إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الخميس، 12 مارس 2009

أبعـــاد النمذجة

إبراهيم قمودي
البعد التركيبي للنمذجة النسقية:
يبدو أنّ النمذجة النسقية كممارسة علمية تتقدّم كحلّ لمجموعة من الصعوبات التي اعترضت العلماء في تفسيرهم للظواهر، صعوبات تتعلّق بأزمة أسس الرياضيات، أزمة الحتمية في الفيزياء، فهذه الصعوبات أدّت إلى انهيار اليقين العلمي و تفكيك العقل العلمي، بالإضافة إلى الوعي بالطابع المركّب للظواهر و الذي رافق ظهور علوم جديدة، علوم تطبيقية كالسيبارنيتيقا و علوم الهندسة و الإعلامية، كلّ هذه العوامل أدّت إلى ظهور النمذجة باعتبارها الحلّ لاستعادة ضرب من الثقة في العلم الذي برهن على قصوره على تناول الظواهر اللامتناهية في التركيب وفق البراديغم الكلاسيكي الوضعي الذي تمثّل في النمذجة التحليلية. و النمذجة النسقية كحلّ لدراسة اللامتناهي في التركيب تتقدّم هي ذاتها كمنهج مركّب، منهج فيه أبعاد مختلفة و كلّ بعد يتضمّن عناصر مختلفة و عموما تقوم النمذجة على الدراسة النسقية للتوافق بين أبعاد ثلاثة:
* البعد التركيبي:
يشمل كلّ ما يتعلّق بالعناصر الأوّلية كالأرقام و الرموز و قواعد تنظيم هذه الرموز في علاقات بالإضافة إلى الصيغ و القضايا.
* البعد الدلالي:
يشمل كلّ مضامين القواعد و ما يعطي معنى للنسق و بالتالي مختلف التأويلات.
* البعد التداولي:
يتحرّك ضمن مسار إدماجي للمعرفة و الممارسة و يتعلّق بالتعديلات التي تجرى على النسق و وظائف النماذج المختلفة بالإضافة إلى التمثيلات التي ينتجها النموذج.
و يجب أن نلاحظ أنّ هذا الفصل بين هذه الأبعاد الثلاثة ليس إلاّ فصلا إجرائيّا يرتبط بديدكتيك التعليم، ذلك أنّ هذه الأبعاد الثلاثة تتداخل في ما بينها و تمثّل بنية على المنظّم أن يأخذها في كلّيتها بما هي تعبير على نموذج واحد يتحدّد هو ذاته كبنية.
و من هذا المنطلق يحدّد "بياجي" J.Piaget البنية باعتبارها الشكل المُلاحَظ و القابل للتحليل الذي تتّخذه عناصر موضوع مادّي، فهي الطريقة التي يتقدّم وفقها مجموع محسوس في الفضاء. يتعلّق الأمر إذن بالأجزاء و تنظيم هذه الأجزاء، فالبنية هي كلّ يتكوّن من عناصر و من شبكة علائقية بين هذه العناصر تتعلّق بالتكوّن أو البناء و السياق و تموضع العناصر و شكلها. لذلك ينسب "بياجي" للبنية ثلاث خصائص، الخاصيّة الأولى تتعلّق بالكلّية من جهة كون البنية كلّ، و الخاصيّة الثانية تتمثّل في التحوّل من جهة كون البنية لها طابع ديناميكي، و الخاصيّة الثالثة هي الانتظام الذاتي من جهة كون البنية تشتغل بطريقة مستقلّة عن المنظر. و هذا يعني أنّ المنظر لا يتدخّل فعليا في البنية. و لكن رغم كون البنية مستقلّة على عمل المنظر فإنّها تساعده على الصورنة كلحظة أساسية في إنتاج النموذج. ذلك أنّ الصورنة هي العملية المعرفية التي تحوّل بمقتضاها فعل أيّ نسق عيني إلى صورة أي نسق مجرّد و العملية المعاكسة أي التحوّل من النسق المجرّد إلى النسق العيني تتمثّل في التأويل. و يلاحظ "لادريار" J.Ladriere أنّ الأنساق العينية و الأنساق المجرّدة تمثّل نظما رمزية بما هي اصطناع عقلاني يشتمل على أشكال يمكن أن تـُستخدم في صياغة تمثّلات لأيّ وسطٍ يسعى نظام الرموز إلى التلاؤم معه، إذ يسمح له بنمذجة هذا الوسط و عقلنته. و الصورية هي نظام رمزي من القواعد التي تمكّن من التحول من التجارب إلى المعارف، وهو ما يعني أنّ الصورية هي كلّ نظام علامات ناتج عن الصورنة. لكن لا يجب أن نفهم من ذلك اختزال الصورنة في الترييض و بالتالي اختزال الصورية في الأنساق المنطقية الصورية، ذلك أنّ الصورنة تحضر بشكل متفاوت في النمذجة إذ يمكن أن تتّخذ شكلا أكسيوميا صرفا إذا كان الموضوع المنمذج قابل للمقاربة الكمّية الصرفة، كما يمكن أن تتّخذ شكلا شبه أكسيومي إذا كان الموضوع لا يخلو من أبعاد كيفية نوعية. خاصّة و أنّ الترييض في النمذجة التحليلية يحضر بشكلين مختلفين، إمّا في شكل استخدام الرياضيات كأداة من خارج العلم لصياغة القوانين و إمّا باستخدام المنهج الرياضي ذاته أي المنهج الفرضي الاستنتاجي، و هو ما يعني أنّ العلم الحديث هو ابن الرياضيات كما بيّن ذلك هنري برقسون H.Bergson و أيضا ألكسندر الكويري A.Koyré عندما حلّل الثورة العلمية الحديثة و أعلن أنّ ولادة العلم الحديث حصلت عبر القطع مع التفسير النوعي الأرسطي و تعويضه بتفسير كمّي، أي أنّ النشاط العلمي يتمثّل في مجهود تعويض المعرفة النوعية بالحواس و الإحساس بمعرفة كمّية قابلة للقياس. و إذا كان الوصف النوعي يكتفي بوصف المظهر الفيزيائي، بحيث يكتفي مثلا بوصف المنحي فإنّ الوصف الكمّي يحلّل المعادلة الرياضية التي تدبّر المنحى، ذلك أنّ النوعية تشير إلى ما لا نستطيع التعبير عنه بلغة كمّية و لا حتّى بعلاقات عقلية محدّدة، فالظاهرة النوعية ترتبط بالمظاهر الحسّية للإدراك التي لا تتعلّق بتحديدات ميكانيكية و هندسية و إنّما تدرك بحدس شامل و على شأن ذلك بالذات أقصاها العلم من دائرة اهتمامه. و يبدو أنّ إقصاء الجانب النوعي من العلم ضيّق مجال المعرفة العلمية و مثّل أحد الصعوبات التي أظهرت نقائص العلم الحديث أو ما يسمّيه "لوموانيو" بالنمذجة التحليلية، و هذا يعني أنّ مزية النمذجة النسقية تتمثّل في تجاوز التضييق الكبير لمجال امتداد العلم باسم الترييض و التكميم كشرط ضروري للمعرفة العلمية و يكون ذلك عبر توسيع دائرة العلم لتشمل مالا يمكن الحديث عنه في لغة كمّية رياضية صرفة. لذلك فإنّ الصورنة رغم كونها لا تـُختزل في الترييض تقتضي أوّلا الصرامة العقلية التي لا يجب فهمها مثلما بين ذلك "هيربارت سيمون" H.Simon باعتبارها مشابهة للنموذج الذي يستعمل الرياضيات التقليدية في النمذجة التحليلية، فالصّرامة تُؤخذ هنا على انتساب التمشّي الفكري لنسق أوّليات لذلك فإنّ الهدف الأساسي لكلّ صورنة يجب أن يكون إبانة الأوّليات أو القواعد المتواضع عليها و التي تقود كلّ عملية نمذجة، و الصرامة العقلية كشرط للصورنة تجنّب النمذجة النسقية ظنّة الإبستيمولوجيا الوضعية. كما تقتضي الصورنة خاصّية إمكان الصنع إذ يجب أن تكون عملية قابلة للتحقيق واقعيا و كونيا، و بهذا المعنى فإنّ النمذجة النسقية تمكّننا من صورنة ما كان غير قابل للصورنة في النمذجة التحليلية و ذلك في شكل توثيقي لمعارف رمزية تتعلّق بتجارب مدركة أو قابلة للإدراك بإنتاج علاقات عقلية محدّدة من قبل فاعل منمذج لفعله الخاصّ. و هذا النوع من التمثّل للظواهر لا يدّعي أنّه يقدّم الوصف التامّ للظاهرة المدروسة إذ أنّه تمثّل اصطناعي و تليلوجي Téliologique، بما أنّ هذا البعد الغائي يمكّن من اكتشاف حلول في المدى القريب و لكن خاصّة في المدى البعيد، و تمثّل مركّب و مع ذلك قابل للتعقّل ممّا يعني أن التمثّل الذي تقدّمه النمذجة النسقية لا يدّعي فصل الصورنة على التأويل، ذلك أنّ النموذج ينشأ بفعل عملية تبسيط متعمّد، وهو تبسيط لأنّه يختار بعض مظاهر الواقع المدروس و يهمل أخرى، و متعمّد لأنّ المنمذج يعلم مسبقا أنّ النموذج الذي ينتجه لا يدّعي مطابقة الواقع المدروس في كلّ الظروف و في كلّ جوانبه، إذ لا يجب أن ننسى أنّ النموذج هو قبل كلّ شيء إنشاء فكري فالنموذج هو نظام علامات ليّن يمكّن من اعتبار أغلب الادراكات التي بحوزتنا عندما نريد وصف ظاهرة ملاحظة أو متخيلة بُغية تأويلها ذهنيا. و من هذا المنطلق فإنّ النمذجة تفتح مجالات واسعة أمام البحوث العلمية دون أن تلزم التمثّل بلغة مغلقة إذ يمكن التعبير عن النموذج كتمثّل لظاهرة ما في لغة خطابية أدبية أو في تصاميم أو في رسوم بيانية بالإضافة إلى اللغة الرياضية ومن هذا المنطلق يمكن أن نميّز بين نوعين من النماذج:
* نماذج مادية:
تترجم نسقا معيّنا من الظواهر العينيّة التي يغلب عليها الطابع النوعي بما أنّ بعض الخصائص الماديّة كالأشكال و الألوان و الروائح... يصعب التعبير عنها في صورة مجرّدة.
* نماذج رمزية:
تترجم النسق في لغة مجرّدة و يجب أن نلاحظ أنّ هناك أيضا بعض الخصائص المجرّدة التي يصعب تجسيدها في مقابل مادي يماثلها.
و لكن هذا التصنيف لا يعني القطيعة بين نوعيْ النماذج إذ يجري المرور تدريجيا من النموذج الرمزي إلى التصميم و من التصميم إلى النموذج الرمزي فكلّ نموذج رمزي يحافظ على سند مادّي، و كلّ تصميم لا يخلو من قدر من التجريد برغم غياب التوافق الكلّي بين النموذج المادي و النموذج الرمزي بما أنّ بعض الخصائص المادية يصعب التعبير عنها في أشكال مجرّدة و بعض الخصائص المجرّدة  يصعب تجسيدها في مقابل مادي يماثلها مثلما أسلفنا الذكر. و المرور من المادي إلى الرمزي أو إن شئنا من المحسوس إلى المعقول و من الرمزي إلى المادي، أو من المعقول إلى المحسوس هو ما يعبّر عنه "سيمون" بقوله: "لقد نقلت الحواسيب نـُظـُمَ الرموز من الجنّة الأفلاطونية للمثُل إلى عالم خبري للسيرورات الواقعية المتحقّقة عن طريق آلات و عن طريق هذه الأدمغة أو بالاثنين يعملان معا"، ذلك أنّ الذكاء الاصطناعي يمثّل آلية تسهل على المنمذج المرور من الصورية المجرّدة للتمثّل الذهني إلى تحسيس و تلميس هذا التمثّل افتراضيا بواسطة الحاسوب الذي يسمح بإيجاد مقابل مادي يماثل الخصائص المجرّدة التي يصعب تجسيدها في الواقع الفعلي. و هكذا فإنّ إنتاج النماذج يتقدّم في شكل أكسيومي أو شبه أكسيومي بحسب درجة الصورنة، و هذا يعني أنّ الأكسيومية، كضرب من العرض للعلوم الصحيحة مبني على قضايا افتراضية يسلّم بها تسليما دون برهان وهي القضايا التي تُسمّى الأوّليات التي تكون مصاغة بدقّة و تؤدّي إلى استدلالات صارمة، هي إذن ما يمكّن الصورنة من تحقيق شرط الصرامة الذي تقتضيه، ذلك أنّ الأكسيومية تبدأ بجرد كامل الأوّليات أي كلّ القضايا التي نسلّم بها دون برهان، و اكتشاف هندسات لاإقليدية في القرن 19 يبيّن لنا خاصية التجريد و الاعتباط للأكسيومية كما بيّن لنا أنّ هناك رابط هامّ بين الأكسمة و الصورنة، فالأكسمة تمكّن المنمذج من بناء أنساق متكاملة من المفاهيم و العلاقات ممّا جعل "باشلار"يعتبر أنّ القطيعة الابستيمولوجية بين التجربة المحضة و الأكسمة تمرّ عبر لعبة صورية. و النمذجة كممارسة علمية موحّدة للنشاط العلمي بما تسمح به من تعاون بين مختلف الاختصاصات العلمية و باستخدامها للعلوم الإعلامية مكّنت العلم من إطار جديد للتجريب الافتراضي Experimentation Virtuelle كما مكّنته من استخدام لغة اصطناعية مفتوحة تخضع عناصرها للظواهر المنطقية في بناء أكسيومي أو شبه أكسيومي بحسب درجة حضور الرياضيات ذلك أنّ طبيعة اللغة المستعملة هي التي تحدّد درجة الصورنة. و هكذا يمكن القول إنّ مقاربة البعد التركيبي للنمذجة توضّح لنا الشروط الابستيمولوجية لتأويج فعالية النموذج و تأويج إمكانية اشتغاله و بالتالي تمكّننا من التحكّم في المصاريف و تأمين مقاربة الظاهرة المدروسة و هذه الشروط يمكن أن نلخّصها في النقاط التالية:
* التماسك Consistance: بمعنى أن يكون النموذج خاليا من كلّ تناقض وهو شرط تجعله الأكسمة ممكنا.
* التمامُ Complétude: بمعنى أن لا يتضمّن النموذج قضايا لا تقبل البرهنة أو الدحض.
* الثبات : بمعنى أن تكون قضاياه ملائمة لكلّ المتغيّرات الممكنة.
* الإشباع Saturation: بمعنى أن لا يحتاج النموذج إلى استخدام مصادرات إضافية من خارج النسق.
* القطعية Décidabilité: بمعنى تضمّن النموذج لإجراءات تسمح بالحكم على قضية ما بكونها صحيحة أو خاطئة.
* الاستقلالية Indépendance: بمعنى ألاّ يتضمّن النموذج أوّلية يمكن استنباطها من بقيّة الأوّليات.
لكن إذا كانت النمذجة تهدف أساس من جهة طابعها التليلوجي إلى اصطناع استراتيجيا للفعل، و إذا كان النموذج ليس تركيبا لأشياء ثابتة و إنّما هو تركيب تمثّلات فعل تمكن من تقييم نوايا الفعل الممكنة و بالتالي تحديد قواعد الفعل فماذا يمكن أن نقول عن علاقة هذا النموذج المبتكر بالواقع ؟ هل يمكن أن نتحدّث عن الواقع بطريقة موضوعية ؟ و هل تسمح لنا النمذجة النسقية بالقبضة على الواقع ؟
البعد الدلالي للنمذجة النسقية :  

يقول برونو جاروسون في كتاب "دعوة إلى فلسفة العلوم" : «إنّ الواقع لا دلالة له في ذاته. و في مقابل ذلك من المهمّ أن نتبيّن أنّ الواقع له دلالة و له معنى أيضا». ذلك أنّ الإنسان في حاجة إلى تمثّل الواقع ليضفي عليه دلالة و حتّى يصبح معقولا بالنسبة إليه. و البعد الدلالي للنمذجة النسقية يتعلّق بهذه الدلالة التي تبدعها النمذجة للعالم: إذ يتعلّق الأمر بعلاقات العلامات الرمزية مع الواقع، ذلك أنّ تمثّل الواقع ينتشر من خلال منطق الفكر، و إنشاء نسق صوري لنمذجة واقع ما ليس مجرّد لعبة مجانية نكتفي فيها بإنشاء رموز دون اعتبار ما يمكن أن تعبّر عنه هذه الرموز و العلاقات القائمة بينها من مضامين ذات صلة بالواقع. هذا يعني أنّ الصياغة الصورية لا تكتسب قيمة علمية إلاّ بفعل تطبيقها في وضعيات تجريبية بواسطة تأويل الرموز المجرّدة و ترجمتها في حدود فيزيائية. إذ أنّ النسق الصوري يعبّر عن بنية واقعية، و لذلك لا بدّ من تحقيق ضرب من التلاؤم بين المعطيات الصورية للنسق المدروس و بين المعطيات الخبرية التي تنتظم وفقها الموضوعات العلمية المعتبرة. و هذا التلاؤم يقوم على مجموعة من القواعد و كلّ ما يتعلّق بهذه القواعد يشكّل البعد الدلالي أي النموذج بما هو تأويل. يتعلّق الأمر إذن بلحظة التجريب التي تقتضي تأويلا عينيّا و بالتالي فإنّ البعد الدلالي للنموذج يتحدّد بعلاقته التفاعلية بالنسق الذي يمثّله و باعتبار المسافة التي تفصلهما بهدف جعل النموذج أكثر ملاءمة. إنّ تمثّل الواقع ينتشر من خلال منطق الفكر و الأهمّية التي نوليها لميدان خصوصي لهذا الواقع. و النموذج هو وليد ثلاث سيرورات, متنافرة و متكاملة، فمن جهة كلّ ما ندركه و نتصوّره يمرّ بالضرورة عبر سيرورات تماثلية وأفق صورية منطقية. إن المعايير العلمية المتعلّقة بالاختصاصات و المشروطة باعتبار أو باختراع حقول اختصاصات جديدة, و بالتشابه و التنافر بين النماذج، تحدّد السيرورات المنمذجة. و يمكن أن نلاحظ نوعا من التشابه الصوري بين العلوم الهندسية و العلوم الاجتماعية و الإنسانية. ذلك أنّ النمذجة في العلوم الفيزيائية الكلاسيكية التي تعتبر علوما طبيعية، هي إعادة إنتاج مبسّط و مماثل لخصائص الأشياء، و المثال الأكثر شهرة للمماثلة هو المماثلة النيوتنية بين حركة الشيء الذي يدور في طرف الحبل و حركة القمر حول الشمس. و لأن المماثلات تقتضي لغة وصف تمكّن من إحلال تجانس النموذج الذي نريد إنتاجه، فإنّ الميكانيكا الكلاسيكية، استخدمت الرياضيات لتستجيب لهذا الاقتضاء العلمي. أمّا في النمذجة النسقية فإنّ وظائف التحويل الرمزية تتأسّس في ذات الوقت تركيبيّا و دلاليّا، و تختلف بحسب طبيعة الضغوطات الخارجية. فنحن مثلا لا نستطيع التنبّؤ بمسار الصاروخ الذي يتتبّع آلة طائرة في الفضاء إلاّ بواسطة وظيفته التحويليّة التي تتضمّن مُعَدِّلات قادرة على المحافظة على ثباتية نسق التتّبع عبر إضعاف التشويش الناتج عن الضغوطات. إذ أنّه من الضروري إنتاج نوع من التدبير بين المنطقي و الخبري في كلّ عملية صورنة. و بلغة أخرى يجب أن يكون هناك نوع من التطابق بين الحكم التحليلي الذهني و الحكم الخبري. و لكن الضغوطات التي ترتبط بالحكم الخبري ليس لها نفس خصائص الضغوطات التي ترتبط بالأحكام التحليلية فيما يتعلّق بعلاقتهما الضيّقة بالصورية المنطقية. و هذا التشنّج يحيل في النهاية إلى ما يسمّيه J .L. Le Moigne"الأفق المورفولوجي". و هكذا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار درجة التركيب اللامتناهية للظواهر المدروسة حتّى نتمكّن من نمذجتها بواسطة المقتضيات المنطقية والتماثلية والخبرية التي تستجيب للشروط العلمية. ونستطيع بالتأكيد ألاّ نعتبر إلا الجزء الأهم من الظاهرة المدروسة بالنسبة للهدف المراد تحقيقه، دون أن نسقط، مثلا في الفيزياء في البحث عن علاقات بين خصائص فيزيائية و خرى كيميائية بين الذرّات، و بالتالي نستطيع تحقيق تطابق شبه كامل بين وقائع الضغوطات الفيزيائية و الوقائع الصورية المنطقي ـ رياضية، و الخاصّية التأليفيّة للتواصل بين حقول معرفية مختلفة تظهر بجلاء في علوم التصوّر مثل المعلوماتية أو صناعة الآلات الأوتوماتيكية. و هذا يعني أنّ النماذج يجب أن تكون نتيجة سيرورة بحث و لا فقط نتيجة تمثّل نسقي لموضوع مثلما هو الشأن في الميكانيكا الكلاسيكية. ذلك أنّ المفترضات النظرية و بنى الضغوطات الخارجية الخبرية أو الملاحظة تمثّل أحد خصائص السيرورة التماثلية. فمن جهة تؤسّس التماثلية الصورية تشابها وظيفيا و بنيويا بين النموذج و موضوع الدراسة، و من جهة ثانية تصف التماثلية اللاصورية الخصائص المجرّدة و الرمزية. و اتّصال هذه التمثّلات يرتكز على وحدتها البنيوية و الرمزية حتّى تحقّق اصطناعية مخصوصة، هي اصطناعية الفعل القصدي المرتبط بكلّ سيرورة نمذجة مثلما أقرّ ذلك Herbert A.Simon و اصطناعية النموذج يمكن أن توصف و أن تفهم و أن يتنبّأ بها. و هذا يعني أنّ ما وراء اختلاف النماذج هناك خاصية مشتركة: إنّ كلّ النماذج حاملة لمعلومات، حاملة لمعرفة، إنّها تعبير في لغة ما أو صورنة ما عن رؤية معيّنة حول موضوع الدراسة، موضوع دراسة يمكن أن يكون موجودا بشكل سابق للنمذجة و نتحدّث عندها عن نماذج وصفية modèle de description ، بما هي تجسيد لنظرية متعلّقة بميدان موضوع الدراسة. كما يمكن أن يكون الموضوع نسقا في طور البناء و النموذج عندها يفصل تعييناته. ففي الحالة الأولى يعبّر النموذج عن تفسير يتموضع في زمن معيّن و سجلّ ثقافي معيّن، لظواهر أو سلوكيات ملاحظة في موضوع الدراسة، بحيث يسند للميدان المدروس منطقا و تجانسا و ربّما حتّى شرعية و مشروعية، إذ تتمثّل وظيفته في توجيه أو تأطير فهم ميدان الدراسة. أمّا في الحالة الثانية فإنّه يفصّل الاشتغال المنتظم للاصطناعي، إذ أنّ النموذج هو أداة تواصل يستخدمه مختلف المتدخّلين في سيرورة تصوّر و صنع النسق-النتيجة. و في كلتا الحالتين يتقدّم النموذج كتمتّل أمين على دلالة، كوسيلة تبادل و تقاسم للمعارف، إنّه شكل يجسّد موضوعا، يجسّد شيئا له وظائف الانخراط و التواصل و الدخول في المعنى، شيئا اصطناعي يبنى و يثبت بالنسبة لصانعه، وهو رسالة تنتظر حلّ شفرتها و فهمها بالنسبة للمتقبّل، ذلك هو معنى قول لوموانيو J.L.Le Moigne نماذج ننشؤها و نمارس من خلالها البرهنة و تبادل الأفكار و نتمكّن من جعل المغامرة المبهرة التي انخرطت فيها الإنسانية منذ نشأتها قابلة للفهم».
النمذجة تتمثّل، إذن، في تجسيد منظور ما، نقل فكرة إلى شيء محسوس، أمّا التأويل فهو العملية المعاكسة إذ هو نقل لتمثّل طبيعي مرمّز إلى تمثّل ذهني، و هذه السيرورة الثانية تقارب النموذج كمجموع تعيينات يتعلّق الأمر في نهاية المطاف بإدماجها لتكون أكثر دقّة بفضل إضفاء المعنى، ذلك أنّ النموذج مهما كان، يمثّل في لحظة قراءته حاملا لمعنى البناء، حاملا لمعرفة الاكتساب. و النموذج من هذا المنطلق الدلالي يجب أن يكون عاما، و التعميم كخاصّية دلالية يقتضي توسيع مجال صلاحية النموذج، حتّى نتحوّل من نموذج ذي صلاحية تتعلّق بعدد محدود من الوضعيات الملاحظة إلى نموذج يشمل عددا لامحدودا من الوضعيات الممكنة التي تؤكّد صلاحية النموذج بما في ذلك الوضعيات التي لم يجر اختبار النموذج فيها. إذ لا يجب أن ننسى أنّ النظرية العلمية هي نموذج لطريقة التفاعل بين مجموعة من الظواهر الطبيعية، قادرة على التوقّع بالأحداث المستقبليّة و بملاحظات من نفس هذا النوع، و قابلة للتثّبت إذ يجري اختبارها من خلال التجربة أو على الأقلّ يمكن دحضها عبر الملاحظات التجريبية. و ينتج عن هذا التحديد أنّ النظرية العلمية و الواقع ليسا متعارضين بالضرورة. فالنظرية العلمية لا تحتوي على عناصر غير قابلة للتغيير بالطريقة التي تجعلنا قادرين على معاينتها في كلّ الاختصاصات العلمية. و ما تشترك فيه النظريات العلمية هو مجهود أمثلة الواقع Idéalisation du réel، أمثلة تتحقّق في صورنة أكسيومية أو شبه أكسيومية بالنسبة للنمذجة النسقيّة، لذلك يمكن القول مع فاليزار B.Walisserيمكن اعتبار كلذ نموذج في وجه من وجوهه، وسيطا بين حقل نظري يمثّل تأويلا له و حقل تجريبي يمثّل تأليفا له.» و بما أنّ كلّ بناء نظري ينتج قوانين يمكن القول أيضا مع بول غريكو P.Gréco بأنّ «النموذج هو وسيط ضروري بين صياغة القانون و فهم معنى القانون» خاصّة و أنّ القانون هو صياغة لعلاقة كونية بين الظواهر. ففي الوصف نحاول مقاربة البنى التي ندركها و التي تؤسّس مواصفات التعرّف على المواضيع و نمذجتها. ثمّ إنّ وصف سيرورة النمذجة تقتضي في ذات الوقت وصف حالة الظاهرة المدروسة و لكن أيضا وصف حالة فعلها. أمّا الفهم فهو شرط أوّلى ضروري للوصف و لا يمكن اختزاله في مجرّد معرفة خصوصية في خدمة المباشرتية و الجانب المحسوس من التمثّل التماثلي مثلما بيّن ذلك E.Morin. و من هذا المنطلق فإنّ تأليفية الفهم تحضر في التحليل و في نسقية الوصف. و بالتالي يمثّل الفهم وسيلة و غاية كلّ تماثلية. ثمّ إنّ النمذجة النسقية يمكن أن تكون في خدمة غايات متعدّدة، مثل معرفة المشاكل المركّبة و المعقّدة، فهم الظواهر، أو اصطناع استراتيجيا للفعل، إنّها تحمل في ذاتها مشروع جعل الواقع قابلا للتعقّل عبر نمذجته دون إفراغه ممّا هو أصيل فيه: التركيب و التعقّد. ذلك أنّ النمذجة النسقية تريد احترام الجدلية المركزية للمركّب أي الصيرورة في الاشتغال و الاشتغال الصائر. إذ تمكّن النمذجة النسقية المنمذج من إعطاء صورة لتفكيره و تمكّنه من استباق نتائج مشاريع الأفعال الممكنة. ففي النمذجة ينطلق الباحث من المشروع الذي حدّده ليجمعه بفرضيات متمفصلة بحسب المشروع الشامل، والنموذج ليس تركيب أشياء ثابتة stables ، بل هو تركيب تمثّلات فعل، لذلك لا نستطيع أن نقارب البعد الدلالي للنمذجة دون الحديث عن علاقة النموذج بالواقع. و أن نتحدّث عن الواقع هو أن نتحدّث عن الواقع كما هو في ظروفه الخاّصّة حتّى نتمكّن من سبر ألغاز الموضوع المدروس في تعقّده و تركيبه و في غموضه، أن نتحدّث عن الواقع هو أن نستحضره خارج المفهوم، أن نفكّر في الشيء خارج الوهم و الظاهر فالواقع هو ما يوجد في ضرب من التقابل مع الخيال و مع تمثّل الواقع، فالواقع هو ما يوجد و المعرفة العلمية من المفروض أن تقوم بإبراز خصائص الواقع بواسطة الرموز و الكلمات و الأعداد. و يزعم بعض أصحاب البراديغم التجريبي أنّهم يقاربون الواقع بطريقة موضوعية، في حين يعترف البعض الآخر منهم بتدخّل الذاتية. و لكن بقدر ما يكون الموضوع معقّدا بقدر ما تختلف القبضة على الواقع. ذلك أنّ المقاربة تتّبع ما سبق و ترتبط بالظروف الخاصّة للبحث. لذلك فإنّ النمذجة تقارب الواقع بطريقة معقّدة (مركّبة) لا يمكن اختزالها في نموذج نهائي و مغلق، بل لا يوجد واقع و إنّما وقائع متعدّدة، فليس هناك حقيقة واحدة بل عدّة حقائق. و الواقع متعدّد وهو ذاتي بصفة شاملة، فالنمذجة تفترض قبليا وجود عدّة نماذج يمكن تصوّرها لنفس الظاهرة التي ينظر إليها في وحدتها و في التفاعلات الداخلية التي تكوّنها. و المنمذج يكوّن معرفة حول الظاهرة انطلاقا من المعلومات (المعطيات) التي ينتجها هو ذاته اصطناعيا و بطريقة حرّة. و هذا التدخّل من قبل المنمذج و النموذج تقتضي ضرورة أن يشرح المنمذج غاياته الخاصة بالإضافة إلى الغايات التي يسندها للموضوع المنمذج، و تدخّله في الموضوع المنمذج ليس محايدا. فعندما يصف ما يعرف عن العالم، يغيّر المنمذج العالم الذي يعرفه، و عندما يغيّر هذا الواقع الذي يعيش فيه يتطوّر هو ذاته. و لذلك تتموضع النمذجة في البراديغم البنائي. إنّ المقاربة النسقية تفتح على خلق استراتيجيات فعل. إذ تمكّن من تنظيم المعرفة عبر بناء نماذج يمكن التواصل حولها و يمكن استعمالها في الفكر و الممارسة. و يتموضع المنمذج في التفاعل بين النسق المنمذج و النموذج. و يتمظهر بجلاء في ذاتيته و بقيمه الخاصّة. إذ تفترض النسقية أنّ فعل النمذجة ليس حياديا إذ لا يمكن فصله عن فعل المنمذج. و هذا يعني أنّ مثال النمذجة النسقية لا يمثل في الموضوعية و لكن في إسقاطات المنمذج الذي يمكن أن يتحدّد بقدرته على إظهار مشاريع النمذجة التي يقدّمها مثلما ذهب إلى ذلك لوموانيو. فعلى المنمذج أن يعبّر عن مقاصده و أن يعرضها قبل أن يقدّم النموذج الذي تخيّله بكلّ حرّية. و حقّ الخيال، هذه الحرّية التي للمنمذج ليست خاضعة لأي قاعدة بل لا يمكن أن نخضعها لأي قاعدة أو قانون imprescriptible و هذا يعني أنّ الذاتية علنية في النمذجة النسقية، و الواقع يتمّ استنتاجه من مقدّمات توضع قبليا بالتجارب و المعارف. و بالتالي فإنّ النمذجة تفتح المجال للإسقاط و الإبداع و المنمذج ينغمس في الوسط و يتخيّل مشاريع الظواهر التي يدرسها. النموذج لا يعكس، إذن، الواقع في كلّيته و إنّما يعكس الواقع كما تمثّله، فالمعطيات الخبرية أو الافتراضية تعطي للنموذج دلالته أو تقتضي تعديله، فعلاقة النموذج بالواقع ليست علاقة تطابق و إنّما هي علاقة تفاعلية تتحدّد بالملاءمة، لذلك يُشترط أن يكون النموذج مرنا قابلا للتعديل، و ثريا قابلا للتحوّل من كونه نموذجا خاصّا إلى كونه نموذجا شاملا لأكثر من نسق و بالتالي عام، و تتحدّد صلاحيته التجريبية إمّا بتجارب قياسية عبر التمثّل الاصطناعي في الواقع الافتراضي و إمّا بتجربته في الواقع الفعلي.
البعد التداولي للنمذجة النسقية:
لنذكّر بأنّ النمذجة النسقية ليست إلاّ منهج تمثّل إجرائي له غايات عملية, منهجا ينطلق من مسلّمة تقرّ بعدم إمكان إنتاج معرفة كاملة و أنّ هذه التمثّلات التي تنتجها النمذجة لا يمكن أن نقول عنها أنّها صادقة أو كاذبة بل هي فقط تمثّلات ناجعة للفعل المستقبلي بما أنّها تمكّن من تحقيق ضرب من التوقّع و إلاّ لما كانت هذه التمثّلات ناجعة. و هذا يعني أنّ ضروب تطوّر الأنساق المركّبة تقطع مع النموذج الميكانيكي للنمذجة التحليلية, ذلك أنّ النموذج الميكانيكي يتحرّك في مستوى حتمي في حين أنّ الأنساق المركّبة تتحرّك في مستوى لا حتمي. فمنذ الثورة العلمية الثانية التي حقّقها اينشتاين في الفيزياء، نحن نعلم جيّدا أنّ الواقع التجريبي يعبّر عن تسلسل خفي للظواهر المواضيع مرتبط بالفضاء ـ زمان L'espace-temps، و لكن هذه الظواهر تبدو مستقلّة عن بعضها في بناء لغات الوصف في أفق مصورن، ذلك أنّ المنطق الصوري في شكله الرياضي مؤسّس على مبدأ الحتمية الذي يقرّ بأنّ حالة الظاهرة في الزمن "ز" المعطى، تحدّد حالة الظاهرة في الزمن "ز + 1" و هذا المبدأ هو ذاته شكل مهذّب للحتمية باعتبارها قانونا سببيّا و الذي يقرّ أسبقية السبب على النتيجة. و لكن يجب أن نلاحظ أنّنا لا نستطيع أن نغمض أعيننا على الضغوطات الفيزيائية، و ربّما حتّى الكسموفيزيائية لمعالجة جيّدة لضغوطات علوم التصوّر. فاكتشاف الكون في علوم التصوّر يقتضي تصوّر سببية خطيّة و متعدّدة في ذات الوقت بالشكل الذي يجعل ممكنا تصوّر عدّة أسباب: التدبير، الاضطرابات التي تصدر عن المحيط،، الضغوطات المختلفة، التعديلات... لتحديد حالات مرتبطة بالحالات المراد تحقيقها، و ذلك للتقليل من الفوارق بين هذه الحالات، و بناء رابط بين المنطقي و الخبري أي بين المبرّرات القبلية بما هي « المماثلة المؤسّسة علميّا بين الوضعية الطبيعية و النموذج»، و المبرّرات البعديّة بما هي «المجابهة التجريبيّة»، كما يعبّر عن ذلك روني طوم R.Thom. و هكذا فإنّ تعدّد الأسباب في اشتغال نسق آلي يولّد أيضا نتائج ارتجاعية تساهم في فعالية النسق. و التكامل بين ما يتعلّق بالمستوى القانوني التركيبي و ما يتعلق بديناميكية قرينة (Contexte) المعرفة و الفعل للوظيفة الدلالية، يساهم هنا في وظيفة التحويل الموحّدة للتجريد و فكّ شفرة التجريد. و الفوارق بين المعطيات الخبرية و المعطيات المنطقية الصورية تحيل بالتناسب إلى تأويلات مختلفة للسيرورات التماثلية (المُحتوَى) و إلى تأويلات ترتبط بالمنطق الصوري (المحتوِي). و من هذا المنطلق فإنّ التشنّج، لاستعارة عبارة E.Morin، بين المُحتوَى / المحتوِي الذي يسعى إلى إظهاره الحكم ألتأليفي الذي يقارب كلّ ما نستطيع تمثّله بطريقة مباشرة، و ما يظهره الحكم التحليلي يتضمّن تثبّت و إمكانية دحض، صرامة، كمال، و  مراقبة... و هكذا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار درجة التركيب اللامتناهية للظواهر المدروسة حتّى نتمكّن من نمذجتها بواسطة المقتضيات المنطقية و التماثلية و الخبرية التي تستجيب لشروط العلمية, و من هذا المنطلق فإنّ النموذج باعتباره تمثّل مجرّد للواقع من جهة كونه يبسط هذا الواقع لفعل معيّن فيه و لا يبقى إلاّ على الخصائص الهامّة بالنسبة إلى السياق الذي تتحرّك فيه غاية الفعل، يجعل من النموذج نظرة ذاتية حول الواقع تمكّن من تمثيل اصطناعي للنسق المدروس. ذلك أنّ تقنيات ما يسمّى بالواقع الافتراضي « réalité virtuelle » تمكّن المنمذج من الولوج و الفعل و التفاعل في عالم التأليف الذي يكوّنه الحاسوب، لأنّ مفهوم الواقع الافتراضي يتضمّن ثلاث معاني:
- الانغماس « Immersion »
- التفاعل « Interaction »
- الإبحار « Navigation »
و الانغماس يعني أنّ الفرد ينغمس كلّيا في الصورة بواسطة خوذة تسترجع رؤية مجسادية Vision stéréoscopique, أي صورة ثلاثية الأبعاد. أمّا التفاعل فانّه يعبّر على قدرة اصطناع و تحويل الصورة في الزمن الواقعي. و أخيرا يقتضي الإبحار الوجود في عالم افتراضي و تحقيق لقاءات بفضل منظومة التحكّم في التواصل عن بعد. و تطبيقات الواقع الافتراضي ترتبط أوّلا بالفعل التحكّمي الذي يمكن من التدخل في الأماكن البعيدة أو الأماكن التي لا يستطيع الإنسان الولوج إليها مباشرة أو حتى الأماكن الخطيرة. و النمذجة تستخدم تقنيات الواقع الافتراضي لتعويض التجارب المكلفة أو التي لا نستطيع إنجازها فعليّا في الواقع، لذلك تقدم هذه التقنية سندا في عملية التثبّت من ملاءمة النموذج للنسق المدروس خاصّة و أنّ الاصطناع الذي يستخدم برمجيات معلوماتية متطوّرة يمكّن من دراسة ردود نموذج النسق المتطوّر، إذ يتعلّق الأمر بأداة تثبّت حيث ننطلق من الوصف البنيوي و الوظيفي للنسق الذي نريد اصطناعه و المتغيّر الذي نريد تطبيقه على مداخل النسق، و البرمجية المعلوماتية تمكّن من حساب تطوّر النسق و تمدّ المنمذج بالنتائج التي تعبّر عن نشاطه. و هذا يعني أنّ دراسة النموذج وفق التمثيل الاصطناعي تعوّض أساسا التجارب المكلفة على التصاميم، لذلك يقول "رونيه توم" « بموجب التكلفة الباهضة للتجريب يكون علينا أن نستنجد بنماذج مبرّرة ماقبليّا تبريرا جيّدا ». و بالتالي يجب على المنمذج أن يحقّق معرفة معمّقة باشتغال الأنساق التي يسعى إلى اصطناعها حتّى يتمكّن من الحكم على حدود اشتغال النتائج التي يتحصّل عليها. و الصعوبة الجوهرية التي تعترض المنمذج في عملية التمثيل الاصطناعي تتمثل في تحقيق شرطين متعارضين, فمن جهة يجب أن يكون النموذج دقيقا لتحقيق نتيجة تعكس أحسن ما يمكن الواقع و من جهة ثانية يجب أن يكون النموذج على غاية البساطة الممكنة لنقلّل أكثر ما يمكن من العمليات الحسابية. و من هذا المنطلق يرى نوال مولود Noël Mouloud أنّ استخدام النماذج هو مساعدة إضافية لخدمة غايات معرفية، ناهيك أنّ كلّ المختّصين في مناهج العلم المختلفة يتحدّثون عن النماذج باعتبارها تمكّن من تحقيقات أمثل، و يتحدثّون عن الأدوار المتكاملة التي تلعبها في ما بينها، فالنمذجة تجعل التبسيط ممكنا و لكن تمكّن في نفس الوقت من تناول شامل للموضوع المدروس و بالتالي تمكنّنا من تجاوز الاختزالات الأحادية. فنحن ننمذج لننّسق بين وجهات نظر التفسير في صرامة لا تتماهى و التحجّر، بما أنّه يجب أن تكون النماذج مرنة و قابلة للتعديل لتستجيب لمقتضيات الاختراع و الاكتشاف. و هكذا فإنّ النمذجة لا تخلط بين الحقيقة المدلول عليها والمحتوى الضيّق للتشكيل، وبالتالي تتجنب النمذجة النسقية الدوغمائية التي تنتج عن الخلط بين الموضوع و نموذجه، فالنموذج هو "تخيّل مراقب" Fiction controlée على حدّ عبارة "نوال مولود"، مراقب بنجاح أو فشل التجربة بما أنّ النموذج يخضع لشرط التماسك كأحد معايير البعد التركيبي. و من هذا المنطلق فإنّ غائية النمذجة النسقية تتمثّل في بناء استراتيجيات و تمكّن من إيجاد و من تنظيم نوايا الفعل الممكنة و نتائجها التي لم تكن تخطر على البال و بالتالي تحديد قواعد الفعل. ذلك أنّ النمذجة تنظر في مشروعها من جهة كونه مسارا له فعل و تاريخ. لذلك فإنّ المقاربة التليلوجية Téléologique تمكّن من اكتشاف حلول في المدى القريب و لكن خاصّة في المدى البعيد. و يجب أن نلاحظ أنّ الخصائص التداولية للنموذج والمتمثّلة في قابلية التوظيف و الاستعمال و التعديل و المرونة و الثبات و الإيجابية في الأداء تجعل النموذج قادرا على القيام بوظائف مختلفة نذكر منها ثلاث أساسية:
* وظيفة معرفية:
إذ يمكّن النموذج من تفسير النسق المدروس عبر إبراز بعض خصائصه و ضبط علاقات بين مداخل النسق و مخارجه، فالفهم يمثّل الوسيط بين الهدف القصدي و قوانين بنية المحيط الفيزيائي (طبيعيّا كان أو تجريبيّا) أو المحيط الاصطناعي (أي المنطقي ـ رياضي المطبّق) أو حتّى المحيط الإنساني و هذا الوصف يربط مقاصد المنمذج بالهدف المراد تحقيقه و بقوانين ضغوطات المحيط. وهي قوانين يمكن أن تكون طبيعيّة أو اصطناعيّة أو حتّى سيكوسوسيولوجية.
* وظيفة توقعية:
إذ يمكن النموذج من التنبّؤ بتصرّف النسق المدروس و بردوده في وضعيات لم تجر ملاحظتها انطلاقا من المعرفة الحاصلة حول النسق في وضعية معيّنة، ذلك أنّ التفسير مثلما بين ذلك "ستراوس" ينطوي على ضرب من التوقّع.
* وظيفة اتخاذ القرار:
يوفّر النموذج لصاحب القرار المعطيات الضرورية التي تسمح له بإنارة قرار يهدف إلى الفعل في النسق فيكون القرار ملائما للمشكل المطروح و ما يتّصل به من ضغوطات، إذ لا يجب أن ننسى أن كلّ نموذج هو تمثّل يسمح بمعرفة أو فهم أو تفسير كيفيّة اشتغال النسق المدروس بغاية التحكّم فيه أو الفعل فيه. و إنّ هذه الغاية تضع النموذج في علاقة لا فقط بالمنمذج و لكن أيضا بمن يستعمل النموذج و الفاعلين في النسق المنمذج.
يتعلّق الأمر إذن، في المستوى التداولي، بالنظر إلى النماذج على أنّها وسائل سيطرة و تحكّم وهو ما يعني ارتباط النشاط العلمي بالتقني مثلما بين ذلك "لادريار"، فالنمذجة تفتح على التقنية إذ «تضيف للأنساق الطبيعية أنساقا اصطناعية أو تهب الأنساق الطبيعية خاصّيات جديدة و طابعا مصطنعا». و النماذج التقنية ليست محايدة و إنّما هي متداخلة مع الجيهات العملية و حتّى السياسية التي تحيط بالممارسة العلمية و توجّهها. و البعد التداولي للنمذجة النسقية يؤكّد لنا التحالف بين العلم و المصلحة، التحالف "بين السعي إلى فهم العالم و الرغبة في قولبته" على حدّ عبارة "ايليا بريقوجين" و"ايليزابات ستنجرس"، و يعلن نهائيا براغماتية المعرفة العلمية في البراديغم البنائي.
عن موقع Minerve

هناك تعليق واحد: