مفاهيم النهضة و التجديد و الإصلاح: من التأسيس إلى الاختلال
محمد الحدّاد: باحث و أكاديمي من تونس.
1 ـ التأسيس الحديث للمفاهيم التجديدية:
قضية التجديد قضية قديمة في الحضارة العربية الإسلامية، عبّر عنها القدامى بألفاظ عديدة، أهمّها مصطلح (الاجتهاد) الذي استعمل في ميدان الفقه و أصوله (1)، و مصطلح (التوليد) الذي استعمل في ميدان الأدب و نقده (2)، و مصطلح (الاستحداث) الذي استعمل في ميدان التفكير الاجتماعي (3). و اشتهر أيضا مصطلح (الإحياء) بسبب القيمة الاستثنائية التي حظي بها في الفكر الديني الإسلامي كتاب أبي حامد الغزالي (إحياء علوم الدين)، و استعملت كلمة (تجديد) الواردة في الحديث القائل بأنّ الله يرسل على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد للأمّة دينها، و اهتمّ القدامى بتعيين سلاسل المجدّدين حتّى أصبحت تنظّم في شكل أرجوزات... إلخ.
كلّ هذه الكلمات المستعملة قديما استعيدت في العصر الحديث في سياقات و توظيفات مختلفة، منذ أن تحوّل خطّ الفصل و المباينة من داخل الحضارة العربية الإسلامية إلى علاقة هذه الحضارة بحضارة أخرى يراها البعض الحضارة الحديثة التي يتعيّن الاقتباس منها ويراها البعض الآخر الحضارة المنافسة التي ينبغي مواجهتها.
و في خضمّ هذا المعطى الجديد نشأت عبارة مولّدة هي (النهضة) التي جمعت كلّ العبارات السائدة (اجتهاد، تجديد، إصلاح، إحياء، ..) و أدمجتها ضمن حركة تشمل كلّ المجالات المعرفية و العملية و تضمّ مختلف التجديدات التفصيلية المتعلّقة بمختلف ميادين الحياة الاجتماعية. و كلمة نهضة ذاتها ـ التي أصبحت مقبولة لدى مختلف أطياف الخطابات العربية، من أقصى اليسار العلماني إلى أقصى اليمين الأصولي ـ تؤكّد أن شيئاً مختلفا قد حصل، وهو السياق نفسه الذي أصبحت تتنزّل فيه المناقشات الحديثة، و أهمّ عناصره ما ذكرناه من تحوّل التباينات من الداخل الحضاري إلى العلاقة بحضارة أخرى. و من هذا المنطلق دافعنا باستمرار عن تميّز الفترة الإسلامية الحديثة عن العصر الإسلامي الكلاسيكي و نبّهنا إلى ضرورة صقل مفاهيم و مناهج خاصّة عند الحديث عن الإسلام في العصر الحديث (4). و من جملة الأدوات التي دعونا إلى اعتمادها مفهوم (البراديغم) أو (الوضع الأنموذجي)، و قد استوحيناه من كتاب كون المشهور (بنية الثورات العلمية) (5).
لقد اشتهر مصطلح (البراديغم) بعد نشر هذا الكتاب المهمّ، و كان صاحبه قد استعمله في الميدان العلمي تحديدا للتعبير عن الانتقال من وضع معيّن لطرح القضايا العلمية إلى وضع آخر دون التخلّص بالضرورة من مجموع العناصر و المعطيات العلمية، بل باستعادتها ضمن نسقيّة إشكالية جديدة. نعتبر أيضا أنّ المفاهيم التراثية القديمة، ـ مثل (اجتهاد) و (تجديد) و (إحياء) ـ قد تواصلت في الخطاب الإسلامي الحديث، لكنّها أصبحت تتّخذ وظائف دلالية جديدة في ظلّ السياق الجديد الذي أصبحت تطرح فيه. و هذا لا يعني فقط أنّه وجد سياقا جديدا، بل يعني أيضا أنّه وجد روّادا قاموا بتأسيس الإطار العام الجديد الذي سيحوّل وظائف القديم و يمنح أدوات إضافية لقراءة الحاضر. و هذا ما يمثّل في تقديرنا (براديغم) أو (الوضع الأنموذجي) للنهضة أو الإصلاح أو التجديد كما تشكّل في القرن التاسع عشر، و قد حاولنا تحديد خصائصه في دراسات عديدة سعت إلى التخلّص من الطرق السردية و الكتابة النضالية لطرح القضية في إطار الحفر التأويلي في عمق الآليات المنتجة للوعي و للخطاب.
لقد حصل التأسيس الحديث للمفاهيم التجديدية من خلال تأسيس مجموعة من العناصر المشكلة للرِؤية و المرتبطة بالعلاقة بالعالم الحديث / الآخر من جهة، و بالأنا في ماضيه و مستقبله من جهة أخرى. هذه العناصر محدودة العدد لكنّها عميقة الانتشار في الفكر المدعوّ بالنهضوي. و سوف نعتمد أساسا على كتاب خير الدين (أقوى المسالك في معرفة أحوال الممالك) لاستخراج الشواهد و الأمثلة، لكن التحليل الذي سنقدّمه يمكن أن يجد له نفس المستندات في كلّ الكتابات النهضوية التي وضعها جيل الروّاد.
2 ـ الآخر بين الإبهار و التهديد و الاختلاف:
طرحت قضايا النهضة و الإصلاح و التجديد ابتداء من العصر الحديث في علاقة بطرف آخر حاضر و قوي و فاعل، و هذا وضع غير مسبوق؛ لأنَّ معارك المحافظة و التجديد قد قامت في السابق في ظلّ التفوّق السياسي، بينما تنزّلت في العصر الحديث في وضعية الوهن الحضاري، و تصاحب اكتشاف الآخر المتفوّق باكتشاف هذا الوهن الذي أصاب الذات إصابة عميقة.
هذا الآخر عُيّن في القرن التاسع عشر على أنّه أوروبا، و لم تظهر كلمة (غرب) إلاَّ في فترة لاحقة؛ لأنَّ أمريكا لم تدخل بوضوح غمار المنافسة الاستعمارية في المتوسّط و الشرق الأوسط إلاَّ مع الحرب العالمية الأولى، و اليابان كانت تصنّف في القرن التاسع عشر أمّة شرقية، و الشيوعية لم تتحوّل فاعلا سياسيا دوليا يقسّم أوروبا نفسها إلى غرب و شرق إلاَّ في القرن العشرين. و لقد ظهرت أوروبا لروّاد النهضة في أقانيم ثلاثة: أوروبا المبهرة ـ أوروبا المهدّدة ـ أوروبا المباينة، هذا الواحد المتعدّد الأوجه استدعى موقفا متشعّب العناصر. لماذا كانت أوروبا مبهرة ؟ سجّل خير الدين هذا الإبهار في مجالات عديدة أبرزها ـ لأنّه الأكثر ظهورا للعيان ـ الإبهار بمخترعاتها، فقام بتخصيص فصل في (تلخيص المكتشفات و المخترعات)، ذكر فيه الكثير من المخترعات التي قلبت حياة البشر، من المطبعة إلى المرآة إلى الآلة البخارية و من السّفن و القطارات إلى المنطاد و الكهرباء. و ذكر فيه أيضا الاكتشافات التي قلبت صورة العالم، من اكتشاف رأس الرجاء العالم إلى اكتشاف أمريكا إلى اكتشاف الأوبئة و العناصر التي تسمح بالتصدّي لها.
من هذا الجانب، تبدو أوروبا مبهرة حقّا، ولا مناص من الاقتباس منها و الاستفادة من مخترعاتها و مكتشفاتها. لكن اقتباس النتيجة يتطلّب أيضا اقتباس السبب، و السبب هو انتشار التعليم و إعلاء شأن المعرفة، فيتعيّن أيضا اقتباس النظم التعليمية و العلمية و البحثية التي اعتمدتها أوروبا. و المبهر أيضا في أوروبا الازدهار الاقتصادي الهائل الذي بلغته، حتّى أنّ خير الدين يضطرّ بعد عرض أرقام التطوّر البشري و الاقتصادي و العسكري في فرنسا إلى أن يوجّه إلى قارئه التنبيه التالي: (إنّ ما تقدّم من أرقام في بيان ما للأمّة الفرنساوية من الثروة و ما لدولتها من الدخل و كذا ما سيأتي من البيان لما ذكر في بقية ممالك أوروبا ربّما يستكثره الناظر(..). و محصّل جوابنا للمنكر هو ما أجاب بمثله ابن خلدون لماّ بين مداخيل الدول الإسلامية و خشي استكثار الناس لذلك فقال: و لا تنكرنّ ما ليس بمعهود عندك و لا في عصرك شيئاً من أمثاله فتضيق حوصلتك عن ملتقط الممكنات) (6). و هنا أيضا تصح قاعدة اقتباس السبب لتحصيل النتيجة، فيقتضي الوضع اقتباس النظام الاقتصادي القائم على حرّية السوق و المبادرة الفردية، فهو الذي جعل أوروبا توفّر لنفسها الثروات الضخمة و تبرز في هيئة الفردوس الأرضي. و المبهر أيضا في أوروبا قوّة دولها التي تستطيع أن تدافع على حقوق مواطنيها و تفرض مصالحها و وجهات نظرها، و قد قويت بفضل نظمها السياسية القائمة على الحرّية و الدستور و المجالس المنتخبة، فيتعيّن أيضا الاقتباس من هذه النظم للاستفادة من تحقّق هذه المنافع. و أوروبا مبهرة بقوّتها العسكرية، وهي المحصلة لكلّ ما سبق، لأنّها نتيجة التطوّر التكنولوجي، و لا تتحقّق إلاَّ بالنفقات الضخمة التي يوفّرها اقتصاد مزدهر، و لا يحسن التصرّف فيها إلاَّ في ظلّ أنظمة ديمقراطية تتّفق فيها الإرادات من أجل الصالح العام بدل أن تستعمل القوّة لإخماد الثورات و الاستبداد بالشعوب. هذا هو الوجه المبهر في أوروبا، أمّا الوجه الآخر فهو وجهها المهدّد. لكن التهديد يمثّل من وجهة النظر التجديدية دافعا للاقتباس لا دافعا للانزواء، فنجد خير الدين ينقل عن (بعض أعيان أوروبا) ما معناه: (إنّ التمدّن الأورباوي تدفّق سيله في الأرض فلا يعارضه شيء إلاَّ استأصله قوّة تيّاره المتتابع، فيخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيّار إلاَّ إذا حذوا حذوه و جروا مجراه في التنظيمات الدنيوية، فيمكن نجاتهم من الغرق). ثمّ يعلّق بأنّ هذا القول محزن لمحبّ الوطن لكنّه مِمَّا يصدقه العيان و التجربة (7). و معنى ذلك أنّ الوسيلة الوحيدة في نظره لتوقّي ضرر أوروبا تتمثّل في الاقتباس منها، و أنّ التهديد حجّة إضافية على ضرورة الانفتاح على الحضارة الحديثة، و التهديد الأوربي إمّا عسكري أو اقتصادي أو سياسي. فالأوّل لا يمكن مواجهته إلاَّ بنفس الأسلحة التي تستعملها الجيوش الأوروبية، و الثاني لا يمكن مواجهته إلاَّ بحذق الوسائل الحديثة لتنمية الأسواق و تنمية المبادلات التجارية. و أمّا الثالث، فمواجهته لا تصحّ إلاَّ إذا استقرّت العلاقة بين الحاكم و الشعب علاقة قوية متضامنة، و إلاّ كانت الانقسامات و الاضطرابات مدعاة لتصدّع الجبهة الداخلية.
الوجه الأخير الذي تظهر به أوروبا هو وجه المباينة. و المباينة غير الاختلاف؛ لأنَّ الاختلافات تتعلّق بنوعين من الأمور: إمّا الاختلافات التي تعبّر عن التنوّع ـ مثل اختلاف اللغات و ألوان البشرة ـ فهذه ليست عناصر مباينة بين البشر، و إمّا الاختلافات التي تعبّر عن مستوى التمدّن، و هذه أيضا ينبغي أن لا تتحوّل إلى عناصر مباينة بين البشر، بما أنّ الأدنى درجة سيعمل على الالتحاق بمن سبقه في الحضارة. أمّا المباينة فاختلاف لا يمكن استدراكه أو تغييره، و الصورة الوحيدة التي تصحّ منه هي صورة المباينة بالديانة، إذ لا يمكن أن تتنازل مجموعة عن دينها. و لمّا كانت الحضارة الحديثة / الأوروبية قد قامت على أساس العلمنة، فإنّه لا خوف من المباينة، فالدين المسيحي ليس جزءًَا من الحضارة / أوروبا، واقتباس المسلمين عن الحضارة / أوروبا لا يشمل المجال الديني.
فالمباينة ليست جزءًَا من عناصر التهديد، و عناصر التهديد ليست ضدّا لدوافع الاستفادة، و هكذا توحدت الأقانيم الثلاثة لتكوّن صورة للآخر تتماشى مع الرغبة في الاقتباس منه دون الخضوع له و قبول هيمنته. هذه صورة أوروبا / الحضارة الحديثة و قد قدّت على مقاس الرغبة في النهضة و الإصلاح و التجديد و أسقطت صورة المنشود في الآخر كي تفتح مجال تحقّق المنشود من الذات.
3 ـ الآخر في صورة المنشود للذات:
إنّ منشود الذات هو النهضة، فلم يقتض ذلك مجرّد استلهام فكرة النهضة العربية الإسلامية من النهضة الأوروبية، بل جعل الروّاد يحملون تمثّلا للنهضة الأوروبية يستجيب إلى ما كانوا ينشدون لتحقيق: النهضة العربية و الإسلامية. و إذا كانت أوروبا في أقانيمها الثلاثة هي الصورة المحتفظ بها نتيجة المعاينة (تسجيل ما شاهده الروّاد في رحلاتهم الأوروبية)، فإنّ ثمّة أيضا الصورة التي اعتبرت نتيجة السبر التاريخي (تلخيص ما احتفظ به الروّاد من قراءاتهم في مصادر التاريخ الأوروبي). و قد استعرضنا معالم الصورة الأولى، صورة المعاينة بأعين نهضوية، و لنستعرض الآن معالم الصورة الثانية، صورة التاريخ المقروء بمشاغل الذات التي تبحث عن عناصر المشروعية و التفاؤل فيما تنشده لمستقبلها.
لقد أقام الأنموذج النهضوي تاريخ أوروبا في مراحل ثلاثة هي التالية: أوروبا الانحطاط ـ أوروبا النهضة ـ أوروبا القوّة و الازدهار. أوروبا الانحطاط حسب خير الدين هي ستمائة سنة، تمثّل العهد الذي دعاه المؤرخّون الأوروبيون بالعصر الوسيط، و كان التاريخ الأوروبي في القرن التاسع عشر ـ و التاريخ الفرنسي خاصّة ـ يبرز هذا العصر في صورة قاتمة و يراه عصر الظلمات. و من المعلوم أنّ هذه الصورة قد عدّلت في القرن العشرين بنشأة مدارس تاريخية قامت بمراجعتها و اعتبرتها مبالغا فيها (8)، و كانت نية المؤرّخين الأوروبيين في القرن التاسع عشر تأكيد القطيعة الحاصلة بين العصر الوسيط الإقطاعي الديني و العصر الحديث القائم على الرأسمالية و القومية و العلمانية. و قد أخذ منهم الكتّاب العرب و المسلمون هذه الصورة و وظّفوها توظيفا آخرا يستجيب للهمّ النهضوي، فاستعملوها لتأكيد أمرين:
أوّلا: يمكن أن تطول فترات الانحطاط ثمّ تعقبها النهضة من جديد، هكذا كان الشأن مع أوروبا في الماضي و هكذا يمكن أن يكون مع العالم الإسلامي في المستقبل.
ثانيا: بين أوروبا في العصر الوسيط و أوروبا في العصر الحديث قطيعة في مستوى علاقتها بالمسيحية، فقد كانت المسيحية هوّيتها السياسية في السابق، لكنّها لم تعد في العصر الحديث جزءا من حضارتها، فلا مانع من اقتباس هذه الحضارة المتخلّصة من المسيحية، و لا علاقة بين أوروبا الصليبية التي كانت تسعى إلى محاربة الإسلام و أوروبا الحديثة التي لا تتدخّل في قضايا الأديان.
أمّا أوروبا النهضة فقد قدّت على مقاس النهضة المنشودة للعالم العربي و الإسلامي. فاعتبر العامل الأكبر للنهضة الأوروبية اقتباسها علوم العرب و معارفهم سواء في فترة الحروب الصليبية أو من خلال التجاور الأوروبي العربي بعد استرداد الأندلس و جنوب إيطاليا. و كان بعض المؤرّخين الأوروبيين قد أهتمّ بإبراز هذه المديونية للحضارة العربية الإسلامية و عدّها عنصرا من العناصر الثانوية لتفسير النهضة الأوروبية، و ربّما حرص القليل منهم على إبراز هذا العنصر و تأكيده، مثلما فعل المؤرّخ سدليو Sedillot (1808-1887) في كتاب له بعنوان (تاريخ العرب) (9)، و قد اعتمد الروّاد هذا الكتاب و غيره و وظّفوا أطروحة المديونية الأوروبية للعرب لتأكيد أمرين:
أوّلا: إنّ الاقتباس قاعدة من قواعد كلّ نهضة، فقد قامت النهضة العربية في عصر المأمون على اقتباس الفلسفة و العلوم الإغريقية، و قامت النهضة الأوروبية في العصر الحديث على اقتباس المعارف العربية، و لا تقوم النهضة في العالم العربي و الإسلامي إلاَّ باقتباس معارف العصر المتطوّرة في أوروبا خاصّة.
ثانيا: إذا كان الأوروبيون قد اقتبسوا من العرب معارفهم و طوّروها فلا ضير أن يقتبس منهم العرب و المسلمون في العصر الحديث، فهم بمثابة من يسترجع ما أخذ منه، مع التسليم بفضل الأوروبيين في تطويره، و لا شكّ أنّ هذه النظرة قد قدّت لتخفّف من الوقع النفسي المتوقّع للاقتباس، بما يعنيه من الاعتراف بتفوّق الآخر و ضرورة التلمذة عليه.
أمّا أوروبا في عصر القوّة و الازدهار، أي تلك التي أصبح ممكنا معاينتها بالأسفار و الرحلات، بل أصبحت قريبة من العرب و المسلمين بما استوردوه من آلاتها و عاداتها، فقد احتفظ منها الروّاد بالجوانب الإيجابية: الازدهار الاقتصادي، الحرّية السياسية، العلوم و المعارف، القوّة العسكرية، المكتشفات و المخترعات، الخ. أمّا الجوانب الأخرى، مثل وضع الطبقات العاملة الذي كان الاشتراكيون يكشفونه و يدينونه، أو الفضائح المالية الضخمة مثل تلك التي كشفت مع شقّ قناة باناما أو قناة السويس، أو العنف في المستعمرات الأمريكية، فقد كان شبه غائب لدى الروّاد، إذا استثنينا إشارات لدى فارس الشدياق وفرنسيس مراش. و يمكن تفسير هذا الأمر بعاملين:
أوّلا: إنّ الروّاد قد خبروا أوروبا في الغالب من خلال رحلات رسمية و منظمة، فلم يطلّعوا إلاَّ على ما كانت أوروبا تودّ إبرازه من حضارتها، و لم يشذّ على ذلك إلاَّ من عاش هو نفسه فقيرا بين فقراء أوروبا و اطّلع على وجهها الآخر، مثل فارس الشدياق (10).
ثانيا: إنّ وصف أوروبا لدى الروّاد كانت له غاية إصلاحية نهضوية، و نقل المساوئ يتنافى مع تلك الغاية، فكان ضروريا تجاهلها أو التغافل عنها، لا سيّما أنّ قضايا مثل الطبقية أو التلوّث أو تدمير الأرياف كانت قضايا عسيرة الإدراك بالنسبة إلى مواطني مجتمعات سابقة للتشكيلات الرأسمالية الحديثة.
4 ـ تشابك المصطلحات:
تتمثّل المرحلة الأخيرة في التأليف بين صورة أوروبا و النهضة المنشودة في اعتماد مصطلحية مزدوجة، فقد اقتبست المصطلحات الجديدة وعرّبت تعريبا صوتيا، ثمّ وضعت مقابلها مصطلحات عربية معروفة. مثال ذلك كلمة Constitution، استعمل خير الدين تعريبها الصوتي في مواضع كثيرة (الكنستيتسيون) ثمّ قرّبها لمواطنيه بقوله: (الكنستيوسيون المرادف للتنظيمات السياسية) (11). و من الملاحظ أنّه، أي خير الدين، لم يستعمل كلمة دستور، فالظاهر أنّه تفادى استعمال مصطلحات كانت مستعملة لدى منتقدي السلطة العثمانية، و حاول تقريب النظم الأوروبية إلى ما كان معروفا لدى الموظّفين العثمانيين. بينما نرى الطهطاوي قبله لا يستعمل كلمة تنظيمات؛ لأنَّ مصر كانت في مواجهة مع السلطان محمود الثاني، و قد فضّل أنّ يعرّب تعريبا صوتيا كلمة Chartes الفرنسية فاستعمل كلمة (شرطة) عندما قام بتعريب الدستور الفرنسي في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز).
و مثال ذلك أيضا: النظام النيابي الذي دعاه خير الدين بالمجالس و رآه مرادفا لهيئة أهل الحلّ و العقد قديما، و لمبدأ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر المنصوص عليه في القرآن و السنّة. إنّ هذا التشابك المقصود بين المصطلحات القديمة و الحديثة إنّما كانت الغاية منه تقريب الأنظمة الحديثة للقرّاء و تهيئتهم للقبول بها و تفادي الشعور بالمباينة بين النموذج المنشود للنهضة و الوضع المألوف لدى هؤلاء القرّاء، إضافة إلى توظيف الشحنات الدينية لبعض المصطلحات للإيحاء بالضرورة الشرعية للإصلاح و التجديد. فإذا كان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فرض كفاية فقد أصبح تنصيب المجالس فرض كفاية أيضا.
نرى أنّ براديغم النهضة لم يكتف برسم صورة أوروبا بطريقة مزدوجة لتكون مصدر الاقتباس و مصدر الخشية في الآن ذاته، بل أنّه رسم هذه الصورة لتكون ملهمة لمشروع النهضة العربية، و لتقدّم لهذا المشروع ضمانات معقوليته و قابليته للإنجاز. و على هذا الأساس فإنّه يكفي أن تحوّل الصورة من الماضي إلى المستقبل، و من المنجز إلى المنشود، كي تتّضح معالم النهضة العربية المنشودة. و على هذا الأساس أيضا تمّ التخفيف من وطأة الجدل حول التقليد و التجديد؛ لأنَّ تقليد أوروبا أصبح يعدّ ـ بمقتضى هذه الصورة ـ تقليدا للماضي العربي الإسلامي و تجديدا مطلوبا بمقتضى الأسس التي قام عليها ذلك الماضي و كانت سببا في ازدهاره.
تبرز قيمة هذه الصورة في وظيفتها العملية، باعتبارها تمثّل دافعا قويّا للعمل من أجل النهضة و الإصلاح و توحّد بين الذين أخذوا على عاتقهم المشاركة في هذا الفعل الحضاري. وهي مع ذلك لا تخلو من الاختلال من الناحية النظرية، لأنّها لا تتعمّق في فهم طبيعة الرأسمالية و طابعها الإمبريالي، و يكفي أن نشير مثلا إلى أنّ (أقوم الممالك) لخير الدين قد صدر في نفس السنة التي صدر فيها الجزء الأوّل من كتاب (الرأسمال) لكارل ماركس، وهو الكتاب الذي كشف الوجه الآخر للحضارة الأوروبية / الحديثة بصفتها قائمة على الاستغلال و التوّسع و تدمير أنماط الحياة المختلفة عنها. ثمّ إنّها صورة مفرطة التفاؤل، فالهوّة الحضارية كانت ضخمة بين الشرق و الغرب، و لا يكفي أن يقتنع بعض المستنيرين بأهمّية العلم و المخترعات كي يلتحق العالم الإسلامي بالثورة المعرفية الحديثة التي شيّدت على مدى قرون و كان هو مفصولا عنها، ولا يكفي أن يقتنع بعض الحكام بالحكم المقيّد؛ لأنَّ الطبيعة العشائرية للسلطة لن ترتقي بالممارسة السياسية إلى مستوى الديمقراطية الغربية. ولا يكفي أن تنفتح العقول على قواعد الاقتصاد الحديث؛ لأنَّ انفتاح أسواق تقليدية على الاقتصاد الرأسمالي المعولم ينسفها نسفا و يؤدّي إلى الإفلاس المحقّق. و مع ذلك فقد كان روّاد النهضة على حقّ عندما أكدّوا أنّه لا يوجد خيار آخر غير الانخراط في الحضارة الحديثة؛ لأنَّ مواصلة التردّد في الإصلاح يزيد هذه الهوّة الحضارية اتّساعا و يزيد الأوضاع ضعفا و وهنا. فكلّما تأخّرت إرادة التجديد و سيطرت نزعات المحافظة إلاَّ و أصبح مشروع النهضة أكثر عسرا.
5 ـ من الإصلاحية إلى الأصولية:
لا بدّ من الإقرار بأنّ التأسيس الحديث للمفاهيم التجديدية لم يختلّ بسبب مراجعات نظرية؛ لأنّه كان في ذاته بناء ذا طبيعة عملية لا نظرية، لكنّه اختلّ لارتطامه بمجموعة من الأحداث التي لم يتوقّعها أو لم يشأ أن يمنحها الأولوية في منواله التفسيري، و أهمّها:
ç توسّع الظاهرة الاستعمارية الأوروبية لتشمل الفضاء الإسلامي.
ç الانقسام القومي الأوروبي و تحوّل العلم إلى أيديولوجيا و سقوط ملايين الضحايا بسبب الأسلحة الحديثة التي أنتجها التطوّر التكنولوجي.
ç نموّ الحركات الفكرية و السياسية ذات التوجّه الاشتراكي التي ميّزت بين الحداثة و الرأسمالية و كشفت عن الطبيعة التوسّعية الاستغلالية للأخيرة.
ç بروز محدودية الفوائد المترتّبة على بعض التجارب النهضوية التي قادتها بعض الحكومات الإصلاحية في العالم العربي و الإسلامي.
هكذا بدأ البراديغم الإصلاحي يتراجع و يحلّ محلّه نقيضه، الذي يمكن أن ندعوه بالبراديغم الأصولي، و قد نشأ في فترات التحرّر الوطني و قيام الدول ما بعد الاستعمارية، ففي هذه الفترات لم تعد أوروبا شيئاً مبهرا؛ لأنَّ مجاورتها الجغرافية و الاستعمارية حوّلتها إلى أمر مألوف، لقد أصبحت (مستأنسة) لا حاجة للناس لتسجيل أسفارهم إليها، و أصبحت مخترعاتها متاحة للجميع، و غلبت منها الجوانب السلبية التي كشفتها حربان كونيتان طاحنتان و عمل مفكرّوها النقديون على إبرازها بقوّة.
لقد وصفنا البراديغم الأصولي بأنّه النقيض؛ لأنّه يأخذ نفس العناصر و المكوّنات فيرسم منها صورة تقع على النقيض تماما، و أفضل مثال على ذلك نجده في كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟) للندوي، و قد أثّر في سيد قطب تأثيرا بالغا و وجّه كتاباته و تنظيراته (12). فقد تغيّر السؤال من: ماذا يقتبس المسلمون من الأوروبيين ؟ إلى: ماذا خسر الأوروبيون بعدم اقتباسهم من المسلمين ؟ و ترتّب على ذلك انقلاب البراديغم رأسا على عقب.
فالبراديغم الإصلاحي يرى أنّ الوجه المبهر لأوروبا يدفع إلى الاقتباس عنها و الاستفادة منها، بينما يرى البراديغم الأصولي أنّ الانبهار لا يأتي من عظمة المنجزات الأوروبية و لكن من شعور المسلمين بالضعف أمامها، فيتعيّن التخلّص من شعور الانبهار كي يسقط النموذج الأوروبي؛ لأنَّ الانبهار خاصّة [يمسّ] النفس المتلقّية و ليس النموذج ذاته. و على هذا الأساس يتحوّل الاقتباس إلى قيمة سلبية، فهو وجه من ولع المغلوب بالاقتداء بالغالب، يزيد من هيمنة هذا و لا يعين ذاك على تحقيق: ذاته. و هكذا تحوّلت قضية الانبهار من بعدها الموضوعي ـ الناتج عن ازدهار أوروبا في ميادين العلم و المخترعات و المكتشفات و وسائل الحكم و الإدارة ـ إلى بعدها النفسي الناتج عن استبطان المسلمين للشعور بالغلبة. و لئن كان البعد النفسي قائما فإنّ الاقتصار عليه يؤدّي إلى حجب واقع الانحطاط كواقع موضوعي و التغافل عن الهوّة الحضارية التي تعمقّت بين أوروبا و بقية العالم و النظر إلى الحضارة الحديثة على أنّها حضارة غريبة لا حاجة للمسلمين إليها، و السكوت عن حاجة هؤلاء للمنجزات العلمية و التقنية و الفلسفية للحضارة الحديثة أو تقليص هذه الحاجة إلى الجانب الاستهلاكي المادي مثل التقنيات، مع التلويح بيسر تدارك هذا النقص عند استعادة الثقة بالنفس و التخلّص من دنس الدخيل.
و يرى البراديغم الإصلاحي أنّ الآخر مهدّد و التهديد دافع من دوافع الاقتباس منه لتوقّي شرّه، بينما يقلب البراديغم الأصولي الصورة كلّيا، فيرى أنّ التخلّص من التهديد إنّما يحصل بتعميق التميّز عن الآخر و تحصين الذات عن التشبّه به، و نرى هنا أيضا كيف يتحوّل مركز الثقل من الموضوعي إلى النفسي، فكأنّ البراديغم الأصولي يعتبر توقّي التهديد غير ممكن فالأولى تحويل الاهتمام إلى الذات بدل شغلها بقضية الاقتباس الذي يزيدها انحلالا و لا يعمّق قدراتها في مواجهة التهديد.
و يرى البراديغم الإصلاحي أنّ مشكلة التباين مع الآخر تحلّ بالتمييز بين الوضع الحضاري و الوضع الديني، فالاقتباس من الحضارة جائز و الاقتباس من الدين ممنوع. بينما يرفض البراديغم الأصولي التمييز بين الدين و الحضارة و يعتبر الحضارة امتدادا للدين، فإذا كان الدين عنصر مباينة فإنّ كلّ دين ينشئ حضارته الخاصّة به المستجيبة لقيمه، و بما أنّ المسلم يؤمن بأنّ دينه هو الأفضل فينبغي أن يعتبر أيضا أن حضارته متفوّقة على كلّ الحضارات و لا حاجة له بالاقتباس من أيّة حضارة أخرى، فالحضارة المتفوّقة هي حضارة الدين المتفوّق ولا شيء جدير بالاقتباس من حضارة قامت على غير الدين الإسلامي.
هكذا اختلفت المفاهيم و اختلطت حول التقليد و التجديد في الخطابات الإسلامية، بين إصلاحية جعلت محورها الاقتباس من كلّ ما هو خارج عن المجال الديني و أصولية جعلت محورها المباينة مع الآخر دينيا و حضاريا دون تمييز بين المستويين. فالتجديد يمثّل ـ من وجهة النظر الإصلاحية ـ تقليدا للماضي من جهة كونه يستوحي منه مبدأ الاقتباس من الجديد و لو جاء من الآخرين، و يمثّل التقليد تجديدا إذا كان المقصد منه تقليد ما برز تفوّقه و تأكّد نفعه لعموم البشر، مثل اقتباس المسلمين لعلوم الإغريق في العصر الوسيط و اقتباسهم للمعارف الأوروبية في العصر الحديث. أمّا وجهة النظر الأصولية فهي تعتبر الاقتباس تقليدا مذموما للآخر، و تتحدّث عن التجديد بمعنى التخلّص من رواسب هذا الاقتباس و العودة إلى الذات.
إنّ الجامع بين الإصلاحية و الأصولية استعمال مصطلحية مشتركة مقتبسة من الدين و التراث، لكن ذلك ينبغي أن لا يحجب اختلاف البراديغم بينهما؛ لأنَّ توظيف هذه المصطلحية يتمّ بطرقتين مختلفتين. و إذا أدركنا هذا الاختلاف أصبح يسيرا تفادي الخلط في المفاهيم، و تأكّدت ضرورة التمييز بين الخطابات ذات التوجّه الإصلاحي و الخطابات ذات التوجّه الأصولي. و قد تؤدّي العولمة الحالية إلى تجاوزهما معا؛ لأنَّ العولمة تلغي التمايز بين الأنا و الآخر بارتفاع الحدود الفاصلة بين البشر.
البراديغم الإصلاحي
|
البراديغم الأصولي
|
التأسيس
|
الاختلال
|
الآخر:
مبهر ¹ أقتبس منه للاستفادة
مهدّد ¹ أقتبس منه لاتّقاء الضرر
مباين ¹ أضع الدين حدّا فاصلا بيني و بينه
|
الآخر:
مبهر ¹ أتخلّص من الانبهار به
مهدّد ¹ أعمّق تميّزي عنه
مباين ¹ أؤكّد تفوّقي عليه
|
الاقتباس و التفاعل
|
التميّز و المواجهة
|
***************************
الحواشي:
1 ـ تراجع مباحث الاستنباط في كتب أصول الفقه، مع التنبيه إلى أن الكلمة قد توسّع معناها في العصر الحديث.
2 ـ أطلقت كلمة الأدب المولّد على الحركة التجديدية في الشعر و النثر التي ظهرت في العصر العبّاسي و كان من كبار أعلامها بشّار بن برد و أبو نواس و ابن المقفع و الجاحظ... إلخ.
3 ـ كتب ابن خلدون مثلا في مقدّمته: (و اعلم أنّ الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة، عثر عليه البحث و أدّى إليه الغوص.)، الكتاب الأوّل في طبيعة العمران في الخليقة.
4 ـ تراجع مقدّمة كتابنا: حفريات تأويلية في الخطاب الإصلاحي العربي، بيروت، دار الطليعة، 2001 م. و قد اقترحنا تقسيم التراث إلى تراث عتيق و تراث قديم و تراث قريب.
5 ـ توماس كون، بنية الثورات العلمية، ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، العدد 168، 12 / 1992
يعرّب شوقي جلال كلمة Paradigm بالنموذج الإرشادي، و نعتقد أنّ هذه الترجمة تفيد جزءا من المعنى المقصود فقط، لذلك فضلّنا التعريب الصوتي (براديغم) أو كلمة (الوضع الأنموذجي).
6 ـ أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، تحقيق: المنصف الشنّوفي، تونس، 2000 م، ج 1، ص 353، 354.
7 ـ المرجع السابق، 1 / 157
8 ـ يراجع مثلا كتاب المؤرّخ جاك هيرس: العصر الوسيط أكذوبة، بالفرنسية، 1999 م
Jacques Heers: Le Moyen Age, une imposture.
9- Histoire des Arabes
، صدر بباريس سنة 1854 م.
10 ـ يراجع نقده لحياة العمال والبؤساء في أوروبا في كتابه الشهير (الساق على الساق في ما معنى الفارياق).
11 ـ أقوم المسالك، 1 / 194 .
12 ـ أبو الحسن الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ طبع أوّل مرة سنة 1950 م و توالت طبعاته بعد ذلك، و قد طبع الطبعة السابعة عشر الصادرة عن دار القلم بالقاهرة سنة 2007 م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق