تــــمــهــيـــد:
ينتمي
مفهوم الغير إلى مجال الوضع البشري و العلاقات البشرية بمختلف أبعادها الأنطولوجية
(الوجودية) و الفكرية و الوجدانية ممّا يبرز طبيعته الإشكالية. حيث تنشأ هاته الإشكالية
انطلاقا من كونه ذاتا (تشبهني و تختلف عنّي، و من كونه ضروريّا لوجودي بصفتي وعيا)
يختلف عنّي و لكنّه يلتقي معي في هذا الاختلاف بالذات ما دمت أنا بدوري أختلف عنه
فأنا أشبهه في اختلافي. و بهذا المعنى فنحن نتشابه و نختلف عن بعضنا البعض في نفس
الوقت، و على هذا النحو فإنّ علاقتي بالغير علاقة معقّدة و ملتبسة تحمل دلالات
عديدة، حيث يضعنا المعنى الدلالي للغير أمام مجموعة من المفاهيم مثل (المستثنى،
المختلف، المتميّز، المتقابل، المتحوّل، المباين، المنفي، المتعدّد، القريب،
الغريب) هذا و تتّفق معاجم الفلسفة، خصوصا لالاند و بول فولكيي على أنّ للآخر معان
الــمـحـور
الأوّل: وجـــود الــغـيــر
إنّ التفكير في العلاقة الوجودية مع الغير هو تفكير
فلسفي حديث، قائم على أساس وعي الذات لطبيعة العلاقة مع الآخر و هاته العلاقة التي
كانت نتيجة وعي الإنسان بالآخر، حيث أنّه لا وجود لأنا أو وعي على هامش العالم
معزولا عنه على اعتبار أنّ الآخر هو ضرورة أنطولوجية و معرفية و وجدانية. لكن إذا
كان وجود الغير ضروري لكي يتحقّق وعي الذات بذاتها، فما طبيعة الوجود الذي يتمتّع
به الغير بالنسبة للأنا ؟ و هل يمكن الاستغناء عن الغير بوصفه تهديدا للأنا ؟ أم
أنّ وجوده ضروري بالنسبة للأنا ؟ يقدّم الفيلسوف الألماني
مارتن هايدجر ( 1889 ـ 1976) تصوّره حول مسألة وجود الغير
و معنى الوجود الإنساني في العالم باعتبار أنّ حضور الغير في علاقته بالأنا هو إفراغ
للذات من خصوصيتها و كينونتها الفردية التي تميّزها عن ذات أخرى و تذيب كلّ
الاختلافات و التمايزات التي تفقد الشخص هويّته التي تميّزه في الحياة اليوميّة
المشتركة مع الناس. فوجود الغير في علاقته بالأنا هو تهديد لهذا الموجود الذي يفقد
الذات خصوصياتها فتتيه في عالم أشبه بتوأم مشابه لطبيعتها. و يعكس موقف الفيلسوف
الفرنسي جون بول سارتر (1905 ـ 1980) في كتابه "الوجود و العدم" من مسألة وجود الغير بالنسبة
للأنا انطلاقا من التصوّر الوجودي للغير الذي يتمثّل في كون هذا الوجود يجعل الأنا
أمام مفارقة مزدوجة على اعتبار أنّ هذا الوجود بالنسبة للأنا هو وجود سلبي يحدّ من
حرّية الأنا و يشلّ إمكاناتها الذاتية من خلال نظرة الغير إليها التي تشيّئها و
تسلبها حرّيتها و تولّد فيها الخجل كشعور غير مباشر و كعلاقة باطنية بين الأنا و
ذاته باعتبار الغير هو الوسيط بينهما.
و
في نفس الوقت، فإنّ وجود الغير بالنسبة للأنا هو شرط ضروري لإدراك الأنا كوعي و
تحقيق الوعي بالذات الذي يمرّ عبر الآخر باعتباره حرّية. هذا و يؤكّد الفيلسوف
الألماني ادموند هوسرل
(1838
ـ 1859) على ضرورة حضور الغير انطلاقا من فكرة "القصديّة" التي تقوم على
نقيض ما تمّ بناؤه في الفلسفة الحديثة أي في اعتبار أنّ الذات المفكّرة هي التي
تجعل الإنسان يعي ذاته بمعزل عن العالم الخارجي و عن الآخر. لكن، هاته العزلة
سرعان ما ستضمحل بعد بروز فكرة القصديّة: " عندما أفكّر فأنا أفكّر في شيء ما "
أي من خلال وعي الذات بشيء ما. غير أنّ هذا الوعي بوجود الغير هو وجود مزدوج، ذلك
أنّ إدراك الآخر يكون باعتباره موضوعا للعالم لا بوصفه شيئا من الأشياء الطبيعية.
و كذا حضور الغير كذات تدرك العالم من خلال تجربتها في العالم المعيش و تجربة
الآخرين يجعل من فعل الوجود ضرورة مشروطة و خاصّة لكلّ واحد منّا. كما يذهب
الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي
(1908 ـ 1961) على بلورة التصوّر الفينومولوجي لوجود الغير و الذي يتمثّل في كون
هذا الوجود هو وجود مستقلّ و وعي لذاته و لا يمكن اعتباره موضوعا أو شيئا كباقي
الأشياء الطبيعية الأخرى. فوجود الغير وجود مزدوج، فهو وجود في ذاته من حيث كونه
كجسد و كموضوع للعلوم. و في نفس الوقت فهو وجود لذاته أي كوعي خالص يواجهه الأنا.
و لهذا لا بدّ من عملية متناقضة من أجل إدراك الغير إذ لا يتحقّق الوجود الإنساني
الفردي (الأنا) و الجماعي (هم) إلاّ بحضور مادي أو رمزي لذوات إنسانية تنشأ بينها
علاقات مركّبة و متداخلة. و يدعو كلّ من الفيلسوف جيل
دولوز (1925ـ 1995) و فيلكس
غثاري (1930 ـ 1992) حول مسألة وجود الغير إلى
تجاوز التصوّر الكلاسيكي الذي تبلور مع الفيلسوف الفرنسي رونيه
ديكارت و الذي يرجع الماهية الإنسانية إلى الذات
المفكّرة باعتبار التفكير دليل على وجودها. و هذا التفكير في الذات يمكن الإنسان
من الوعي بوجوده بمعزل عن العالم الخارجي و عن الآخر. ليتجاوز كلّ من الفيلسوفين
هذا الموقف من خلال اعتبار أنّ وجود الغير بالنسبة للأنا لا يشكّل أنا آخر من حيث
هو مخالف لطبيعة الأنا، و إنّما بوصفه عالما ممكنا لا يظهر من خلاله الغير كذات أو
كموضوع و إنّما يظهر بوصفه عالما لم يتحقّق في بعده الواقعي. لكن رغم ذلك فهو عالم
معبّر عنه من خلال لغة معبّر عنها تمنح صفة الوجود لهذا العالم الممكن لينفتح أمام
الذات و ينكشف هذا الآخر للأنا و ذلك بالتعبير عنه بلغة واقعية تجسّد حقيقة هذا
الآخر و تجعل من عالمه الممكن عالما قائم الذات. و على ضوء هاته المواقف نخلص إلى
أنّ مسألة وجود الغير بالنسبة للأنا هي مسألة لا تنحصر في علاقة شيئيّة بين ذات و
موضوع و إنّما هي علاقة تسعى إلى فهم الذات لذاتها، و لهذا فإنّ معرفة الذات
لذاتها تمرّ عبر معرفة الآخر. لكن، السؤال الذي يطرح هنا هو: هل الغير قابل
للمعرفة ؟
المـحـور
الـثـانـي: مـعـرفـة الـغـيـر
تطرح
معرفة الغير إشكالية تتمثّل في ثنائية الذات و الغير، هذه الثنائية تشكّل علاقة
"ابستيمية" بين طرفين، أحدهما يمثّل الذات العارفة و الآخر يمثّل موضوع
المعرفة، و هذه الثنائية تضفي طابعا إشكاليا على الموضوع من خلال أنّه إذا كان
الغير موجودا، فهل هناك إمكانية لمعرفته ؟ و إذا كانت معرفته ممكنة، فهل تتمّ معه
بصفته ذاتا واعية و حرّة ؟ أم يتحوّل إلى موضوع خارجي أو شيء من الأشياء ؟ و هل
يمكن الاستغناء عن الغير و العيش في عزلة مطلقة ؟ يقدّم الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر تصوّره
حول العلاقة بين الأنا و الآخر كما تتجلّى في مختلف مظاهر الحياة المعيشة
(النظرة، الحبّ...) على أنّها علاقة صراع تدور
حول الموضعة، و تتجلّى خاصّية الصراع في أنّني أحاول أن أدرك الآخر كموضوع أشيّئه
و أفقده بالتالي إمكاناته و حرّياته. و حين أنظر إليه كذات يشيّئني و يفقدني حرّيتي.
و يظهر الوصف الذي قام به سارتر بمختلف مظاهر الحياة المعيشة، أنّني أعجز عن النظر إلى
الآخر كذات و كموضوع في نفس الوقت. و بالتالي يظهر أنّ الوضعية التي أعترف فيها
بحرّية الآخر هي وضعية مستحيلة على اعتبار أنّ وعي الآخر كوعي حرّ هو وعي يوجد
خارج قدراتي المعرفية و يحمل تناقضا و استحالة. و على العكس من ذلك يذهب الفيلسوف
الفرنسي موريس ميرلوبونتي
إلى أنّه لا يجب أن ننظر إلى علاقة الأنا بالآخر و كأنّها تتلخّص في صراع حول
الموضعة. بل يجب أن ننظر إليها على أنّها علاقة تواصل الشيء الذي ينفي العلاقة
المعرفية الموضوعية التشيّئية التي هي نتيجة للنظر من موقع الأنا أفكر أو العقل في
نشاطه القائم على التجريد و التقييم ... و هذه الوضعية يمكن تجاوزها عندما يدخل
الأنا و الغير في علاقة اعتراف متبادل كلّ منهما في فرديّته و وعيه و حرّيته، و
يحضر التواصل حتّى في حالة اللاتواصل لأنّ غياب التواصل هو تواصل ممكن. و يعتبر
الفيلسوف الألماني ادموند هوسرل أنّ
هناك إمكانية لمعرفة الغير، بحيث ترتبط الذات بالغير من خلال المجال المشترك الذي
يسمّى العالم. و هذا العالم توجد فيه الذات كما يوجد فيه الغير، فإدراك الذات لهذا
العالم هو إدراك لهذا الغير الذي يوجد فيه. و ما دام العالم يتشكّل من هذه الذوات
و يتأسّس عليها، فإنّ إدراكي لها ليس إدراكا معزولا ناتجا عن نشاط فكري أو ذاتي
تكون الذات في غنى عمّا يمكن أن يقدّمه الغير من تصوّرات. فتصوّر العالم هو تركيب
لمجموع التصوّرات، و تفاعل الذوات فيما بينها. كما لا يمكن أن نتحدّث عن عزلة فكريّة
و عن عدم القدرة على معرفة الغير ما دمنا نساهم في إنتاج العالم و تشكيل معالمه، و
يظهر الغير في العالم و كأنّ له القدرة على التحكّم في تصرّفاته و انفعالاته،
بمعنى أنّ هناك علاقة بين ما هو نفسي و ما هو جسمي، فالنفسي له القدرة على التحكّم
في الجسم و ضبطه لهذا الجسم الذي يخرج ما هو نفسي إلى الوجود و الظهور لا يكون
مرتبطا بالذات أو الغير، بل يكون مرتبطا بالعالم و يمكن من معرفة هذا الغير و فهم
القصد من تصرّفاته و أفعاله، و هذا ما تفسرّه تجربة
" النحن" القائمة على مفهوم "
البينذاتية" . لكن، هذه المعرفة تطرح مع الفيلسوف
الفرنسي مالبرانش (1638
ـ 1715) صعوبة معرفة الغير على اعتبار أنّها تخمين أو ضرب من الظنّ يوهمنا بأنّنا
نستطيع الوقوف على حقيقة الغير و معرفته، هذه المعرفة التخمينية يمكن إدراجها في مسألة
الإمكان، و بذلك تكون لدينا عدّة خيارات و إمكانات لمعرفة الغير. و لا يمكن تصنيف
هذا الغير ضمن إمكانية واحدة و إقصاء الأخرى، و إلاّ ستكون معرفة الغير حقيقية و
ضرورية. و هذه الإمكانات قد يندرج ضمنها الغير و قد يخرج عنها، و دخوله تحتها أو
خروجه عنها يدخل ضمن هذا التخمين. و لذلك تبقى الوسيلة الوحيدة لمعرفة الغير هي
إخضاعه لمقتضى الذات و ما تعرفه هي عن ذاتها. و بالتالي " فأنا أطلق الحكم
بأنّ الآخرين يشبهونني" لكن، عندما "يحدث في جسمي انفعال من الانفعالات
فأنا أخطئ دائما إذا ما حكمت على الآخرين من خلال ذاتي". لذلك فكلّ تقييم أو
تصنيف للغير يكون منطلقه الذات يكون معرّضا للخطأ و من تمّ القصور و عدم خضوع
الغير للمعرفة الذاتية دليل على أنّه يرفض القيود و الاكتشاف، لأنّه كائن مجهول
يتستّر وراء حجاب خاصّ هو الأنا الذي نجهله و يجهله كلّ واحد منّا. و يرى الفيلسوف
الفرنسي غاستون بيرجي (1859
ـ 1960) أنّ الذات تشكّل عالما فريدا من نوعه في استقلال و انفصال عن الغير، إذ لا
يمكن سبر أحدهما أغوار الآخر رغم حضورهما معا. و هذا الحضور لا يكون إلاّ للجسد أو
للجسم. لكن، عقلي و تفكيري غائب عن هذا الحضور، يتوارى وراء حجب اللانكشاف و اللاظهور.
فكلّ ما تمرّ به الذات لا يمكن للغير أن يشاركني فيه بنفس الدرجة و المقدار، إلاّ
أنّه قادر على الإحساس و التعاطف، بمعنى أنّ هناك انغلاق الذات على ذاتها ممّا
يجعل معرفة الأنا للغير و معرفة الغير للأنا مستحيلة بفضل هذه الحواجز و العوائق
التي تنصبّها الذات أمام الغير تجعلها ذاتا مبهمة تستعصي على المعرفة و الإدراك، و
لأنّها تنفلت من كلّ تحديد و تصنيف تجد نفسها طليقة القيود لا تخضع إلى أي قابليّة
للموضعة. على ضوء المواقف السالفة الذكر يمكن استخلاص أنّه من الممكن تجاوز هذه
المفارقات التي تطرحها معرفة الغير بسبب حمولتها الميتافيزيقية (ثنائية الذات و
الموضوع) و ذلك بالنظر إلى الغير ككلّية و وحدة لا تقبل التجزئة و الانشطار، أي
النظر إليه كبنية. و من هذا المنظور لم يعد الغير شخصا، أو فردا معيّنا، بل هو نسق
أو نظام يحكم العلاقات و التفاعلات بين الأشخاص و الأفراد، لكن على أي أساس تنبني
علاقة الأنا بالغير ؟
الــمـحـور
الـثـالـث: عــلاقــة الأنــا بـالـغـيـر
لا
شكّ أنّ علاقة الأنا بالغير أغنى و أعقد من أن تختزل إلى علاقة معرفة. فهي في
الواقع الفعلي علاقة مركّبة تختلف و تتنوّع تبعا لأوجه الغير كما يتجلّى ذلك في
الكلمات التي تنضوي تحت لواء العلاقة بالآخر، مثل: الصداقة، الغرابة، الصراع،
الإيثار، الاشتراك
..
من هنا تنبثق الإشكالية الفلسفية لعلاقة الأنا بالغير، و
هي إشكالية يمكن صياغتها من خلال الأسئلة التالية: ما طبيعة العلاقة التي تربطني
بالغير ؟ هل هي علاقة محبّة و احترام، أم علاقة نبذ و إقصاء ؟ و ما هي الشروط التي
يمكن أن تجعل هذا النوع من العلاقة ممكنا ؟ و علي أي أساس تنبني هذه العلاقة ؟
يعتبر أرسطو (384
ـ 322 ق.م) أنّ ماهية العلاقة التي تربط الإنسان بالآخرين هي الصداقة على اعتبار
أنّ هذه الأخيرة "ضرب من الفضيلة أو على الأقلّ إنّها دائما محفوفة بالفضيلة
" و علاوة على أنّ الصداقة جميلة و
شريفة فهي إحدى الحاجات الضرورية للحياة، إذ لا أحد يقبل أن يعيش بدون أصدقاء. و
يذهب الفيلسوف إلى القول:" بأنّ الصداقة هي رابطة الممالك و أنّ المشرّعين
يشتغلون بها أكثر من اشتغالهم بالعدل نفسه"، و نفهم من هذه القولة أنّ تحقيق
الانسجام و التوافق داخل المجتمع شبيه بالصداقة. بل إنّ قيام الصداقة الحقّة (صداقة
الفضيلة) بين الناس تجعلهم في غنى عن العدالة و
القوانين. أمّا ايمانويل كانط (1724
ـ 1804) فيعرّف الصداقة بالقول:"
الصداقة في صورتها المثلى هي اتّحاد بين شخصين يتبادلان نفس مشاعر الحبّ و
الاحترام". بهذا المعنى تكون الصداقة عبارة عن مثال للتعاطف و التواصل بين
الأنا و الغير، إلاّ أنّ قبول هذا المثال لا يضمن سعادة الإنسان، و إنّما يؤهّله
للبحث عن السّعادة ما دامت الصداقة تمثّل واجبا عقليا يجب الخضوع له بكل احترام. و
غاية الصداقة في نهاية المطاف هي تحقيق خير الصديقين اللذين جمعت بينهما إرادة
أخلاقية طيّبة بشرط أن تقوم هذه الصداقة على أساس أخلاقي خالص. لكن، هل بإمكان
قيام المجتمع على الصداقة في وجود الغير البعيد أو الغريب ؟ غالبا ما تلجأ الجماعة
إلى تدمير الغريب عنها، أو إلى إقصائه و تهميشه كونه يهدّد تماسكها و وحدتها، و من
هنا كانت ضرورة القضاء عليه لاستعادة توازنها و استقرارها. بيد أنّ وحدة الجماعة
في نظر جوليا كريستيفا (1941
ـ ...) ليست في الحقيقة سوى مظهر عام، عندما ندقّق فيها ينكشف لنا أنّ الجماعة بحكم
اختلافاتها و تناقضاتها الداخلية تحمل غريبا في ذاتها، و بالتالي ليس المختلف عنّا
" هو ذلك الدخيل المسؤول عن شرور المدينة كلّها... و لا ذلك العدوّ الذي يتعيّن
القضاء عليه لإعادة السلم إلى الجماعة ". إنّ الغريب على حدّ تعبير جوليا
كريستيفا "يسكننا على نحو غريب". إذا كان
الأمر كذلك فما هو الموقف الطبيعي الذي ينبغي أن يتّخذ من الغير البعيد ؟ يرى
الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي أنّ
الموقف الطبيعي الذي ينبغي أن يتّخذ من الآخر المخالف للذات ليس هو موقف النبذ و
الإقصاء بل مدّ جسور التواصل معه و عدم اعتباره موضوعا قابلا للإقصاء و التشيّؤ ،
و فتح قنوات الحوار مع الغير لا يتمّ إلاّ إذا خرج كلّ من الأنا و الأنا الآخر من
طبيعته المفكّرة، و جعل نظرتا بعضهما للبعض نظرة إنسانيّة أساسها القبول و تفهم
أفعال بعضهما البعض. و يذهب مؤسّس الفلسفة الوضعية أوغست
كونت (1798 ـ 1857) إلى اختزال كلّ الأخلاق الإنسانيّة في
فكرة واحدة هي أن يحيا الإنسان من أجل غيره، لأنّ الحياة من أجل الغير تمنح
الوسيلة الوحيدة لتطوير كلّ الوجود البشري بحرّية، انطلاقا من دوافع التعاطف
الإنساني التي تجعل كلّ فرد من أفراد المجتمع يتلقّى مساعدة من طرف الآخرين، مقابل
كبح ميولاته الشخصيّة و الأنانية. و الغاية التي تنشدها الفلسفة الوضعية هي تهذيب
الغريزة البشرية الكونية و تسييجها. أمّا مارتن
هايدجر فينظر إلى علاقة الأنا بالغير باعتبارها
علاقة اشتراك بين الذوات، لأنّ العالم الذي أوجد فيه هو دائما العالم الذي أتقاسمه
مع الآخرين. فالآخرين هم بالأحرى الكائنات التي لا تتميّز عن ذواتنا و نكون
موجودين بينها. و هذا الاشتراك يدلّ على وضعية الإنسان في العالم من خلال تجربته
في الحياة، و من خلال علاقته بالكائنات البشرية الأخرى. ضدّا على المواقف السابقة
يقدّم ألكسندر كوجيف (1902
ـ 1968) موقف هيجل
من علاقة الذات بالآخر و التي تقوم في نظره على الصراع من أجل نيل الاعتراف و فرض
الهيمنة. بحيث يخاطر الطرفان في هذا الصراع بحياتهما حتّى الموت، و لكن الموت
الفعلي لا يحقّق هذا الاعتراف و إنّما يحقّق استسلام أحد الطرفين بتفضيله الحياة
على الموت. فيعترف للأنا بالآخر دون أن يعترف الآخر به، أي الاعتراف بالآخر كسيّد
و الاعتراف بالذات كعبد لذلك السيّد. و من هنا نشأت العلاقة الإنسانية الأولى، علاقة
السيّد بالعبد. و بالجملة، كيف ما كانت علاقة الأنا بالغير (صداقة،
غرابة، إيثار، تواصل، اشتراك بين الذوات، صراع...) فهي تراهن على ما هو أبعد و
أشمل في الإنسان، إنّها تراهن على وجوده الإنساني الكوني الذي يتحوّل فيه البعيد
إلى قريب
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق