تحدّد
العملية التواصلية كتبليغ لمعلومة (أ)
إلى متلقي (ب) بواسطة قناة اتّصال (ج)،
إلاّ أنّ هذه العملية تتضمّن رهانات و مفارقات تسمح بإعادة النظر في الشفافية و البساطة
المزعومتين. فالرسائل المبثوثة نادرا ما تكون واضحة و آحادية المعنى، بل إنّها على
العكس من ذلك تتضمّن تعدّدا دلاليا. كما أنّ المتلقّي لا يكون مجرّد مسجّل سلبي
للمعطيات المرسلة، بل إنّه يعمل على انتقاء هذه الأخيرة وغربلتها و تحويلها. و بخصوص
قناة الاتّصال، فهي بدورها تؤثّر في مضمون الرسالة بحسب طبيعة الوسائل المستخدمة [
وسائل سمعية بصرية، أسلوب التخاطب المباشر…]. و أخيرا، أثبتت الدراسات في مجال
علوم الإعلام أنّ التواصل لا يتضمّن فقط فعل الإخبار، بل يبحث أيضا عن طرق التأثير
في الآخر و إيهامه و إغرائه. يتّضح إذن بأنّ التواصل عملية معقدّة، من هنا وجب
الكشف عن طبيعة هذا التعقيد، و إبراز الرّهانات و المفارقات التي تسم هذه العملية.
و قبل ذلك، نشير إلى أنّ مفهوم المفارقة Paradoxe يؤخذ هنا بمعنى التناقض الناتج عن عمليات استنباطية
صحيحة، و ذلك انطلاقا من مقدّمات و أوليات متماسكة. و يسمح هذا التحديد بإقصاء كلّ
أشكال المفارقات الزائفة Faux
paradoxes القائمة على خطأ برهاني مضمر أو على قول
سفسطائي لا يستند على مقدّمات متينة. و عادة ما تستعمل لفظة "متناقضات" antinomies
كمرادف للفظة مفارقات، خصوصا ضمن الأبحاث ذات الصبغة الصورية، كما هو الأمر في
مجال المنطق الرياضيات. [ نستحضر هنا
متناقضات العقل لدى كانط و
المتعلّقة بالقضايا الميتافيزيقية الكبرى مثل: الوجود الإلاهي و لا نهائية العالم
و مسألة الروح، إلخ..]. و قد مكنّت الأبحاث في هذا المجال بتحديد ثلاثة أشكال
للمفارقات وهي:
أ ـ المفارقات المنطقية ـ الرياضية أو المتناقضات [مثل
مفارقات: أخيل و السلحفاة أو السهم الطائر لزينون
الإيلي ].
ب ـ التعريفات المفارقة أو المتناقضات السيمانتيقية، حيث
يتّخذ الملفوظ دلالة متناقضة [ مثل قولي "أنا كذّاب"، فدلالة الملفوظ لا
يمكن أن تكون حقيقية إلاّ إذا كانت كاذبة و العكس أيضا. فأنا أقول الحقّ عندما
أكذب!].
ج ـ المفارقات التداولية التي تتحدّد عبرها التبادلات
الإنسانية و السلوكات الواجب اتّباعها ضمن هذه
التبادلات، و ترتبط عادة بما يسمّى بالإلزامات المفارقة injonctions paradoxales،
كما هو الحال في العبارة التالية: "كن تلقائيا !" فمعلوم أنّ التلقائية مرتبطة بحرّية الفعل و ليس
بالإلزام. يتّضح إذن بأنّ المفارقات حاضرة على مختلف المستويات: فكرّية و لسانية و
سلوكية. و لأنّ الأمر يتعلّق بفعالية الإنسان و بتفاعلاته، فإنّ فعله التواصلي يظلّ
رهين المفارقات، كما أنّ رهانه سيتمثّل في الحفاظ على تقاليد الحوار و التحاور و قبول
الآخر المختلف. و إذا ما حاولنا تشخيص الوضع التواصلي، فإنّنا سنتوصّل إلى مجموعة
من الحقائق منها:
ü
تعدّد
المعاني التي يحتويها مضمون رسالة ما: إذ أنّ كلّ معلومة تتوفّر على مضمون ظاهر
وآخر
خفيّ. و قد أكّدت الأبحاث السيميائية [ بيرس، بارط، إيكو…]
بأنّ غموض المعنى يرجع إلى تعدّد دلالات العلامات المستخدمة في عملية التواصل. و في
هذا الإطار، أكّدت عمليات تحليل الحوار في مجال الإثنو ـ لسانيات بأنّ تبادل العلاقات
و الرموز، يؤدّي إلى العديد من سوء التفاهم و إلى تحويل المعنى المقصود من طرف أحد
المخاطبين.
ü
بخصوص
قناة الاتّصال: هناك تساؤلات تطرحها الأبحاث في مجال التواصل مثل: هل للصورة
تأثير أكبر على المتلقّي من تأثير المكتوب ؟ و هل هذا
الأخير أكثر فعالية من الشفوي ؟ و هل يساهم التقارب بين المتخاطبين و لقاؤهم
المباشر في جعل الرّسائل المبثوثة أوضح و أفيد ممّا هو عليه الحال بالنسبة للرسائل
المبثوثة عبر وسائط [ إعلامية أو مؤسّساتية] ؟
ü
و في
هذا الإطار أيضا، تطرح مسألة استقبال المعلومة من طرف المتلقّي الذي لا يمكن اعتباره
سلبيا بأيّة حال، فهو يقوم بفكّ رموز الرسالة و تحليلها
و تأويلها. بحيث تتحكّم في ممارسته هذه مجموعة عوامل منها: مرجعيته الثقافية و حمولته
المعرفية والمسافة القائمة بين مستواه
الثقافي و المستوى المطلوب لفهم المعلومة.
و هذا هو المقصود من مفهوم غربلة المعلومات من طرف المتلقّي الذي ينعكس انتماؤه
الثقافي على مواقفه و ردود أفعاله. و قد دفع هذا الوضع بالباحث أليكس
مكييلي A.Mucchielli
إلى تحديد مجموعة من الرّهانات المطروحة على العملية التواصلية وهي: الرهان
الإعلامي، رهان التموقع، رهان التأثير، الرهان العلائقي و الرهان المعياري.
·
فالرّهان
الأوّل للتواصل هو نقل المعلومات، و يدعوه
جاكوبسون بالوظيفة المرجعية. غير أنّ
التواصل و الإخبار قد لا يتلازمان، و على سبيل
المثال، فإنّ مهنة التعليم و العمل الصحافي، و إن كان هدفهما هو الإخبار و الإعلام،
إلاّ أنّ بإمكانهما الانسياق وراء رغبة التلاعب بأفكار المتلقّي و إغرائه، كما
يحدث أحيانا في المجال السياسي.
·
و يتمثّل
الرهان الثاني في لعبة التموقعات التي يقوم بها أطراف العملية التواصلية. و إذا ما
اعتبرنا مع إرفين كوفمان E.Goffman بأنّ العلاقات الإنسانية هي
عملية إخراج مسرحي للذات Mise
en scène de soi، فإنّ التواصل سيكون في أساسه بروزا أمام
الآخر بمظهر خاصّ و سيكون الهدف منه تقديم صورة متميّزة عن الذات و تبرير مواقفها
و الدفاع عن ما يميّزها كهويّة. و من هنا يتجلّى تأثير الوظائف الاجتماعية و الأدوار
على عملية التواصل [ إذ أنّ الوضع المهني مثلا، يختلف عن الوضع داخل الأسرة أو في
المقهى أو أمام كاميرا…] ضمن ما يمكن تسميته بلعبة التموقع و رسم الحدود أو "الخطوط
الحمراء" التي يجب على الآخر عدم اجتيازها. أمّا
الرهان الثالث، فيتعلّق بالتأثير في الآخر و إقناعه، بل إغرائه و تمويه الحقيقة عليه
بهدف جعله مشاركا لنا في الرأي. و تبرز هنا أهمّية الحجاج كأداة ضرورية في العملية
التواصلية. و قد سبق لحاييم بيرلمان C.Perelman
بأن أكّد بأنّ الحجاج يسكن في بيت أغلب أشكال التواصل اللساني، سواء تعلّق الأمر
بالحوار العادي أو بالمطارحات الفكرية أو بالعروض العلمية. فوراء النقل العادي
لمعلومة ما، تكمن الإرادة في المحاجّة، أي في إخضاع الآخر لرأينا و التأثير عليه
بالتالي.
·
بخصوص
الرّهان الرابع، فهو يهدف إلى تنظيم العملية التواصلية، ذلك أنّ العلاقة بين شخصين
نادرا ما تكون تلقائية و بسيطة و هادئة، فهي على العكس من ذلك تتّسم في الغالب، بعدم الاستقرار على مستوى السلوك و بالصراع على المستوى العاطفي و الفكري. و هنا تبرز ضرورة وضع قواعد لتنظيم عملية التواصل و إخضاعها لآداب المجاملة و الحوار [ من قبيل: اسمح لي أن أخالفك الرأي، أن أقاطعك، ما رأيك؟..]. و الهدف من ذلك، هو ضمان استمرارية التواصل و الحفاظ على الرابطة الوجدانية التي تجمع بين المرسل و المتلقّي.
· و يعتبر الرّهان الأخير معياريا، لأنّه يخصّ آفاق العلاقة الإنسانية التي تتلخّص في ضرورة بناء
مجتمع حواري يوجّهه مبدأ قبول الآخر المختلف. فالتواصل، و إن كان ينطلق من استراتيجية تأكيد الذات و التأثير في الآخر، إلاّ أنّه يهدف في العمق إلى بناء ما يسمّيه هابرماس Habermas بـ"الفضاء العمومي" كفضاء للعلاقات القائمة على الاختلاف و الحوار و سيادة روح الديمقراطية و التسامح. و يمكن تحقيق ذلك، إذا ما نحن شيّدنا نموذجا آخر للتواصل، يعوّض التعاقد الاجتماعي الكلاسيكي بين الفرد و المجتمع، بتوافق تبلوره المناقشة بين جميع الأفراد بهدف تحقيق "المواطنة الديموقراطية". و يؤكّد هابرماس بأنّ هذا الأمر سيسمح بخلق علاقات تشاورية تشكّل مستوى أرقى من الديموقراطية التمثيلية [البرلمانية]، لأنّها ستؤدّي إلى تبادلات أوسع يتمّ فيها إعادة الاعتبار إلى الذات الفاعلة في فضاء المجتمع. في ضوء هذه المعطيات نتساءل: كيف يتحدّد فعل التواصل في درس الفلسفة ؟ و ما هي رهانات هذا الدّرس ؟ و كيف يمكن للفلسفة أن تكون فضاءا للحوار و للديمقراطية، و أن تحقّق التعايش بين الحرّية و الضرورة ؟ إنّ الأمر يتعلّق هنا تحديدا بالحرّية المتمثّلة في فعل التفلسف، أي في ممارسة التفكير النقدي التساؤلي و بالضرورة المتمثّلة في المؤسّسة المدرسية و الإلزامات البيداغوجية التي يطرحها تعليم الفلسفة. فما هي تجلّيات هذه الإشكالية ؟
نادرا ما تكون تلقائية و بسيطة و هادئة، فهي على العكس من ذلك تتّسم في الغالب، بعدم الاستقرار على مستوى السلوك و بالصراع على المستوى العاطفي و الفكري. و هنا تبرز ضرورة وضع قواعد لتنظيم عملية التواصل و إخضاعها لآداب المجاملة و الحوار [ من قبيل: اسمح لي أن أخالفك الرأي، أن أقاطعك، ما رأيك؟..]. و الهدف من ذلك، هو ضمان استمرارية التواصل و الحفاظ على الرابطة الوجدانية التي تجمع بين المرسل و المتلقّي.
· و يعتبر الرّهان الأخير معياريا، لأنّه يخصّ آفاق العلاقة الإنسانية التي تتلخّص في ضرورة بناء
مجتمع حواري يوجّهه مبدأ قبول الآخر المختلف. فالتواصل، و إن كان ينطلق من استراتيجية تأكيد الذات و التأثير في الآخر، إلاّ أنّه يهدف في العمق إلى بناء ما يسمّيه هابرماس Habermas بـ"الفضاء العمومي" كفضاء للعلاقات القائمة على الاختلاف و الحوار و سيادة روح الديمقراطية و التسامح. و يمكن تحقيق ذلك، إذا ما نحن شيّدنا نموذجا آخر للتواصل، يعوّض التعاقد الاجتماعي الكلاسيكي بين الفرد و المجتمع، بتوافق تبلوره المناقشة بين جميع الأفراد بهدف تحقيق "المواطنة الديموقراطية". و يؤكّد هابرماس بأنّ هذا الأمر سيسمح بخلق علاقات تشاورية تشكّل مستوى أرقى من الديموقراطية التمثيلية [البرلمانية]، لأنّها ستؤدّي إلى تبادلات أوسع يتمّ فيها إعادة الاعتبار إلى الذات الفاعلة في فضاء المجتمع. في ضوء هذه المعطيات نتساءل: كيف يتحدّد فعل التواصل في درس الفلسفة ؟ و ما هي رهانات هذا الدّرس ؟ و كيف يمكن للفلسفة أن تكون فضاءا للحوار و للديمقراطية، و أن تحقّق التعايش بين الحرّية و الضرورة ؟ إنّ الأمر يتعلّق هنا تحديدا بالحرّية المتمثّلة في فعل التفلسف، أي في ممارسة التفكير النقدي التساؤلي و بالضرورة المتمثّلة في المؤسّسة المدرسية و الإلزامات البيداغوجية التي يطرحها تعليم الفلسفة. فما هي تجلّيات هذه الإشكالية ؟
2 ـ الفلسفة و التواصل أو مدى قابلية الفلسفة للتعلّم:
ترتبط هذه الإشكالية بمسألة تبليغ الفلسفة و إيصالها إلى
المتلقّي، وهي مسألة و إن كانت راهنة، إلاّ أنّها تحيل على نقاشات فلسفية قديمة،
برزت بالخصوص مع أفلاطون
ضمن مقولات النضج الفلسفي و سنّ التفلسف، و استمرّت عبر تاريخ الفكر الفلسفي مع كانط، هيجل و
نيتشه، وصولا إلى شاتلي، دولوز و
دريدا. و قد أثيرت في إطارها علاقة الفلسفة
بالمؤسّسة [ كإنتاج للمعارف و للحقائق ] و
أيضا علاقة حرّية الفرد في التفكير و في إصدار الأحكام، بالضرورة البيداغوجية و الديداكتيكية.
و سنقتصر على نموذجين أثارا بشكل عميق مثل هذه القضايا، و ذلك ضمن استراتيجيتين
مختلفتين في تبليغ الفلسفة: تراهن الأولى على تعلّم التفلسف و تراهن الثانية على
تعليم الفلسفة. إنّ الأمر يتعلّق هنا بالفيلسوفين الألمانيين: كانط و
هيجل. فما هي الحجج التي اعتمدها كلّ فيلسوف
لتبرير موقفه ؟
أ ـ الاستراتيجية الكانطية أو تعلّم التفلسف:
لقد انطلق إيمانويل كانط من
التمييز بين التفلسف و فكرة الفلسفة. إذ اعتبر بأنّ فكرة الفلسفة كنسق مكتمل ليست
سوى فكرة لعلم ممكن، أمّا فعل التفلسف فإنّه موجود حقيقة، وهو بمثابة تخلٍّ عن كلّ
نزعة دوغمائية. لهذا سيعتبر بأنّه لا يمكن تعلّم الفلسفة، فما يمكن تعلّمه هو
التفلسف، لأنّ الفلسفة هي نسق كلّ معرفة فلسفية، و الفيلسوف هو من يكون قادرا على
استخدام و دمج كلّ المعارف كأدوات لتحديد الغايات الأساسية للعقل الإنساني، و فيلسوف
كهذا لم يوجد بعد. لذا، لا يمكننا أن نتعلّم سوى التفلسف كفعل للتفكير يفحص مبادئ
الأنسقة الفلسفية و مصادرها، و يعمل على تأييدها أو رفضها و بالتالي يصدر حكما
شخصيا قائما على خاصية النقد. و سيقدّم كانط
بهذا الصدد مجموعة من الحجج، نعرضها بشكل موجز. هكذا سيعتبر بأنّ فعل التفكير هو
استخدام لملكة العقل، هذا الاستخدام الذي يقوم أساسا على مبدأ الحرّية. لذلك فإنّ
التعلّم بالنسبة للعقل هو ممارسة الحرّية. و سيرفض كانط
تبعا لذلك كلّ ما من شأنه أن يخضع عملية تدريس الفلسفة لشروط مخالفة لتلك التي
اختارتها الفلسفة بحرّية. إنّ تعلّم التفكير و ممارسته، ليس تعلّما لمحتويات أو
لأنساق، إنّه استعمال نقدي للعقل، و تجاوز لكلّ الصيغ الدوغمائية التي أسّسها
العقل نفسه. و هذا الاستعمال النقدي للعقل هو حوار، و باعتباره كذلك، فإنّه يحدّد
الفضاء المؤسّساتي للتفلسف كمكان للصراع الفكري و ليس أبدا كمكان للحرب أو العنف.
و لا يسمح هذا التحديد بوضع تصوّر دقيق حول ما يجب أن يكون عليه تدريس الفلسفة،
فهو يشير فقط إلى ضرورة الاستعمال الحرّ للعقل النقدي و إلى فهم الممارسة الفلسفية
كتفلسف. وهو ما دفع كانط إلى
إقرار الصيغة المشهورة: "لا يمكننا أن نتعلّم الفلسفة بل يمكننا أن
نتعلّم التفلسف". (أي استعمال قدرة العقل في تطبيق
مبادئه العامة على بعض المحاولات التي تظهر أمامه، لكن مع احتفاظ العقل بحقّه
الدائم في البحث عن هذه المبادئ ذاتها، داخل منابعها والتأكّد منها أو رفضها
بالتالي). و يمكن للتمعّن في هذه الصيغة أن يخرج بملاحظتين أساسيتين:
o
أولاهما
أنّ كانط يميّز بين التفلسف كفعالية عقلية و الفلسفة
كمعرفة.
o
و ثانيهما
أنّ الفلسفة هي في أساسها شيء آخر غير كونها مادة مدرسية إذ لا يمكننا تعلّمها. و
يرجع هذا التحديد إلى تمييز كانط
بين المفهوم المدرسي للفلسفة Concept
scolastique و مفهومها الكوني concept cosmique:
ففي المدرسة يعني التفلسف تمرينا عقليا يتطلّب الأناة و الصبر، وهو ما يسمّى عند كانط
كما عند أرسطو بالديالكتيك.
أمّا الفلسفة فإنّها مطالبة بتحمّل مسؤولية أخرى، فهي لا تحدّد ما معنى التفكير
فقط، بل تقاس بمثال: إنّه مثال الفيلسوف النموذج l’idéal du philosophe type
الذي يعتبره كانط
مشرّع العقل الإنساني. و يلاحظ جاك دريدا بهذا
الصدد، بأنّ مقولة كانط
تسمح بوضع تمييز داخل الفلسفة ذاتها بين "التاريخانية المدرسية" و العقلانية،
إذ بإمكان التلاميذ أن يتعلّموا و يستظهروا مضامين هي عبارة عن أنساق فلسفية. و في
هذه الحالة، يمكن لأيّ كان أن يعتبر تلميذا بغضّ النظر عن سنّه. فبإمكاننا كما
يقول كانط، أن نحافظ مدى الحياة على علاقة تاريخية ـ أي
مدرسية ـ بالفلسفة التي لن تصبح سوى تاريخا لعرض المواقف الفلسفية. و هذا التمييز
داخل الفلسفة لا يصدق بالمقابل على الرياضيات التي يمكن معرفتها و تعلّمها. فمن
بين كلّ العلوم العقلية، يقول كانط:
"يمكن للرياضيات أن تعلّم بطريقة عقلية، في حين لا يمكن تعلّم الفلسفة [
اللهمّ إلاّ إذا كان ذلك بشكل تاريخي ]، أمّا بخصوص العقل، فلا يمكن أن نتعلّم سوى
التفلسف". يمكننا أن نستنتج ـ في ضوء
ذلك ـ بأنّ ماهية الفلسفة تنفي كلّ إمكانية لتدريسها، أمّا ماهية التفلسف فتستوجب
ذلك، فما يوجد هو فعل التفلسف أمّا الفلسفة فإنّها حاضرة كأثر، وهو ما يفسّر إقرار
كانط بأنّ الفلسفة كنسق ليست سوى فكرة لعلم
ممكن. و هنا تواجهنا مجموعة من الأسئلة وهي: كيف تقرّ بأنّ الفلسفة غير قابلة
للتعلّم، من منطلق أنّه لا توجد فلسفة نسقية صالحة للجميع أو نؤكّد من جانب آخر
على أنّ بإمكانها أن تتواجد داخل فضاء المؤسّسة كتفلسف و أنّه من الممكن تعلّمها
باعتبارها كذلك ؟ و إذا كانت وظيفة الفلسفة انتقادية أساسا، ألا يعتبر حصرها في
مكان ما متناقضا مع جوهرها القائم على التفكير بحرّية ؟ ألا يستوجب النقد الفلسفي
نوعا من الترحال، و من الاستقلال عن كلّ مكان مؤسّساتي يتضمّن في حدّ ذاته خطر سجن
الفكر النقدي و وضعه تحت الإقامة المحروسة ؟ يجيبنا كانط
بأنّ الفلسفة هي في الأساس تأمّل نقدي، و إذا ما اختزلنا هذه الهويّة ضمن مادة
مدرسية و جامعية، فإنّنا سننفي عنها طابعها التأمّلي و خاصّيتها النقدية. بهذا
المعنى نستطيع الحديث عن بيداغوجيا التفلسف لدى كانط،
ترفض تدريس الفلسفة المذهبية و النسقية، و تعطي الحقّ للفردانية و لحريّة التفكير
مع أخذها بعين الاعتبار ضرورة الفكر الكوني الشمولي. هكذا فإنّ تدريس الفلسفة يجب
أن يركّز على تعليم التفكير بهدف تعويد العقل على الممارسة النقدية، كما يجب على
الفلسفة أن تنفتح على المؤسّسة المدرسية، شريطة ألاّ تحاصر هذه الأخيرة ممارسة
العقل النقدي. تلك إذن هي استراتيجية كانط المتعلّقة
بمسألة تعلّم التفلسف، فما هو ردّ هيجل
على هذا الموقف ؟
ب ـ الاستراتيجية الهيجيلية أو تعلّم الفلسفة:
بالنسبة لهيجل إنّ
قابلية الفلسفة للتعلّم هو ما يجعلها قابلة للتواصل. و ما يمكن تعلّمه هو محتوى
الفلسفة و ليس التفلسف كما سبق لكانط أن
أقرّ بذلك. فبتعلّمنا لمحتوى الفلسفة، يقول هيجل،
لا نتعلّم التفلسف فقط، و لكنّنا نتفلسف فعلا. كما أنّ السعي نحو تعلّم التفلسف في
غياب محتوى الفلسفة، سيؤدّي إلى تكوين أذهان فارغة. و لأنّ فكر المتعلّم ناقص و متعثّر
و مليئ بالأوهام، فإنّ تعلّم محتوى الفلسفة سيملأ فراغاته، و يجعل الحقيقة تحلّ
محلّ الفكر الوهمي. "إنّني، يقول هيجل،
أصاب بفزع عظيم كلّما عاينت النقص الكبير في ثقافة و معارف الطلبة الذين يدرسون
بالجامعة، ليس فقط بالنسبة لي، بل كذلك بالنسبة لزملائي، خصوصا عندما أتذكّر بأنّنا
معيّنون لتدريس هؤلاء الأشخاص، و أنّنا نتحمّل مسؤولية تكوينهم، و أنّ الهدف من
هذا التكوين قد لا يتحقّق بالرغم من النفقات المخصّصة لذلك. غير أنّ غاية هذا
التكوين لا تتعلّق فقط بتكوينهم المهني، بل تهدف كذلك إلى تكوينهم الفكري".
* هكذا، فإنّ الإقرار بتعلّم الفلسفة يرجع
إلى اعتبار هذه الأخيرة كعلم موضوعي للحقيقة. فالفلسفة كمادة تعليمية، كعلم، ينبغي
أن تدرّس كباقي العلوم، و ينبغي أن تدرّس من خلال تاريخ الفلسفة كمحتويات أي كتجلّيات
للحقيقة. و سيضع هيجل
خطّة لتدريس الفلسفة يشترط فيها أن يكون المدرّس متوّفرا على خاصّتي الوضوح و العمق،
و أن يخضع لتطوّر و تدرّج يتناسب مع مستوى المتلّقين و مع الحصص الزمنية المخصّصة
له. وهو ما طرحه في رسالته الموجّهة إلى الوزارة الملكية المكلّفة بالشؤون الطبّية
و المدرسية و الدينية. إلاّ أنّ الملاحظ بالنسبة لهاته الرسالة، هو أنّ حضور
الفلسفة بالثانوي عرضي أكثر منه أساسي. فقد جاء فيها بصريح العبارة: "لست في
حاجة إلى أنّ أوضّح بأنّ العرض الفلسفي يجب أن يقتصر على الجامعة و أن يقصى من
التعليم الثانوي". و سيضيف في موضع آخر بأنّه من اللازم إقصاء الميتافيزيقا و
تاريخ الفلسفة من المؤسّسة الثانوية. هكذا سيتحدّث هيجل
عن معارف تحضيرية بالثانوي، و تحديدا في السنة النهائية تسمح بالتحرّك داخل مجال
الأفكار المجرّدة و الاستئناس بالأفكار الصورية كتحضير مباشر للدّراسات الفلسفية
بالجامعة.
* و تتلخّص هذه المعارف في ما يطلق عليه: علم
النفس التجريبي الذي يدرس التمثّلات الحسّية و تخيّل الذاكرة بالإضافة إلى ملكات
نفسية أخرى. كما ينحصر هذا التعليم في إعطاء مقدّمة في المنطق يكون موضوعها
الرئيسي هو الأسس الأوّلية للمنطق، و يمكن أن يمتدّ إلى نظرية المفهوم و الحكم و القياس
بمختلف أشكاله، و من ثمّ إلى نظرية التعريف و التقسيم و البرهان. و بنفس الكيفية
ستظلّ بعض المفاهيم المحدّدة والدقيقة، المتعلّقة بطبيعة الإرادة و الحرّية و القانون
و الواجب، في موقعها الأصلي بالتعليم الثانوي.
* و قد كان
هيجل واضحا حينما أكّد بأنّ هذه المعارف تحتاج إلى استعمال
الذاكرة، و من هنا أهمّية المحتويات التي يتمّ تقديمها في هذا الإطار. يقول هيجل:
"لن أشعر بالحرج البتّة، إذا ما قمت باقتراح شيء من هذا القبيل في هذه
المرحلة من التعليم الثانوي. فلامتلاك معرفة ما و من ضمنها الأكثر سموّا، يجب
تركيزها أوّلا في الذاكرة، سواء كان البدء منها أو الانتهاء بها. فإذا كان البدء
منها، فسنحصل على مزيد من الحرّية و على تحفيز للتفكير نفسه. كما يمكننا بالإضافة
إلى ذلك التصدّي لذلك الذي يرغب حضرة الوزير بحقّ في تجنّبه، و نقصد سقوط التعليم
الفلسفي بالثانوي في حشو العبارات الجوفاء، أو تجاوز حدود التعليم المدرسي".
* إنّ هذا الموقف من مسألة تدريس الفلسفة
بالثانوي، سيدفع بالفيلسوف جاك دريدا و ضمن
قراءة متعمقّة لهاته الرسالة إلى إقرار أنّ هيجل
يمارس الإقصاء بحقّ كلّ إمكانية لممارسة الفلسفة قبل المرحلة الجامعية و إن كان
يقترح دروسا تحضيرية للفلسفة بالثانوي بمعدّل ساعتين أسبوعيا. هكذا يقول
دريدا: "يتمّ إقصاء الفلسفة بالمعنى الحقيقي، مع قبول
تدريس شكلها غير الفلسفي Sa
forme improprement philosophique و بطريقة لا فلسفية de façon non philosophique
و عبر دروس ذات صبغة
معيارية أو إلزامية، مثل دروس الأخلاق، و الأخلاق السياسية الخ…". هكذا فإنّ
المواد الملقّنة في هذه المرحلة [علم النفس التجريبي، مقدّمة المنطق و الأخلاق]
تبدو معارضة لروح التفلسف القائمة على مبدأ الحرّية العقلية و النقد. وهو ما يجعل
الطرح الهيجيلي
مخالفا في جوهره للطرح الكانطي.
* و هنا نتساءل: هل نقرّ مع كانط
بمسألة تعلّم التفلسف بما يتضمّنه ذلك من مساءلة و نقد ؟ أم نساير هيجل
القائل بضرورة تعلّم محتوى الأفكار وامتلاك المعرفة بالاعتماد على الذاكرة أساسا ؟
لنترك السؤال مفتوحا كما يقول هايدجر.
خاتـمة:
درس الفلسفة و مسألة الانفتاح على العقلانية و الحداثة.
أكّد دريدا
في نصّ شهير له بأنّ قسم الفلسفة في الثانويات هو الفضاء الذي يمكن فيه لنصوص حول
الحداثة النظرية و الماركسية و التحليل النفسي على الخصوص أن تؤدّي إلى ممارسة
القراءة و التأويل. و هذا معناه أنّ درس الفلسفة هو المجال الذي يمكن فيه الانفتاح
على الشأن الإنساني، أي على كلّ ما له صلة بالفعالية الإنسانية: اجتماعيا و سياسيا
و ثقافيا و فكريا. و لأنّ الأمر يتعلّق بالإنسان المغربي فإنّ هذا الدرس يجب أن
يراهن على مسألتين أساسيتين وهما: الحداثة و العقلانية.
و قد ارتبط مفهوم الحداثة،
كما هو معلوم بمقولات العقل و تقدّم العلوم أي بأهمّية النشاط العقلاني للإنسان،
الذي سيطال مختلف المجالات: تقنية كانت أو إدارية، سياسية أو اقتصادية. لذلك فإنّ
المجتمعات الحديثة قد أسّست لمفاهيم مركزية، عرفت انطلاقتها من فكر الأنوار و ارتبطت
بعد ذلك بفكرة الذاتية و النزعة الإنسانية و التقنية و المشروع الكوني. و تتجلّى
هذه المفاهيم عبر فكرة المواطنة و الديموقراطية و المعرفة النسبية و مفهوم المثقّف
و مفهوم التاريخ و مفهوم الحقّ الخ. وهي مفاهيم ملازمة للعقل و للعقلانية.
فالحداثة بهذا المعنى هي إقرار للتعدّد و الاختلاف و رفض
للتجانس و التماهي و الخضوع، و لذلك فإنّ مفاهيم الذاتية و الفردية و الحريّة، تشكّل
العدّة التي تتسربل بها المجتمعات الحديثة، حيث تعبّر العلاقات الاجتماعية عن حريّة
الأفراد و استقلالهم الذاتي. و كما يؤكّد ألان
تورين A.Touraine
فإنّ الفرد مواطن بسبب
وجوده الفردي الحرّ، مثلما أنّه حرّ بسبب المواطنة التي يتمتّع بها. من هذا
المنطلق، يمكن اعتبار الفلسفة كمجال لتجلّي الفكر الحداثي، لأنّها تنبني على
الاعتراف بتعدّد المواقف و الرؤى، و تستند على مبدأ الإنصات و التحاور مع الآخر و على
المساءلة و النقد، أي أنّها تقوم على ما يدعوه
كانط بـ"الحريّة العقلية" التي لا يمكن للفلسفة أن
توجد بدونها. لذلك، يمكن الإقرار بأنّ فعل التفكير كاستخدام لملكة العقل، يقوم
أساسا على مبدأ الحريّة. و شرط التفلسف هو تفعيل الحوار و التخلّي عن كلّ نزعة
دوغمائية أو إقصائية، و التأكيد بالتالي على أنّ الفكر الفلسفي هو وجه من وجوه
"الثقافة الديموقراطية". و لأنّ التفلسف هو بمثابة ممارسة نقدية، فهو
يستدعي خوض غمار المساءلة و الدخول في معترك الأسئلة، عبر تتبّع مسارات الفكر الذي
ينادينا و يدعونا للقيام بفعل التفكير، فهو إذن دعوة للابتكار و الخلق و لخلخلة
الثوابت و البديهيات و المطلقات و تفكيكها من الداخل. فعبر عملية التفكيك، تصبح كلّ
القضايا عرضة للمساءلة و النقد و الحوار و هذا هو الهدف الأساسي من كلّ ممارسة
فلسفية. و لأنّ الفلسفة اختارت هذا المسار منهجا، فإنّ درسها ملزم بخلق فضاء حواري
قائم على الاستفهام و الاستشكال، بغية بعث روح النقد و المساءلة لدى متلقّي
المعرفة الفلسفية. و بطبيعة الحال، فإنّ ذلك يستوجب توفّر فضاء مؤسّساتي مُنبنٍ
على الحريّة و احترام الآراء المعارضة و المغايرة و إمكانية الإبداع. إذ لا يمكن
الحديث عن حريّة الرأي و التعبير داخل القسم، دون ربطها بوضع الحريّات بمختلف مؤسّسات
المجتمع و من ضمنها المؤسّسات التعليمية. و بذلك سيصبح رهان الفلسفة مجتمعيا و سياسيا
و ثقافيا، إنّه رهان العقلانية و الحداثة و الحق في الاختلاف،
أو بتعبير جاك دريدا: هو
رهان "الديموقراطية المنتظرة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق