بقلم د. فريد العليبي
يمكّننا من فهم طبيعة الكائن الإنساني الذي لا يمكّنه
الشعور بالبهجة، و من ثمّة بالسّعادة إذا لم تلبّي حاجاته البيولوجية، فالإنسان من
زاوية نظر أبيقور
يسعي دوما الي الحفاظ على حياته، فلديه توق دائم للاستمرار في الوجود و اللذّة
هي محرّك ذلك التوق. و أضفي من ثمّة على اللذّة طابعا إيجابيّا، فالسلوك الخيّر بالمعني الأخلاقي هو الذي يطلب
اللذّة و يتجنّب الالم. و
قد فرّق أبيقور
بين أصناف مختلفة من الرغبات وهي:
12 أيار (مايو) 2008
يمثّل مفهوم السّعادة لدى
الفيلسوفين اليوناني أبيقور
والعربي أبي بكر الرازي مفتاح
قراءة فلسفتيهما، فقد كان قلب الرحي الذي دارت حوله جلّ طروحاتهما الفلسفية. و
برأي أبيقور فإنّ الخير و الفضيلة (دلالة اخلاقية) لا
يتنافيان مع تحقيق الرّغبات (دلالة بيولوجية)، بل يفرضان ذلك فتلبية الرغبة تعدّ
لدى فيلسوف البهجة الخير الأسمي، و هذا يعني أنّه يقف في الخطّ المقابل لإفلاطون الذي يقول في محاورة الفيدون: إنّ نفس الفيلسوف تزدري الجسد. و
تجد مقاربته لمفهوم السّعادة في البيولوجيا مرتكزا لها باعتبار أنّ هذا العلم (بالمعني الإبستمي لعصره)
ـ رغبات طبيعية و ضرورية
(المأكل و المشرب المتّزنان..)
ـ رغبات طبيعية و غير
ضرورية (المأكل الباذخ...)
ـ رغبات غير طبيعية و غير
ضرورية (جمع الذهب و الأحجار الكريمة..)
و هذا التصنيف نجده في
رسالته إلى Ménécée كما نجده في الحكم الأساسية [1].
و الفيصل بالنسبة اليه في
معرفة الرغبات التي يجب تلبيتها هو مدى تحقيقها لسلامة الجسد و راحة النفس، لذك فإنّ السّعادة تتطلّب الاكتفاء بتلبية
الرغبات الطبيعية و الضرورية دون سواها، و يربط هنا بين مفهومي السّعادة و الكمال
فالحياة السعيدة تبلغ كمالها من خلال المقياس المشار اليه. و يرى أبيقور أنّه من الصعب أن ندرك الخير إذا لم نلبِّي
لذّات الذوق و البصر و السّمع و المأكل و المشرب.. أي سائر الحواسّ و الغرائز. و قد
حرص على تمييز وجهة نظره بهذا الخصوص عن وجهات النظر الرائجة حيث ترتدي اللذّة معنى
سلبيّا، مميّزا، اللذّة التي يقصدها عن اللذّة التي يطلبها الفسّاق، مشدّدا أنّ
اللذّة تعني لديه طمأنينة النفس و سلامة الجسد (رسالة الي مينيساي) فاللذّة تحقّق للإنسان التوازن، وإذا ما انتفت وغابت كان الاضطراب على
المستويين البدني و النفسي. و ينسَب فيلسوف البهجة مفهومي اللذّة و الألم، إذ هناك
لذّة و لذّة، و ألم و ألم أي أنّ هناك لذّة يجب استبعادها، و أخري يجب الإقبال
عليها، كما أنّ هناك ألما يجب الإقدام عليه و آخر ينبغي توقّي مخاطره، و المحدّد
في ذلك هو مدى تلاؤم اللذّة و الألم مع مطلب السّعادة. كما تحيلنا المقاربة الإبيقورية لمفهوم السّعادة أيضا الي السجّل
السيكولوجي فالسّعادة لا يمكن الحديث عنها إذا كانت النفس تعاني الاضطراب و الهيجان،
فما يحدث الاضطراب هو ضعف أو شدّة تلبية الرغبات التي يطلبها الجسد، فعندما لا تتمّ
التلبية على نحو معتدل يكون الجسم في حالة اضطراب لا في حالة سكينة، ممّا يعني أنّ
كلّ خلل في تلبية اللذّات، سواء من جهة الإسراف أو من جهة النقص يؤدّي إلى الشّقاء. و السّعادة لديه مقترنة بالتحرّر من الخوف بأشكاله
المختلفة و الذي يجد أعلى تجلّياته في الخوف من
الآلهة و من الموت، فبخصوص الخوف من الآلهة نراه يعمد الي قلب
معادلة الكفر و الإيمان إلى نقيضها حيث يتحوّل الكافر بالمعني الدارج الي مؤمن و المؤمن
إلى كافر، يقول " ليس الكافر من يحتقر آلهة الجمهور و إنّما الكافر من يتبنّي
تصوّر الجمهور عن الالهة "، فالجمهور الخاضع إلى سلطة العادة ينظر إلى الآلهة
باعتبارها قوّة خارقة، تتلذّذ بمعاقبة من يخرج عن تعاليمها، بينما يري أبيقور أنّ الآلهة إذا جازت الخيرين خيرا و الشرّيرين
شرّا فإنّها لن تختلف عن الإنسان نفسه، و من ثمّة ينحت تصوّرا آخر لآلهة تنشد
الغبطة و الفرح، و لا تعترض سبيل الناس وهم يطلبون تحقيق سعادتهم في اللذّات و المتع
و الرغبات. كما تقتضي السّعادة التحرّر من الخوف من الموت حيث ينظّم محاجّته على
ذلك من خلال التأكيد أنّني في اللحظة التي أكون
فيها علي قيد الحياة فإنّ الموت غير كائن، و عندما يكون الموت فإنّني غير كائن، ممّا
يعني أنّ الموت غريب بالنسبة إليّ، طالما أنّ الوجود يقترن بالإحساس، و عندما يحضر الموت فإنّ الإحساس يكون قد
توقّف تماما، لذلك فإنّ الموت لا يسبّب لي أيّ ألم كان و إذا كان هناك ألم فإنّه
يحدث أثناء الحياة. و على هذا النحو تعني السّعادة التحرّر من أوهامنا
بخصوص الموت و الالهة و لكي تتمّ عملية التحرّر تلك ينبغي أن نتفلسف و في ذلك
يتساوى الجميع سواء كانوا شبّانا أو شيوخا. و الكثير من آراء أبيقور هذه نجد صنوها لدى أبي بكر الرازي الذي أولى اهتماما خاصّا لمسألة اللذّة و أشار
إليها في عدد من كتبه مثل كتاب الطبّ الروحاني و كتاب السيرة الفلسفية، بل إنّه
كما يذكر ابن النديم قد
ألّف كتابا خاصّا في ذلك وهو كتاب اللذّة، غير أنّ هذا الكتاب مفقود في أصله
العربي بينما توجد بعض مختارات منه مترجمة إلى اللغة الفارسية، أوردها ناصر خسرو في كتابه زاد المسافر. و قد فرّق الرازي بين اللذّة و الألم معتبرا أنّ اللذّة تعني
الخلاص من الألم غير أنّها إذا ظلّت على حالها دون توقّف أصبحت بدورها ألما يقول " إنّ اللذّة ليست بشيء سوى الراحة من الألم و لا توجد لذّة إلاّ على إثر ألم، و
إذا استمرّت صارت ألما " [2] و برأيه هناك حالة تنعدم فيها اللذّة كما ينعدم فيها الألم
غير أنّ هذه الحالة لا تدركها الحواسّ. و الملاحظ أنّه يرجع اللذّة و الألم إلى
الجانب الحسّي حيث يقول " إنّ اللذّة حسّ مريح و أمّا الألم فهو حسّ مؤلم
" [3]، كما أنّه يربطهما بالحالة الطبيعية أو غير الطبيعية للإنسان، فاللذّة
انتصار على الألم و عودة إلى الحالة الطبيعية أمّا الألم فهو الخروج عن الحالة
الطبيعية. وإذا
كان أبيقور قد تمرّد على الهة اليونان فإنّ الرازي يعرف بإنكاره للنبوّة و قد كتب في ذلك مؤلّفه مخاريق الأنبياء، و تكشف
لنا الفقرة التالية التي كتبها منذ قرون عن مدى عمق تشخيصه للذهنية العربية
النقلية حيث ساد و لا يزال مرض عضال اسمه التكفير " إنّ أهل الشرائع أخذوا
الدين عن رؤسائهم بالتقليد، و دفعوا النظر و البحث عن الأصول و شدّدوا فيه و نهوا
عنه و رووا عن رؤسائهم أخبارا توجب عليهم ترك النظر ديانة، و توجب الكفر على من
خالف الأخبار التي رووها، من ذلك ما رووه عن أسلافهم أنّ الجدل في الدين و المراء
فيه كفر، و من عرض دينه للقياس لم يزل الدّهر في التباس، و لا تتفكّروا في الله و
تفكّروا في خلقه، و القدر سرّ الله فلا تخوضوا فيه، و إيّاكم و التعمّق، فإن من
كان قبلكم هلك بالتعمّق، إن سئل أهل هذه الدعوى عن الدليل على صحّة دعواهم
استطاروا غضبا، و هدروا دم من يطالبهم بذلك، و نهوا عن النظر، و حرّضوا على قتل
مخالفيهم، فمن أجل ذلك اندفن الحقّ أشدّ اندفان وانكتم أشدّ انكتام… و إنّما أتوا
فى هذا الباب من طول الإلف لمذهبهم و مرّ الأيّام و العادة، و اغترارهم بلحيّ
التيوس المتصدّرين في المجالس، يمزّقون حلوقهم بالأكاذيب و الخرافات، و حدّثنا
فلان عن فلان بالزور و البهتان، و برواياتهم الأخبار المتناقضة، من ذلك آثار توجب
خلق القرآن، و أخرى تنفي ذلك، و أخبار في تقديم على و أخرى في تقديم غيره و آثار
تنفي القدر و أخرى تنفي الإجبار … " [4]. كما دعا الرازي إلى التحرّر من الخوف من الموت فـ "
المتصوّر للموت الخائف منه يموت في كلّ تصويرة موتة، فتجتمع عليه من تصوّره له مدّة
طويلة موتات كثيرة، فالأجود إذا و الأعود على النفس التلطّف و الاحتيال لإخراج هذا
الغمّ عنها " [5] و على هذا النحو فإنّ تحصيل السّعادة يتطلّب في نظر
الفيلسوفين إعمال النظر العقلي و التحلّي بالحكمة و الفضيلة، وإعادة الاعتبار
للرغبات المستبعدة قسرا بفعل التحريم المجلّل بالقداسة، و التحرّر من الخوف من
الموت و الآلهة.
حواشي:
[1] Epicure / Lettres et Maximes . Trad : Marcel
Conche .Puf . Paris1987 p 241
[2] أبو بكر محمّد بن زكريا الرازي رسائل فلسفية، دار الافاق
الجديدة، بيروت 1980، ص 148
[3]
المصدر نفسه ، ص 149
[4]
أورده عبد الرحمان بدوي، من تاريخ الإلحاد
في الإسلام، سينا للنشر، الطبعة الثانية، القاهرة 1993، ص 245
[5]
أبوبكر محمّد بن زكريا الرازي، رسائل فلسفية،
ص 95
لقد حقققت إستفادة من هذه المقارنة رغم صعوبتها .. لك الشكر أستاذنا الجليل
ردحذف