إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الاثنين، 13 أبريل 2009

فلسفة الفنّ عند نيتشه و هيدجر

معزوز عبد العالي
أستاذ الفلسفة بالتعليم الثانوي
يحتلّ الفنّ في فلسفة نيتشه مكانة الصدارة، ففلسفته تستدعي الفنّ بشكل قويّ إلى الحدّ الذي يجعله يقول "و في هذا الكتاب ذاته تتردّد عبارة صعبة بمقتضاها لا يجد العالم تبريره سوى كظاهرة فنّية أو جمالية" (ص: 16 ميلاد المأساة). كما يضيف قائلا في مكان آخر "لأنّ كلّ حياة تقوم على المظهر و الفنّ و الوهم و زاوية النظر و المنظارية و الخطأ" (ص17، ميلاد المأساة) فالفنّ عنده هو النشاط الميتافيزيقي بامتياز.
*  فما هو الحدّ الذي يعطيه للفنّ ؟
 إنّ الفنّ صنع للمظاهر. (Apparences) و المظهر عند نيتشه ليس تمثيلا للحياة، بل هو الحياة. المظهر هو الحقيقة لأنّها لا يمكن أن تقوم سوى كمظهر. ليس المظهر زيفا أو وهما أو ظلاّ للحقيقة كما يزعم أفلاطون الذي أقصى الشّعراء من جمهوريته. من هذا المنظور قام نيتشه بقلب الأفلاطونية، معيدا الاعتبار للحسّي و الشهوي (le Sensible, le Sensuel) بعدما تمّ ابتلاعه من طرف المافوق حسّي (le Supra-sensible).  فهو لا ينفكّ يتحدّث عن الفيلسوف ـ الفنّان في مقابل الفيلسوف النظري. إنّ الفنّ يتعدّى كونه مجرّد نشاط خاصّ بالفنّان، ليتحوّل على يديه إلى منظار للحياة. يتبنّى نيتشه مفهوما للفنّ يخرج من حدود الدائرة الجمالية، و يتحوّل إلى نشاط ميتافيزيقي أكثر منه نشاطا خاصّا بالفنّان وحده، فإذا أمكن تجاوز الميتافيزيقا فلا يكون ذلك سوى بواسطة الفنّ الذي يصوغ ميتافيزيقا جديدة هي إثبات للحياة، وتبجيل لها، واحتفال بها عوض الميتافيزيقا القديمة التي قامت على نفيها لصالح ما يتجاوزها أي لصالح العدم و إرادة العدم أي إرادة إنكار و نفي الحياةها نحن نرى أنّ الفنّ مشروع لمجاوزة الميتافيزيقا لأنّه هو نفسه يحلّ محلّها كنشاط ميتافيزيقي يقوم بالقضاء على النزعة العدمية (Nihilisme) التي طالما شكّلت خلفية للميتافيزيقا، و بذلك يعتبر الفنّ مفتاحا لاستراتيجية نيتشه الفلسفية الرامية للقضاء على العدمية. في المصطلح النيتشوي توجد عدّة أسماء لمُسمّى واحد، وعدّة محمولات لنفس الموضوع: سقراطية أفلاطونية، مسيحية، ميتافيزيقا، حداثة، فكلّها تشير إلى النزعة العدمية و إلى إرادة نفي الحياة. تقوم استراتيجية نيتشه على آلية القلب (Renversement)  التي تعيد الاعتبار إلى ما تمّ نفيه: الحياة. فالغاية من قلب الأفلاطونية هي العودة إلى "المنسي": إلى الحسّي و الشهوي، إنّه تبجيل لإرادة النفي، في المصطلح النيتشوي، لا تحيل الأفلاطونية و السقراطية و المسيحية إلى اتّجاهات فلسفية أو إلى مشارب عقائدية، إنّها كلّها تشكّلات لإرادة النفي. قلنا سابقا إنّ الفنّ مفتاح لاستراتيجية نيتشه الرامية إلى قلب العدمية، و الانتقال من إرادة النفي إلى إرادة الإثبات: (V/d’affirmation) إثبات مفارقات الحياة و تناقضاتها، و تحويلها إلى ظاهرة فنّية و جمالية خلقية بأن تعاش و يعمل في إطار هذه الاستراتيجية على ابتداع و نحت كوكبة من المصطلحات موجّهة للقضاء على إرادة النفي: النشوة، المرح، الرقص، الضحك. "أيّها الناس الممتازون تعلّموا إذن الضحك". الفنّ يجعل الحياة ممكنة بل و جديرة بأن تعاش، إنّه خلاص (Salut) و لكن ليس بالمعنى المسيحي طالما أنّه ليس هروبا من رعب الوجود و عبثه: خلاص ليس بمعنى التعلّق بحقيقة ما فوق الوجود الحسّي و إنّما بمعنى تحويل رعب الوجود و عبثه إلى مظاهر فنّية يكون بموجبها هذا الرّعب جميلا، و هذا العبث سخريّة و ضحكا، و هذا الألم انتشاء، (Ivresse). إنّ نظرية نيتشه في الفنّ تتعارض مطلقا مع وجهة النظر الرومانسية (Romantisme) فهو لا يجد أساسا للفنّ في ذات الفنّان وهو ما درجنا على تسميته بالإبداع و الخلق إنّ استبعاد الذاتية ضرورة تفترضها مجاوزة الميتافيزيقا، لأنّ الميتافيزيقا، قائمة على مبدإ الذاتية. من يبدع في الفنّ ليس الفنّان، بل هي الحياة نفسها، و لكن ليس الحياة المنحطّة المتقهقرة، بل الحياة القويّة و جوهرها إرادة القوّة التي تخترق الفنّان، فيتلبّس بلبوسها، و ينطق بلسانها. كلّما نأى الفنّان عن ذاتيته، و ذاب في فوران الحياة و اندفاع إرادة القوّة صار أقرب إلى المفهوم الحقيقي للفنّ، فالرومانسية قد تتطلّب من الفنّان تقمّص الطبيعة، و التغنّي بها، و لكنّه في هذا التقمّص و هذا التغنّي لا يفارق ذاتيته. فالفنّ الذي تحرّكه إرادة القوّة هو الأقرب إلى روح المأساة  (l’Esprit tratigique)، و هنا يعود نيتشه إلى المأساة الإغريفية من حيث إنّها التمثيل الأسمى للفنّ، و كان ازدهار روح المأساة عند الإغريق قبل مجيء السقراطية التي وأدت المأساة لصالح الجدل  (Dialectique)، فالجدل هو أوّل أعراض المرض الذي بدأ ينخر عظام الثقافة اليونانية. و مثل طبيب يقوم بتشخيص الأعراض يقابل نيتشه بين الصحّة و المرض، بين القوّة و الانحطاط. إنّ الجدل في السقراطية (Socratisme) عرض و إرهاص للأمراض التي بدأت تدبّ في جسد الثقافة اليونانية، و تراجع لمظاهر الصحّة و العافية المتجسّدة في المأساة. الجدل تعالي على الحياة، و توحيد لأضدادها، وحلّ لتناقضاتها، أمّا المأساة فإثبات لرعب الوجود، و تعميق لتناقضات الحياة، و إذكاء لمفارقاتها، الجدل نفي للحياة، و وهن لقوّتها، أمّا المأساة فإثبات للحياة و شهويتها. الروح المأساوية هي ملهمة كلّ فنّ عظيم، لأنّها علامة على صحّة الفنّ دون انحطاطه إلى الدرامية و الرومانسية، الروح المأساوية هي المحرّرة لقوى الطبيعة و المطلقة لها من عقالها. يوظّف نيتشه تأويلا رمزيا للأساطير اليونانية لتقريب مفهوم الفنّ من القارئ بل إنّ هذه الرمزية تخترق فلسفة نيتشه من أقصاها إلى أقصاها. وها هو يمثّل لروح المأساة بالإله ديوميزوس
  رمز   (Dionysos) النشوة و الإسراف  (Ivresse, Excés)، رمز تدفّق قوى الطبيعة و انفلاتها من عقالها وهو ما يغني و يغذّي نبع الفنّ، فديونيزوس رمز لعودة الإنسان إلى أصله الطبيعي ـ الحيواني الذي طالما افتقده للعيش في تناغم كوني. و ما مسخ الإنسان في الأسطورة اليونانية إلى كائن نصفه آدمي و نصفه حيواني وهو ما يسمّى بـ(Satyre)  سوى عودة لهذا التناغم الكوني المفقود، و تحرير للإنسان من ذاتيته. و الفنّ المأساوي هو مشاركة للقوى الديونيزوسية في انطلاقها، و اندماج في ركاب قوى الطبيعة المنفلتة من عقالها، إن الفنّ إسراف وانتشاء لا محدود. غير أن الديونيزوسي (le Dionysiaque) بما هو زخم و دفق للقوى اللاعقلانية ليس سوى وجه لعملة الفنّ، والابولوني (l’Appolonien) بما هو تنظيم لهذه القوى المندفعة في المظهر الجميل  (la Belle apparence)  وجهها الآخر. فالفنّ يتغذّى من الديونيزيسي زخما و انطلاقا و إسرافا، و من الابولوني يتغذّى اعتدالا (Mesure) و انسجاما و مقدارا. إنّ الاله أبولون صانع المظاهر الجميلة، و بعبارة أخرى، إنّ الفنّ كما يحدّده نيتشه اندماج لقوّة ديونيزوس، و جمال أبولون. و لكن هذا الاندماج أبعد ما يكون عن المصالحة أو التصالح (Réconciliation)  و المهادنة، إنّه صراع حتّى الموت. فالقوى الديونيزيسية المنفلتة من عقالها، تشكّل تهديدا مستمرّا لاعتدال المظهر الابولوني، إنّها الفوضى التي تهدّد النظام. و ما جمال و اعتدال المظهر الابولوني سوى تأجيل لتهديد و نفي القوّة الديونيزيسية. هذا التقابل بين ديونيزوس و أبولون، بين الإسراف و الاعتدال، بين القوّة و المظهر، بين الفوضى و النظام، هو ما يجعل ديونيزوس موسيقيا، و أبولون مصوّرا. فالموسيقى تناسب اندفاع ديونيزوس وانتشاءه، والتصوير يناسب اعتدال أبولون وجماله، لأن الموسيقى اندفاع، والصورة انسجام واعتدال. إن الموسيقى في نظر نيتشه هي الشكل التعبيري الأسمى عن روح المأساة، و بفضل ما تحتويه من ترنيم و ترتيل و تنغيم (Mélodie)  هي ترجمة لاندفاعات الشهوي (le Sensuel) و الحسّي  (le sensible)، إنّها تترجم ما ليس بعد كلاما و حوارا، و ما ليس بعد موضوع تفكير جدلي أو تزّهد أخلاقي. و لا يقصد نيتشه الموسيقى المترجمة للأفكار، فهذه لا تتعدّى كونها مجرّد وجه آخر للكلام والحوار وهو ما يتمثّل في الغناء و الأوبرالي، إنّ الموسيقى التي يقصدها نيتشه هنا، هي تلك التي تضعنا وجها لوجه أمام المرعب (l’Horrible)   و الهلامي (l’Informe).  و من نافل القول التأكيد على الاهتمام الذي كان يوليه نيتشه للموسيقى و دورها إمّا في إبراز روح المأساة لدى الإغريق، أو في إعادة بعثها من جديد بفضل الموسيقى الألمانية الحديثة على يد بيتهوفن و فاغنز. إنّ التنغيم هو أصل و منبع الشعر ذاته، و ما الشكل المقطعي (Strophique) في الشعر سوى تنغيم، و بالتالي فإنّ أصل الشعر موسيقى، و أوّل شكل شعري عرفته الإنسانية و خاصة الإغريق هو الشعر الغنائي  (lyrisme)، وهو في مجمله ترانيم و تراتيل و إنشاد، بمعنى آخر هو موسيقى. لماذا تحتلّ الموسيقى أهميّة كبرى في فلسفة نيتشه ؟ لأنّ الموسيقى أقدر شكل تعبيري على الجمع بين الحسّي و المجرّد، أمّا الجدل أو بالأحرى الميتافيزيقا فقد باعدت بينهما، و أقامت و جعلت بينهما هوّة سحيقة. إنّ الموسيقى بما هي الشكل التعبيري الأكثر بدائية، جديرة بأن تعيدنا إلى "المنسي"، إلى الطبيعة، إلى الرّعب، إلى ما ليس بعدُ موضوع تفكير. هكذا جعلت استراتيجية نيتشه الفلسفية من الفنّ قطب الرحى لأيّ فلسفة ممكنة حتّى يبتدّى لنا بأنّ الفلسفة مطالبة بأنّ تصير فنّا. الفنّ يعيد للإدارة قوّتها، و يجعلها قادرة على الإثبات و على الخروج من النفي، نفي ذاتها، و نفي العالم في آن واحد. الفنّ هو فائض الإرادة. إرادة القوّة هي إرادة القوّة الديونيسية و توقها للانطلاق و الرقص والانتشاء. إنّها إرادة الخلق. إرادة القوّة تمثّل الحياة في اندفاعاتها (pulsions) الحيويّة، و لا تملك لنفسها خلاصا سوى الخلق. في الحياة تناقضات لا حلّ لها، لا في خلاص مسيحي، و لا في تجاوز جدلي هيجلي، إنّها تعيش و تتغذّى من تناقضاتها، و الفنّ حافز لها على تعميق تناقضاتها. وهو خلق للمظاهر التي يجعلها ممكنة أن تعاش. فلا مكان للخلاص المسيحي ولا للوعي الشقيّ. إنّ مفهوم الألم عند نيتشه هو مستلهم من روح المأساة و لا علاقة له بالألم المسيحي. فالألم المسيحي عذاب بينما الألم المأساوي انتشاء. و حسب تأويل دولوز في كتابه (نيتشه والفلسفة)، إنّ الحياة لا تحلّ مشكلة الألم بواسطة استبطانه (Intériorisation) و بحسب دولوز هناك نوعان من الألم: الألم من فرط الحياة، و الألم المدين للحياة. الألم الديونيزيسي باعث على النشوة، و الألم المسيحي باعث على الفتور. وحده الفنّ خلاص، لكنّه خلاص أرضي  Salut terrestre-
  بإثباته لقوّة الحياة، و لتعدّد مظاهرها و تلوّنها، و لقدرتها على تجاوز الوهن و الفتور وهو وهن و فتور الإرادة. و لكن الملاحظ أنّ الفنّ تعرّض للانحطاط بسبب قضاء الجدل السقراطي قضاء مبرما على روح المأساة و إعلائه لغريزة المعرفة على إرادة القوّة. و من مظاهر تردّي الفنّ في المرحلة السقراطية، صعود الدراما (Le Drame) التي لا تعتبر سوى وجهه الآخر للكلام و الحوار، فتوارى الترنيم و الإنشاد المميّز لروح المأساة. هيّأت الدراما للدّخول إلى مرحلة "العقلاني" الذي يعتبر الخصم اللدود "المرعب" السائد في الحياة. و دخل الفنّ في مرحلة انحطاط يتعيّن على الفنّ الحديث الخروج منها و بعث روح المأساة من جديد للارتقاء الفنّ إلى أن يكون النشاط الميتافيزيقي بامتياز.
2)  مفهوم الفنّ عند هيدجر:
إنّ الفكر و الشعر (أو الفنّ)  ـ حسب هيدجر- مدعوّان لمجاوزة الميتافيزيقا التي عرفت اكتمالها و بالأحرى نهايتها مع نيتشه و بات مطروحا سلوك طريق آخر لتصوّر العالم غير طريق الميتافيزيقا، و خاصّة ميتافيزيقا الذاتيّة التي تأسّست على يد ديكارت، و التي تقدّم تصوّرا للوجود بناء على تمثّله كموضوع قابل للتملّك (Appropriation) . و يعتبر هذا التصوّر الخلفية المؤسّسة للتقنيّة الحديثة. لقد قادتنا الميتافيزيقا إلى نسيان الوجود و لعلّ الفنّ يعيدنا إلى مسكن الوجود. و يجدر التوضيح هنا أنّ هيدجر يستعمل كلمة شعر (Dichten) بالمعنى الواسع للدلالة على الفنّ. فالشعر لا يختصّ به الشعراء وحدهم، و كلّ فنّان حقّ هو بالضرورة شاعر. سنركّز قولنا على الفنّ، و نترك علاقته بالفكر. فما مفهوم الفنّ عند هيدجر؟ و ما الذي يمنحه هذه القدرة على تجاوز الميتافيزيقا و تلافي نسيان الوجود ؟ الفنّ انكشاف لحقيقة الوجود، و ترك الوجود يوجد (Laisser-Venir) و تحويل الاختفاء إلى تحجّب  (Aleteia).  إنّ ماهية الفنّ هي ما يجعل الوجود يظهر، و الحقيقة تلتمع و تسطع. إذا كانت ماهية الفنّ هي ترك الوجود يوجد، و الحقيقة تستطع، فهذا لا يعني قطعا مطابقة الواقع و محاكاته. لا ينبغي البحث عن حقيقة الفنّ خارج الفنذ، أي في الواقع. إنّ حقيقة الفنّ ترقد داخله، أي داخل حضوره و انفتاحه. الفنّ انبجاس (Emergence) و ظهور (Apparition) لعالم هو عالمه (Welt) و لحقيقة هي حقيقته. فالفنّ هو راعي الوجود و حارسه. و الفنّان لا يعمل سوى على المتاح ممّا يدخّره الوجود، و الامتثال، لما يمليه عليه نداؤه، و ينزع منه ما يقدر عليه بواسطة هذا الخطّ (Reissen) ما بين العالم و الأرض. الفنّ توتّر ما بين هذين القطبين. الفنّان لا يبدع شيئا من عنده، بل يجد اللغة المناسبة لنداء الوجود. و من ثمّ كانت اللغة الأصليّة ذاتها شعرا، و الشعر بمعناه الواسع فنّا. فما يكشفه الفنّ لا يمكن أن يكون موضوع تمثّل (Re-présentation) فلا دخل للحساب و الذاتية في الفنّ. إنّ ما يكشفه هو من إملاء الوجود ووحيه. فلنعد إلى الفنّ باعتباره توتّرا ما بين العالم و الأرض، فما العالم ؟ و ما الأرض ؟ العالم انبجاس و انفراج "Eclaircie" بينما الأرض عَتَمة وظُلمة. العالم ظهور و الأرض انسحاب، يستعمل هيدجر الأرض بمعنى الأساس بما هي مسكن يستقرّ فيه شعب تاريخي أصيل. (Historial)       الفنّ توتّر ما بينهما، وهو مطالب بتقريب العالم من الأرض، و الظهور من الاختفاء، و المجيء من الانسحاب. مهمّة الفنّ تأسيس الوجود، و من خلال إقامة عالم على أرض هي منبع كلّ الإمكانات و دعوتها لأنّ تصير مستقرّا و مسكنا للإنسان. و لا يقصد هيدجر بالأرض الطبيعة، مادامت هذه الأخيرة خاضعة للحسابيّة (Calculabité)  والموضعة التقنيّة و العلمية منذ العصور الحديثة، حيث تمّ إفراغها من أسرارها، و صارت مجالا لسيادة الإنسان الحديث. فالطبيعة قد أفشت كلّ أسرارها، أمّا الأرض فهي لا تظهر إلاّ لتنسحب من جديد، إنّها، "اللانكشاف الذي يستعصى بطبيعته على كلّ انكشاف". يُوَفَقُ الفنّ فيما أخفقت فيه الميتافيزيقا ألا وهو تأسيس الوجود و إصاخة السّمع لندائه بواسطة تسميته  (Nomination) ، فقوّة التسميّة تتعدّى كونها مجرّد إعطاء أسماء للأشياء، إنّها ترك الوجود يوجد، فالأشياء المسمّاة مدعوّة للانكشاف في الوجود. التسمية دعوة و نداء للأشياء كي توجد. إنّها تأسيس للأشياء في الوجود. و هذا ما يعطي للغة أهمّية بالغة، فمهمّتها من أخطر المهامّ. يقول هايدجر عن اللغة في كتابه "هولدرلين وماهية الشعر: "غير أنّ ماهية اللغة لا تستنفد كلّها في كونها وسيلة للفهم... فاللغة ليست مجرّد أداة يملكها الإنسان إلى جانب غيرها من الأدوات، و إنّما اللغة هي بوجه عام و قبل كلّ شيء، ما يضمن الوجود وسط موجود ينبغي أن يكون وجودا منكشفا. و هناك حيث توجد لغة، يوجد عالم(...) و هناك حيث يوجد عالم يوجد تاريخ. فاللغة نعمة بمعنى أشدّ أصالة. إنّها نعمة و ضمان لهذا العالم و هذا التاريخ، بمعنى أنّها تضمن أن يكون في استطاعة الإنسان الوجود بوصفه كائنا تاريخيا". إنّ اللغة هي مسكن الوجود، و هناك يكمن جلالها و خطورتها. إنّها حسب هيدجر "أخطر النعم" و ما دامت أخطر النعم، فهي أكثر من مجرّد أداة وسيلة للتواصل، إنّها كشف و انكشاف. فالوجود ينكشف في اللغة، و من ثمّ فهيدجر لا يتّفق مع النظرية التواصلية في اللغة. بقدر ما تكون اللغة أخطر النعم فإنّها معرّضة أكثر من غيرها للتخريب  (Dévastation) ، و بالفعل فقد تحوّلت بفعل هيمنة الذاتية إلى أداة للسيطرة على الموجود: "إنّ اللغة تسلّم نفسها لإرادتنا المحضة و إلى نشاطنا كأداة للسيطرة على الموجود" و يقول هيدجر في نفس الموضع: "أنّ انحطاط اللغة، الذي نتكلّم عنه منذ زمن قريب، و بشكل متأخّر، ليس سببا، و إنّما هو نتيجة لسيرورة تخلّت اللغة بموجبها و تحت هيمنة الميتافيزيقا الحديثة عن ذاتها. لا زالت اللغة تخفي ماهيتها عنها باعتبارها مسكن الوجود (ص:Lettre sur l’humanisme 82 )
 حتّى تنهض اللغة بمهمّتها من جديد و كما كانت لدى الفلاسفة ما قبل السقراطيين، يجب تنقيتها ممّا علق بها من شوائب الأداتية. و مصدر هذه النزعة الأداتية يعود بالأساس إلى هيمنة ميتافيزيقا الذاتية. و الشعر هو الكفيل بردّ الاعتبار للغة كمسكن للوجود، فما هي وظيفة الشعر و ما مفهومه عند هيدجر؟ يقول هيدجر: ... بما أنّه يُظهر هذه القدرة الأصلية على التسمية (Nomination). وهي قدرة اللغة في ماهيتها، و ليست قدرة الشاعر، فكلّ شعر عظيم يحمل للغة ما يبقى مختفيا في اللغة العادية، التي تختزل في وظيفتها كأداة للتواصل، أي الماهية الكاشفة للغة (Essence dévoilante).  فالشعر يعبّر عن ماهيته في نفس الوقت الذي يعبّر عن ماهيته كقصيدة أصلية، كقصيدة صامتة لظهور الوجود" (الأرض في الأثر الفنّي و القصيدة.
(La terre dans l’ouvre d’art et le poème page 191).  إنّ الشعر يعيد للغة قدرتها على تسمية الأشياء، و دعوتها لأن توجد. فاللغة بفضل الشعر تستعيد قوّتها على تأسيس الوجود. و ما اللغة سوى القصيدة البدائية لشعب تاريخي أصيل (Peuple Historial). فهذه القصيدة الأصلية تعتبر منبع الشعر. وهنا نجد هيدجر يميّز و يفرّق بين القصيدة (Poème) و الشعر (Poésie) فالقصيدة هي اللغة البدائية (Ursprache) و الشعر يأتي بعد القصيدة و يعيد قولها (Nach-sprechen). و لولا الشعر ما كانت قصيدة و ما كانت لغة أصلية. إنّ اللغة حسب هيدجر شعرنة للوجود (Poématisation)  ولا يمكن للإنسان أن يحيا على الأرض إلاّ شعريا و كما يقول هولدرين: "غني بالمزايا هو الإنسان لكنّه يحيا على هذه الأرض شعريا" إنّ الشعر تأسيس للوجود، و الفنّانون و الشعراء رعاته و حماته. و بفضل الشعر تتحوّل اللغة من امتلاك الموجود إلى انكشاف الوجود. و كما يقول هولدرلين "ما يبقى يؤسّسه الشعراء" فالشعر لا يؤسّس الوجود فحسب، بل يؤسّس التاريخ أيضا، فالشعر في آخر المطاف ليس سوى الأرض كمسكن و مستقرّ. نفهم ممّا سبق أنّ الفنّ في أرقى صوره شعر. و بما أنّ الفنّ حسب تعريف هيدجر هو تهيّؤ لانكشاف الحقيقة، فإنّها لا تنكشف سوى بتكثيفها وهذا هو معنى الفعل... (Dichten) .  والمهمّة العليا و الأساسية للفنّ الشعري تتمثّل في صياغة الحقيقة شعريا أو بعبارة أخرى شعرنتها (Poématisation). فالحقيقة تكشف نفسها شعريا ممّا يجعلها قصيدة "Poème" أو لنقل. مكثّفة في قصيدة. و اللغة بالذات هي القصيدة الأصل. يأتي الشعر تاليا لها ليعيد ما تقوله. إنّ تكثيف الحقيقة في قصيدة، ثمّ إظهارها في الشعر تاليا، يجعلها قابلة للظهور في فسحة الانفراج و الإضاءة (Eclairci-Lichtung)، وهو معنى قول هيدجر إنّ الشعر تأسيس    (Instrauration)  للوجود، و تركه يوجد، إنّه حماية و رعاية له. إذا كانت الأرض أساس (Grund)  الفنّ و مسكنه و مستقرّه الأصلي  (Heimtlicher-grund)، فهي ليست شيئا آخر سوى اللغة باعتبارها مسكن الوجود. يقول هيدجر "اللغة مسكن الوجود و في أحضانها يسكن الإنسان
  (Lettre-Page74)  يحاول الفنّ أو الشعر تأسيس عالم هو بمثابة إضاءة على أرض هي اللغة البدائية، و محاولة صياغتها و حملها على الظهور رغم استعصائها و تمنّعها و انسحابها الدائم، و ذلك في حيّز إضاءة و لمعان. هناك لغة بدئيّة تتجسّد في القصيدة، وهي موجودة قبل الفنّ أو الشعر، الذي يعيد قول القصيدة ـ الأصل و صياغتها شعريا. و بذلك يكون الفنّ تأسيسا للوجود من خلال شعرنته. الفنّ استلهام للقصيدة الأصل، و الفنّان لا يبدع شيئا، إذ تحيل مقولة الإبداع على الذاتية. و هذا ما يروم هيدجر نقده جذريّا. الإبداع في نظر هيدجر مقولة ضاربة في تربة أنطوتيلوجية (Onto-Théologique)  و يحيل رأسا إلى العقيدة التوراتية. يقول هيدجر "تبعا للقصيدة التوراتية فإنّ مجموع الموجودات شيء مخلوق، و نقصد بذلك شيء مصنوع"  (Chemins Page 28.29)  الفنّان لا يبدع شيئا، بل يمتح من الوجود، و يصيخ له السّمع و ينتشله من النسيان، و يتركه يوجد، و يدعوه للظهور. و في عمله ذلك، يحاول أن ينتزع منه أثرا بضربة خطّ (Reisseur)  ينقل هيدجر عن دورير (Dûrer) قوله: "في الحقيقة، إنّ الفنّ يختفي في الطبيعة زمن يستطيع انتزاعه منها بضربة خطّ يملكه" (Chemins Page 79). يقول هيدجر في مكان آخر "الأثر الفنّي بدون أدنى شكّ يصير فعليّا و يأتي للوجود بواسطة حركة الرّسم و الكتابة هو انفتاح الحقيقة ذاتها كدائرة أوسع تحتوي سلفا الأثر الفنّي و الفنّان معا
" (Chemins Page 195).  و يضيف " أن من يخطّ الدائرة الأوسع ليس الفنّان و إنّما الحقيقة ذاتها في انكشافها 
" (Chemins Page 195). و حتّى إن سلّمنا بمقولة الإبداع، فليس الفنّان هو المبدع، بل الحقيقة هي المبدعة، و تبدع أثناء انكشافها. حقّا إنّ الأشكال الفنّية تتوقّف على الفنّان لإخراجها في شكل عمل أو أثر فنّي، و تجد  إرهاصاتها و مقدّماتها في الحقيقة التي تظهر و تختفي. فالحقيقة تؤسّس الفنّ و الفنّ يستجيب لندائها. الحقيقة عهدة في يد الفنّان، و الفنّان مرتهن لها. توجد علاقة تأسيس متبادل. الفنّان لا يعمل سوى على النظم و التركيب لما هو قابل للنظم و التركيب و في هذا السياق تفهم عبارة موزارت المشهورة "أنّني أبحث عن أنغام تقع في هيام بعضها البعض". و حتّى الفعل الألماني (Dichten) يفيد الجمع و النظم و التركيب، و  (Dichtung)  تفيد التكثيف و الجمع في قصيدة، بمعنى نظم الوجود في قصيدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق