الأستاذ:
المصطفى سكم (مدينة
العرائش المغرب)
نفسها: أن تسود و تهيمن، و أن تحافظ على نظام اجتماعي معيّن. و من هنا حرص
الدولة على مشروعيتها لممارسة سلطتها السياسية و تبرير هيمنتها و العنف الذي
تمارسه باسم الحقّ العام ممّا يجعلنا نتساءل: ما الغاية من
قيام الدولة و من أين تستمد مشروعيتها هل من الحقّ أم القوّة ؟
ما طبيعة و أسس السلطة السياسية هل تكمن في أجهزة الدولة المركزيّة أم أنّها مجموع
قوى مشتّتة و موزّعة تخترق المجتمع ؟ هل السلطة متعالية عن المجال الذي تمارس فيه
أم محايثة له ؟ كيف تمارس الدولة سلطتها بالقوّة أم بالقانون،
بالحق أم بالعنف و هل يمكن بناء الدولة بالعنف المشروع ؟
يشير مفهوم الدولة إلى مجموع
الأجهزة و المؤسّسات السياسية و القانونية و العسكرية و الإدارية و الاقتصادية المكلّفة بتدبير الشأن
العام للمجتمع داخل مجال ترابي محدّد. و بذلك فهي تنظيم سياسي و قانوني و اجتماعي
يسمو على الإرادات الفردية. وهي تتميّز بالسّيادة الداخلية و الخارجية من خلال
ممارستها للسلطة المؤسّساتية و القانونية وفق التعاقد الاجتماعي و الإرادة العامة
المشتركة كشرطين ضامنين لاستمراريتها. كما أنّها كسلطة مؤسّساتية تتميّز بانفتاحها
على المجال العمومي، كمجال لمصالح مشتركة و أيضا كمجال للتعدّد و التناقض و للصراع
ممّا يجعلها جهازا يؤدّي وظيفتين وفق الأزمنة و الظروف و البلدان و لصيرورة تشكّل
الدولة
يميّز ماكس
فيبر بين المشروعية و الشرعية.
المشروعية و تشير إلى مختلف الاعتقادات التي
تجعل شعبا ما يقبل السلطة الممارسة عليه من طرف الدولة، و التي منها تستمدّ ممارسة
سلطتها. أمّا الشرعية فهي ممارسة الحكم وفق القوانين السائدة. وترتّد
مختلف أنواع "المشروعية" عبر التاريخ إلى ثلاثة أسس وهي:
* مشروعية
"سلطة الأمس الأزلي" وهي سلطة العادات و التقاليد المتجذّرة في الإنسان
وهي السلطة التقليدية للأب الأكبر والشيخ.
* مشروعية "الشخصيّة
الكاريزمية التاريخية المتمثّلة في الأنبياء و الملوك و الزعماء و الذين يستندون
على سلط دينية أو أخلاقية أو إيديولوجية.
* السّلطة الشرعية
القائمة على التعاقد الاجتماعي و الإرادة العامة و التي تستمدّ
صلاحيتها و شرعيتها من النظام الانتخابي
التمثيلي و الدساتير و فصل السّلط وصيانة الحقوق و الحريات العامة و الالتزام
بالواجبات و قيم المواطنة و العقلانية. وعليه فإذا كانت "مشروعية"
سلطة الدولة في الحالتين الأوليّتين تستمدّان من طبيعة الأفراد و دوافعهم القويّة
المحكومة بتصوّرات أسطوريّة، سحريّة أو لاهوتية المتمثّلة في الخوف من الانتقام أو
بتطلّعات نفعيّة دنيويّة أو أخرويّة أو بمصالح أخرى متنوّعة تجعلهم يخضعون امتثالا
لسلطة الدولة فإنّ شرعية السلطة لا يمكن أن تتأسّس إلاّ داخل دولة حديثة قائمة
على قواعد حكم عقلانية.. لكن ما الغاية من تأسيس الدولة و ما
مدى ضرورتها للوجود الإنساني؟ يربط توماس هوبز بين
تأسيس الدولة و مفهوم التعاقد الاجتماعي كتعاقد
ينتقل بموجبه الأفراد من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية أي من حالة
حرب الجميع ضد الجميع كحرب دائمة يكون فيها الإنسان
ذئبا للإنسان إلى حالة سيادة الأمن و السّلم وحماية
ممتلكات الأشخاص. إنّ الحرّية المطلقة للإنسان و نزوعه الدائم للهيمنة على الغير و
الانسياق الكلّي وراء الأهواء و النزوات الطبيعية الحيوانية و ترقّبه الدائم
للاعتداء و ممارسة العنف و المكر و الخداع و رغبته في
رؤية قوّته متجلّية في الغزوات و السيطرة تجعله في حالة حرب
مزرية دائمة بل إنّ غياب و وجود سلطة فعليّة يهدّد استمراريته و حياته و يجعله في
خوف دائم لذا كان لا بدّ من الانتقال إلى حالة مدنيّة
اجتماعية على أساس تعاقد إرادي بموجبه يعهد كلّ
الأفراد بكلّ ما لديهم من قوّة و سلطة و حقوق طبيعية إلى رجل واحد أو مجلس واحد
لتجتمع كلّ الإرادات في إرادة واحدة عامّة ذات شخصيّة معنويّة وأن يخضع كلّ فرد
إرادته و حكمه للحاكم و للمجلس و حكمهما وهو ما يعني ضرورة منح
الدولة القائمة سلطة مطلقة لتضمن حالة الاستقرار و السّلم و الأمن و الوفرة و السّعادة
هذه الدولة التي تتجسّد حسب هوبس في الملك
كشخصيّة تمثيليّة تتمتّع بسلطة مطلقة تسعى لخدمة المصلحة المشتركة و ينبغي طاعتها
بل و يعتبر " أنّ الملكيّة أفضل أشكال الدولة " و بذلك
نظر توماس هوبس لدولة نظام الحكم المطلق و التي تعرّضت
لانتقادات جان جاك روسو بتشديده على ضرورة تأسيس الدولة
على الإرادة العامة المجسّدة في قوانين وضعية ، و على صنفين من الحقوق: حقوق
الإنسان و حقوق المواطن و بالتالي
تكون شرعية الدولة مستمدّة أساسا من "الإرادة
العامة" كتعبير عن سيادة الشعب و الغاية من قيامها ضمان حقوق الإنسان
في إطار نظام حكم ديمقراطي يرعى الحرّية؛ بحيث يرى سبينوزا في
هذا الصدد أنّ الغاية من تأسيس الدولة ليست هي السّيادة أو إرهاب الناس أو تحويل
البشر ككائنات ذات كرامة و حرية إلى أدوات يتمّ توجيهها ضدّا عن إرادتها الحرّة أو
تسخيرها كوسائل لتحقيق غايات سلطة مطلقة ما متعالية ؛ بل ما
دامت الدولة تعبّر عن الإرادة العامة، فعليها بالتالي أن يكون الهدف من قيامها: أن
تسخّر كلّ إمكاناتها من أجل أن يطوّر الفرد كلّ ملكاته و أن يستخدمها بكلّ حرّية و
في احترام تامّ للتعاقد الاجتماعي و للغير؛ و في مقدّمة
ذلك الحفاظ على الحياة و الحقّ في التفكير و التعبير و الحكم وعليه فإنّ
الحرّية هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة. غير أنّ هيغل
ينتقد هذا التصوّر السياسي التعاقدي التقليدي المرتبط بالأفراد و إراداتهم و يسعى
إلى بناء الدولة على أساس العقل فهي دولة العقل و نتاجه و شكله المتحقّق و مضمونها
الحقيقي هو الحرّية كجوهر أخلاقي. لهذا يعرّف هيغل
الدولة بأنّها "هي التحقّق الفعلي للفكرة الأخلاقية الموضوعية، فهي التحقّق
الفعلي للروح الأخلاقي باعتباره إرادة جوهريّة متجلّية، و بيّنة لذاتها تعرف ذاتها
و تفكّر فيها، وتنجز ما تعرف لأنّها تعرفه" وهو تعريف
لا يعني دولة بعينها بل يعني " فكرة " الدولة و طابعها الأخلاقي
العقلاني. و تتشكّل الدولة من خلال صيرورة ديالكتيكية: "العائلة": كلحظة
أولى في الجوهر الأخلاقي و"المجتمع المدني"
كلحظة ثانية و اللذان يجدان تركيبهما في " الدولة" كتحقّق فعلي مطلق
للفكرة الأخلاقية؛ غير أنّ العائلة و المجتمع المدني يرتبطان بالحاجيات و المصالح
في حدودها النفعية و الخاصّة و ينظر الفرد إلى نفسه على أنّه غاية وحيدة و جزئية
في حين أنّ الدولة تسمو على الفرد فهي غاية أعلى و أسمى من أجلها وجد الفرد، لذا
تشكّل عضويته و اندماجه و تجاوزه لذاتيّته الفرديّة هي الغاية الحقّ التي تمنح
للفرد بعده و حرّيته الكونية و العقلية يتبيّن إذن كيف أنّ الدولة قد تبحث عن
مشروعيتها من خلال ممارسة السلطة انطلاقا من أنماط تقليدية عتيقة تبرّر من خلالها
نظامها السياسي: القرابة، المقدّس، الدين، الزعامة... أو أن تتمتّع فعلا بالشرعية
من خلال قيامها على أسس عقلانية حديثة أساسها التعاقد الصريح على نظام الحكم و طبيعته،
و أنّ غايتها تهذيب و أنسنة الإنسان و الحفاظ على حقوقه الطبيعية و تطويرها في
إطار الحرّية المشتركة و قيم العقل. غير أنّ شرعية الدولة أو مشروعيتها و الغاية
من قيامها لا يمكنهما أن تتحقّق دون ممارسة السلطة السياسية الفعلية. فما طبيعة
هذه الأخيرة هل تنحصر السلطة السياسية في أجهزة الدولة أم أنّها تخترق كلّ ثنايا
المجتمع هل هي متعالية عن مجال اشتغالها أم محايثة له؟ يؤكّد لوي
ألتوسير أنّ السلطة السياسية الممارسة في كلّ دولة تتأسّس على منظومتين من
الأجهزة: منظومة الجهاز القمعي المتمثّل في كلّ مؤسّسات الدولة التي تعتمد عليها
في بسط نظام حكمها وهي كما جاءت في الأدبيّات الماركسية الحكومة
و الإدارة و الجيش و الشرطة و المحاكم و السجون وهي ذات
طبيعة قمعية تشتغل بالعنف بكافة أشكاله سواء العنف المادي أو الرمزي و يعتبر هذا
الجهاز الركيزة الأساسية في استقرار الدولة واستمراريتها و تثبيت السلطة السياسية و إكراه الفرد على
ضرورة الخضوع لقوانينها و تشريعاتها غير أنّ ذلك لا يمكن أن يقدّم ضمانة كافية
للدولة ما لم تتمكّن من التحكّم في" وعي" الأفراد و إدماجهم في البنيات
الاجتماعية القائمة من خلال منظومة من الأفكار و التمثّلات و المعتقدات و المفاهيم
ذات وظيفة عملية اجتماعية معبّرة عن مصالح الطبقة الاجتماعية المهيمنة وهو ما يعبّر
عنها عادة بالإيديولوجيا و التي تحتاج بدورها إلى أجهزة لإنتاجها و نشرها كحقائق
يندمج فيها الواقعي بالمتخيّل و الأمل و الإرادة و الوهم. لذا كانت حاجة
الدولة لأجهزة إيديولوجية على شكل مؤسّسات متخصّصة و متميّزة عن الجهاز القمعي مشتّتة
ظاهريا في ثنايا المجتمع لكنّها تشمل كلّ أشكال الوعي وهي تتمثّل في الأجهزة
التالية: الدينية، المدرسيّة، العائلية،
القانونية، السياسية، النقابية، الإعلامية و الثقافية و بالتالي فإذا كان الجهاز
القمعي للدولة يشتغل بالعنف فإنّ الأجهزة الإيديولوجية للدولة تشتغل بالإيديولوجيا
وفي كلتا الحالتين فإنّ السلطة تمارس بواسطة أجهزة الدولة و هو ما ينتقده ميشيل
فوكو بحيث يؤكّد هذا الأخير أنّ السلطة لا تعني مجموع الأجهزة و المؤسّسات
التي تمكّن من إخضاع المواطنين داخل دولة ما سواء بالعنف أو بالقانون أو كنظام معيّن
من الهيمنة يسري مفعوله في جسم المجتمع بأكمله و لا ينبغي للتحليل أن يأخذ بهذه
الصور كمسلّمات إنّما هي الأشكال النهائية للسلطة. وعليه فإنّ السلطة تعني تعدّد
علاقات القوى التي تكون محايثة للمجال الذي تمارس فيه، والمكوّنة لتنظيمها و اللعبة
التي تحوّل تلك القوى و تزيد من حدّتها وتقلّب موازينها بفعل الصّراعات و المواجهات التي لا تنقطع بحيث تشكّل
سلسلة و منظومة أو تفاوتا و تناقضا، يعزل بعضها بعضا و بالتالي فالسلطة هي الاستراتجيات
التي تعمل وفقها تلك القوى من أجل بلوغ غاياتها و التي تجسّدها مؤسّساتيّا في
أجهزة الدولة و القانون و أشكال الهيمنة الاجتماعية؛ فالسلطة بهذا المعنى حاضرة في
كلّ مكان، وهي ثاوية و محايثة لكلّ المجال العمومي بصيغ متعدّدة و متجدّدة . إنّ
السلطة لا يمكن أن تختزل في الدولة فهي ليست مؤسّسة أو بنية أو قوّة يتمتّع بها
البعض بل هي اسم يطلق على وضع استراتجي معقّد في
مجتمع معيّن. لنستنتج إذن أنّ طبيعة الممارسة السياسية للدولة ليست بالمحايدة بل
هي تعتمد على أجهزة مؤسّساتية لها آليات اشتغالها و استراتجياتها و مصالحها
المتعارضة فهي على حد قول بول ريكور "البنية
الأساسية للسياسي" تخترق كلّ العلاقات السياسية و الاجتماعية. فإلى أي حدّ تبرّر ضرورة الدولة
في حياة الأفراد و الجماعات، منطق السيادة المفضي لممارسة العنف و القوّة و الإكراه
و ظهور الأنظمة الشمولية الاستبدادية أو سيادة الأنظمة البيروقراطية هل تستدعي
ضرورتها و استمراريتها فعلا استعمال كلّ الأساليب اللامشروعة من عنف و قوّة و دهاء
أم ينبغي أن تتأسّس على الحقّ و العدالة و الفضيلة؟ اشتهر نيكولا
ماكيافيل بكتاب "الأمير" والذي منه
استمد ما اصطلح عليه بالميكيافلية" و التي
تعني الموقف الذي يستعمل الدهاء و المكر و الخديعة لتحقيق غاياته"
و قد اعتمد في كتابه على برهنة تتأسّس على الفرضيتين التاليتين:
* ليست الفضيلة
من الطبيعة الإنسانية بل الإنسان عدواني بطبعه "
فالناس بصورة عامة ناكرون للجميل متقلّبون، مراؤون، ميّالون لتجنّب المخاطر، و شديدو
الطمع وهم إلى جانبك طالما تفيدهم... طالما الحاجة بعيدة نائية و لكنّها عندما
تدنو يثورون و مصير الأمير ـ الذي يركن إلى وعودهم دون استعدادات ـ هو الدمار
والخراب" ـ
* العنف
الذي يبني و يشيّد هو عنف مشروع." إنّ ما يؤخذ بعين الاعتبار في أفعال الناس
هي النتيجة، فعلى الأمير إذن أنّ يحافظ على حياته و دولته و إذا ما نجح في ذلك فكلّ
الوسائل التي استعملها ستكون مشروعة و مقبولة" انطلاقا من ذلك يؤكّد ماكيافيل
أنّ القوانين لا يمكن الاعتماد عليها من أجل بسط السيادة لطبيعة الإنسان الحيوانية
و نزوعه الدائم نحو العدوانيّة و الشرّ و الفوضى اللامتناهية المترتّبة عن ذلك، لذا
كان لا بدّ على الأمير اللجوء إلى القوّة و كلّ أساليب المكر و الدهاء، فالحاكم
الجيّد هو من يجمع بين الأسلوبين و لو تنكّر لكلّ العهود والالتزامات التي لم تعد
قائمة لتعارضها مع مصالحه و سلطته خاصّة و أنّ الحلم الذي قد يبديه اتّجاه البعض
قد يضرّ بكلّ المجتمع. من هنا كان على الأمير خاصّة الحديث العهد بالإمارة أن يبدي
استعداده الدائم من أجل الحفاظ على الدولة، بأن يتصرّف ضدّ كلّ صفات الرحمة و الإحسان
و الإنسانية بل و الدين أيضا عند الضرورة. وهو ما يعني أن يكون رجل السياسة متّصفا
بكلّ المهارات و القدرات سواء الأخلاقية المرتبطة بالفضيلة أو تلك المعتمدة على
المكر و الخديعة و الدهاء و المكر و اللجوء إلى العنف و القوّة.
إن ماكيافيل لا ينفي الفضيلة الأخلاقية و لكنّه
يعتبرها غير قادرة وحدها على تأسيس أو الحفاظ على السلطة لذا فليس العنف المشروع
المؤسّس هو الذي ينبغي هدمه بل ما ينبغي هدمه بالأحرى هو العنف المدمّر و أن
اختيار الوسائل في نظره إنّما يتقرّر انطلاقا من نجاعتها و فعاليّتها لا من خلال
مبدأ الأخلاقية. ربّما سمح لنا هذا بأنّ نفهم ما ذهب إليه ماكس
فيبر من زاوية سوسيولوجية من أنّ العلاقة بين الدولة و العنف في عصرنا
هذا، علاقة وثيقة و حميمة، حيث أنّ العنف هو الوسيلة المميّزة إلى
جانب الأشكال القانونية و العقلانية الأخرى في بسط السيادة بل إنّ العنف هو ما ميّز
تاريخ المجتمعات السياسية كوسيلة عادية لممارسة السلطة؛ خاصّة في إطار الدولة
المعاصرة التي تسعى إلى تحصين ذاتها بعقلنة و تقنين و احتكار استخدام العنف المادي
المشروع و جعله تحت مراقبتها لحماية الحقّ العام و تدبير الصراع السياسي حول
السلطة غير أنّ للماركسية قراءة
مغايرة لتاريخ التجمّعات السياسية و لمسالة الدولة بحيث استعرضت من زاوية المادية
الجدلية التاريخية موضوع الدولة بين النشأة و الارتقاء و الاضمحلال
، ذلك أنّ الدولة هي نتاج مجتمع في مرحلة معيّنة كمظهر استعصاء التناقضات
الاجتماعية الطبقية في حالة لا يمكن التوفيق بينها بل إنّ وجود الدولة يبرهن على
أنّه لا يمكن التوفيق بين التناقضات الطبقية و أنّ الحاجة إلى الدولة إنّما لكي لا
تتبدّد القوى المتصارعة فتلتهم بعضها بعضا في نضال عقيم. و لهذا اقتضى
الأمر قوّة تقف في الظاهر فوق المجتمع تلّطف من الاصطدام وتبقيه عند حدود "
النظام" من خلال قنوات مضبوطة (شرائع، قوانين، دساتير). إنّ هذه القوّة هي
الدولة التي هي دولة الطبقة السائدة وحدها دون غيرها و
التي تظلّ آلة لقمع و استغلال الطبقة المضطهدة. ولمّا كانت الدولة البورجوازية
ظاهرة طبقيّة حتّى ولو ادّعت الديمقراطية، فإنّ الماركسية
ترى أنّ من واجب الطبقة البروليتارية تحطيم آلة الدولة الجاهزة، و كسرها، لا
الاكتفاء بمجرّد الاستيلاء عليها، لأنّ الدولة هي تنظيم للعنف بقصد
قمع طبقة من الطبقات. و عندما تزول هذه الوظيفة بزوال الطبقات، تزول
الدولة. لكن، ألا يمكن أن نقول مع بول ريكور أنّ التصوّر
الماركسي للدولة، هو تصوّر اختزالي، يختزل الدولة في
ممارسة الظلم من طرف الطبقة المهيمنة، و لا يمثّل إلاّ حالة خاصّة لعيب المجتمعات
البورجوازية التي لم تستطع حلّ تناقضاتها و مشاكلها إلاّ بالهروب في حلم القانون. و
أنّ الدولة لا يمكن أن تضعف أو تضمحل، و إنّما يلزم فقط أن تراقب بواسطة تقنية مؤسّساتية
خاصّة تجد أساسها في دولة الحقّ و في سياسة قانونية و أخلاقية. إنّ دولة الحقّ لا
يمكن أن تتأسّس على العنف كما هو أمر الأنظمة الاستبدادية و إنّما على قيم
الديمقراطية لكن ليست تلك الديمقراطية التي تجعل من منطق الأغلبية ذريعة للهيمنة
على الأفراد و الأقليات إذ "يأتي تحديد السلطة داخل الدولة من استقلالية كلّ
من السلطات التنفيذية و التشريعية و القضائية، و كذلك من التعدّدية الحزبية و تعدّد
مصادر المعلومات وم ن الإقرار بحقوق الأقليات" كما قال تودوروف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق