إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الجمعة، 6 مارس 2009

غادامير: خطاب التأويل خطاب الحقيقة

عمر مهيبل (أكاديمي من الجزائر(
قد لا أضيف جديدا إذا ما ذكرت في بداية هذا المقال أنّ الحديث عن مبحث "التأويل" أو "التأويلية" يحيلنا مباشرة إلى فيلسوف ألماني معاصر ارتبط اسمه بهذا المبحث ارتباطا حميميا ألا وهو: "هانز جورج جادامير " H. G. Gadamer. صحيح إنّه قد يحيلنا أيضا إلى شلاير  Schleier macher أو "هيرش" أو" أبل " Apel أو "دلتاي" W.Diltheiy أو هابرماس Habermas أو حتّى هيدغر Heidegger  و جميعهم من الفلاسفة الألمان المعاصرين، أو إلى "ريكور" P.Ricoeur  و "فرانسوا فال" F.Wahl  في فرنسا و ذلك بدرجات متفاوتة، إلاّ أنّ العودة إلى غادامير هي عودة إلى الأصول، فقد احتلّ الاهتمام بالتأويل مساحة معرفية واسعة ضمن مشروعه الفلسفي. إذن ما هو التأويل في تحديد غادامير؟ ما هي إسقاطاته في المجال الفلسفي المعاصر؟ و كيف أصبح هذا المفهوم يعبّر عن نقد غادامير لمفهوم الحداثة كما بلورت الأدبيات الغربية ؟
1 ـ  خطاب التأويل
عندما نشر غادامير كتابه "الحقيقة و المنهج " سنة 1960 ربّما لم يكن يتوقّع أنّه سيصبح في مدّة زمنية قصيرة محلّ اهتمام و دراسة و نقد، فقد أثار استخدامه لكلمة "التأويل  " Herm eneudque جدلا واسعا داخل الأوساط الفلسفية الألمانية، و ذلك من حيث ملامسته لمعارف متقاربة فنّية و أدبية و كذلك تعمّقه في البحث عن أسس الموضوعية في العلوم الإنسانية، و هذا ما يفصح عنه منذ مقدّمة كتابه سابق الذكر بقوله: " إنّ الدّراسات التي سنقرؤها هنا تعالج مشكلة التأويل، ذلك أنّ ظاهرة الفهم و من ثمّ تأويل ما فهم تأويلا صحيحا لا يشكّل مشكلا متميّزا يتعلّق بمنهجية العلوم الإنسانية فقط، فالفهم و تأويل النصوص ليسا حكرا على العلم و لكنّهما يتعلّقان أساسا بالتجربة الشاملة التي يكوّنها الإنسان عن العالم، و من ثمّ فإنّ ظاهرة التأويل ليست مشكلة منهجية ".(1) فالرّهان الحقيقي هنا لا يتعلّق ببلورة منهجية معيّنة لقراءة النصوص و فهمها و تحديدا النصوص ذات الطابع العلمي، أو بتلبية رغبة دفينة لدى الإنسان ببلوغ المنهج المثالي، أو على الأقلّ الأقرب إلى الدقّة في مجال المعرفة مادام الأمر يتعلّق بالمنهج و بالحقيقة أيضا، و إنّما يتعلّق بتقدير أوّلي بتحديد المفاهيم و المنطلقات بوصفها المدخل إلى اكتساب المعارف و بالتالي الوصول إلى الحقائق. إنّ مشكل التأويل في نظر غادامير، و من ثمّ مشكل الفهم بصفة عامة، لا يكتفي باستقصاء علاقات الإنسان بالعالم و الأشياء على أهمّية هذه العلاقات و إنّما يعمل على بلوغ الخصوصية و الاستقلالية داخل المنهج العلمي ذاته بل و يعمل على مقاومة ذلك التوجّه الذي يعمل على إذابته داخل المنهج العلمي بأن يجعله تجلّيا من تجلّياته المتعدّدة، من هنا إذا كان التأويل هو من جهة دعوة إلى الحوار و التفاعل مع العلوم الإنسانية و العلوم عامة، فإنّه من جهة أخرى دعوة إلى مقاومة الانحلال و الذوبان في هذه العلوم كما هو الشأن عند بعض المنادين في التشبّه بالعلم و العمل على جعله مقياس المعرفة الأوحد، و ما كتاب " الحقيقة و المنهج " إلاّ دعوة ملّحة لهذه المقاومة من "الداخل" و ذلك بتحديد معنى "الحقيقة " و معنى " المنهج " في آن واحد. ففي موازاة الشمولية التي يدّعيها المنهج العلمي يلجأ المنهج التأويلي ـ إن صحّ التعبير ـ إلى بعث طريقة جديدة أساسها توزيع مساحة تواجد الحقيقة و جعلها أكثر مرونة و انسيابية، و أكثر انفتاحا على المعارف الأخرى، فقد تتلامس فيه العلوم الإنسانية مع فروع معرفية أخرى و تشكلّ تجارب مشتركة معها دون أن تكون لها علاقة بالعلم، أو أنّك لا يمكن التأكّد من قيمة تجاربها بالطرق العلمية التقليدية كتلك التي تكوّنها مع الفلسفة الفنّ، و حتّى مع التاريخ، و مع أنّ التأويل في تحديد غادامير يعطي أهمّية خاصّة لبناء المفاهيم الفلسفية و نحتها بوصفها منطلقا أوّليا لبناء المعارف إلاّ أنّه يرفض المغالاة في هذا الجانب بحيث تتحوّل هذه المسألة إلى لعبة في حدّ ذاتها، فعملية نحت المفاهيم عنده ليست عملية مجرّدة منسلخة عن العالم و الواقع، بل إنّها تنحدر و تأخذ كلّ مصداقيتها و شرعيتها من الممارسات العلمية و من الاحتكاك بالواقع و الأشياء لذا يرى غادامير: "أنّه إذا ما أردنا أن نموقع عملنا داخل المنظومة الفلسفية لعصرنا، فإنّه ينبغي أن ننطلق من أنّنا حاولنا أن نقدّم إسهاما يكون بمثابة حلقة وصل بين الفلسفة و العلوم، و من ثمّ مواصلة العمل المثمر في ذلك المجال الواسع الذي هو مجال التجربة العلمية. هذا دون أن ننسى تساؤلات هيدجر الجذرية التي أفادتنا أيّما إفادة ".(2) إلاّ أنّ السؤال الذي يفرض نفسه هنا بإلحاح و يتعلّق بالعلاقة الإشكالية بين الفلسفة و العلم، و مكمن الأشكلة يتلخّص في الصيغة التالية: هل يجوز لنا أن نلوم التفكير الفلسفي على عدم التعامل مع البحث العلمي باعتباره غاية قائمة بذاتها، أي بحثا علميا خالصا، في الوقت الذي يهتمّ فيه (أي التفكير الفلسفي) بالنظر إلى العلم نظرة شاملة تضعه ضمن حدوده المنهجية من جهة و ضمن الظروف الإنسانية التي ينتج فيها من جهة أخرى ؟ إنّ العلم، و على الرغم من تغلغله داخل سيرورة الحياة الاجتماعية، إلاّ أنّه لا يمكنه أن يؤدّي وظيفته الاجتماعية بكلّ نجاعة و فعالية إلاّ إذا أفصح عن حدوده و عن نسبية هامش الحريّة المتوافرة لديه، إذ من الوهم أن نعتقد أنّ حريّته حريّة مطلقة لا رابط ولا ضابط لها، و من هنا يأخذ التأويل الفلسفي كلّ مشروعيته، فهو الذي بإمكانه مجاوزة إشكالية هذه النسبية على اعتبار أنّه لا يريد احتكار الحقيقة بقدرما يحرص عليها، و من هنا أيضا يصبح التأويل الفلسفي التعبير الأكثر ملاءمة و صدقا عن وضع الفلسفة في عصرنا من حيث أنّها هي أيضا تخلّصت من فسقيّتها التقليدية و صارت أكثر انفتاحا على الإنسان و أكثر التصاقا بالواقع، كما أنّ للتأويل أهمّية بارزة بالنسبة لنظرية العلم لأنّه يقوم بفتح أفاق جديدة أمامه. تمكّنه من مقاربة الحقيقة بطريقة مرنة في مجال معقّد كمجال علوم الروح على الخصوص.(3)
لنعد إلى مفصلة التساؤل حول مفهوم التأويل، فقد قلنا في البداية إنّه يتعلّق بعملية الفهم، أو هو باختصار "فنّ الفهم"، و لكن فهم ماذا ؟ إنّه فن فهم النصوص وهو في الواقع ليس مبحثا جديدا و إنّما يغوص إلى أعماق التأويل المسيحي و لكن الجديد هو كيفية توظيفه من قبل غادامير خاصّة و فلاسفة التأويل بشكل عام، ذلك أنّ التأويل ـ الذي كان ملحقا باللاهوت وفقه اللغة ـ عرف تطوّرا منهجيا كان قاعدة أساسية لمجمل التطوّرات التي وقعت في مجال العلوم الإنسانية حتّى يمكننا القول أنّها تحوّلت عن هدفها الأوّلي ـ وهو هدف براجماتي ـ  وهو المساعدة على فهم النصوص الأدبية، وهو لم يعد غريبا عن النصوص الأدبية فحسب، بل تعدّاها إلى ضروب معرفية أخرى كانت تعتمد التأويل كالحقوق و الفلسفة، و عليه فانّ التأويل لم يكتسب مكانته اللائقة ضمن منظومة العلوم الإنسانية إلاّ من خلال ظهورها يسمّيه غادامير "ميلاد الشعور التاريخي" مع أنّ استخدام مصطلح "الشعور التاريخي "باطلاقية يضعنا أمام إشكالات كثيرة، فإذا ما تأمّلنا العمل المنجز في هذا الميدان، وهو جهد سابق لمحاولة دلتاي* إعطاء علوم الروح أساسا تأديبيا، فإنّنا سنجده قد أخرّ ـ الأشكلة الخاصّة بالتأويل إلى مجال البحث و المساءلة و هذا في حدّ ذاته شيء هامّ، و كمثال على هذه الأشكلة سنأخذ مبحثا خصبا وهو "الفنّ" أو "الظاهرة الفنّية " على اعتبار أنّ مستويات الحوار ـ حتّى لا نقول الصراع ـ بين الحقيقة و المنهج عند غادامير تتمّ في مجالات ثلاثة: المجال الجمالي و يتعلّق بالأعمال الفنّية، و المجال التاريخي و يتعلّق بالموروث الماضي، و المجال اللغوي و يتعلّق بالعلاقات و المعاني و الدلالات، إذن عند تطرّقنا لمسألة الفنّ نجد أنفسنا أمام المفارقة التالية: فمن جهة أوضح غادامير بشكل لا لبس فيه أنّ ما يسمّيه "المفاضلة الجمالية" أو "المنتوج الجمالي" ما هو إلاّ تجريد غير قادر على محور انتهاء العمل الفنّي لعالمه و تلاحمه معه، و من جهة ثانية نجد أنّ دور الفنّ و أهميّته ليسا موضع تشكيك أو تساؤل، ذلك أنّ الفنّ قادر على قهر المسافات الزمنية و مجاوزتها بفضل استخدامه للدلالات و توظيفه للصور الإبداعية التي تخترق محدودية المكان ولا نهائية الزمان، بهذا المعنى مزدوج الدلالة يصبح الفنّ وسيلة أساسية للفهم و من ثمّ أيضا يصبح مجالا لإنتاج الحقيقة.(4) و مع أنّ الفنّ ليس موضوعا بسيطا للشعور التاريخي إلاّ أنّ فهمه يختزن بمعنى من المعاني نوعا من الوساطة التاريخية، فكيف تتحدّد يا ترى مهمّة التأويل ضمن مبحث الفنّ لتحديد هذه المهمّة، و للإجابة على هذا التساؤل يسوق لنا غادامير مثالين متناقضين تمام التناقض لكلّ من شلاير ماخر و هيجل حيث يمكن لنا أن نميّزهما من خلال المفهومين التاليين: مفهوم إعادة البناء و مفهوم التكامل، فشلاير ماخر، الذي يسهب غادامير في تحليل نظريته التأويلية في نهاية كتاب "الحقيقة و المنهج"، يسخّر كلّ جهده من أجل إرساء الدلالة الأهمّ المنضوية في داخل العمل الفنّي عن طريق الفهم انطلاقا من اعتقاده بأنّ الأعمال الفنّية و الأدبية القديمة تصلنا منسلخة عن بينتها الطبيعية و الأصلية التي ظهرت فيها و فهمت ضمن سياقها العام، فالأثر الفنّي يفقد من أصالته بفعل انتقاله و تداوله بين الناس، و تغيّر مجاله التداولي من بيئة لأخرى و من ثمّ يفقد دلالته التي وجد من أجلها أصلا، لذا نجد أنّ شلاير ماخر يحاول تعويض غياب الأصالة في الأثر الفنّي ـ على خلفية ما ذكرنا ـ  بما يسمّيه "المعرفة التاريخية" فهذه المعرفة تتيح إمكانية تعويض ما ضاع و استرجاع التقليد الغائب بما أنّها تعيد نبض الحياة إلى هذا التقليد و إلى هذه الأصالة حتّى أنّ جهد التأويل الأساس يصبح في نظر غادامير عبارة عن محاولة "لإيجاد نقطة استقطاب في ذهن الفنّان تكون قادرة بمفردها على جعل دلالة عمل فنّي ما دلالة مفهومة على غرار ما هو الحال في النصوص الأدبية أين نجد أنّ التأويل يسعى لإعادة تمثّل الإنتاج الأوّل للمؤلّف ".(5) و بتعبير آخر تصير مهمّة التأويل عند شلاير ماخر البحث عن الأصول و العمل على إعادة تأصيلها، و كذا توفير الشروط الضرورية لبلوغ الفهم. على النقيض من هذا الرأي نجد رأي هيجل الذي يرى أنّ كلّ تقليد تعلّق بماض لا يمكنه بأيّ حال من الأحوال أن يمدّنا بمصادر يمكنها أن تساعدنا على ممارسة التأويل و تثمينه، فالأعمال أو الإنتاجات الفنّية القديمة هي كالثمار المقطوفة من أشجارها تذبل و تموت كلّما بعدت عن منابتها الأولى، و على الرغم ممّا يبدو من قسوة موقف هيجل تجاه السياق التاريخي للأثر التاريخي للأثر الفنّي، فإنّنا نجد أنّه لا يطعن في مشروعية الاهتمام بالفنّ و تاريخه بقدر ما أراد الإبانة عن "المبدأ التاريخي" الذي ينظّم البحث في تاريخ الفنّ، و الذي يبقى في نظر هيجل نشاطا أو فعالية خارجية شأنه في ذلك شأن أيّ سلوك تاريخي، ذلك أنّ المهمّة الحقيقية للروح المفكّرة عنده بالنسبة للتاريخ و تاريخ الفنّ بالخصوص هي إعادة بناء الصورة الفنّية لدى الإنسان انطلاقا من معطيات هي قيد التحقيق في الواقع، أي في الحاضر، و هذا ما يعطي لبعد الحاضر أمّية خاصّة عنده، إنّ مشروع هيجل تطبعه علامة مميّزة وهي تقديسه للفلسفة بوصفها التجلّي الأسمى للحقيقة و الانكشاف التاريخي للفكر على ذاته، وهي التي تتكفّل بإنجاز مهمّة التأويل و إيصالها إلى غديّتها المرجوّة، و هذا إنّ دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ جهد هيجل يبيّن عن حقيقة حاسمة مفادها أنّ ماهية التاريخ لا تتمثّل في استرجاع الوقائع الماضية و لكنّها تتمثّل في تلك الوساطة التي يباشرها الفكر مع الحياة الحالية.(6) و إذا كان البحث عن حقيقة التأويل قد أدّى بنا إلى مقاربة نقدية للشعور الجمالي و من ثمّ للشعور التاريخي كمحور مكمّل، على اعتبار أنّ البحث كان يتمفصل بالأساس حول الحقيقة، كما هي متجلّية في الفنّ و في التاريخ، فإنّنا سنتحوّل هنا إلى تحليل نظرة الأنطولوجيا للتأويل انطلاقا من فلسفة هيدجر الانطولوجية. هذا الأخير لم يهتمّ بمشكل التأويل و النقد التاريخي كما يرى غادامير إلاّ بغرض بناء أنطولوجيا تهتمّ بوضع الكائن، و سبر أغوار كينونته و مكوّناتها عوض التيه في مسائل المعنى و الدلالة التي يحيل إليها التأويل في الوقت الذي ينظر هو للمسألة من منطلق مغاير، على أنّ هذا الاعتراض الأوّلي من قبل غادامير لا يمنعنا من التساؤل حول العواقب الخاصّة بتأويل العلوم الإنسانية نتيجة تأسيس هيدجر لبنية الفهم المتعلّقة بزمانية الدازاين (الكائن ـ هنا)، إذ قد لا تكون هذه العواقب واضحة كفاية، و إنّما تكون مبثوثة بطريقة متفرّقة و تؤثّر بشكل غير مباشر في حمل معان معيّنة للواجهة و إغفال أخرى.
إنّ انطولوجيا هيدجر حسب غادامير تمارس الفهم، و من ثمّ التأويل، بالتوازي مع بحثها عن حقائق الأشياء ذاتها، إذ لا ينبغي لجهد الدازاين (الكائن ـ هنا) أن يذهب بعيدا عن تأمّلاته ـ  و بدأت تبحث في أشكال الوجود، في أحواله و صفاته، بل ينبغي لجهدنا أن يتركّز حول ما يسمّيه هو " القراءة الفينومينولوجية" لوضع الكائن، وهي قراءة لا يمكن أن تكون حقيقة لا لشيء إلاّ لأنّها تهدف إلى الوصول إلى ماهيات الأشياء وعدم الاكتراث بالظواهر المنفردة، المادية و غير الواضحة، ففي كتاب "الكينونة و الزمان"، و لكي يتجلّي مسألة الكائن يلجأ إلى مساءلة الميتافيزيقا من خلال العمل على مجاوزتها و تعويمها داخل مجال أرحب وهو الفكر، فمجال الكينونة أرحب من أن تختزله الأنساق الميتافيزيقية المغلقة، هنا يتبلور نمط تأويلي يغوص إلى أعماق الكائن لاستكشاف حقيقته التي تصبح بدورها أداة لأي فهم و أساسا لأي تأويل.
2 ـ خطاب الحقيقة:
إنّ بحث خطاب الحقيقة عند غادامير يحيلنا إلى طرق مسألة اللغة، وهي بدورها تحيلنا إلى النصّ، و النصّ بدوره يحيلنا إلى القارئ، و القارئ هو مؤوّل بمعنى من المعاني، فغادامير، كما أوضحنا، يخوض تجربة جديدة في مشروعه الفلسفي المتميّز، تجربة تطرق تواصلا مستمرّا بين القارئ المؤوّل و بين النصّ المكتوب ذاته، وهي تجربة تهدف إلى مجاوزة الأدبيات الكلاسيكية منذ قراءات الإغريق و وصولا إلى القراءات المعاصرة مع هيدجر وهابرماس، و التأويل يحيلنا إلى طرح مفهوم آخر هو مفهوم اللغة، و اللغة تحيل إلى طرق مسألة الفهم، و كلّ تأويل يستند إلى لغة و كلّ لغة تحمل فهما معيّنا للنصّ المراد تأويله، و في هذا المعنى يقول غادامير: "ينبغي القول إنّ عوائق التعبير اللغوي هي في الواقع عوائق للفهم، فكلّ فهم تأويل، و كلّ تأويل يصبّ في بيئة اللغة التي تريد استحضار موضوع الكلام، و التي هي اللغة الخاصّة بالمؤوّل في الوقت ذاته "(7)، كما أنّ لغة التأويل هي ذاتها لغة الفهم نظرا لارتباطهما اللصيق باللغة فهي المفتاح السحري لفهم النصّ و من ثمّ إعادة قراءته و تأويله فيما بعد، و لكون اللغة و التأويل أيضا يمثّلان بعدا إجرائيا واحدا تجاه النصّ، و عليه نجد أنّ غادامير يبرّر سوء التعبير عن فكرة ما بسوء فهمها أصلا، لذا فإنّ مهمّة التأويل الحقّة لا تكمن في تطوير إجراءات الفهم فحسب، بل تتعدّى ذلك إلى تفسير الشروط التي تتيح الفهم، و لكي نفهم ينبغي أن نحدّد شروط الفهم و من ثمّ شروط التأويل، ففعل التأويل يختزن صوت الآخر و يدعمه بوصفه متلقّيا تاريخيّا يتواصل مع وعي القارئ، أي قارئ في كلّ لحظة نباشر فيها تجربة القراءة، ذلك أنّ غادامير يؤكّد، و بطريقة متكرّرة في متنه "الحقيقة والمنهج"، على الوضع التاريخي الذي يشغله القارئ (المؤوّل) إزاء حضوره الآني من جهة، و انتمائه غير المباشر للنصّ الذي يحاول تفهمه دون أن يخرج عنه من جهة ثانية. هذا الحضور هو الذي يجسّد أفق السؤال لدى (المؤوّل) بينما يشكلّ الفهم الجواب بصيغة الماضي، و السؤال و الجواب يشكلاّن معا جدلية فعّالة في بناء الفهم و تحديد شروطه، أي الحصول على تأويل مفتوح باستمرار على ماهية النصّ التي يقوم باستجلائها من خلال ممارسته للاختزال الفينومنولوجي الذي كان قد مارسه هوسرل Husserl من قبل.(8) و يرى غادامير في الجزء المخصّص لبحث دور اللغة في عملية التأويل أي تحليل التأويل الرومانسي"  على حدّ تعبيره ـ  يبيّن أنّ الفهم لا يتأسّس انطلاقا من تحويل الأنا إلى آخر، أو من مشاركة مباشرة لأحدهم مع الآخر، فلكي نفهم خطاب أحدهم فهما سليما و أصيلا يستحسن أن نتقمّص تجربته، و أن نعايش هذه التجربة و كأنّها تجربتنا الخاصّة و هذا ما يضفي عليها مصداقية و صدقا. إنّ مسار التأويل عند غادامير هو في النهاية مسار، لذا فليس اعتباطا أن نجد أنّ الإشكالية الخاصّة بالفهم تصنّف عادة ضمن مجال القواعد و البلاغة على اعتبار أنّ اللغة هي المجال الرّحب الذي ينظّم العلاقة ـ  وهي علاقة وفاق ـ بين المؤوّلين أنفسهم و بين المؤوّلين و موضوعات تأويلهم، في هذا المعنى نجد أنّ سياقا لغويا ما، في شكله الموسّع، هو كذلك السياق الذي يتمّ فيه التواصل بين لغتين متباينتين عن طريق النقل و الترجمة شريطة احترام المعنى و الدلالة في النصوص الأصلية، فالمترجم ليس حرّا في ترجمتها وفق هواه الخاصّ، وعليه تصير "كلّ ترجمة بذاتها نوعا من التأويل، بل يمكننا القول إنّها شكّلت دائما تتمّة للتأويل الذي أسبغه المترجم على الكلمة التي أسندت إليه ".(9) على أنّ بحث إشكالية الترجمة بوصفها أداة فعّالة من أدوات التأويل الذي يقوم على اللغة يفصح عن إشكالات جديدة عند غادامير، إشكالات تمسّ وظيفة الترجمة (المترجم) و مجالها التداولي نفسه و النتيجة المرجوّة منها، و هكذا فمعرفة لغة أجنبية ما في نظره تعفينا من ترجمة هذه اللغة إلى لغتنا الأصلية، و هنا تفقد الترجمة أهميّتها و سبب وجودها مادامت تلعب دور الوسيط الاصطناعي بين لغتين مختلفتين، فالإنسان له ميل طبيعي إلى فهم لغة الآخر كجزء أساسي من فهم لغة الأنا، و من هنا تصبح عملية الترجمة ذاتها ميلا فطريا في الإنسان. إنّ مشكل التأويل عند غادامير لا يتمحور حول الإتقان الجيّد للغة ما و إنّما يتمحور بالأساس حول ذلك، "الاتّفاق"، الذي قد يتحقّق من أشياء ضمن مجال اللغة، ثمّ إنّ إتقاننا للغة أجنبية ما يجعلنا نفكّر ضمن أطر هذه اللغة و ليس ضمن اللغة الأولى أو الأمّ، هذا التملّك، و هذا التمكّن من اللغة الأجنبية عامل أساسي و قبلي لحصول الاتّفاق الوفاق داخل أجواء المحادثة و الحوار التي تقع بين المؤوّلين، فكلّ محادثة تفترض بداهة لغة مشتركة بين المتحدّثين تسهّل عملية الفهم و الإفهام و الاتّفاق لذلك فإنّ اعتمادنا على مترجم لفهم نصّ معيّن يضعنا أمام إشكالية مضاعفة: إشكالية مواجهة المترجم للنصّ الأصلي، و إشكالية مواجهتنا لفهم المترجم للنصّ الأصلي، بمعنى آخر هل يمكننا أن نؤسّس فهما ذاتيا خاصّا بنا على قاعدة الفهم الموضوعي لنصّ ما لأنّ فهم المترجم و تأويله واقعة موضوعية بالنسبة إلينا تقع خارج نطاق ذواتنا لكن، و بمقدار الحرج الذي نشعر به جرّاء اعتمادنا في فهمنا على الآخر ـ المترجم ـ  فإنّ هذا الآخرـ المترجم ذاته ـ يشعر بحرج و ألم كبيرين لقناعة داخلية تؤرّقه وهي أنّه لم يستطع ـ على الرغم من جهوده ـ  بلوغ الترجمة الأكثر حميميّة و الأكثر تجسيدا للمعني الأصلي المتضمّن في النصّ المترجم. انطلاقا من هذه الإشكاليات القائمة حول الترجمة و إسقاطاتها حول الفهم و التأويل يرى غادامير "أنّ الحديث عن "حوار تأويلي" سيصبح حوارا مبرّرا لكن ينتج عن ذلك، و كما هو الشأن في المحادثة الحقيقيّة، أن تلجأ المحادثة التأويلية إلى صهر لغة مشتركة، و أن فعل الصهر هذا ليس بلورة لأداة خاضعة لهذا الاتّفاق مثله مثل المحادثة، و لكنّها تتصادف بالضبط مع عملية الفهم و الاتّفاق ".(10)  و هذا يؤدّي بنا إلى القول إنّ مشكل التأويل مشكل خاصّ و معقدّ، فهو يبحث في إعادة ترتيب العلاقة بين الملفوظ و المكتوب و بين المتكلّم و المفكّر فيه. و الذي يسعى حثيثا إلى إخفاء اللغة أو تشتيتها داخل وعاء الفكر، ذلك أنّ الفكر ليس قواعد جامدة أو أنساقا ثابتة و لكنّه لغة تعجّ بالحياة و الحيوية و ترتبط ارتباطا وثيقا بمنتجها وهو الإنسان، و التأويل أيضا، مثله مثل المحادثة، حلقة من حلقات سلسلة الجدل القانعة بين السؤال و الجواب، بين الواضح و الغامض بحيث يتحوّل إلى علاقة أصيلة بالحياة و خاصية تاريخية هي قيد التحقّق الفعلي بطريقة فينومينولوجية، أي أنّها تتحقّق بمقدار ما توفّق في الإبانة عن معانيها و دلالاتها اللغوية أثناء عملية تأويل النصوص، فطبيعة العلاقة القائمة بين العامل اللغوي و لفهم تشكّل بتقدير أوّلي ماهية الموروث الفلسفي الذي يستند في تأويله على تحليل اللغة كعامل محوري، فما تعليل ذاك ؟ تعليل ذلك أنّ مجرّد القول بأنّ التقليد الفلسفي يميّزه العامل اللغوي يؤدّي إلى إسقاطات هامّة بالنسبة للتأويل و بالمحصلّة بالنسبة للفهم أيضا، على اعتبار أنّ الفهم المتوصّل إليه عن طريق اللغة يحتفظ ـ  و على خلاف أنماط الفهم الأخرى ـ  بنكهة خاصة و بأولوية محضة، كما يمكننا القول بأنّ ماهية الموروث المتميّزة ببعدها اللغوي تستطيع أن تبلغ دلالتها التأويلية القصوى متى تحوّل هذا الموروث إلى موروث "مكتوب"، فاللغة المكتوبة تمتلك خاصّية تأصيلية و تأويلية فعّالة، و تملك في الوقت ذاته حريّة مناورة و تأقلّم نادرتين، فهي منفتحة على الحاضر بقدر انغماسها في الماضي، وهي تكون منفتحة على الآخر ـ الموضوع ـ بقدر ما تكون متمسّكة بأصالتها و ماهيتها الحقيقيّة، هذه الخطوة ما كان للكتابة أنّ تبلغها لو لم يكن لها القدرة على التعايش مع الأوضاع المختلفة، و ربّما المتناقضة أحيانا.(11) إنّ الموروث المكتوب ـ  حسب الدلالة المباشرة لمصطلح الموروث ـ ليس قطعة جامدة من الماضي، بل على العكس هو امتداد في الحاضر و أهمّ من ذلك تطلّع إلى المستقبل لأنّ الموروث في تحديد غادامير [ لحس ] موضوعات جامدة، لا رابط بينها، و إنّما لغة حيّة تفيض بالمعاني و الدلالات التي تجد لها امتدادا في الحاضر و المستقبل بشكل من الأشكال، و الموروث، بمعنى آخر ليس ذلك المخطوط المنحدر إلينا من الماضي، و لكنّه المخطوط الذي يجسّد استمرار ذاكرة الماضي في الحاضر بحيث تصبح جزءا لا يتجزّأ من عالمنا الخاصّ، ثمّ إنّه صحيح أنّ الموروث ـ كما ذكرنا ـ هو لغة حيّة و ليس وقائع جامدة، لكنّنا نتساءل هنا من الذي ينتج اللغة أو من هو مصدر اللغة: أليس هو الإنسان، و الإنسان أليس حلقة واحدة فقط ضمن سلسلة أشمل هي الإنسانيّة ؟ من هنا يصبح الموروث الفلسفي أو الأدبي أو غيرهما تعبيرا أصيلا عن الإنسانية في امتداداتها التاريخية و الأنطولوجية، و على ضوء ذلك أيضا تتوضّح مهمّة التأويل بالنسبة للنصوص المكتوبة، انطلاقا من أنّ المكتوب هو في النهاية نوع من "الاستلاب الذاتي"، و لا يمكن التغلّب على صعوبات هذا الاستلاب و إشكالاته إلا ّبمواجهة النصوص و فهمها فهما معبّرا فمسار الفهم يتحدّد في مجمله ضمن دائرة المعنى التي تشكّل الموروث المحدّد سابقا.
بيد أنّ أهمّية اللغة المكتوبة * لا تقف عند هذا الحدّ، أي كتابة النصوص و ترتيبها، بل إنّها لتصبح دلالة على الحياة برمّتها "ذلك أنّ الكتابة ليست مجرّد مصادفة بسيطة أو مجرّد إضافة بسيطة ليس في إمكانها إحداث أي تغيير كيفي في مسار الموروث الشفهي، فإدارة الحياة و إدارة البقاء يمكن لهما أن توجد دونما حاجة إلى كتابة، لكن الموروث المكتوب وحده قادر على التخلّص من الإلحاح البسيط لآثار الحياة الماضية ممّا ييّسر الانطلاق في إعادة البناء انطلاقا من الوجود السابق "(12) و بالمحصلة يرى غادامير أنّ كلّ مكتوب يمكن أن يكون موضع تأويل، و هذا ما بدا واضحا عند مناقشته ظاهرة اللغة الأجنبية التي تحيل بدورها إلى طرح إشكالية الترجمة، و هذه الأخيرة بدورها تحيل إلى إشكالية الفهم و جميعها تحيل مرّة أخرى إلى طرح مسألة التأويل و ما الهدف من ممارسة التأويل سوى البحث عن الحقيقة و بلوغ الطمأنينة المعرفية.
3 ـ  بين غادامير و هابرماس:
كان الحوار الذي قام بين غادامير و هابرماس من أثمر الحوارات التي عرفتها الفلسفة الألمانية المعاصرة نظرا لمكانتهما المميّزة و للأهمّية القصوى الكامنة في مشروعيهما: "العقلانية التأويلية" لغادامير و"العقلانية التواصلية" لهابرماس. و قد كانت بداية اهتمام هابرماس بمشروع غادامير في كتابه الهامّ "منطق العلوم الإنسانية" حيث يرى أنّ أهمّية التأويل تكمن في أنّه جاء في فترة احتدم فيها النقاش حول العلوم الاجتماعية: أهمّيتها، مكانتها، عمليتها، علاقتها بالعلوم الدقيقة، علاقتها بالايديولوجيا وغيرها من الإشكالات الدائرة في هذا الفلك، و أنّه أضاف إسهامات قيمة لهذا النقاش فتح أفاقا جديدة لبلوغ بدائل تنبني انطلاقا من مقاربات وضعية تعمل على نوع جديد من اللغة يسمّيه "لغة الملاحظة"، لغة محايدة يكون في مقدورها رفع آفاق التحليل الاجتماعي فوق مستوى الملاحظات و الانطباعات الشخصية، الذاتية و بالمحصلة محاولة الوصول بهذا التحليل إلى مستوى الدقّه و الموضوعية التي تميّز العلوم الطبيعية، بالمقابل نجد أنّ التأويل ـ كما يحدّده غادامير ـ يعمل على تجذير الترابط بين أطراف عملية الفهم و من ثمّ خلق تراكم معرفي يصبح موروثا فيما بعد، ذلك أنّ أشكال المعرفة العلمية ذاتها تؤسّس نوعا من التقاليد و هذه الطرق لا يمكن إلاّ أن تتضمّن نوعا من الفهم و بالتالي نوعا من التأويل حتّى و لو تعلّق هذا التأويل بالمنهج، إنّ تأويلية غادامير، و على الرغم من إسهاماتها القيّمة في مجال فلسفة العلوم الاجتماعية، إلاّ أنّ أفكار هذا الأخير و تأمّلاته حول اللغة و الترجمة و الفهم تطرح إشكالا واضحا حسب هابرماس، فإذا كانت نظرته إلى الفهم على أنّه توافق للمعني لا غبار عليها فإنّه بالمقابل لم ينتبه إلى أنّ هذا التوافق قد يكون مشوّها دون دراية منه و هذه إشارة منه إلى الايديولوجيا كمثال على الفهم المشوّه، المناقض لكلّ مسعى موضوعي، حيث نجد أنّ التوافق المنشود يقوم على الضغوط و الإرغام عوض الحوار الصريح و الأخوي و هذا ما يعوق الوصول إلى فهم حقيقي انطلاقا من أنّ مهمّة الفهم عند غادامير ـ  كما حدّدناها سابقا ـ تفترض البحث عن الحقيقة، لكن و مع مشروعية بحث غادامير عن الحقيقة، فهذا متضمّن في منطوق محاولته الفلسفية، إلاّ أنّ المغالاة في توجيه الفهم نحو البحث عن الحقيقة يؤدّي به إلى التغاضي عمّا تحدثه الايدولوجيا من لا توازنات و اختلالات في مستوى السلطة و المعرفة معا. على أنّ ما يثير انزعاج هابرماس له مبرّرات أخرى، و هذا ما يشير إليه أحد نقّاده من أنّ الخطر الذي يقلق هابرماس ليس فقط لأنّنا نحاول استباق حقيقة إمكانية، أو رؤية معيّنة ما للعالم و التعوّد عليها، إنّ ما يقلقه بالفعل هو أن يتضمّن أخذنا بحقيقة ما نوعا من الايدولوجيا ما يعني أنّ ما أخذنا به قد يخلّ ضمن علاقات قوّة و هيمنة لبعض الطرق التي ستظلّ غامضة بالنسبة إليها إذا ما بقي اعتمادنا قائما على الفهم التأويلي وحده، بمعنى آخر إنّ النشاطات الاجتماعية بالنسبة لهابرماس لا يتأتّى فهمها إلاّ إذا انضمّت في مجال موضوعي يشكّل من اللغة و العمل و الهيمنة في آن واحد، فالسوسيولوجيا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تختزل إلى مجرّد سوسيولوجيا تأويلية، لذا فهي تسعي إلى طلب نسق مرجعي مزدوج الوظيفة: فهولا يلغي النشاط الاجتماعي لصالح نظرة طبيعية للسلوك الإنساني من جهة، و لا يرفع نهائيّا الميكانيزمات الاجتماعية لكي يضعها فوق التقليد الثقافي السائد من جهة ثانية.
لكن غادامير ينظر للمسألة من منطلق مغاير، فعندما ينعته هابرماس بأنّه فيلسوف محافظ، تقليدي لجهة تأكيدا الدائم على العودة إلى التقاليد و إلى الموروث الماضي، يجيب غادامير في إحدى المقابلات: "إنّ تأكيدي الدائم على تاريخية الفهم، و العمل على تعويمها داخل تيّارات التقليد يعني أنّني أسير في الاتّجاه المعاكس للتيّار.. فهابرماس يؤمن مثلما أؤمن أنا أيضا بالإمكانيات المثالية التي يفتحها الحوار، لكنّه يؤمن أيضا أنّه يمكن بلوغ هذا المثال عن طريق التقدّ م الحاصل في السوسيولوجيا، أو عن طريق سياسة متمحورة حول ذاتها و من ثمّ فهو يؤمن بالارتقاء السياسي الممكن لهذا المثال و في الوقت ذاته ألمحت إلى هابرماس أنّ سعيه إلى تطبيق أنموذج الحوار الثقافي على السوسيولوجيا غير مقبول في الواقع، ذلك أنّ هذا الحوار يفترض ثقة المريض في طبيبه في حين أنّنا لا نجد سوسيولوجيا واحدا يستسلم أمام وضعية مجتمع متأزّم، و إن حدث و استسلم فإنّ المجتمع لن يستسلم له. لكن للأسف يبدو أنّ هابرماس لا يريد فهم الفرق القائم بين المختصّ و بين المصلحة السياسية "(14) أمّا بالنسبة للانتقاد الخاصّ بموقع الايدولوجيا داخل خطاب التأويل، فإنّ غادامير ينفي الحدود التي فرضها هابرماس على قدرة التأويل على عرض العوامل الإيديولوجية و تحليلها، إذ أنّه يرى أن هابرماس يقصّر بطريقة غير شرعية حقل الفهم التأويلي في الحقيقة الملفوظة (المنطوقة)، في حين أنّ التأويل يأخذ في حسبانه الآراء المسبقة و الأحكام، بمعنى أنّه لا يهتمّ بالآراء التي قد يفصح عنها فرد معيّن أو مجتمع من المجتمعات فحسب، و لكنّه يهتمّ أيضا بالمعتقدات و التوقّعات التي تصاحب هذه الآراء، و لتدعيم هذا الرأي يقدّم لنا غادامير مثالا واقعيا يتعلّق بوضع المرأة الاجتماعي، فالفهم التأويلي للآراء التقليدية حول حاجيات المرأة و مصالحها يتعدّى الفهم العادي أو الظاهر ليصل إلى تحليل الأفكار الخفية و غير المباشرة التي تدور في فلك هذا الموضوع و على رأسها الموضوع الذي يناقش مسألة السلطة: وجودها، توزيعها، مظاهرها و باختصار أهمّيتها و مكانتها داخل المجتمع المعاصر بإشكالاته و تعقيداته الكثيرة. أمّا النقطة الأخرى في جدل الحوار يين غادامير و هابرماس، هي أنّ غادامير يرى أنّ محاولة هابرماس إقامة تعارض بين التقليد اللساني من جهة، و بين "الشروط المادية" الضرورية لإنجاز العمل و السيطرة على الأخوين من جهة أخرى لا معنى لها إطلاقا فإذا ما وجدنا مثلا أنّ فهما تأويليا ما قام بإدغام مضمون إيديولوجي ضمن مسار اجتماعي معيّن فلأنّ القوى غير اللسانية المحيطة به قد انضمّت إلى ذلك المسار بشكل مسبق، ذلك أنّ مفهوم التقليد ذاته يدمج في تعريفه هذه القوى بطريقة ظاهرة أو مستترة، مباشرة أو غير مباشرة، هذه القوى تعدّ غير لسانية فيما يتعلّق بتأثيرها على المعتقدات و المعايير و القيم السائدة في مجتمع ما، إلاّ أنّها متى تعلّق الأمر بأشياء العالم الذي نعيش فيه و بقضاياه و مشاكله فإنّها لا تغدو كذلك، أي غير لسانية، فهي في هذا المجال تبقى مرتبطة بالتقليد و في متناول التحليل التأويلي.(15) و النتيجة التي يخلص إليها غادامير هي أنّ هناك تداخلا واضحا بين مفهوم التأويل و بين التفكير النقدي، هذا التداخل يفرضه تداخل الموضوعات و تعقدّها و تعدّد أبعادها، فالتأويل و من خلال تأكيده على تاريخية الفهم يبيّن عن ثراء للمعني لا ينضب خاصّ بالبنيات الرمزية التي هي النصوص و المعايير، هذه البنيات، و بما أنّها ما تزال متوقّعة ضمن الآفاق التاريخية المختلفة، و مسطّرة ضمن الأهداف المختلفة للفرضيات المتباينة فإنّ ذلك يعني أنّها لم تكشف بعد عن كلّ المعاني الخفية الكامنة فيها، و يعني من جهة ثانية أنّ الأحكام المسبقة المتعلّقة بالمواقف المتّخذة حول القيم المختلفة يمكنها كما يقول غادامير الاستفادة من الجهود الأخرى التي يبذلها التأويل في ميادين أخرى، إلاّ أنّ هابرماس لم يقتنع بأغلب الإجابات و التوضيحات التي قدّمها غادامير خاصّة ما يتعلّق منها بنظرتهما إلى المجتمع و موقفها من النشاط أو الفاعلية الاجتماعية، و كذا موقع التأويل داخل المنظومة المعرفية الفلسفية المعاصرة و علاقة التأويل بالإيديولوجيا، لذا نجد هابرماس ـ و معه أبل ـ  يلجأ إلى بلورة نظرية متمحورة حول التحليل النفسي تكون بمثابة النموذج الأمثل لكلّ نظرية تسعي إلى نقد الأيديولوجيا نقدا منهجيا. إنّ غادامير يؤكّد بصفة إجمالية على ضرورة التمييز بين قوّة الحقيقة التي يتضمّنها الفهم و بين تقنيات البحث و مناهجه المقرّرة من جانب "علوم الروح" على حدّ تعبير "دلتاي" الذي يرى أنّ تجربة العلوم الإنسانية تتقاطع مع تجارب أخرى قائمة خارج أطر العالم الضيّقة كتجربة الفلسفة و تجربة الفنّ و التاريخ وهي كلّها تجسّد حقيقة لا يمكن التأكّد منها بالطرق العلمية المحضة، فالفهم ليس منهجا مكمّلا لمناهج علوم الطبيعة. و هذا ما يؤكّد في نظر غادامير فشل "دلتاي" في إقامة التعارض بين علوم الروح و علوم الطبيعة انطلاقا من أنّ التأويل عنده يضطرّ إلى مجاوزة تعدّد المناهج، و تنوّع أطر التأويل باتّجاه بلورة شعور تأويلي يجد في البنية اللغوية للعالم دعامة له و ضمانا لفعاليته، ذلك أنّ طبيعة الأشياء ذاتها تدفع بهذا الاتّجاه من حيث إنّ الفهم حركة شاملة و كلّية يجعل التأويل يطمح في أن يكون فهما للفهم و من حيث إنّ الفهم أيضا هو عودة إلى الموروث أو "التقليد"، عودة لاستحضار وعي تاريخي جديد يستوعب معاني اللحظة الحاضرة دون التغاضي عن المعاني التي تركت عبر سيرورة طويلة عودة تتمّ باللغة و في اللغة التي تمثّل حلقة وصل أساسية بين الدلالات الوجودية و التاريخية وا لجمالية.

 *  هانز جورج غادامير Hans Georg Gadamer  من أهمّ الفلاسفة الألمان المعاصرين ولد سنة 1900، درس في جامعة "لايبيزج  " Leipsig      ثمّ في جامعة فرانكفورت، و في سنة 1949 شغل كرسي الفلسفة في جامعة "هايدلبرج  " Heidelberg خلفا لكارل ياسبيرس، و قد شكّل مفهوم التأويل أو " التأويلية  " Herme rieutique نقطة محورية في إسهامه الفلسفي، نتج عنها فيما بعد إسقاطات هامّة في مجالات معرفية متعدّدة كالعلوم الإنسانية و النقد الأدبي، ازداد غادامير شهرة بعد السجال الهامّ الذي دار بينه و بين مواطنه الفيلسوف يورجن هابرماس حول الأهمّية المعرفية للعلوم الإنسانية و حول منهجيتها، يعدّ كتابه " الحقيقة و المنهج  " Verite et methode من أهمّ المؤلّفات الفلسفية الألمانية في المرحلة المعاصرة.
*   دلتاي: W.Dilthey (( 1833 ـ 1911) فيلسوف ألماني معاصر يمثّل ما يسمّى بتيّار الحياة، ففي كتابه الهامّ "مدخل إلى دراسة العلوم الإنسانية" يبحث دلتاي عن "الاستقلالية المنهجية" لعلوم الإنسان أو "علوم الروح" بتعبيره، و هذا ما دفعه إلى إجراء موازنة أشمل بين علوم الطبيعة وعلوم الروح، و لكي نفهم علوم الروح ـ  و موضوعها الإنسان ـ  لا بدّ من أن نغوص إلى داخلها، و هنا تأخذ التجربة النفسية كلّ مصداقيتها، بل و يصير علم النفس العلم القاعدي الأوّل لأيّة معرفة تتعلّق بالإنسان و بالعالم التاريخي الاجتماعي بصفة عامة.
 * لسنا في حاجة إلى أمثلة محدّدة في هذا السياق، فالترجمة تحتلّ مكانا متميّزا في مختلف الحضارات، و حضارتنا العربية الإسلامية تقدّم لنا مثالا حيّا في نقلها للمعارف اليونانية المختلفة و ترجمتها لها، و من أهمّ الكتاب العرب المهتمّين بهذا الموضوع نجد الباحث المغربي الدكتور طه عبد الرحمن في مشروعه التأسيسي "فقه الفلسفة": د. طه عبدالرحمن: فقه الفلسفة: 1 ـ  الفلسفة و الترجمة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى.
*  عند الحديث عن مسألة الكتابة في المرحلة المعاصرة لا بدّ و أن يتبادر إلى أذهاننا مشروع الفيلسوف "جاك دريدا " derrida Jacques  و خاصّة في كتابه الهامّ "الغراماترلوجيا" أو "علم الكتابة"، حيث يسند أهمّية خاصّة للكتابة ـ مع اختلاف سياقه عن سياق غاداميرـ  و يعطيها أولوية مطلقة على الكلام.
*  يعتقد الفيلسوف الفرنسي بول ريكور P.Ricoeur مثله في ذلك مثل هابرماس أنّ غادامير، و نتيجة لإهماله ثلاثية: العمل ـ السلطة ـ اللغة قد يقع حبيس نظرية للغة ذات نزعة شمولية و هذا ما يرفضه ريكور، فاللغة بالنسبة إليه ما هي في النهاية إلاّ ذلك الحيّز الذي يتمّ فيه التعبير عن تجربة معيّنة.
الهوامش:
1-de paul Ricoeur, editions du seuil, paris, 1976 (introduction) p.20. philosophique. traduit de lallem and par etienne sacre, Revision Verite et Methode: Les grandes Lignes dune hermeneutique Hans- Georg Gadamer:
2-de pierre fruchon. editions aubier- montaigne, paris, 1982, P.90. philosophique, traduit de lallemand par Mariana simon, introduction - Georg gadamer: Lart de comprendre: Hermeneutique et tradition Hans
3-Hans- Georg Gadaer: Ibid, P.90.
4-Hans- Georg Gadaer: Verite et Methode, P.96.
5-Hans- Georg Gadaer: Ibid. P.97.
6-Hans- Georg Gadaer: Ibid. P.99.
7-Hans- Georg Gadaer: Ibid. P.235.
8-Hans- Georg Gadaer: Ibid, P.219.
9-Hans- Georg Gadaer: Ibid, P.230.
10-Hans- Georg Gadaer: Ibid, P.234.
11-Hans- Georg Gadaer: Ibid, P.236.
12-Hans- Georg Gadaer: Ibid, P.238.
13-Qques Edson, Edition de boech-Wes mael bruxelles. 1991, P.140. Hermeneutuque. Tradition et raison traduit de langlais par jac Geargia warnke: Gadamer.
14-hhie. editions la decouverte- Ie Monde, Paris, 1984, PP233-234 Hans- gerorg, Gadamer, in, Entretiens avec Ie Monde: I philosop Entretien avec
15-Warnke: Hermeneutique. Tradition et raison, PP146- 148. Geargia

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق