إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الثلاثاء، 17 مارس 2009

الأخلاق المتعالية

تَصرَّف على نحو تُعامل معه الإنسانية دائما و أبدا، سواء في شخصك أو في شخص غيرك، كغاية، و لا تعامل أحدا البتّة كما لو كان مجرّد وسيلة فقط " تنطوي هذه القولة على مبدأ أخلاقي عام، وهو الأمر المطلق غير المقيّد بشروط والذي أسّس عليه كانط نظريّته في الأخلاق. إنّ هذا المبدأ هو القاعدة الأخلاقية الأساسية التي يجب أن توجّه سلوكنا، وتقضي بأن نحترم الآخرين و نحترم أنفسنا، و أن نلتزم دائما بعدم استغلال الآخرين أو التعامل معهم كما لو كانوا مجرّد مطيّة لبلوغ مآربنا الأنانية. تنطوي القولة إذن، على المبدأ الذي تنبني عليه نظريته في الأخلاق، و تبيّن كيفيّة تطبيقه على المستوى العملي في حياتنا اليوميّة. 
إنّ الأمر المطلق هو القاعدة الوحيدة الممكنة و الضروريّة لتأسيس الأخلاق على اعتبار أنّ العقل هو مصدرها و ليس التجربة. و إذا أردنا أن نعبّر عن هذه الفكرة بلغة كانط و مفاهيمه لقلنا إنّ مبدأ الأمر المطلق هو مبدأ قبلي و متعالي، أي سابق على التجربة، وهو مطلق و غير مقيّد بشروط،  و معنى ذلك أنّه مستقلّ عن أيّة مصلحة شخصيّة و عن الملابسات الظرفية و الأهداف الخاصّة، و لا يعبّر بالتالي إلاّ عمّا ينبغي أن يكون باعتباره الواجب الذي لا مناص منه، و لهذه الاعتبارات يسمّي كانط مبدأه الأخلاقي هذا بمبدأ استقلال الإرادة. و يدلّ مفهوم الاستقلال، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، على التعالي، و المقصود بذلك أنّه متعالي عن ظروف الزمان و المكان و لا يتأثّر بها، و معنى ذلك أيضا أنّه مبدأ ذو صلاحية كونيّة. فما هو دليل كانط على أنّ لهذا المبدأ صلاحية كونيّة ؟ 
إنّ ما يبرّر الصلاحية الكونيّة لمبدأ الواجب الأخلاقي في نظر كانط هو وجوده القبلي في العقل الخالص؛ فبما أنّ العقل واحد بالنسبة للبشرية جمعاء فإنّه لا بدّ أن تكون له صلاحية كونية. إنّ وجوده القبلي في العقل الخالص هو الذي يجعل منه قانونا أخلاقيا يفرض نفسه على الضمير البشري كواجب يجب أن يلتزم به كلّ فرد دائما و أبدا مهما كانت الظروف. و كذلك فإنّ ما يبرّر دعوة كانط إلى الصلاحية الكونيّة لمبدأ الواجب الأخلاقي هو إيمانه بأنّ الإرادة الخيّرة التي تهتدي في وجودها بمبدأ معيّن  هي الشيء الوحيد الذي يعتبر خيّرا في ذاته، إنّ الإرادة الخيّرة التي تريد الخير لنفسها و لغيرها هي الخير في ذاته. و إذا كان لا بدّ للإرادة الخيّرة أن تكون مبدئيّة في مساعيها فإنّ المبدأ الوحيد الذي يجب أن تعمل به بحكم طبيعتها الخيّرة هو مبدأ الأمر المطلق الذي يقضي بأن ننظر إلى أيّ إنسان على أنّه قيمة في حدّ ذاته، و بسبب ذلك وجب احترامه احتراما غير مشروط.
يتمثّل المعنى الجوهري للاحترام في الفلسفة الأخلاقية لـكانط في التعامل مع الغير باعتباره غاية لا باعتباره وسيلة أو مطيّة لتحقيق المصالح الأنانيّة. ذلك لأنّ ما يعتبر غاية في ذاته هو كلّ ما يستمدّ قيمته من ذاته و يتمتّع بالتالي بالاستقلال الذاتي الذي يعني استقلال الإرادة. و لذلك يعتبر كانط استقلال الإرادة أساس الكرامة الإنسانية، و جعل منه القانون الأخلاقي الكوني الذي يجب على كلّ فرد احترامه. يقتضي هذا المبدأ بأن يختار كلّ فرد بحريّة الأهداف و الغايات التي يريد تحقيقها. إنّ ما يجعل من الإنسان شخصا ذو كرامة هو استقلال الإرادة و حريّة اختيار الأهداف والغايات وفقا لمبدأ الواجب الأخلاقي. و هذا ما جعل كانط يعتبر احترام الاختيارات العقلانية لأي شخص أسمى الفضائل الأخلاقية.
إنّ السلوك الأخلاقي، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، هو السلوك الذي يخضع للمبدأ الكوني المتمثّل في الأمر المطلق، و الذي يلزمنا بأن نتصرّف في ظروف معيّنة بنفس الطريقة التي يجب أن يتصرّف بها كلّ فرد في نفس الظروف. إنّ التصرّف وفقا للمصلحة الخاصّة أو الأهداف الخاصّة لا يمتّ إلى الأخلاق بصلة. فإن كنت تعتقد، مثلا، بأنّ الالتزام بقول الحقيقة دائما هو سلوك جيّد، لأنّ قول الحقيقة يبعث في نفسك مشاعر الارتياح و السّعادة، فإنّ سلوكك هذا لا يعتبر أخلاقيّا في نظر كانط ما دام الباعث عليه هو الدّافع السيكولوجي المتمثّل في الرغبة في تحقيق نوع من السّعادة أو الرضا عن النفس؛ و لا يمكن اعتباره سلوكا أخلاقيّا ما لم يكن الباعث هو مبدأ الواجب الأخلاقي. إنّ قول الصدق إرضاء للنفس لا يكتسي أيّة دلالة أخلاقيّة في نظر كانط. 
و لبيان هذه الفكرة ضرب لنا كانط نفسه مثلا في كتابه "المبادئ الأساسية لميتافيزيقا الأخلاق" برجل يفكّر في الانتحار؛ و كان هدفه من وراء هذا المثال هو إقناع القارئ بأنّ سلوك الانتحار ليس له مبرّر كوني. و أمّا دليله في ذلك فهو استحالة أن يصير قرار الانتحار في ظروف معيّنة قاعدة بالنسبة لكلّ من يواجه نفس الظروف. يقول كانط بالحرف الواحد: "إنّ المنتحر على خطأ، لأنّه لو كان مصيبا في قراره بقتل نفسه لوجب أن يدمّر كلّ واحد نفسه". و المقصود بهذا القول هو أنّ الانتحار ليس واجبا كونيا يُلزم كلّ من وجد نفسه في ظروف مماثلة لظروف المنتحر بوضع حدّ لحياته، ولا يمكن أن يصير قاعدة ذات صلاحية كونيّة ما دامت البواعث السيكولوجية كحبّ الذات أو عدم الرضا عن الحياة هي التي تقف خلفه؛ وطالما أنّه لا يستند إلى قاعدة كونيّة ملزمة فلا قيمة له من الناحية الأخلاقية.
و لمّا كان مبدأ حريّة الإرادة و الاختيار هو مصدر الأخلاق فإنّ الانتحار يعني تدمير أسس الأخلاق و الكرامة الإنسانية. يقول كانط بهذا الصدد: "إذا كانت الحريّة هي شرط الحياة، فإنّه لا يمكن استعمالها للقضاء على الحياة، لأنّه باستعمالها ستكون قد دمرّت و ألغت نفسها. إنّ استعمال الحياة لتدمير الحياة ذاتها، أو من أجل فقدان الحياة [ينطوي على] تناقض ذاتي". و ما يمكن استخلاصه من هذا المثال هو أنّ الحفاظ على الحياة هو مبدأ أخلاقي كوني يجب احترامه، لأنّ تدمير الحياة (الجسد) هو تدمير للإرادة أيضا.
لقد جاء كانط بفلسفة جديدة في الأخلاق تختلف اختلافا جوهريّا عن الفلسفات السابقة و على رأسها فلسفة الأخلاق الأرسطيّة التي نالت حظوة خاصّة في الأوساط الفلسفية و اللاهوتية على امتداد قرون عديدة. و لذلك سنكتفي هاهنا بإجراء مقارنة بين أخلاق كانط و أخلاق نيكوماخوس لبيان ما إذا كانت العلاقة بينهما هي علاقة نفي و تجاوز و قطيعة.
نرتكز فلسفة الأخلاق الأرسطية على مصادرة مفادها أنّ غاية الحياة هي الخير الأسمى المتمثّل في السّعادة. و إذا كان أرسطو قد جعل من السّعادة أسمى الفضائل الأخلاقية كلّها فلأنّه كان يعتقد أنّها غاية الغايات أو الغاية النهائيّة المطلوبة لذاتها؛ و أمّا الفضائل الأخلاقية الأخرى فهي بالنظر إلى الخير الأسمى وسائل أو غايات مرحليّة على الطريق المؤديّة إليه. ما وجد الإنسان إلاّ ليعيش حياة سعيدة، هذا هو المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه فلسفة الأخلاق عند أرسطو و الذي يجب أن يوجّه السلوك العقلاني للإنسان. يمكن القول بعبارة واحدة: إنّ الفضيلة هي العمل بالعقل في اتّجاه الخير الأسمى، وهو السّعادة التي يعتبرها أرسطو غاية في ذاتها..
لا يتّفق كانط مع هذه النظريّة جملة وتفصيلا، و لذلك حاول نفيها و تقويض أسسها. و من مآخذه الأساسية على أرسطو أنّه أسّس نظريته في الأخلاق على مبدأ إمبريقي سيكولوجي (السّعادة)؛ ذلك لأنّه لا يمكن تأسيس أخلاق ذات صلاحيّة كونيّة بناء على نزعة ما من نوازع الطبيعة الإنسانية، و لا يجوز أن نجعل من رغبتنا في السّعادة مبدأ الأخلاق لأنّ الرفاهيّة لا تنسجم دائما مع الخير و الفضيلة، إذ "من الصعب، حسب تعبير كانط، أن تجعل المرء سعيدا انطلاقا من جعله خَيِّرا"، هذا بالإضافة إلى أنّ مفهوم السّعادة إذا نظرنا إليه من وجهة نظر تحليلية فسنجد أنّه لا يتضمّن مفهوم الخير الأسمى و لا يمكن استنباطه منه منطقيا. و بالتالي فإنّ هذا المفهوم لا يصلح كمعيار للتمييز بين الفضيلة و الرذيلة ولا يُمَكِّنُ من تقدير ما إذا كانت للسلوك قيمة أخلاقية أم لا. هنا يكمن النقص الأساسي في نظريّة الأخلاق الأرسطية في نظر كانط.
و إذا كان كانط يتّفق مع أرسطو في أنّ الإنسان كائن عاقل و أنّ عليه أن يهتدي في تصرّفاته بنور العقل، فإنّه يختلف معه في أن يكون العقل دائما هو القوّة الوحيدة التي تحرّك الإنسان في سعيه نحو تحقيق السّعادة، فكثيرا ما تكون الغريزة هي الدافع إلى ذلك. يبدو وكأنّ أرسطو لا يفصل بين الفكر و الرغبة، بين المبدإ العقلي و المبدإ السيكولوجي (الرغبة) في السلوك الأخلاقي. و لمّا كانت الرغبات تختلف من فرد لآخر فإنّه لا يمكن الارتقاء بالمبدإ الأخلاقي الأرسطي إلى مستوى الصلاحية الكونيّة. و لذلك اقترح كانط ضرورة الاعتماد في بناء الأخلاق على مبدأ قبلي متعالي غير مستمدّ من التجربة وهو الأمر المطلق غير المشروط بأيّة رغبة أو نزعة من نوازع النفس الإنسانية. إنّ تحرير المبدأ الأخلاقي من الرغبة هو الشرط الضروري الذي لا غنى عنه لمعرفة ما إذا كان السلوك أخلاقيا أم أنّه خال من أيّة قيمة أخلاقية، وهو السبيل أيضا إلى تحقيق الصلاحية الكونيّة للأخلاق من خلال مقاومة الرغبات الذاتية. و من هذا المنطلق رفض كانط أن تكون السّعادة هي الخير الأسمى. و كان لا بدّ أن يعيد تحديد مفهوم الخير الأسمى، حيث عَرَّفَه بأنّ الخير غير المشروط بأيّة رغبة أو مصلحة خاصّة. و كأنّما أراد أن يقول: قم بالواجب امتثالا للقانون الأخلاقي و لا تنتظر أيّة مكافأة ماديّة أو معنوية. هذا ما يضفي على السلوك قيمة أخلاقية. و عندما يكون الهدف هو تحقيق رغبة أو نزوة مهما كانت جيّدة و بريئة و خَيِّرَةََ فإنّ السلوك لا تكون له أيّة قيمة أخلاقية، و لا يمكن القول عنه بأنّه أخلاقي أو لا أخلاقي، إنّه سلوك محايد من الناحية الأخلاقية.
و خلاصة القول: إنّ السلوك الأخلاقي في نظر كانط هو السلوك الذي يمليه مبدأ الواجب و ليس مبدأ الرغبة مهما كانت خَيِّرَةَ. و معنى ذلك أيضا أنّ الخير لا يصلح لأن يكون معيارا للأخلاق، لأنّ ما يسعد البعض قد لا يسعد البعض الآخر؛ و ممّا يترتّب عن ذلك أنّ عدم القدرة على فعل الخير لا يعتبر إخلالا بالمسؤوليّة الأخلاقية، على اعتبار أنّه لا يوجد في الأمر المطلق ما يلزم بكسب السّعادة، لأنّ السّعادة مثل أعلى مصدره الخيال لا العقل. و على العكس من ذلك فإنّ عدم الالتزام بالواجب هو إخلال خطير بالمسؤولية الأخلاقية المتمثّلة في ضرورة احترام الأمر المطلق المتأصّل في العقل الخالص. و إن كان هناك شيء يمكن اعتباره خيّرا في ذاته فهو الإرادة الخيّرة، و ليس السّعادة كما يعتقد أرسطو.
منقـــــــول.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق