نوعان من المواطن*
الأمور المسلّم بها للتدليل على عدم إمكانية التعريف بالديموقراطية في شعار
تلفزيوني من النوع الذي يستخدم في تسويق بضاعة. الديموقراطية
نظام سياسي اجتماعي ثقافي مركّب للغاية و لا يمكن نقله باختصار كما لا جدوى من قصر
العمل في سبيله على الدعوة و التبشير. و مع ذلك فإنّ ترويج الثقافة
الديموقراطية هامّ للغاية. و ما يلزم هو ليس تلقين الناس
تعريفاً مختصراً للديموقراطية، بل تعريفهم بمقوّماتها الضروريّة التي لا يمكن
إطلاقاً الاستغناء عنها في عمليّة بناء الديموقراطية مهما تبدّل تعريفها؛ ما هي
هذه المقوّمات؟ الفصل بين السّلطات، استقلال
القضاء، حقّ الاقتراع العام، حكم
الأغلبيّة بواسطة تمثيل برلماني، مجموعة الحقوق الليبرالية التي
باتت شأناً عاماً في الديموقراطيّات الليبراليّة، الفصل بين الحيّز العام و الحيز
الخاصّ... لا شكّ أنّه أصبح من غير الممكن تخيّل ديموقراطية ليبرالية دون هذه
المقوّمات المتطوّرة بدورها باستمرار عبر تفاعلها في الواقع السياسي و الاجتماعي و
في نظريّة الديموقراطية. و لو أردنا أن نمنح الناس مع ذلك فكرة جوهريّة ترسي أساس
هذه الأفكار لسارع أحدنا الى القول إنّها فكرة
الحرّية، أو حرّية الخيار الأخلاقي، أو أوتونوميا
الفرد، أو فكرة التنافس..الخ. و الحقيقة أنّه لا ترجى فائدة مباشرة تذكر
للديموقراطية من مناقشة فلسفية لهذه الأفكار المجرّدة لأنّ العلاقة بينها و بين
الفكرة الديموقراطية هي علاقة تتوسّطها أعداد لا نهائية من الحلقات الوسطى و الاشتقاقات
و قد لا يقود تطويرها الفلسفي بالضرورة إلى الديموقراطية كنظام سياسي اجتماعي.
الفكرة التي تقف في أساس النظام الديموقراطي كمقوّم من مقوّماته أشمل و أعمّ من
باقي المقوّمات هي فكرة و واقع المواطنة.
ليست كلّ مواطنة ديموقراطية... كما أنّه ليست كلّ بضاعة
رأس مال، و لكن مفهوم البضاعة هو أساس مفهوم رأس المال في التاريخ و في البنية،
كذلك برأينا فإنّ مفهوم المواطنة هو أساس مفهوم الديموقراطية.
و بالإمكان فهم العلاقة الوثيقة و المباشرة بين فكرة المواطنة و الديموقراطية كما
أنّه بالإمكان التعامل بشكل مباشر مع عمليّة تطوّر الديموقراطية كتطوير للمواطنة و
كتعميم لها في آن معاً. إن الخليّة الأساسية و المكوّن الأصغر لنظام ديموقراطي
الذي يشتمل على عنصر الحياة الـ"ADN" في جسم الديموقراطية الحيّ هو
المواطنة. و نحن سنحاول في هذه الورقة القصيرة تأسيس الادّعاء:
بقلم: د. عزمي بشارة **
2002/12/23
مع انتشار المنحَى الرامي إلى
التبشير بـالديموقراطية كحالة من الوعظ أو الأمر بالمعروف
و النهي عن المنكر تكثر محاولات البحث عن تعريف للديموقراطية،
تعريف مختصر سهل الإرسال و الاستقبال بإيقاع وسائل الإعلام، و الحقيقة أنّه
لا يتوّفر تعريف قصير من نوع تعليمات الاستخدام التي ترافق الأدوات الكهربائية أو
لعب الأطفال لدى شرائها كذلك ليس لأنّ هنالك أنواعاً من الديموقراطية، و لا لأنّ
الديموقراطية مفهوم و واقع و نظام حكم متطوّر متبدّل متغيّر تاريخياً، فما نتصوّره
اليوم تحت مصطلح الديموقراطية هو ليس ما تصوّره اليونانيون
القدماء. هذه أمور باتت مسلّماً بها لا تحتاج إلى طويل برهان. و لا نسوق مثل هذه
1 ـ أنّ فكرة المواطنة و ممارستها
حتّى قبل أن تكون ديموقراطية هي مقدّمة النظام الديموقراطي،
2 ـ أنّه حتّى بعد
تأسيس النظام الديموقراطي يبقى في إطاره صراع بين فكرتين للمواطنة، فكرة عضوية تشتّق
فيها الحقوق من العضوية في المجموع و أخرى ليبرالية تشتّق فيها الحقوق بما فيها
الجماعية من المواطنة الفرديّة ذاتها،
3 ـ أنّ مسألة سياسات الهوّية تطوّرت
لأنّ هذا الصراع القائم في الديموقراطيّات لم يحسم بعد.
لنتذّهن النقاش القائم حالياً في
النظرية الديموقراطية حول أيهّما يسبق الآخر: إقامة
النظام الديموقراطي وتعميم حقّ الاقتراع أم الثقافة الديموقراطية ؟
و قد تابعنا جميعاً دون جهد كبير في هذا العصر الذي تصل فيه تجارب الشعوب الأخرى
مكرّرة و مشوّهة في آن معاً إلى
غرفة النوم، تابعنا كيف تعثّرت مسيرة الديموقراطية في بلدان حازت فيها على
الأغلبية في انتخابات ديموقراطية قوى غير ديموقراطية، كما تابعنا تجارب أخرى
تاريخية تمّ فيها إقامة النظام الديموقراطي دون انتظار انتشار الثقافة
الديموقراطية بالانتقال المباشر من ديكتاتورية فاشية الى ديموقراطية برلمانية في
دول أوروبية في منتصف هذا القرن، و شهد التاريخ ثالثاً النموذج الكلاسيكي الذي تطوّرت
فيه الديموقراطية بالتدريج و عمّم خلال هذا التطوّر حقّ الاقتراع بالتدريج و انتشرت
فيه الثقافة الديموقراطية تدريجياً. و يبدو أنّه لا يمكن تاريخياً العودة على هذا
النموذج الأخير فقد انتشر مطلب الديموقراطية و انتشرت إمكانية تخيّله شاملا في
حالته الجاهزة في كلّ بقعة من بقاع المعمورة و أصبح من غير الممكن ممارسة ديموقراطية مجتزّئة
بمنح حقّ الاقتراع لمن لديهم ثقافة ديموقراطية، أو للنخب فقط، لمن لديهم شهادة
جامعية تحديداً كما اقترح مؤخّراً أحد المثقّفين الديموقراطيين البارزين العرب. هل
سنبقى إذاً أسرى دوّامة الدجاجة و البيضة في كلّ ما يتعلّق بتطبيق الديموقراطية أو
المطالبة بها كنظام حكم في الدول غير الديموقراطية و منها الدول العربية؟ و الإجابة
هي نعم ما دمنا لا نفهم أنّه لا توجد إمكانية لانتشار الثقافة الديموقراطية و احترام
قواعد اللعبة الديموقراطية، ثقافة الحقوق فيما يتعلّق بعلاقة الفرد مع الدولة، مع
بقية الأفراد، دون ممارسة. و لكن كيف يمكن أن تكون هنالك ممارسة ديموقراطية قبل
إقامة النظام الديموقراطي؟ و الجواب مختصر و قاسٍ إلى أبعد الحدود، و لكن لا مفرّ
من مواجهة التحدّي الذي يطرحه: لا يمكن ممارسة الديموقراطية قبل قيام النظام
الديموقراطي دون تطوير المواطنة. المواطنة حتّى قبل
تداول السلطة بالانتخاب هي الإمكانية الوحيدة لممارسة
سيادة القانون و المساواة أمام القانون و لممارسة حدّ أدنى من
الحقوق أمام تعسّف السلطة و للمطالبة بالحقوق السياسية، يتوقّع المواطن حقوقا
سياسية بحكم هوّيته هذه أو بحكم كونه دافع ضرائب،
و لكنّ الرّعية لا تتوقّع حقوقا سياسية، بل تتوقّع أن تُعامل بالحسنى أو أن يتمّ
التسامح معها في أفضل الحالات. المواطنة هي
القاعدة التي تنطلق منها المطالبة بالديموقراطية ليس بغرض الوصول إلى السلطة فحسب،
بل بغرض ممارسة الديموقراطية و توسيع مفهوم المواطنة ذاته و عبر الديموقراطية أن
حكم الأغلبية من خارج منطلق المواطنة و لغرض آخر غير تعميق و تنظيم حقوق المواطن
هو في الواقع ديكتاتورية باسم الأغلبية. الديموقراطية ليست
حكم الأغلبية ، بل هي حكم ممثّلي الأغلبية بموجب القيم الديموقراطية و على رأسها
المواطنة. و المواطنة هي الوجه الآخر لسيادة الأمة، و لا تكتمل السيادة
القومية دون مواطنة و لا تجد تعبيرها الأكثر أمانة إلاّ بالديموقراطية. و الكيان
السياسي الذي ينقسم بين دولة مطلقة و رعايا غير مواطنين بتعريفهم تفصل بينهما هوّة
مفهوميّة سحيقة لا يطوّر جدلية تقود إلى الديموقراطية لأنّه لا يشكّل وحدة جدلية
تتفاعل فيها عناصر مكوّنة لها: فرد و مجتمع و دولة. فقط هذه الوحدة الجدليّة هي
التي تنبّت وتنّمي جدليّة مواطن ـ مجتمع مدني ـ دولة ديموقراطية. الدولة
دون مواطن هي دولة لا تجسّد فكرة سيادة الشعب. إنّها
السيادة المطلقة. و الرعيّة المحكومة دون مواطنة لا تجسّد فكرة
الحقوق و لا تطوّرها. المواطنة هي تنظيم محدّد جدًّا للعلاقة بين
الفرد و الدولة و بين الفرد و المجتمع، أو بقيّة الأفراد المعرّفين كمجتمع أو كجماعة و نحن لا
نقصد إطلاقاً الفرد بالمفهوم الحديث للفرد الأوتونومي المنفرد
في المجتمع مع انحلال الجماعة العضويّة. و إنّما نقصد الفرد بمعنى الواحد و قد تترتّب حقوق هذا الفرد على انتسابه لمجموعة
بشريّة نظّمت ذاتها تنظيماً سياسياً بغضّ النظر عن تسميّتها "مجتمع المدينة
اليونانية"، "القومية" في عصرنا و غيرها.. هذه الحقوق تنجب نوعا
محدّدا من المواطنة تشتّق فيه الحقوق من الانتماء إلى جماعة، أيّ من الهوّية في
الواقع. و لم تعرف الديموقراطية الأثينية القديمة
حقوق مواطن تشتّق من كونه مواطنا، بل عرفت "حقوق و واجبات" هي قواعد في
السّلوك ناجمة عن العضوية في الجماعة أو سَمِّها القبيلة إن شئت، و بهذا المعنى
كانت الديموقراطية الأثينية ديموقراطية قبلية إلى حدّ بعيد. و لا نجد نصّا واحدا
عند أيّ مفكّر يوناني قديم يتحدّث عن الدين كقضية تخصّ الفرد و حرّية اختياره
مثلاً، كما لا نجد نصاً واحداً يتحدّث عن حقوق الأقلّيات لأنّه لا توجد أقلّيات
أصلاً فمن جماعة تجمعها الهوّية، أو ضمن القبيلة، و لأنّ هنالك تناقضاً بين الحقوق
و بين عدم الانتماء للهوّية التي تمنح هذه الحقوق.
تجسّد المواطنة هنا مجموعة قيم
سياسية و اجتماعية يمكن تسميّتها قيماً جماعية، و لا شكّ أنّ هذا التأسيس القيمي
للمواطنة ما زال قائماً كخيط في تطوّر الديموقراطيات يصل حاضر الديموقراطية
بماضيها. و إلاّ فمن أين تأتي الثقافة السياسية التي تجعل الدولة ملكاً لجماعة هوّية
محدّدة لا ترى فقط أنّ الدولة هي تجسيد لإرادتها الجماعية، أيّ لسيادتها، بل والأهمّ
من ذلك أنّها ترى أنّ الفرد المنتمي لهذه الجماعة له حقوق ملكية، على دولتها
أو على ديموقراطيّتها، و بهذا المعنى يتمّ الربط بين الهوّية و الحقوق ـ ليس فقط
عبر إقصاء من لا ينتمي لهذه الهوّية من حقوق الملكيّة المزعومة التي تمّت خصخصتها
مثل كلّ شيء فأصبحت فرديّة أيضاً و ليست جماعية، و إنّما أيضاً عبر التأكيد على
الهوّية و الانتماء لهوّية محدّدة كذريعة أو كمبرّر للحصول على الحقوق و يتمّ ذلك
عبر التطرّف القومي أو الوطني أو الديني أو الكراهية لمن لا ينتمي لهذه الهوّية...
و في الدول التي تتمتّع فيها الخدمة العسكريّة بمكانة هامّة من مستوى الهوّية يتمّ
التأكيد على المساهمة في الخدمة العسكرية. و لا علاقة لهذه المباحثات إطلاقاً
بالعلاقة بين الحقوق و الواجبات دائماً هي ممارسة لنوع محدّد من سياسات الهوّية.
تخيّلوا حالة يتمّ فيها التأكيد على أنّ الديموقراطية هي تجسيد لسيادة جماعة يلتقي
فيه تعريفها لذاتها الديني مع الانتماء القومي السياسي، هنا يصبح التديّن بحدّ
ذاته تأكيداً على الانتماء لهذه الجماعة التي تشتّق منها الحقوق، و يصبح التأكيد
على الرّموز الدينيّة ممارسة وطنية تزكّي صاحبها بأسهم في الدولة. و إذا أضفنا
أيضا أنّ غالبية المنتمين لهذا الدين ـ القومية لا تعيش في الدولة، و مع ذلك فإنّ
الدولة ترى ذاتها كدولتها، و إنّه تعيش في هذه الدولة جماعة كبيرة نسبياً من السكّان
الأصليين الذين لا ينتمون إلى هذه القومية ـ الدين و لا ترى الدولة ذاتها كدولتها،
بإمكاننا أن نتخيل ماذا يجري هنا لمفهوم المواطنة في ديموقراطية ليست بحكم تعريفها
للمواطنين و إنّما للمنتمين لهذا الدين. هنا نقع بألف مشكلة و مشكلة تفرغ المواطنة
من المضمون لأنّه بمجرّد تغيير الدين و الانضمام إلى هذه الهوّية يصبح أي
فرد مؤهّلاً للحصول على حقوق تتجاوز حقوق السكّان الأصليين. و إذا أضفنا لذلك
مثلاً أنّ هذه الدولة في حالة حرب أو صراع عسكري مع جيرانها يصبح التأكيد على
الخدمة و القيم المرافقة لها تأكيدا على الانتماء للهوّية ونوعاً من احتلال الأسهم
الإضافية التي تؤهّل "لاحتلال حقوق" أكثر. مقابل هذه النزعة المواطنيّة
المرتبطة بالهوّية يمتدّ خيط تطوّر آخر ناظم لتاريخ الديموقراطية الليبرالية تشتّق
فيها الحقوق من مواطنة الفرد، أيّ من كونه مواطناً في الدولة. وقد تطوّر هذا
المفهوم مؤخّراً إلى درجة اعتبار الهوّية و الحقوق الجماعية أحد الاشتقاقات
الممكنة من حقوق الفرد بدل أن تكون حقوق الفرد مشتقّة من هوّيته. و بهذا المعنى
فإنّ المواطنة المتساوية هي الناظم الوحيد للعلاقة بين الفرد و الدولة وهي بذلك
تحيِّد هوّيات الفرد الدينية أو القومية أو غيرها عن العلاقة بين الفرد و الدولة،
و في الوقت ذاته فإنّها باتت تفرد للفرد حقّ الانتماء لجماعة هويّة ثقافية أو
دينية أو غيره ما دام هذا الانتماء لا يمسّ بحقوق المواطن كما تعرفها درجة محدّدة
من تطوّر الديموقراطية الليبرالية. و لكن كلّنا يعلم أنّ هذا كلام مجرّد و إنّ
هنالك علاقة بين الانتماء لجماعة بعينها و بين حقّ الحصول على مواطنة أصلاً. هذا
صحيح و يجب أن يكون صحيحاً بالولادة فقط أي عند الولادة في دولة ديموقراطية بعينها
أو عبر الانتماء الأسري لأب و أم مواطنين، و لكن يجب ألا يصح هذا الأمر فيما عدا
هذه الحالة من الحصول على المواطنة بموجب هذا المفهوم.. هل يعني أنّه لا توجد
بموجب هذا النوع من التفكير علاقة بين الدولة و بين جماعة هوّية سياسية، قومية
مثلا، بعينها ؟ لا، بل توجد أكثر من علاقة، لأنّ الدولة القومية هي تاريخياً تجسيد
لسيادة جماعة قومية ساهمت في تشكل الدولة الحديثة و حدودها، و ساهمت الدولة
الحديثة في تشكّلها. و لكن هذا يصحّ على المستوى الجماعي، و لا يصحّ إطلاقاًُ على
المستوى الفردي. بمعنى أنّ كون الدولة الديموقراطية أيضاً تجسّد تاريخياً حقّ
تقرير المصير لقومية بعينها إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ الأفراد المُنتمين لهذه
القومية يملكون أسهماً في الدولة كأنّها شركة و أنّهم بهذا المعنى يحملون حقوق
ملكية عليها أكثر من غيرهم من الأفراد لمجرّد أنّهم ولدوا لأهل يحملون هذه الهوّية.
و لكن هذا التمييز وحده لا يكفي، فمع ولوج هذا المسار من تطوّر المواطنة
الديموقراطية الفرديّة يبدأ التمييز بين الأمّة كجماعة
المواطنين في دولة بحيث تصبح الأمّة هي الوجه الآخر للمجتمع المدني كممارس للسّيادة،
و بين الهوّية القومية من ناحية أخرى كهوّية ثقافية تحافظ على تماسك غالبية
المجتمع و لكنّها أنهت دورها السياسي في الدولة بعد أن تجسّدت كدولة. الدولة الديموقراطية هي دولة
المواطنين و لا يمكن أن تكون دولة دين أو
جماعة من المواطنين أو جماعة خارج المواطنين. و صحيح أنّه في الدولة الديموقراطية
تتنازع مفهوم المواطنة نزعات مختلفة و متصارعة و لكن في النهاية ينحاز
الديموقراطيون لحقوق المواطن. بموجب هذا التقسيم المفهومي للمواطنة ينجم نمطان من
التعامل مع مسألة الهوّية: يتعامل النمط الأوّل مع الهوّية كمسألة عضوية و كأساس
للمواطنة و بالتالي لقواعد السلوك المسمّاة مجازاً حقوقاً و واجبات. كما يتعامل مع
الدولة كتجسيد تاريخي لهوّية بعينها تعيد الدولة إنتاجها و تكتب تاريخها بشكل حصري
يجعل تاريخ الجماعات تاريخاً قومياً. أمّا النمط الثاني الذي يتعامل مع الهوّية
كقضيّة تاريخية أو ثقافية يسعى إلى تحييدها عن العلاقة بين الفرد و الدولة فإنّه
يشتّق تعريفه بالحقوق الفرديّة فحسب. و لكنّه يصل في النهاية إلى الاعتراف بحقّ
تشكيل الهوّية الجماعية بواسطة الأفراد و الاعتراف بحقوق جماعية لهذه الجماعة مشتقّة
من حقوق الأفراد و غير متعارضة معها. هنا ينشأ خطر آخر لم يكن متوقّعاً في الفكر
الديموقراطي الليبرالي وهو أن يتمّ تبنّي الهوّية كأداة في الصراع الاجتماعي الداخلي.
هنا تبرز نخب غير ديموقراطية الثقافة و التكوين كممثّلة لهوّيات جزئيّة داخلية
يسعون إلى تمثيلها أو إلى تشكيلها من أجل تمثيلها في الحيّز العام. هنا يحلّ تمثيل
هوّية مدعاة مثل الطائفة أو الإقليم أو غيره إلى بديل للكفاءة و يتمّ من جديد
الالتفاف على المواطنة المتساوية من زاوية غير متوقّعة تبدو لأوّل وهلة
ديموقراطية. و هذا يطرح تحدياًّ جديداً لمفهوم المواطنة. إنّ التحدّي الأساسي الذي
يواجه القوى الديموقراطية في الدولة غير الديموقراطية هو ممارسة تحدّي المواطنة و تعويد
الفرد أن يتصرّف كمواطن و تعويد القوى السياسية المختلفة أن تتبّنى مفهوم المواطنة
المتساوية و المساواة أمام القانون. أنتم تعلمون أنّني انتمي
إلى الشعب العربي الفلسطيني المحروم من المواطنة لأنّه يرزح
تحت الاحتلال و يحرم من حقّ تقرير المصير و من السيادة ولا يمكن الحديث عن مواطنة
في ظلّ الاحتلال و دون سيادة كاملة، لقد أسلفنا أنّ
المواطنة هي الوجه الآخر للسيادة. كما أنّني مواطن في دولة تعتبر
الانتماء الديني أو القومي أساس علاقة الفرد بالدولة، إنّني، ابن سكّان البلاد الأصليين،
مواطن في دولة ليست لمواطنيها. و من هذين السياقين، من هذين الموقعين، من زاويتي
النظر هاتين تحدثّت إليكم عن المواطنة.
شكرا لمؤسسة ابن رشد على اختيارها
لحرّية الفكر في العالم العربي داعيا لمنح جائزة.
* كلمة
ألقاها د.عزمي بشارة في احتفال منحه جائزة ابن رشد للفكر الحرّ لسنة 2002 في
العاصمة الألمانية "برلين" يوم 14 كانون الأوّل، وهي مترجمة عن اللغة
الالمانية.
** رئيس التجمّع
الوطني الديمقراطي ـ الناصرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق