محمد
القرمطي: )قاصّ من سلطنة عمان(
هذا الكتاب لمؤلّفه الدكتور شاكر
عبدالحميد ليس دراسة
تاريخية لتطوّر مفهوم و أدوات التعاطي مع علم الجماليات و تفضيلاته فقط، و إنّما
هو بمثابة فتح النوافذ الداخلية (جوّا نية) النفس كي نصل إلى الحدود القصوى من
المتعـة و الانتشاء بالطبيعـة و الكـون و أنفسنا، و التأمّل الجمالي و التطّهر من
الخراب و الأعطاب التي تصيب النفس البشريّة جرّاء تراكمات صدأ الحياة اليوميّة.
لقد بذل المؤلّف جهدا كبيـرا في استقصاء معنى و مفهـوم المصطلح الذي يتعامل معه
مثل استقصائه للمعلومـة و تطـوّرها و مسارها التاريخي. كما بذل الجهد الكبير أيضا
في تتبّـع مفهوم التفضيل الجمالي و علاقته بالعلـوم الإنسانية المختلفـة، فلسفيّا،
أدبيّا، فنّيا، تربويّا، و غير ذلك. خصّص المؤّلف الفصل الأوّل للجمـال و مفاهيمه.
و استعـرض من خلاله بعض المفاهيم و المقولات عن الجمال في الحقبة
اليونانية و التي كانت
تدور معظمها حول الإدراك الحسّي أو الحسّ الجمالي عن طريق الحواسّ أو الانسجام بين
الأشياء أو ربطه بالأخلاق و الخير و الشرّ في محاولة للإجابة على سؤال: "ما الجمال ؟".
و يشير المؤلّف إلى أنّ أولى
الصياغات المنتظمة هي تلك التي قدمها "بيرك"
عام 1775م حول الجمال حين قال بأنّه "الانفعال
الذي يجيش في صدورنا". يصف المؤلّف الحالة الجمالية في أحد
شروحاته (و الجمال ليس متعلّقا بالشكل المنفصل أو المنعزل عن مضمونه، لكّنه
يتعلّق بالتركيب الخاصّ للمستويات المتنوّعة من المعنى و التأثير الشامل، و الإحساس
الشامل بالحياة في تألّقها و تدفّقها الدائمين). أمّا في تعريف
علم الجمال معجميّا، يرى المؤلّف أنذ تعريف قاموس "ويبستر"
لعلم الجمال هو أكثر دقّة من بعض التعاريف الأخرى، وهو " المجال
الذي يتعامل مع وصف الظواهر الفنّية و الخبرة الجمالية و تفسيرها".
لكن المفهوم الذي يفضّله المؤلّف عن مصطلح علم الجمال هو ذلك المفهوم المستنبط من
نظرية الفيلسوف "بيردسلي" و الذي
يرى أنّ علم جمال هو علم بيني تقوم من خلاله فروع معرفيّة عدّة - كلّ بطريقته و مناهجه
و مفاهيمه الخاصّة - بدراسة تلك المنطقة
المشتركة المتعلّقة بالخبرة أو الاستجابة الجماليّة، بكلّ ما تشتمل عليه هذه
الخبرة أو الاستجابة من جوانب حسّية و إدراكيّة و انفعاليّة و معرفيّة و اجتماعيّة.
و نظرا لارتباط علم الجمال بالفنون و الآداب ارتباطا قوّيا، فإنّ المؤلّف سعى إلى
استقصاء مفاهيم الفنون عبر تاريخ تطوّر رؤية الفنّ و مفهومه، فهو يرى أنّ جمال
العمل الفنّي لا يكمن - كما أشار "جومبريتش"-
في جمال موضوعه، بل في جمال أسلوب التعبير عن هذا الموضوع. و يضيف في تعريف الفنّ:
أنّه ليس هناك ما يمنع من أن تكون علاقتي بالموضوع الجمالي عموما، و الفنّي خصوصا،
ليست من قبيل "الكلّ أو لا شيء"
أي أن تكون علاقتنا بالموضوعات الجميلة عموما، و الفنّية خصوصا، علاقة منزّهة عن
الغرض فقط، ثمّ تستبعد حالات أو أنواع العلاقات الأخرى معها. يؤكّد المؤلّف على
العلاقة التي بيننا – متلقّين - و الأعمال
الفنّية ـ الإبداع ـ ليست علاقة واحدة فقط
هي العلاقة الجمالية، أو علاقة الاستمتاع و التأمّل على مسافة معيّنة فقط، بل هي
في جوهرها، علاقة موقفيّة تعتمد على "طبيعة التفاعل"، بيننا و بين العمل
الفنّي في "موقف معيّن"، و هذه خاصّية لا تعمل ضدّ الفنّ بل تعمل معه، و
كلّما كان العمل الفنّي قادرا على النشاط و التأثير في مواقف متعدّدة، تعدّدت
تفسيراته و تأويلاته و مستوياته، و كان هذا العمل أكثر خصوبة و ثراء. رغم كلّ
الآراء و الاتّجاهات لتعريف الفنّ أو فهمه فإنّنا نقع في حيرة عند محاولة الاقتناع
أو التمسّح بمفهوم واحد على حساب الآخر، حين تتجلّى التعريفات عن مفاهيم مبتسرة. و
نحن نشارك المؤلّف هذه الحيرة حيث يقول: إنّ الفنّ ظاهرة يصعب تعريفها حقّا،
فأحيانا لا تكون هناك حدود واضحة بين ما يمكن اعتباره فنّا و ما لا يمكن اعتباره
فنّا، و ما قد نعتبره اليوم فنّا قد لا يصبح كذلك في فترة أخرى وفقا للاهتمامات
الشائعة و الأيديولوجيا و أساليب الحياة التي يعتمدها الناس أكثر في حياتهم. رصد الدكتور
شاكر عبدالحميد المصطلحات و تطوّرها و دلالاتها عبر تتبّعه لتشكّل
المصطلحات تاريخيّا و عبر الاتّجاهات المختلفة التي تعاملت معها حسب تخصّصها.
لذا استخدم المؤلّف مصطلح
"التفضيل الجمالي" لما للإنسان من دور بشكل إرادي أو لا إرادي باختيارات
جمالية في حياته اليوميّة و العمليّة. و يرى أنّ التفضيل الجمالي هو نوع الاتّجاه
الذي يتمثّل في نزعة سلوكيّة عامّة لدى المرء تجعله يحبّ، (أو يقبل على أو ينجذب
نحو) فئة معيّنة من أعمال الفنّ دون غيرها. وهو يشير عموما إلى أنّ عمليّة التذوّق
و ما يصاحبها من حساسية و أحكام جمالية و تفضيل جمالي عمليّة تتغيّر متأثّرة
بالخبرة سواء على مستوى الفرد، أو على مستوى الجماعة، و أنّ هذا التغيّر قد يكون
نحو الأفضل، أو نحو الأسوأ اعتمادا على النماذج الجماليّة التي يتعرّض المرء لها،
و اعتمادا على الأذواق السائدة في المجتمع، و على عمليّات أخرى كثيرة بعضها تربوي،
و بعضها اجتماعي، و بعضها إعلامي. و يمكن تعريف الخبرة الجمالية على أنّها حالة
معيّنة من الاندماج مع مثير أو موضوع جمالي، لا لسبب إلاّ مواصلة التفاعل معه،
نتيجة ما نشعر به من متعة و اكتشاف و ارتياح أو قلق، بتأثير من هذا التفاعل. من
خلال استعراض مناطق الخبرة الجمالية مثل المتعة و التقمّص و المسافة النفسيّة،
مرورا بأبرز روّاد هذه الأساليب في التفضيل الجمالي، يستخلص الدكتور
شاكر عبدالحميد حالة الخبرة الجماليّة على أنّها حالة من التفاعل الجدلي و الحركة
البيندولية بين الاقتراب (أو التقمّص أو الاندماج) و الابتعاد (أو المسافة). بهذا
قدّم لنا الدكتور شاكر عبدالحميد مفاتيح
الولوج إلى علم الجماليات و تفضيلاته المختلفة و ذائقته المرهفة. و تطرّق الكتاب
إلى أنّ الاهتمام المنظّم بالفنّ و الجمال يعود إلى بدايات الفلسفة اليونانيّة
عامة، و إلى أفلاطون وأرسطو
خاصّة. فبينما أكّد أفلاطون على أنّ
المحاكاة الفنّية، و بخاصة في التراجيديا و الشعر التراجيدي، تعمل على تأجيج
الانفعالات القوّية، و تضلّل الباحث عن الحقيقة فتبعده عنها، فإنّ أرسطو
قال: إنّ الفنون عموما لها قيمتها العالية، لأنّها تصحّح النقائص الموجودة في
الطبيعة، و أنّ الدراما و التراجيديا خصوصا لها أهميّتها لأنّ لها إسهامها
الإيجابي في التطهّر من الانفعالات السلبيّة المتطرّفة، و من ثمّ تقوم بدور أخلاقي
إيجابي. و التراجيديا في رأيه كذلك وسيلة للوصول إلى المعرفة من خلال عرضها
للحقائق الفلسفية. أمّا بعد ذلك و خلال القرن الثالث الميلادي فقد ربط أفلوطين
في حديثه عن الفيض بين الفنّ و الدين و بين الجمال و الخير، و أكّد أفكار التناسب
و وحدة الأجزاء داخل الكلّ، و انتهى إلى نظرية مثالية صوفية وحّد فيها بين حقيقة
الوجود و الخير و الجمال، و صوّر من خلالها شوق النفس الإنسانية المستمرّ إلى الاتّصال
بهذه الحقيقة المطلقة و التشبّه بها. في العصور الوسطى تحوّل الاهتمام من القضايا
الميتافيزيقية إلى القضايا المنطقية و اللاهوتية بفعل التأثير الطاغي للكنيسة
حينئذ، و أصبحت الأفكار الجوهرية متعلّقة بالمشكلات الدينيّة، بينما صارت قضايا
الفنّ قضايا فرعية، و تناقش في ضوء التصوّرات الدينيّة فقط. و حافظ "الجميل" على مكانته لكنّه كان محاطا
بهالة من القداسة، و قطعت كلّ صلاته القديمة بالفنّ، و تمّ إحلال صلات جديدة بدلا
منها تربطه على نحو وثيق بالمقدّس الديني. حيث ربط القدّيس توما
الأكويني بين الجمال و الحب و الإيمان. و ذلك لأنّ "الجميل" يؤمن
بالحبّ و يثيره في النفس، و الحبّ إذا ارتبط بالإيمان و الصدق يقود نحو الحقيقة.
بعد ذلك أصبح هدف الفنّ هو الجمال، و أصبح الجمال قيمة ترتبط بالنسب المتوافقة أو
المتآلفة التي يتمّ استخلاصها من الكون و العالم ثمّ وضعها في الأعمال الفنّية.
استعرض الكتاب آراء بعض الفلاسفة المنظرّين للفنّ و جمالياته و الذي كان أحدهم "هيوم"
الذي أشار إلى أنّ العديد من خبراتنا يمكن اختزالها إلى ترابطات خاصّة
بين أفكار بسيطة، و أنّ خبراتنا السابقة تلعب دورا مهمّا في عمليّات الترابط هذه،
و أنّ الميول الأخلاقيّة تقوم على أساس مبادئ خاصّة بالتعاطف و الانفعالات الموجّهة
نحو الآخرين.
"هيوم" و معيار الذوق:
أكّد "هيوم"
وجود تنوّعات عدّة من الذوق في العالم، مثلما توجد تنوّعات عدّة للآراء، حتّى فيما
بين الناس الذين عاشوا في المكان نفسه، و خضعوا للأنظمة الاجتماعية و السياسية و التعليمية
نفسها، و هذا صحيح - في رأيه - عبر الأمم و عبر العصور. و توجد داخل كلّ مخلوق،
كما يقول "هيوم"،
جوانب قوّة و جوانب ضعف، كما أنّه يمرّ بحالات من القوّة و الضعف و جوانب أو حالات
قوّة الأعضاء أو الحواسّ فقط هي التي يمكنها أن تمدّنا بمعيار حقيقي للذوق و العاطفة.
و يقول "هيوم"، و على نحو يثير الدهشة، نظرا لقرابة ما
طرحه منذ ما يزيد على مائتي عام، مع كثير من الآراء الحديثة في نظريات القراءة و التأويل
و استجابات القارئ. "إنّ نفس المهارة و البراعة اللتّين تمنحهما الممارسة
للعملية الخاصّة بتنفيذ أي عمل، هما أيضا ما يتمّ اكتسابه بالطريقة نفسها، بالنسبة
للعمليّة الخاصّة بإصدار الأحكام عليه". و كان يرى أنّ
الشيء المهمّ بالنسبة للفنّ هو ملاءمته، أي المتعة التي نستمدّها منه،
و أنّ يتعلّق هذا الفنّ كذلك بانفعالاتنا أو عواطفنا المرتبطة به في المقام الأوّل
قبل أن يكون مرتبطا بالطبيعة الداخلية اللازمة له، و أنّ هذه الانفعالات لا ينبغي
أن تحمل أي مرجعية مباشرة لما يقع خارجها، و أيضا أن تكون حقيقيّة خاصّة عندما
يكون الإنسان واعيا بها، و أنّ التفضيلات الجمالية هي بمنزلة التعبيرات عن ذوق
المتلقّي، أكثر من كونها إفادات عن الموضوع الفنّي. و يجد "هيوم"
في هذا التنوّع الكبير في الأذواق ما يؤكّد وجهة نظره هذه.
"كانط" و حكم الذوق الجمالي:
تمثلّت الخطوة العظيمة لكانط،
مقارنة بالسابقين عليه أو المعاصرين له، في أنّه ذهب إلى ما وراء التحليل الامبيريقي
للإحساس الجمالي، متّجها نحو التحديد الخاصّ لعلم الجمال، باعتباره مجالا خاصّا
للخبرة الإنسانية يماثل في أهميّته و تكامله المجالين الخاصّين بالعقل النظري و العقل
العملي (أي المجال المعرفي و المجال الأخلاقي). و قد جادل "كانط"
قائلا: "إنّ حكم الجمال أو الذوق ينبغي أن يكون شيئا عامّا و صادقا بالضرورة
بالنسبة لكلّ البشر، فإنّ الأساس الخاصّ به لا بدّ أن يكون متطابقا لدى جميع
البشر، لكنّه أشار أيضا إلى أنّ المعرفة هي فقط القابلة للتوصيل، و من ثمّ فإنّ
الشيء الوحيد أو الجانب الوحيد في الخبرة الذي يمكن أن نفترض أنّه مشترك أو عامّ
بين جميع البشر، هو الشكل، و ليس الإحساسات بالتمثيلات العقليّة. و قد اعتبر بعض
الباحثين هذه الفكرة الإرهاص الأوّل للمذهب الشكلاني أو الشكلي المعاصر في الفكر
النقدي و الفنّي المعاصر. بالإضافة إلى ذلك، نظر "كانط"
إلى "الجميل" على أنّه رمز للخير، كما أنّه تصوّر النشاط الجمالي
باعتباره نوعا من اللعب الحرّ للخيال. و تعدّ البهجة الخاصّة بالجميل و الجليل
بهجة خاصّة بالملكات المعرفيّة الخاصّة بالخيال و الحكم، و قد تحرّروا من خضوعهما
للعقل و الفهم، أي تحرّروا من قيود الخطاب المنطقي، و قد أثّرت هذه الفكرة الخاصّة
بحرّية الملكات المعرفية تأثيرا كبيرا فيمن جاء بعد "كانط"
من الفلاسفة الألمان و خاصّة "شلينج"
و "هيجل". إنّ الحكم التأمّلي لا يستمدّ - كما
أشار "كانط" - من الخارج، لأنّه حينئذ سيكون حكما محدّدا
أو معيّنا أو حتميّا أو طبيعيّا، إنّه ينتمي أكثر إلى مملكة الذات و الوجدان و الشعور،
و إليهما ينتمي كذلك الحكم الجمالي. و قد ميّز "كانط"
في "نقد الحكم" بين أربع لحظات أساسيّة أو
حالات أو خصائص أساسيّة لحكم الذوق أو الحكم الجمالي نذكرها بإيجاز فيما يلي:
اللحظة الأولى: حكم الذوق وفقا للكيف:
الخلاصة ـ بالنسبة لهذه اللحظة ـ
هي: الذوق هو ملكة الحكم على موضوع ما أو أسلوب من أساليب التمثيل الداخلي لهذا
الموضوع من خلال الشعور الكلّي المنزّه عن الغرض و الخاص بالارتياح أو عدم
الارتياح. و موضوع مثل هذا الارتياح ـ أو الإشباع ـ هو ما يسمّى بـ "الجميل".
اللحظة الثانية: الحكم على الجميل
وفقا للكمّ:
ينتهي
إلى أنّ: الجميل هو ما يُمتّع بشكل عام (مشترك) دون حاجة إلى وجود مفهوم عقلي محدّد
خاصّ حوله.
اللحظة الثالثة: أحكام الذوق في
ضوء العلاقة الغرضية الخاصّة التي توضع في الاعتبار:
حكم
الذوق حكم غائي، لكنّه حكم غائي بلا غاية، أي حكم بلا غرض عملي محدّد. و النتيجة
هي أنّ: الجمال هو الشكل الخاصّ بغائيّة موضوع ما، و أنّ هذه الغائيّة يتمّ
إدراكها دون أي تمثيل داخلي أو خارجي لغاية معيّنة.
اللحظة الرابعة: الحكم على الجميل
في ضوء الجهة الخاصّة بالرضا أو الإشباع الخاصّ بالموضوع
(أي من حيث الإمكان أو الضرورة):
إنّ هذا " الحسّ المشترك"
و الذي من خلاله لا نفهم المعنى الخارجي و لكن الأثر الناتج عن اللعب بقوّانا
المعرفيّة، هو الشرط المسبق الذي يمكن أن يقوم في ظلّه حكم الذوق و يرتقي. و هذا
الأثر الانفعالي، و ليس التصوّر العقلي، و العام و ليس الفردي، هو جوهر الحكم
الجمالي عند "كانط". و الخلاصة
هنا هي: الجميل هو ما يتمّ التعرّف عليه دون أي مفهوم عقلي على أنّه موضوع للإشباع
أو الارتياح الضروري.
و الفنّ الجميل في رأي "كانط"
هو فنّ العبقريّة، و العبقرية هي موهبة (أو هبة طبيعيّة) تمنح القاعدة (أو القانون)
للفنّ. و الموهبة ملكة فطريّة خاصّة بالفنّان و تنتمي بذاتها إلى الطبيعة. و من ثمّ
فإنّ العبقريّة هي استعداد عقلي فطري تقوم من خلالها الطبيعة بإعطاء القاعدة أو
القانون للفنّ. و يقول "كانط"
كذلك "إنّ الجمال الطبيعي شيء جميل، في حين أنّ الجمال الفنّي تصوير جميل
لشيء ما". و الذوق في رأيه ليس ملكة خلق أو إبداع، بل هو ملكة حكم فقط،
و إنّ ما يلائم الذوق لا يكون بالضرورة "عملا فنّيا"، و إنّما قد يكون
مجرّد أثر صناعي، أو نتاج نفعي أو عمل آلي ميكانيكي صرف. و يخلص "كانط"
إلى ضرورة اتّحاد الذوق و العبقريّة في العمل الفنّي، مادام من الضروري أن يتوافر
كلذ من "الحكم و المخيّلة" في الفنّ. فالفنّان
العبقري يحتاج إلى ملكات أربع هي: المخيّلة و الفهم و الروح و الذوق.
"هيجل" و تجسيد الفن للمطلق:
نظر "هيجل" إلى
الفنّ باعتباره محدودا نتيجة للطبيعة الحسّية الخاصّة بوسائطه. فهو في رأيه غير
قادر على النهوض أو الوصول إلى الإدراك الكامل للوعي الذاتي أو الروح. و الفنّ هو
أحد الأشكال الكلّية للعقل، أو هي غايته القصوى، و ما الفنّ سوى خطوة سابقة في
طريق العقل نحو الحقيقة. و يرى "هيجل"
أنّ الجمال في الفنّ يرجع إلى اتّحاد الفكرة بمظهرها الحسّي، و النظر
إلى الفكرة ذاتها يكون الحقّ، و النظر إلى مظهرها الحسّي يكون الجمال."
أمّا الفنّ فيرتفع بالكائنات الطبيعية والحسّية إلى المستوى المثالي، و يكسبها
طابعا كلّيا حين يخلّصها من الجوانب العرضيّة و المؤقّتة، فالفنّ يردّ الواقعي إلى
المثالية و يرتفع به إلى الروحانيّة، و الفكرة إذا تشكّلت تشكّلا دالاّ على تصوّرها
العقلي تتحوّل إلى مثال". "الجمال في رأي "هيجل"
هو: الفكرة التي تعبّر عن الوحدة المباشرة بين الذات و الموضوع. و هذا الجمال لا
يتحقّق في أقصي درجاته إلاّ في الجمال الفنّي، لأنّه ينبع من الروح (أو الإنسان)،
بينما الجمال الطبيعي هو أوّل صورة من صور الجمال، لأنّه الصورة الحسّية الأولى
التي تتجلّى فيها الفكرة". و يقول "هيجل"
بالنسبة للتذوّق الفنّي - إنّ العمل الفنّي لا يقصد منه مجرّد استثارة انفعال أو
آخر لأنّه هنا لن يتميّز عن أشكال أخرى من النشاط كالفصاحة و التأليف التاريخي و الوعظ
الديني. فالعمل الفنّي يكون كذلك - عملا فنّيا- بقدر ما يكون جميلا.
"شوبنهور" و حكمة الفنّ التي تتحدّث عن نفسها:
كلّ ما يعرفه الإنسان - في رأي "شوبنهور"
- يكمن داخل وعيه، هذا على الرغم ممّا قد يفترض من وجود ذات عارفة، و ثوابت خالدة،
خلف هذا التدفّق للخبرة. فالتحليل البسيط يكشف لنا عن أنّ الذات هي لا شيء دون
وعي، و أنّ المادة لا شيء دون أحداث يتلو بعضها بعضا خلال الزمن، و أن ما يجعل
هذين المفهومين (الذات و المادة) يكتسبان الحياة، و يصبحان مفعمين بالمعنى هو تلك
القوّة الكونيّة التي تبثّ الحياة فيهما، و التي يطلق "شوبنهور"
عليها اسم "الإرادة"، إنّها الشيء في ذاته، إنّها ليست الذات القائمة
بالإدراك، و لا المادة المدركة، لكنّها الشيء الذي يتجلّى كلّ من الذات و الإرادة
من خلاله. و الجانب الجمالي في رأيه "ظاهرة من
ظواهر الذهن" تعتمد على الخصائص المميّزة للفرد الذي يدركها، لكنّها ظاهرة
تكون لافتة في اكتمالها و توافقها (أو هارمونيتها)، و الجمال محرّر أو مطهّر للعقل،
فهو يسمو بنا إلى لحظة تعلو على قيود الرغبة، و
تتجاوز حدود الإشباع، و هما (الرغبة و الإشباع) من الشروط الملازمة و المألوفة
في الحياة العادية. فمن خلال الفنّ تجد الإرادة الإنسانية، التي لا تهدأ و لا يقرّ
لها قرار، حالة مؤقّتة من الهدوء. يشير "شوبنهور"
كذلك إلى أنّ المتلقّي ينبغي له أن يصغي أوّلا إلى الحكمة العميقة التي تبوح له
بها الأعمال الفنّية، إنّه ينبغي أن يستمع إلى حديث العمل الفنّي إليه، قبل أن
يتحدّث هو إليه. فالاستمتاع الجمالي إذن حالة مشاركة، أو تعاون بين العمل الفنّي و
المتلقّي. هذا هو الشرط الأساسي لحدوث الأثر الجمالي كما يشير "شوبنهور"،
و من ثمّ هو أيضا القانون الجوهري فيما يتعلّق بالاستمتاع بكلّ الفنون الجميلة.
أفضل ما في الفنون - كما يقول ـ شوبنهور - تلك
الجوانب فائقة الروحانية فيها، و بحيث إنّها تمنح نفسها للحواسّ على نحو مباشر، إنّها
يجب أن تولد أو تحدث في خيال المتلقّي، و رغم كونها تولد أو تنتج أوّلا من خلال
العمل الفنّي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق