جون راولز: تقديم و ترجمة محمد هاشمي.
الراديكالية، و بين الجماعتية (Communitarisme) بوصفهما منزعان أحدهما مفرط في
الليبرالية
(Libéralisme) و الآخر منتقد لها. يعود اختياري
لراولز إذن إلى كونه أحد الفلاسفة السياسيين
القلائل الذين فتحوا نقاشا سياسيا واسعا في الولايات المتّحدة الأمريكية بين
الليبرالية اليسارية المناهضة للفوارق و ما تمثّله من مخاطر على التماسك الاجتماعي
و التوافق السياسي، و بين النيوليبرالية (Néolibéralisme) المناهضة
للعدالة التوزيعية و ما تمثّله من مخاطر على الحريّات الفردية. و قد تغذّى هذا
النقاش فضلا عن ذلك ممّا أفرزته الحركات من أجل الحقوق المدنية (Droit Civiques) من
مطالب مساواتية في الولايات المتّحدة الأمريكية نهاية الستينات و بداية السبعينات.
كما تمخّضت هذه المناقشات و المُطَارَحَات السياسية (Débats politiques) عن
إعادة التفكير في دور الدولة الليبرالية، و برزت أسئلة حول حيادها (Neutralité) و انخراطها
في معمعة المطالب الاجتماعية. نظرية العدالة تلتقي في كتابه الشهير هذا عدّة أطياف فكرّية
قادمة من آفاق فلسفية رحبة أَنْجْلُوساكسونية و قارِّية على حدّ سواء. استقى
راولز مفهوم العدالة التوزيعية Distributive Justice من أرسطو و
إن كان قد أفرغها من حمولتها الأخلاقية، و أخذ من كانط
مفاهيم الاستقلالية (Autonomie) و الكونية
و الاستعمال العمومي للعقل
(L’usage publique de la raison). يقول راولز: «Le sujet est
essentiellement un agent souverain qu’effectue des choix, et en particulier se
donne à lui-même ses propres fins» P. 198 Rawls استلهم راولز كانطية بدون
ذات متعالية على حدّ تعبير بول ريكور: «Kantisme sans sujet
transcendental» و استفاد من نظرية
التعاقد عند روسو و إن
كان قد اعتبر نظرية العدالة على قدر كبير من التجريد. و أخيرا استلهم من النفعية و
البراجماتية الأنجلوسكسونية. يطرح الكاتب مشروعا نظريا لتجديد الليبرالية، و لإعادة
التفكير في مستقبل الديمقراطية ذات المنحى الليبرالي في المجتمعات المابعد ـ حداثية (S post-modernes) المركّبة
هويّاتيا و المتعدّدة ثقافيا (Multiculturalisme) و ما تمخّضت عنه من أزمة و صراع
بين المنزع المساواتي و المنزع الحرّياتي (Egalitarisme,
Libértarisme)، و من ثمّة رصد الاختلالات التي تخترق الجسم
الاجتماعي الليبرالي. يسعى هذا المشروع النظري عند راولز
إلى خلق توازانات جديدة بين الحرّية و المساواة على قواعد أخلاقية للعدالة
كإنصاف (La justice comme équité). إن مدار نظرية العدالة هو
معالجة الانحرافات
(Dérives) التي آلت إليها الليبرالية السياسية، و التشوّهات
التي نالت من الديمقراطية الليبرالية، و المخاطر التي تتربّص بالحداثة السياسية في
عالمنا المعاصر، و كلّها بادية للعيان في تجلّياتها المختلفة: تعاظم الأنانية و تضخّم
الفردانية الاستحواذية
(Egoisme possessif) و تفكّك الأواصر الاجتماعية و انحسار مفهوم
المواطنة و استشراء اللامبالاة السياسية (Dépolitisation) و تضخّم
الحرّية على حساب المساواة. كلّها انحرفات تجعل نهج الليبرالية السياسية محفوفا
بالمخاطر.
التقديم: لماذا وقع اختياري على راولز ؟
لأنّه يُعتبر أحد الوجوه البارزة المنخرطة في النقاش
السياسي المحتدم حول مشروعية الليبرالية السياسية (Le Libéralisme Politique) و حول
مستقبل الديمقراطية في العالم المعاصر و مآلات الحداثة
السياسية و ما تخلّلها من أزمات و توتّرات بين الحرّية
و المساواة، بين الفرد و الدولة، بين العدالة و الخير، بين الاستقلالية و العمومية،
بين الدائرة الخصوصية و الفضاء العمومي. ضمن كتابه الشهير نظرية العدالة (Théorie de la Justice) يعرض
فلسفته التي تُعْتَبر محاولة لتجديد الليبرالية السياسية المعاصرة، و لتليين و تلطيف
جموحها بما يتلاءم مع المبادئ الأخلاقية للعدالة و الإنصاف (Equité). تتموقع فلسفته السياسية اللبيرالية ما بين
الليبرالية
يتّسم هذا المشروع النظري بعودة السؤال الأخلاقي إلى صلب
الإشكالية السياسية: إعـادة تفكير في الليبرالية السياسية في المجتمعات ما بعد ـ
الحداثية بناء على أسس العدالة، للحيلولة دون استشراء النزعة الأداتية ـ النفعية (Utilitarisme) و الفردانية
الاستحواذية و مسألة التعدّد الثقافي و الهويّاتي (Multiculture identitaire) أو حسب تعبير ماكس
فيبر (Polythèisme) و تضارب
تصوّرات الخير
(Conceptions du bien) في سبيل استشراف آفاق الديمقراطية
التوافقية؛ و محاولة التوفيق بين المذاهب الغائية للخير و المذاهب الاستعمالية و الأداتية
لمفهوم المنفعة. يطرح راولز
في كتابه نظرية سياسية ذات منحى ليبرالي و لكن بمراجعة المبادئ الليبرالية على ضوء
المبادئ الأخلاقية. يضع راولز
مفهوم "العدالة" في
صلب نظريته السياسية، إذ يعتبرها الفضيلة الأولى للمؤسّسات السياسية؛ لا للقواعد
الدستورية منها فحسب، بل أيضا للبنيات القاعدية السوسيو ـ اقتصادية للمجتمع. لا
مُسَوِّغ، في مجتمع مهما كان يتبجّح بالحريّة، لسياسة ليبرالية ما تنفكّ تخلق الاختلالات،
و تعمّق الفوارق بين الأفراد. فالعدالة هي بمثابة الترياق "Contre-poison" للاختلال
الذي يسبّبه الفائض الحرّياتي في المجتمعات الليبرالية
على حساب المطلب المساواتي؛ تلعب دور تصحيح و تصويب ما آلت إليه هاته
المجتمعات من فوارق و تفاوتات تنسف وعود الحداثة السياسية بالتحرّر من أساسها. تمثّل
العدالة القاعدة الأساسية لكلّ مجتمع منظَّم عقلانيا يروم إرضاء النفع العام و ينال
رضى كلّ المتعاقدين
(Sociétaires) المنضوين فيه تحت تعاقد مضمر أو معلن. و يستنتج
أنّ العدالة أسبق من الخير
(Primauté du juste sur le bien) بدليل أنّ الأولى توحّد،
و الخير يفرّق: فلا يختلف البشر حول شيء مثل اختلافهم حول تصوّرات الخير ولا
يجمعهم ولا يوحدّهم شيء أكثر من العدالة؛ فهي أوّل ما يحدسه كلّ انسان. فضلا عن
ذلك؛ لا يستقيم مفهوم الخير في المجتمعات الما ـ بعد حداثية التي يسودها التعدّد
الثقافي و العقائدي (المذهبي). ولا سبيل إلى توحيد هذا التعدّد سوى بفضل مفهوم
العدالة بما هي إنصاف. شتّان إذن بين كونية مفهوم العدالة و خصوصية مفهوم الخير.
فما يمكن أن يراه بعضهم خيرا، قد يراه الآخرون وَبَالاً و شرّا. أمّا العدالة
فتحظى بإجماع الكلّ. فهي تحافظ على اختلافاتهم دون أن تفضي إلى الانشقاق و التمزّق
الذي يهدّد المجتمعات الليبرالية. و مـادام الأمر كذلك فالعدالة عند
راولز إجرائية (Justice Procédurale) لا
تحيل إلى أي تصوّر جوهراني "substantialiste"،
إنّها بالأحرى عدالة توزيعية (J.Distributive) و إنصاف في
مجتمعات تعمقّت فيها الفوارق
(Inégalités) واتّسعت الهوّة بين المحرومين و المحظوظين
إلى حدّ أنّ المبدأ الحرّياتي الليبرالي بات مهدّدا، و بدأت تحوم الشكوك حول جدوى
الحرّية بالنسبة لمن لا يملك شيئا، و لمن هو في الدَّرَك الأسفل في المجتمع، فما
عسى أن تمثّل قيمة الحرّية بالنسبة إليه وهو لا يجد ما يضمن كرامته. و لعلّ في هذه
الحالة ينطبق النقد الماركسي
على الحرّية الليبرالية لكونها حرّية مجرّدة. و صارت الديمقراطية نفسها تحدّق بها
مخاطر جمّة: و لعلّ هذا ما يفسّر اللامبالاة المتنامية للمواطنين بالشأن العام،
وعدم الاكتراث المتزايد بالسياسة، و انحسار روح المواطنة و انتشار نوع من الرواقية (Stoïcisme) و القدرية،
و اتّساع دائرة الشكّ و الارتياب في الحداثة السياسية، و اللُّهاث وراء نوع من
اللذّية
(Hédonisme). يرمي راولز
من وراء نظريته السياسية إلى بعث الأمل في الليبرالية السياسية من جديد و إلى إحلال
توازنات جديدة بين الحقوق ـ الحرّيات و الحقوق ـ الواجبات، فالعدالة هي البلسم
الذي يشفي الحداثة الليبرالية من أدوائها، و ينجّيها من أمراضها. فهناك نبرة
متفائلة لدى راولز في
أن تنفخ العدالة بما هي إنصاف روحا
جديدة في الليبرالية، و في أن توفّق بين متناقضات الحداثة و الديمقراطية: بين الحرّية
و المساواة. باعتبار أنّ راولز فيلسوف
سياسي ليبرالي، فإنّه لا يُفَرِّط في مبدإ الحرّية بأي ثمن، و لا يمكن التضحية
بالحرّيات الأساسية و الفردية حتّى لو كانت في مصلحة الجميع، لأنّ من شأن ذلك أن
يُشرّع الباب على مصراعيه للأنظمة التوتاليتارية و الكليانية(Totalitarismes) التي تتذرّع بشتّى المبرّرات
لمصادرة الحرّيات و هضم حقوق الإنسان."لايمكن
تقليص الحرّية سوى في سبيل الحرّية " "On ne peut
restreindre la liberté qu’au bénéfice de la liberté" p.140 IBID "لا
يمكن دفع الحرّية ثمنا للحياة الرغيدة ""On n’achète pas
le bien - être au prix de la liberté" 140 MBID و لكن راولز
في نفس الوقت لا يقبل الفوارق الناجمة عن توسيع النظام العام للحرّيات الأساسية.
فالفوارق المقبولة و المستساغة أو المسموح بها "Tolérables" هي
تلك التي في مصلحة الجميع، و ما الظلم أو الجور (Injustice) في
الحقيقة سوى تلك الفوارق التي لا تعود بالفضل على الجميع أي تلك التي تفيد البعض
دون البعض الآخر."L’injustice, ce
sont les Inégalités qui ne bénéficient pas à tous" page 150 MBID و مع ذلك يظلّ راولز
فيلسوفا ليبراليا، فهو يَسْتَسْوِغُ اللامساواة لأنّها ثمن الحرّية، حتّى و إن كان
يشرطها بمصلحة الجميع. من غير المعقول انتزاع ما يعود إلى المحظوظين الأكثر إنتاجا
و منحه للمحرومين الأقلّ إنتاجا لأنّ في نهاية المطاف لن يوجد ما يمكن اقتسامه أو
توزيعه، فالأكثر إنتاجا سيصبحون أقلّ إنتاجا، و هذا نقد مبطّن للاشتراكية و الشيوعية،
لا يمكن التفريط في الحرّية من أجل المساواة مهما كانت
الدواعي و المبرّرات. فاللامساواة هي الثمن الذي يتوجّب دفعه لنيل الحرّية و الحيلولة
دون الانزلاق إلى التوتاليتارية. يفضّل راولز
أن يوجَد ضحايا في النظام الليبرالي على أن تصادر الحرّيات في الأنظمة التوتاليتارية.
و يفترق راولز،
رغم ليبراليته عن الليبرتارية
Libertarisme في مسألة هامّة؛ و التي تتعلّق بمفهوم الدولة، و مفهوم الديمقراطية،
فلا يوافقها على مفهوم الدولة ـ المحايدة (L’Etat Neutre)،
التي ينحصر دورها على حفظ الأمن و حماية النظام (L’ordre) وهو
ما يصطلح عليه بـ"الدولة ـ الدَّرَكِيَّة (Etat-Gendarme)،
و في نفس الوقت لا يستسوغ تدخّل الدولة في كلّ دقيقة و جليلة أي الدولة ـ الوصّية،
و يختار موقفا وسطا وهو الدولة الاجتماعية (Etat Social) التي
تعمل بمعية المجتمع المدني على تقليص الفوارق في حدود لا تتعدّاها، حتّى لا تتطاول
على الحريّات. يقترح في نظريته السياسية ديمقراطية اجتماعية، أو ديمقراطية
ليبرالية ذات وجه إنساني
(A Visage Humain). و قبل التطرّق إلى الديمقراطية بشكل مفصّل
يجمل بنا أن نتطرّق مجدّدا، و نستأنف القول في المعادلة الصعبة بين المبدأ
المساواتي و المبدأ الحريّاتي. فنظرية العدالة التي يتطارحها بِمُكْنَتِها، ردم
الهوّة بين هذين المبدأين، و ملء الشرخ الذي يتهدّد المجتمعات الليبرالية بالانفجار.
يطرح راولز نظرية العدالة بما هي إنصاف و يؤسّسها على
مبدئي التوحيد و التفريق:
أ ـ كلّ الناس أحرار (الحريّة) و لهم الحقّ في النسق
الموسّع للحريّات الأساسية بالتساوي (المساواة).
ب ـ من الطبيعي أن تنتج عن هذا النسق الموسّع للحريّات
فوارق اجتماعية و اقتصادية هائلة بين الناس لكن شريطة أن تُنَظَّم بكيفية:
1 ـ تكون في مصلحة الأكثر حرمانا (Les plus défavorisés) أي
ضحايا النظام الليبرالي
2 ـ و تكون نابعة من مبدأ تكافؤ الفرص (Egalités des chances) في
الوظائف و في الوضعيات.
لا يرى راولز فضاضة
في اللامساواة، إذا كانت في مصلحة الأكثر حرمانا و الأقلّ حظّا من الناس، و إذا
كانت أيضا حصيلة تكافؤ الفرص التي يتيحها النظام الليبرالي. يستدلّ راولز
على وجاهة و صواب نظريته في العدالة بحجّة لم تخل من انتقادات من طرف كثيرين و على
رأسهم هبرماس،
و التي يسمّيها بـ "حجاب الجهل "
(le voile d’ignorance) و يُنَزِّلها منزلة الوضعية الأصلية للبشر(Position originelle): إذا أُخِذ البشر على حين غرّة
و فيما هم على غفلة من أمرهم، و يث لا يدرون شيئا عن فئتهم الاجتماعية، و لا عن
حظوظهم و امتيازاتهم، و طلبنا منهم أن يختـاروا بين العدالة و الخير (المنفعة) فهم
لا شكّ سيختارون العدالة، لأنّها بمثابة الحدس البديهي الذي لا يختلف فيه إثنان.
فهذه الحالة أشبه بالتعاقد، و إن كان
راولز لا يوافق أصحاب نظرية التعاقد على ما ذهبوا
إليه من مذهب الحقّ الطبيعي الذي يساوونه مع القوّة و القدرة و الاقتدار. و يعتبر
اختيار البشر للعدالة هو الاختيار العقلاني عن جدارة. لأنّ العدالة دمج بين الحريّة
و المساواة و لا يمكن تصوّر اختيار ما، يعارض كونهم أحرارًا و متساوين أو أندادًا.
ما القول في الديمقراطية الليبرالية حسب التصور الراولزي"؟
من مرتكزات الديمقراطية الليبرالية ألاّ تطغى الأغلبية
على الأقلّية أو ما يسمّيه توكفيل
بالاستبداد الحديث (Tyranie Moderne)،
كما تفضّل الليبرالية الديمقراطية التمثيلية على الديمقراطية المباشرة، و الدستور
على سيادة الشعب، و الحقوق ـ الحريّات على
الحقوق ـ الواجبات. و رغم ذلك تعاني الديمقراطية من عجز (Déficit) يتمثّل
في انزواء و انصراف الفرد إلى دائرة حياته الخاصّة، و في اللامبالاة بالفضاء
العمومي، و عدم الاكتراث بالسياسة و انخفاض حرارة الحسّ الوطني، و اللهاث وراء
اللذّات أو ما يدعى باللذّية
(Hédonisme) و في الاستسلام إلى نوع من الرواقية (Stoïcisme). حاول
راولز استعادة الأمل الديمقراطي بفضل مفهوم
العدالة التوزيعية التي تستهدف الفئات الأقلّ حظّا و الأكثر حرمانا في المجتمع، و إحياء
ثقة المواطنين في المؤسّسات الدستورية، و بعث التضامن في نفوس الأفراد الذين لا
يكترثون سوى بأنانيتهم الاستحواذية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق