مقالة
من تأليف: لطفي خيرالله
الألماني إدموند
هوسّرل (1859 ـ 1936)، و تمتاز بكونها كانت مسعى قويّا في الفلسفة الغربيّة
في ذلك الزمن من أجل القطع مع النموذج التفسيري التعليلي الذي يضرب بأصوله إلى
الفلسفة اليونانيّة، و لا سيّما مع أرسطو " كلّ
علم فهو علم بالعلل"، و استبدالها بطريقة أخرى هي جدّ نافعة ولا مندوحة منها
في بحث الظواهر الإنسانيّة، أي
المنهج الوصفيّ*. فسارتر إِذًا بزيادته تلك العبارة
المذكورة إلى العنوان الأصلي، إنّما أراد أن يميّز مبحثه من كلّ الأنطلوجيات و الميتافيزيقيّات
القديمة التي كلها إنّما هي أنطلوجيا الموضوع و تغييب الذّات و الإحالة المستمرّة
و الدّائمة إلى المغاير. إذ أنّ الوجود في ذلك المنطق التعليليّ إنّما هو أبدا
ظاهرة، ظاهرة بالمعنى العامّي للكلمة، أي لا شيء بالقياس إلى علّته، لكون العلّة،
وهي المغاير، هي كلّ حقيقة الوجود و رحيقه و معقوليّته. فسارتر
إذا باتّخاذه منهج الفنومينولوجيا في مبحث الأنطلوجيا، إنّما لكونه كان يؤمن
إيمانا قويّا، كما يلوح من كتابه، بأنّ الوجود إنّما، على التحصيل، هو ظاهرة،
بالمعني الخاصّ للعبارة، أي حقيقة مكتفية بذاتها، غنيّة بنفسها، و لا تحيل البتّة
إلى شيء آخر سواها. وهو أيضا، من هنا، على التخصيص، كان نقده الصّارم أيّما صرامة
لمقولة اللاّوعي كما قد شاعت في علم النفس التحليليّ.
I ـ المقدّمة:
إنّ عبارة اللاّوعي التي نعني
بها هنا والتي ننوي البحث فيها بالنظر إلى نقد سارتر
لها، إنّما هي تلك المقولة التي شاعت في علم النفس التحليلي، و التي هي عِمَادُ
نظريّة فرويد العلميّة. و قبل أن نأخذ في عرض رأي سارتر
فيها، لا بأس لو ذكرنا على سبيل الاختصار مصنّفه الكبير الذي كان قد بسط فيه مآخذه
على تلك المقولة : في سنة 1942 نشر جان بول سارتر كتابه
الضّخم الوجود و العدم، و تحت هذا العنوان الرئيس زاد عبارة (محاولة من أجل
أنطلوجيا فينومينولوجيّة). و الحقّ أنّ المنهج الفينومنولوجي هو طريقة في بحث الظاهرة
الإنسانيّة كان قد وضع قواعدها الفيلسوف
II ـ عرض عامّ لنظريّة " اللاّوعي
" عند سيغموند فرويد
إنّه على العموم، يقسّم سيغموند
فرويد الذات إلى منطقتين اثنتين: منطقة أُولى، وهي منطقة الوعي، و هذه
تشتمل على الأنا، و الأنا الأعلى. و منطقة ثانية، أي منطقة اللاوعي، و هذه تنحلّ
إلى عنصرين رئيسيّين: أوّلا، عنصر الهُوَ، وهي تشتمل على جملة الغرائز و الرّغبات،
ثانيا: عنصر مجموع العقد المتولّدة من اصطدام الهو بالأنا، و بِمَنْ وراءَه، أي
الأنا الأعلى.
لنفصّل القول في هذه الأجزاء النفسيّة و في كلّ علاقاتها الممكنة:
إنّ فرويد يريد بعبارة "الوعي"، السّلوك
الإنسانيّ، بما هو فعل إراديّ، أي بما هو فعل الذّات حين الحضور الذهنيّ، بخلاف ما
قد ينشأ عنها من أفعال في أوقات الغفلة و السّهو و النوم أو الزلاّت و هلمّ جرّا.
لكنّ إراديّة الفعل الموصوف بها الوعي، هي في الحقيقة نسبيّة عنده، و ذلك لأنّ
الوعي في آخر التحليل، كما سوف نرى، ما هو، في رأيه، إلاّ تعبير عن
"اللاّوعي"، و إلاّ رمزيّته التي بتأويلنا إيّاها أمكننا أن نتبيّنه. و هذا
التعريف للوعي على أنّه سلوك، أي على أنّه ليس فقط مجرّد عمليّتي تمثّل و رويّة
خالصتين، كما اعتاد الأخذ به العلم النفس القديم، يقرب غاية القرب ممّا نجده لدى ديكارت
لمّا قال بأنّه إنّما يريد بـ" أنا أفكّر فأنا موجود "، ليس فقط محض أنا
أتعقّل، بل كذلك، أنا أمشي، و أنا أكره، و أنا أؤمّل و هلمّ جرّا.
أمّا تقسيم فرويد "للوعي"
إلى أنا و أنا أعلى فذو ما يلي من غاية: فالأنا الأعلى، عنده، إنّما عبارة عن
مجموع القواعد الأخلاقيّة و القيم الاجتماعيّة و الدينيّة و الثقافيّة التي
وظيفتها أن تضبط ضبطا موضوعيّا سلوك الإنسان الفرد، و تراقب باطنيّا نفسه و ضميره.
إنّه يشبه سلطة مراقبة و توجيه. و بهذا المعنى، فالأنا الأعلى إنّما يوجد على
الطّرف النّقيض من الهُوَ المندرج في منطقة اللاّوعي، و ذلك لأنّ الغرائز و الأهواء،
لمّا كانت كلّها غير ذات شكل، ولا ماهية، و إنّما طاقة محض، فلا فِكَاكَ لها من أن
تصطدم دائم الاصطدام بجازر الصّورة و الشّكل، جازر المؤسّسة و الحضارة، أي جازر
الأنا الأعلى. لقد أسلفنا القول بأنّ الأنا الأعلى شبيه بسلطة مراقبة و توجيه، و ذلك
من أجل أن نميّزه في الوعي عن الأنا. إذ الأنا، و إن كان من نفس قسم الأنا الأعلى،
فهو يمتاز عنه بأنّه هو الذي يُعَدُّ بنحو سلطة التنفيذ و لفعل. فإذا كان الأنا
الأعلى هو الذي يشرّع و يقرّ بأوامره، فإنّ الأنا هو الذي يُمْضِيهَا و يُجْرِيهَا
بالفعل على الغرائز و العقد المُؤْتَلَفِ منها اللاّوعي، و ذلك بأن يقوم عليها
كالحارس، فلا يدع يمرّ منها إلى الخارج إلاّ بقدر ما يرضاه الأنا الأعلى. و هذا
الكلام يجرّنا إلى غيره، أي إلى زيادة التفصيل في مقولة " اللاّوعي":
لقد سبقنا بالقول أنّ الهُوَ، و النزعات اللاّمعقولة المُسْتَكِنَّةَ في الذات
إنّما هي طاقة محض. و بناء على المبدأ العلمي المشهور، مبدأ انحفاظ الطاقة، فإنّ
تلك الطاقة المذكورة، أيّا كان زجر الأنا لها، فلا يمكن البتّة أن تذهب سُدًى، بل
لا بدّ من أن تُعَبِّرَ عن نفسها بنحو من الأنحاء، أو بشكل من الأشكال، و ذلك بأن
تتّخذ إحدى السّبل الآتية :
السّبيل الأوّل: إذا
اشتدّت مراقبة الوعي للهُوَ، و احتدّ التوتّر و حمى الوطيس، فربّما تردّت الذات في
حالات مرضيّة، كالهستريا، و الهذيان، و العصاب، و هلمّ جرّا.
السّبيل الثاني: قد
يستغلّ الهُوَ فترات غيبوبة الوعي و سهوه، فيطفو إلى السّطح، مثل حالات الحلم أو
الزلاّت، و هلمّ جرّا.
السّبيل الثالث: و
هذه ذات شأن عظيم و أكثر دواما، و ذلك حينما يصير الوعي نفسه امتدادا للاّوعي، أي
حينما يتطوّر اللاّوعي نفسه إلى وعي، بأن يتعالى و يتسامى، كما يحصل في الفنّ و الأدب،
و كلّ أعمال الإبداع.
فما الوعي إِذًا، بأَخَرَة finalement، إلاّ "اللاّوعي"، و اللاّوعي هذا
إنّما هو، على الحقيقة و التحصيل، هويّة الوعي و ماهيتها نفسها. و ما الوعي أيضا
إلاّ رمزيّة و تعبيريّة اللاّوعي. تلكم، لعمركم ما كانت إِذًا حقيقة الوعي لدى سيغموند
فرويد !!؟
III ـ نقد سارتر لمقولة "اللاّوعي":
إنّ أهمّ
ما يمكن أن نستخلصه ممّا عرضنا من نظريّة فرويد
في اللاّوعي، هو ضرورة أن نميّزه عنده بين فِعْلِيَّةِ السّلوك، و حقيقة السّلوك.
و نريد بقولنا فعليّة السّلوك، الأفعال و الأعمال التي يأتيها المرء، بما هي أفعال
و أعمال خامّ و ظاهرة متعيّنة بالإضافة للذات، و بالإضافة إلى الذوات الأخرى. أمّا
المُرَادُ بحقيقة السّلوك، فهو المدلول أو المعنى الحقيقيّ له، أي العلّة
المتخفّية و غير الظاهرة فيه. فأنا، مثلا، قد آتي عملا ما، كأن أسرق كتابا من على رفّ
المكتبة: و هذا الفعل منّي، لهو، من غير شكّ، فعلي أنا، و سلوكي أنا، متّحد بذاتي
غاية الاتّحاد، و متماه معها. إلاّ أنّ حقيقته نفسها، فهي ليست أنا، و ذلك لأنّ ما
قد يُفَسِّرُ مثل ذلك العمل منّي ليست فحسب تلك الظاهرة في مُجَرَّدِيَّتِهَا، بل
شيء آخر، أحقّ و أكثر فعليّة، وهو الهُوَ. فأنا هو الذي، بلا شكّ قد سرق الكتاب،
تماما مثلما أنّ هذا الفانوس، بلا شكّ، هو الّذي يضيء. لكنّما أصل الإضاءة في
الفانوس، ليس هو الفانوس نفسه، بل هو المولّد الكهربائيّ، أي أنّ الفانوس إنّما هو
فقط مجرّد متلقّي سلبي لفعل المولّد الكهربائيّ، فيلزم من ذلك أنّه ليس هو الذي
يضيء بالحقيقة، أي أنّه ليس الفانوس الذي يفعل فعل الإضاءة، أو، بعبارة أخرى، ليس
الفانوس الذي يسلك سلوك الإضاءة. و كذلك الأمر فيما يتعلّق بفعل سرقة الكتاب، فلست
أنا الذي سلك ذلك السّلوك. يقول سارتر "
إنّما أنا هو ظواهري النفسيّة نفسها من حيث أعايناها في حقيقتها الموعى بها: فأنا،
مثلا، هذا الدّافع لسرقة ذلك الكتاب من على الرفّ. إنّني متّحد به، و أتّحد به
بغاية اقتراف فعل السّرقة. لكنّ كلّ تلكم الواقعات النفسيّة ليست هي أنا، لِمَا
كنت أتلقّاها سَلْبِيَّ التلقّي، فأكون مضطرّا عندها لأن أضع الفرضيّات في أصلها و
في معانيها الحقيقيّة... ففعل السّرقة ذاك، إنّما هو في حقيقته صيرورة متفرّعة من
فعل معاقبة الذات، ذات نسبة بمسألة عقدة أوديب ." ( JEAN-PAUL
SARTRE, L'être et Le néant.) و لكن لسائل أن يسأل، تُرى كيف تُفْهَمُ علاقة الهُوَ بالأنا، في
فرضيّة علم النّفس التحليليّ. هل تُفهم بنحو علاقة موضوع بوعي، أم بنحو علاقة وعي
بوعي آخر ؟ لا شكّ أن جواب فرويد كان سيكون
نافيا للوجه الأوّل، أي أنّه لا يمكن له أن يقبل بتأويل الهُوَ بنحو الشيء في ذاته
الموجود بإزاء الوعي كمثل هذه الطاولة و ذلك الكرسي. فالهُوَ، كما كنّا قد رأينا،
إنّما له أصناف شتّى من الفعل و السّلوك؛ فهو أوّلا، يرغب، و يروم، و يتقبّض، و إلى
غير ذلك. و ثانيا، فهو يدرك أنّ الوعي الصّارم لا يتركه لِيَمُرَّ إلى الفعل مَا
بَقِيَ على حقيقته المكشوفة، فيأخذ في التقمّص، و التملّق، و المغالطة. و لكن،
لعمري، هذه الأفعال كلّها التي نسبها فرويد للهُوَ، ليس يمكن البتّة أن يأتيها
إلاّ موجود يكون على نمط الموجود لذاته، أي الوعي، و ليس موجود يكون على نمط
الوجود في ذاته، أي الشّيء. فإِذًا نستخلص من ذلك أنّ وضع الهُوَ في علاقته
بالوعي، إنّما هو من سِنْخِ de même nature وضع وعي أوّل بوعي آخر. فتأمّلوا جيّدا اللوازم الخطيرة لمثل ذلك التأويل، و لمثل هذه
النظريّة. فنظريّة فرويد كانت تزعم بأنّ " الذات
ليست وعيا فقط "، و إنّما هي "وعي وهُوَ"، أي، و هذا هو اللاّزم
الخطير، هي وعي و وعي آخر؛ الوعي الأوّل يكون غير واع بالوعي الآخر، مع أنّه هو
الأصل فيه !!؟ فالنتيجة الأخيرة إِذًا لكلّ هذه النظريّة أنّ الذات تصير منشطرة في
نفسها، و أن تتلاشى وحدة السّلوك البشريّ آخِرَ التلاشي. و لنا أيضا أن نزيد؛ هَبْ أنّ الأمر على ما تصفه النظريّة التحليليّة:
أي أنّ الهُوَ هو حقيقة تقوم بذاتها في الذات، وهي بما هي كذلك تكون غير موعى بها،
مع كونها الفاعلة الحقيقيّة فيها، فهل كان ذلك يعني بالضّرورة أنّ السّلوك
الإنسانيّ الواعي ما هو في آخر الأمر إلاّ أثر لفعل اللاّوعي ؟ فنحن نسأل: إذا كان
الهُوَ، على ما تأكّده النظريّة التحليليّة نفسها، هو، على التحقيق، "اللاّوعي"،
فإنّ الهُوَ بما كان لا واعيا، يكون لا ـ وَعْيًا ؛ أي يكون بالذات ما الوعي لا يكون
مُحِيطًا به. و لكن الفرضيّة الفروديّة هي تتحدّث
أيضا عن أنّ الوعي من شأنه أن يقاوِمَ و يُعَانِدَ الهُوَ، كلّما اقترب للظّهور. و
لكن، ليت شعري ؟ أيّ معنى لهذا الكلام ؟ أليس معناه أنّ الوعي إنّما يتصدّى
باستمرار للهُوَ بما هو حقيقة ذات هويّة ينبغي للوعي أن يكبتها ؟ فالوعي لا يقاوم
الهُوَ إلاّ لأنّه يكون على بيّنة من حقيقة الهُوَ، أي أنّ الوعي لا يكون نفيا للاوعي
إلاّ بالقدر نفسه الذي يكون به واعيا باللاّوعي؛ أي إلاّ بالقدر نفسه الذي يذوب به
وهم اللاّوعي في يقين الوعي.
IV ـ خاتمة:
و لسائل أن يسأل، و بعد أن عرضنا مُخْتَصَرَ العرض وعَامَّهُ لنقد سارتر
لمقولة "اللاّوعي": إنّنا، و قد بيّنا تهافت هذه المقولة في تأويل الذات،
فكيف يمكن لَنَا أن نفهم كثيرا من أنماط السّلوك الإنسانيّ التيّ يصعب غاية
الصّعوبة أن نُرْجِعَهَا إلى مجرّد الوعي، مثل الهستريا و العصاب و الأحلام، و هلمّ
جرّا ؟ و الحقّ أن سارتر ليَرُدَّ على هذا الاعتراض
المُفْتَرَضِ لم يكتف بجواب واحد، و إنّما وضع نظريّة بأكملها، و سعى للبرهنة
عليها و التدليل لها في جزء كبير من مصنّفه المذكور، و هذه النظريّة كان قد بناها
على مقولة أخرى تَحُلّ مَحَلَّ مقولة اللاّوعي، وهي مقولة النيّة السيّئة mauvaise foi فلِمَنْ
أراد الاطّلاع عليها، فَدُونَهُ الوجود و العدم!
* انظر مقالتنا، نشأة الفينومينولوجيا
و الفينومينولوجيا الوصفيّة، مجلّة رحاب المعرفة،
عــــ11 ـــدد، سبتمبرـ أكتوبر 1999.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق