إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الاثنين، 20 أبريل 2009

العمــل و النجاعــة العادلــة

الأستاذ: محمد علي كسيرة
التمهيـد: دلالــة العمـل
يقترن العمل عموما بمعنى الفعل و الممارسة كجهد يبذله الإنسان، غير أنّ هذا التعريف يمكن أن ينطبق على الفنّ ممّا يقتضي زيادة التدقيق، ليصبح العمل جهدا و لكنّه على خلاف الفنّ يرتبط بالإنتاج إذ العمل ليس مجرّد نشاط للتسلية كالرياضة مثلا، و إنّما هو ممارسة ترتبط بغايات إنتاجية غير أنّ الإنتاج يرتبط عموما بالحاجات المادية البيولوجية و هذا ما جعله موضع تحقير من الفلسفة اليونانية إذ يوكل العمل للعبيد ليبقى الفكر خاصية الأحرار كنشاط ذهني يرتفع عن المادة، لقول أفلاطون: "إنّ الأسياد هم الذين يفكرّون، و لأنّ لهم الفلسفة الأولى، فإنّهم الأوائل في المدينة". و لم يكن العمل أكثر قيمة في الديانة المسيحية، إذ يحمل دلالة العذاب 
و التكفير عن الخطيئة التي ارتكبها آدم ممّا يجعله مقترنا في الدلالة الدينية بمعنى الشقاء و المكابدة التي لا تتحقّق بقيمتها الراهنة أو المستقبلية بل بالارتداد إلى الخطيئة الأولى. و بهذا المعنى نتبيّن التحقير الفلسفي و الديني للعمل. غير أنّ العمل في دلالته الحديثة يبدو مغايرا تماما لهذا التصوّر التحقيري فما الذي حدث حتّى أحدث هذا الانقلاب في دلالة العمل ؟
لقد أصبح الاهتمام منصبّا نحو الممارسة في الفلسفة المعاصرة، إذ نتحدّث عن فلسفة البراكسيس، و ذلك لما شهدته الحضارة الغربية من ثورة صناعية لم تكن عفوية أو تلقائية بل كانت ثمرة لفلسفة العمل إذ لم يكن من الممكن أن تحدث هذه الثورة بتصوّر الإنسان لنفسه على أنّه كائن التفكير و التأمّل، بل على العكس، على أنّه كائن الفعل و الممارسة و القدرة على تغيير الوقائع بشكل فعلي، و هذا ما جعل الإنسانية تقترن بمعنى العمل في مختلف المستويات.
I ـ إنسانيــة العمــل :
1 ـ قداسة العمل :
إذا كان العمل قد اقترن في الديانة المسيحية بسلبية التكفير عن الخطيئة فإنّه على العكس من ذلك، بدا في الديانة الإسلامية مرتبطا بدلالة موجبة ذلك أنّه "من بات كادّا من عرق جبينه بات مغفورا له " و كذلك فـ "إنّ الله يكره العبد البطّال " ممّا يعني أنّ العمل قد تحوّل من دلالة التحقير إلى دلالة القداسة، ليكتسب الإنسان قيمته من خلال فعله و ممارسته. و بهذا المعنى بدا الربط ضروريا بين انتماء الفرد إلى دينه و انتمائه إلى مجتمعه من خلال هذا النشاط الذي اتّخذ صفة التقديس. إلاّ أنّ البعد الاجتماعي للعمل سيشهد تطوّره في التصوّرات الاجتماعية المعاصرة بأكثر عمق و أكثر تعقيد.
2 ـ العمل و التماسك الاجتماعي :
إذا كان الإنسان الفرد عاجزا عن تحقيق كلّ حاجياته بذاته فذلك ما يجعله ضرورة في حاجة إلى عمل الآخر لحاجته إلى إنتاج غير إنتاجه. كما أنّ الآخر في حاجة إليه ضرورة. و هذا ما يعكسه بصورة واضحة العمل المقسّم، إذ لا يقدر الإنسان على إنتاج الكلّ و إنّما ينتج بصفة جزئية، ممّا يجعله مستشعرا بصفة فعلية حاجته إلى بقيّة العمّال. كما أنّ العمل يجعل العامل في تبعية للعرف من جهة تبعية العمل نفسه إلى رأس المال. بهذا المعنى يكون الإنسان قد حقّق وجوده الاجتماعي من خلال إحساسه بالانتماء و التبعية للآخر، و بالمقابل يحسّ العاطل عن العمل بانغلاقه على ذاته و انقطاعه عن المجموعة، ليعمّق فيه هذا الشعور دوافع عدوانية. لذلك يمكننا أن نسلّم بما قاله فولتير "أجبروا الناس عن العمل و ستجعلون منهم أناسا مستقيمين". ذلك أنّ العمل يستجيب لطبيعة الإنسان ككائن سعي و حركة . لكن إذا تعذّر العمل لا يمكن أن يكون هذا الميل إلى الفعل إلاّ خارج الأطر الاجتماعية و الأخلاقية ذلك أنّ النفس "إذا لم تلتمس لها في الطاعة عملا وجدت في المعصية أعمالا "لأنّ العمل "يبعد عنّا آفات ثلاث: القلق و الاحتياج و الرذيلة "كما يقول فولتير. و بقدر ما يحقّق الفرد بالعمل توازنه الاجتماعي فإنّه يحقّق توازنا نفسيا.
3 ـ  العمل و إشباع الطاقة الليبدية :
إنّ التعارض بين "مبدأ اللذّة "و "مبدأ الواقع " لا يمكن أن يجد حلّه بكبت متواصل للذّة.  كما أنّه لا يمكن تجاوزه بتمكين مستديم لها. بل إنّ الأمر يقتضي تحويل الطاقة الليبدية من الاستهلاك إلى الإنتاج. ففيما يتعلّق بهذه الطاقة "لا شيء يفقد ولا شيء يخلق و إنّما الكلّ يتحوّل" إلى طاقة منتجة يقبلها المجتمع. فالعمل لا يبعدنا عن رغباتنا كما لا يبعدنا عن المجتمع و إنّما يضمن في الآن نفسه توازنا اجتماعيا و توازنا نفسيا. و بفضله تجد الطاقة الليبيدية ـ سواء أكانت إيروسية عاطفية أم تناتوسية عدوانية ـ  مجال تنفيسها الفعلي لأنّ العمل تأطير موجب لمختلف الطاقات النفسية و تحويلها بشكل منتظم نحو الإنتاج ليجيب فرويد عن سؤال "من هو الإنسان السويّ ؟" بـ "إنّه إنسان يحبّ و يعمل "
4 - تقسيم العمل و الانتقال من الندرة إلى الوفرة :
إنّ التزايد المطرّد للسكّان لا يمكن أن يجد حاجته في الصناعات الحرفية و الأعمال التقليدية. فهذه الضروب من الإنتاج لا يمكن أن تضعنا إلاّ أمام أزمة الندرة، ندرة الإنتاج مقابل تزايد السكّان. لذلك مثّل تقسيم العمل الحلّ الأمثل بما يعنيه من تخصّص العامل في إنتاج جزئي ليصبح من الممكن إنتاج أكثر عدد ممكن في أقلّ وقت ممكن. و هذا ما يمكن أن يحدث ثورة صناعية و تطوّر في الإنتاج. و عوض أن يرتفع عدد السكّان و يتراجع الإنتاج  ـ مثل حال الصناعات الحرفية ـ  يصبح العكس ـ  ينخفض عدد السكّان ليرتفع الإنتاج و يصبح من الممكن أن نتحدّث عن تحقيق أكثر قدر ممكن من الرّفاه لأكبر عدد ممكن من السكّان. و بهذا المعنى يكون تقسيم العمل مرجع رفاه الفرد و مرجع زيادة رأسـالمال و أصل التوازن الاجتماعي و مبعث القوّة الاقتصادية التي بدورها تكون دافعا للقوّة السياسية للدولة من خلال ما تكتسبه من دخل من خلال الضرائب و بهذا المعنى يتعدّى تقسيم العمل مستوى التنظير الاقتصادي ليصبح مصدر المنظومة المتماسكة سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا. و ما مجتمعاتنا الحالية إلاّ نتاجا لهذا التقسيم. ليكون من غير الممكن و من غير المعقول العودة من جديد للصناعات الحرفية البسيطة.
5 - العمل بين إنتاج الطبيعة و إنتاج الوعي :
إذا كانت الحيوانات تولد مزوّدة بآليات طبيعية تمكّنها غريزتها من الاستقلال عن المجموعة. و إذا كانت بعض الحيوانات تبدأ بالمشي و بمواجهة الطبيعة منفردة من يومها الأوّل فإنّ الإنسان ـ على العكس من ذلك ـ يمثّل ضعفا من الناحية البيولوجية؛ فهو لا يقدر تلقائيا و غريزيا على بناء مسكنه ـ  كالحيوان مثلا ـ و إنّما يحتاج لكي يكون قادرا على العمل، أن يتعلّم و يكتسب مهارات بشكل ثقافي لأنّ نقصه البيولوجي هو الذي يدفعه إلى ذلك، لقول ماركس "إنّ قوّة الإنسان في ضعفه و ضعفه البدائي". ذلك أنّ العمل هو الذي جعل الإنسان يتجاوز الانكفاء داخل الغريزة؛ فلقد "كفّ الإنسان على أن يكون قردا عندما استعمل قائمتاه الأماميتان لوظيفة غير وظيفة المشي" كما يقول ماركس، أي لوظيفة العمل .فالإنسان أدرك نفسه ككائن واع من خلال العمل الذي به تطوّرت التركيبة البيولوجية الغريزية إلى وعي عملي ليكون الإنسان "هو التطوّر و قد أدرك ذاته " كما يذهب إلى ذلك روجي غارودي.  فالعمل هو الذي أنتج إنسانية الإنسان و جعله متميّزا عن الأنواع الحيوانية و العمل هو الذي مكّن الإنسان من أن ينتصب كقوّة منتجة داخل الطبيعة فكلّ الكائنات تقودها غرائزها إلى استهلاك الطبيعة أمّا الإنسان فهو الكائن الوحيد الذي ينتج لا، لكي يحمي بقاءه  و بقاء نوعه فقط، بل لكي يحفظ أيضا بقاء الأنواع الحيوانية الأخرى و لكي يحفظ الطبيعة نفسها. فأقصى ما ينتجه الحيوان هو أن ينجب المثل في حين أنّ الإنسان يعيد إنتاج الطبيعة نفسها. فنحن لا نعيش في طبيعة طبيعية، و إنّما في طبيعة هي من إنتاج الإنسان نفسه. و يجد ما نذهب إليه تأييده في قول ماركس "إن ّالحيوان لا ينتج إلاّ لذاته في حين أنّ الإنسان يعيد إنتاج الطبيعة كلّها" و هذا ما يجعلنا نفهم أنّ قيمة الإنسان لا تتحدّد كوعي متعال عن المادة الطبيعية و منفصل عنها بل كوعي يتطوّر في علاقة جدلية بالمادة قول ماركس "في الوقت الذي يؤثّر فيه بهذه الحركة على الطبيعة الخارجية و يغيّرها، فإنّه يغيّر من طبيعته ذاتها و ينمّي الاستعدادات الكامنة فيه"
II ـ  الاغتـــراب: القيمـة المضـادّة:
دلالتــــه :
يحمل الاغتراب معنى الإحساس بالانفصال و فقدان الروابط الضرورية التي تجمع الذات بالإله في الدلالة الدينية أو الذات بالآخرين في الدلالة الاجتماعية إلاّ أنّها تصبح أشدّ حدّة حين تتحوّل إلى فقدان الذات الروابط الضرورية مع ذاتها أثناء العمل، سواء من جهة النشاط ذاته كممارسة أو من جهة الإنسان كغاية لكلّ ممارسة. ذلك أنّ الاغتراب هو بالأساس "طرد الإنسان من ذاته" على حدّ عبارة روجي غارودي. ليتضّح الاغتراب على أنّه انفصال بين الإنسان و ذاته. و إذا كنّا نتحدّث عن الانفصام في الشخصية كحالة مرضية في علم النفس، فإنّ الاغتراب في العمل يبدو أكثر خطرا و أكثر فضاعة ذلك أنّه يحاصر العامل في جميع المستويات .
1 ـ الاغتراب و فقدان قداسة العمـل: 
إذا كانت القداسة تجعلنا نقدم على الشيء بحماسة فائقة، فإنّ العمل المأجور قد بدا على العكس من ذلك يثير في الإنسان نفورا مرعبا "ليهرب العامل من الشغل هروبه من الطاعون" على حدّ عبارة ماركس ذلك أنّ العمل "ليس إشباعا لرغبة" و لا يحمل أيّ جاذبية تجعل الإنسان يميل إليه، لأنّ الممارسة فقدت قيمتها لفصلها عن الحرّية كمبعث للإبداع. و كذلك فقد أفقدت الغاية التجارية العامل كلّ قيمة؛ فحين نكون إزاء واقع الشغل تتحطّم كلّ نزعة إنسانية للشغل نفسه؛ لقد كان الشغل في اللغة اللاتينية يقترن من جهة التسمية بآلة التعذيب. أمّا الآن فقد أصبح واقعة تعذيب و استلاب. و لكن ألا يمكن أن تكون التضحية بالذات ضمانا لتناغم الفرد مع مجتمعه ؟
2 ـ الاغتراب و الطابع الشكلي للتوازن الاجتماعي:
يبدو كلّ شيء في العمل المفتّت منتظما و متوازنا و تبدو الفردية مفهوما موجبا مكّن الإنسان من الاستقلال عن غيره، و أكسبه مهارات تغنيه عن الحاجة إلى غيره من العمّال. غير أنّ التفحّص في واقع العمل يبيّن لنا العكس، إذ أنّ دقّة العمل المفتّت و تحديدها لموقع العامل و لحركته تجعله مغتربا عن أقرب العمّال إليه، إذ طالما أنّه باع وقته و جهده داخل العمل، فليس له الحقّ في إضاعة أيّة لحظة في التخاطب مع غيره من العمّال. فلقد أوهمتنا الرأسمالية بالحرّية الفردية لتنتزع منّا كلّ تعامل حميمي مع الآخر، إنّها استبدلت قيم الإخاء و المحبّة و التعاطف بقيم النجاعة و الربح و المرودية ليصبح كلّ شيء خاضعا للحسبان المادي ذلك أنّ "الصدام بين العدالة و النجاعة يظهر في أشكال لا حصر لها "على حدّ عبارة ايريك فايل. فالتوازن الاجتماعي الذي أنشأته هذه الوضعية لا تحكمه العدالة بل هو قائم على "تفاوت حظوظ الارتقاء" التي لا تسمح للعامل إلاّ بأنّ يظلّ في موضع اجتماعي واحد طيلة حياته. صحيح أنّ السيطرة العقلانية و تنظيم العمل يضمنان توازنا اجتماعيا و لكن ثمنه العامل نفسه ذلك أنّ "السيطرة تقتضي عقلانية أكبر" كما ذهب إلى ذلك ماركوز؛ عقلانية الاستغلال و الابتزاز و التحكّم "و هل ثمّة ما هو أكثر عقلانية من إلغاء الفردية عن طريق مكننة الأعمال الضرورية ؟" كما يتساءل ماركوز . إنّه لمن المؤسف أن نرى مسار التوازن الاجتماعي و العقلانية الاجتماعية يوازيه عكسيا تراجعا في قيمة الذات كقدرة على الإبداع و الخروج عن النمطية؛ و ما يجعلنا نتأسّف أكثر هو تأقلم الأفراد مع هذه النمطية التي تجعل حتميات الاغتراب الاجتماعي قدرية يكون التأقلم معها أيسر الحلول. و بهذا المعنى يصبح الفرد نفسه متورّطا في المساهمة في اغترابه عن نفسه. إنّنا إزاء اغتراب اجتماعي و قد تواطأت فيه أطراف عدّة؛ العامل بخنوعه و اكتفائه بالحاجة البيولوجية و العالم الذي يبرّر التبعية و الخضوع على أنّهما مؤشّران لانتماء الفرد إيجابيا للمجموعة و صاحب رأسالمال الذي شيّأ العلاقات تحت راية المردودية و الربح و النجاعة و صاحب السلطة السياسية الذي يتمّ الاستغلال تحت حراسته و تحت تشريعاته.
3 ـ الطاقة الليبيدية: إشباع وهمي واستغلال فعلي :
لقد أصبح من الممكن الآن تجاوز الكبت. و أصبح من الممكن تصعيد الرغبات بدل قمعها و ذلك من خلال " نقل مكوّنات الليبيدو النرجسي منها و العدواني و حتّى الإيروسي إلى مجال العمل" و لكن بقدر يحقّق ما العامل تلبية وهمية لرغباته بقدر ما يحقّق صاحب رأسالمال زيادة فعلية في الإنتاج. و بقدر ما يكون الاستغلال أقوى، بقدر ما يكون الإشباع الوهمي أكثر ليكون بذلك مكسب العامل وهميا، أمّا مكسب صاحب رأسالمال فهو فعلي و من طبيعة مادية. و سواء أكان فرويد متورّطا في هذه الدعاية الإنتاجية أم لا، و سواء قصد الاستغلال أم لم يقصد فإنّ الرأسمالية قد وجدت في الإعلاء و التصعيد مبتغاها و فلسفتها الخاصّة لتوّجه العامل إلى مزيد اغترابه في إشباع وهمي ثمنه الحقيقي استغلال فعلي. و لعلّ هذا ما تفطّن إليه فرويـد، لقوله "إنّ أغلب الناس لا يعملون إلاّ تحت ضغط الحاجة. و عن هذا النفور الطبيعي من العمل تنشأ أكثر المشاكل الاجتماعية حدّة "
4 ـ تقسيم العمـل و تشتيت الذات :
إنّ تقسيم العمل يعني أن نسند للعامل مهمّة جزئية تترابط في سلسلة من النشاطات الأخرى التي تسند لغيره دون أن يكون لأحد من العمّال القدرة على الوعي بالمجموعة الذي تنتجه هذه السلسلة من الأعمال أو تلك. و بهذا المعنى يكون تقسيم العمل مرتبطا بإنتاج أكثر عدد ممكن في أقلّ وقت ممكن و ذلك ما لا يسمح للعامل حتّى بالالتفات إلى غيره. فالعامل ـ  إضافة إلى بيعه وقت عمله و اغترابه عنه ـ يجد نفسه مغتربا أيضا عن بقية العمّال، ذلك أنّ العلاقات حدّدت على أساس من التفرّد وفق غاية الربح و المردودية و لا تسمح بالتعامل خارج هذه الغايات ذلك أنّ "المال يدمّر الحبّ و الصداقة و الجمال لأنّه يشتري الحبّ و الصداقة و الجمال" داخل علاقات يغلب عليها الإنتاج. إنّ ما كان يتمتّع به الصانع الحرفي من الحرّية و علاقات اجتماعية أصبحت متعذّرة ضمن نظام التألية و التشيئة و حتّى الحلول الساعية إلى تجاوز الاغتراب خارج العمل بقيت وهمية و شكلية، فإقامة منتزهات و دور ترفيه و غيرها لا يمكن أن تكون إلا ّمنحصرة ضمن انتظام حسابي للراحة و الترفيه باعتبارهما استعادة للنشاط الذي يقع بيعه في اليوم الموالي و هذا ما تفطّن إليه نيتشة بقوله "إذا ما وجد الإنسان بعض اللذّة أثناء الاختلاط بالناس... فإنّها من نوع اللذّات التي يختصّ بها عبيد مرهقون بالسّخرة " إنّ فلسفة الممارسة التي بشّر بها البعض على أنّها "فلسفة وجود" تحوّلت إلى "هلوسة وجود" تجعل الإنسان منكفئا فقط داخل دائرة الفعل الذي ينسيه أي سعي للمتعة أو فلسفة الذوق. و بهذا المعنى يتجاوز تقسيم العمل، العمل نفسه ليصبح تقسيما للحياة بأكملها و تحكّما في العلاقات الاجتماعية للعامل و لمحيطه النفسي؛ فلا راحة إلا ّلاستعادة الجهد لبيعه في اليوم الموالي، و لا متعة إلاّ للاعتناء بالجسد كآلية إنتاج، و لا علاقة مع الآخر إلاّ ضمن حتميات العمل و آلياته.
5 ـ إنتاج الطبيعة و تشيئـة الإنسان:
إنّ العالم الذي نعيشه اليوم لا يمكن أن نسمّيه طبيعة معطاة أو طبيعة طبيعية و إنّما هو طبيعة من صنع الإنسان لقد تحقّق المشروع الديكارتي المتمثّل في سيطرة الإنسان و سيادته على الطبيعة و تمكّن الإنسان من أن يتجاوز ندرة الطبيعة ليجعل منها وفرة و لكن ثمن ذلك هو الإنسان نفسه .إنّ أقلّ ما يفعله المستعمر هو أن يعلّم الشعوب لغته و علمه و لا يكون ذلك وفقا لأغراض إنسانية بل على العكس ليعود الآخر على الامتثال لأوامره و الانصياع لتقنياته فالسيطرة على الطبيعة اقتضت بدورها سيطرة على الإنسان و إخضاعه لضرورات اجتماعية بعدما اعتقد في تحرّره من الطبيعة "فلئن حرّر العمل الإنسان من أسر الطبيعة فإنّه قد أوقعه في أسر المجتمع و إحلال الضرورة الاجتماعية محلّ الضرورة الطبيعية" و لا يمكن للضرورة الاجتماعية أن تعترف بالوعي الذاتي طالما أنّ كلّ شيء مبرمج من خارج الذات نفسها. ليعود بذلك من جديد الفصل القديم بين العمل كنشاط جسمي و التفكير و التخطيط كنشاطين ذهنيين فكأنّما قدر العمل أن يكون محكوما بالعبودية و تبقى كلّ محاولة لتحريره سعيا عبثيا يائسا.
III  ـ  العمل بين قوّة واقع الاغتراب و إرادة التحرّر:
حين نعاين مسألة العمل، يكون الاغتراب أمرا واقعا، ليكون بالمقابل مسعى التحرّر طموحا قد يتلاشى أمام الاغتراب، و كأنّنا إزاء تناقض صارخ بين ما نريده و ما يفرضه الواقع، فالتفكير الفلسفي يبني عالما من العمل أساسه الحرّية و مقصده الإنسان، في حين أنّ واقع العمل يكذّب باستمرار هذا المسعى. و يذكّرنا ذلك بما قاله هوسرل "إنّ فيلسوف الميتافيزيقا هو أشبه ما يكون بإنسان يبني قصرا و يسكن في كوخ إلى جانبه" فكأنّما العمل لم يعد حلاّ للتناقض بين الفعل و التفكير، بل على العكس هو تعميق له. و في أقصى الحالات يكون الترابط بينهما يخفي التنظير الخبث أو الدّهاء الذي يبرّر الاغتراب و يعطيه تسميات مختلفة. فهل يدعو ذلك إلى اليأس و الاستسلام لقدرية الاغتراب ؟
1 ـ الحلــــول الممــكنــــة:
أ ـ  تحقّق الذات خارج العمل:
إذا كان تقسيم العمل قد فرض شروطا موضوعية للاستغلال تبعد الإنسان عن ذاته و تفصل الممارسة عن التفكير في الممارسة نفسها و الرغبة فيها. و إذا كان العامل يخضع لـ"حدود من قبل المادة و من قبل إرادة الآخرين" ألا يكون الحلّ بالتخلّي عن العمل و البحث عن قدرة الذات و مستطاعها خارج أطر النمطية و الانتظام المجحف ؟
إنّ استقراءنا للواقع يجعلنا نلاحظ بصفة فعلية انقطاع الكثير عن العمل تشبّثا بالحرّية الذاتية و آثروا بذلك الحرمان و الخصاصة على مظاهر الاستعباد في العمل. إلاّ أنّه بهذه الطريقة قد يتحرّر الإنسان من عبودية الإنسان ( أي صاحب رأسالمال) ليجد نفسه أمام عبودية طبيعية أي الحاجة البيولوجية الضرورية و لكن ألا تكون الأعمال الحرّة بديلا ؟
قد تكون حلاّ و لكنّها تبقى متعلّقة ببعض الأفراد ولا ترتقي إلى مستوى الحلّ الاجتماعي الشامل. و ما يهمّنا بالأساس ليست الحلول الفردية كاستثناءات، بل الحلول القادرة على تحويل تاريخ العمل.
ب‌ ـ  تحرير العمل من التيلرة و التقسيم:
إذا كان الاغتراب قد اقترن أساسا بالعمل المفتّت بما يعنيه من شروط موضوعية تجعل الذات متخارجة عن ذاتها و بما يعنيه من انفصال الممارسة عن الوعي لعدم إدراك العامل للمجموع، ألا يكون الحلّ العودة من جديد إلى الصناعات الحرفية بما تعنيه من حرّية الحرفي و وعيه بالإنتاج في كلّيته و إدراكه للمجموع ؟
إنّ حركة التاريخ لا يمكن أن تعود إلى الوراء لكي تعود إلى الصناعات الحرفية أي إلى الإنتاج الجزئي الذي لا يمكن أن يفي بالحاجة الموازية للطفرة الديمغرافية. و بهذا المعنى فإنّ التحرّر من العمل ـ بدعوى التحرّر من الاغتراب ـ قد يوقعنا في عبودية أخرى؛ عبودية الحاجة المادية. كما يوقعنا في الانفصال عن الروابط الضرورية بالمجتمع. و إذا كان الشوق إلى المرحلة الحرفية قد يخرجنا عن نطاق الواقعية التاريخية ذات الطابع التطويري، فهل يصبح من عبث الأقدار أن يكون العمل الذي راهن عليه الإنسان لتحقيق إنسانيته مقترنا ضرورة بالاغتراب ؟
ج ـ  الحلول السياسية للعمل :
إذا كان العمل يدرج ضمن مجال الممارسة، فقد يكون الحلّ من نفس الطبيعة و مجال السياسة هو أنجع مجالات الممارسة لأنّه يرتبط بالنفوذ و القدرة الفعلية على التغيير و هذا ما يجعل الحلّ ماركسيّا متمثّلا في الثورة العمّالية و افتكاك وسائل الإنتاج و جعلها ملكا مشاعا حتّى يكون من الممكن توزيع الثروات بشكل عادل و تجاوز كلّ مظاهر التفاوت و الاستلاب و الاستغلال و هذا ما تأكّد من خلال الثورة البولشيفية التي أدّت إلى بناء الاتّحاد السوفياتي و صدّرت الثورة إلى بعض الدول المجاورة. إلاّ أنّ وضعية العامل لم تحقّق ما كانت تطمح إليه و لم يكن من الممكن تجاوز كلّ مظاهر الاغتراب، فالعامل في الأنظمة الاشتراكية لا يقلّ اغترابا عن العامل في الأنظمة الرأسمالية. إضافة إلى ذلك فإنّ الأنظمة السياسية قد أصبحت على غاية من القوّة كما يذهب إلى ذلك ماركوز و لم يعد من الممكن تثويرها فكأنّما من قدر العمل أن يكون مأجورا و من قدر العامل أن يكون مغتربا.
د ـ  الحلول النقابية للعمل:
علينا أنّ نعود من جديد إلى واقع العمل و أن نستقرأ التاريخ لنتبيّن أنّ حدّة الاغتراب قد تراجعت و قد أصبح من الممكن أن تحدّد ساعات العمل و أصبح من الممكن أن نتحدّث عن الزيادة في الأجور ليتراجع بذلك ما ذهب إليه ريكاردو من القول بالحدّ الأدنى للأجر كقانون ثابت و قد يكون الفضل في ذلك عائدا بالأساس إلى الحركات النقابية. التي تسعى إلى تذليل الفارق بين واقع الاغتراب و التنظير للعمل كتحقّق إنسانية الإنسان. لكن الحركات النقابية لم تكن واقعا إلاّ و قد كانت أوّل فكرا و تنظيرا و فلسفة. و بهذا المعنى أمكننا أن نتبيّن أنّ فلسفة العمل ـ بما هي فلسفة وجود ـ  لا تُبنى خارج شروط الواقع، كما أنّها لا تسايره أو تبرّره، و إنّما تكون العلاقة جدلية بين الاغتراب و التحرّر لتتمّ وفق شروط واقعية.
هـ ـ العمل بين النجاعة و العدالة :
إذا كان من غير الممكن أن نتحدّث عن العمل بلا نجاعة، فذلك لأنّه لا يمكن لصاحب رأسالمال أن يوظّف أمواله دون أن ينتظر منها ربحا و مردودية و فائض قيمة، و لكن ما لا يمكن أن يكون مقبولا هو أن يتضاعف فائض القيمة على حساب العمّال أنفسهم و لا يمكن أن تكون النجاعة وحدها للعرف أو السيّد بل يجب أن يراعى الوضع المادي للعامل حتّى تكون النجاعة نفسها عادلة من الناحية الاقتصادية و الاحتياجية. كما أنّ الغاية نفسها لا تكون مرتبطة بزيادة الثروة و تفقير العامل ذهنيا و إنّما يراعى في الإنسان سعيه إلى تطوير وعيه باستمرار و تنمية قدراته ممارسة و فكرا حتّى يكون العمل نفسه واعيا .
و بهذا المعنى نتبيّن أنّ العمل كظاهرة إنسانية ترتبط بعوامل متنوّعة و متداخلة اقتصاديا و اجتماعيا و سياسيا لذلك يكون من الضروري أن تتضافر كلّ هذه العوامل لتجعل من العمل إنسانيا ـ من جهة النجاعة و من جهة و من جهة العدالة كغاية.
أن يكون العمل ناجعا، ذلك ما لا يمكن التشكيك فيه، فالنجاعة هي الفاعلية التي ترتبط بمعاني الإنتاج و المردودية و الربح و الثروة، و هذه القيم يحقّقها العمل بشكل فعلي، و لكن ما يبدو إحراجيا هو أن نتحدّث عن عمل عادل. ذلك أنّ العدالة تحمل معنى المساواة و لكن هل يمكن أن نساوي بين عامل مختصّ و عامل غير مختصّ ؟ هل يمكن أن نساوي بين مردود صاحب رأسالمال و بين مردود العامل ؟
لو حاولنا البحث في الدلالة المفهومية للمساواة لتبيّنا أنّها توازن بين قيمتين و هذا ما يجعل الميزان نفسه رمزا للعدالة و إذا كان العمل قد تحوّل إلى قيمة مادية فمعناه أنّه بإمكاننا أن نحدّد قيمته بموازين الربح و المردودية. فالعمل بهذا المعنى هو سلعة تقدر بثمن، غير أنّ ثمنه ليس ثابتا و إنّما هو متغيّر، و مثلما تخضع السّلع في السوق إلى المساومة فإنّ العمل نفسه تحدّد قيمته ضمن جملة من المساومات تتمّ بين العامل و صاحب رأسالمال فالعامل يبيع جهدا له قيمة و صاحب رأسالمال يشتري هذا الجهد مقابل قيمة، لقول نيتشه " كلّ شيء له قيمة و كلّ شيء يمكن دفع ثمنه ذلك هو القانون الأخلاقي للعدالة "و طالما أنّ العمل قابل للقيس فهو قابل للبيع بما يوازيه من ثمن. إلاّ أنّ سيادة منطق السوق على العلاقة القائمة بين العامل و صاحب رأسالمال لا تخضع ضرورة إلى بيع عادل، و إنّما هناك دائما فائض قيمة، وهو الفارق بين ثمن ما ينتجه العامل و ما يتقاضاه من أجر، و عن هذا الفارق نفسه تتولّد أبشع طرق الاستغلال الذي يكون طاغيا على علاقات العمل، ذلك أنّ "اقتصاد السوق الخاضع لقانون العرض و الطلب قد اتّخذ من العامل ألعوبة منافسة عمياء و كان يسلّمه على هذا النحو إلى البطالة دوريا ". كما يذهب إلى ذلك أرفون إن ّالعمل في شكله الحالي غير عادل، و ذلك لتداخل عوامل متفرّقة؛ فالعامل لا يتقاضى أجرا يعادل قيمة ما ينتجه، وهو لا يتقاضاه مقابل احتياجاته إضافة إلى أنّ اللامساواة تجد تبريرها في التفاوت الطبيعي ذكاء و موهبة. بناء على ذلك يصبح العامل رهين أبشع المساومات و أسوء ذرائع الاستغلال استجابة لمنطق السوق القائم على العرض و الطلب، و الصراع و المنافسة. و هذا ما جعل ايريك فروم يتشاءم من الوضع الحالي الذي توازي فيه الزيادة في التقدّم و الثراء، زيادة في الفقر. و إذا كان ماركس قد اقترح ثورة البروليتاريا كحلّ، فإنّ ايريك فروم يكاد يسلّم بأنّه لا حلّ لهذه الوحشية المتنامية. فهل نكتفي بوصف واقع العمل دون البحث عن حلول ممكنـة ؟ و هل نحتكـم إلى الواقـع رغـم ما فيه من إجحـاف ؟ و بالمـقابل هـل تكون العـدالة في شكلـها المثالـي الحلّ الأنسـب ؟
إذا كان الإحراج الأساسي هو التصادم بين العدالة و النجاعة، و إذا كانت المساواة بين العامل و صاحب رأسالمال غير ممكنة، فإنّه يكون من الضروري على الأقلّ تعميم الاستفادة بأقصى جهد ممكن ـ وإن كانت بأشكال متفاوتة ـ  كما يذهب إلى ذلك راولس، و بهذا تكون العدالة في حدّ ذاتها مقصدا للنجاعة بدل أن نعتبرها متعارضة معها. إنّ العدالة بما هي مساواة مطلقة لا يؤيّدها الواقع، كما أنّها عديمة المعنى. لذلك يكون من الضروري أن نستبدل هذه الدلالة بالعدالة في معنى الإنصاف وهو أن نعطي كلّ ذي حقّ حقّه ذلك أنّ الحقّ وحده يستبعد اللامساواة  و يتجاوز الادّعاء السائد بأنّ التفاوت يجد أصله في الطبيعة نفسها. فقد "اُبتدع الحقّ ليقاوم اللامساواة."
إنّ الإقرار بالتفاوت هو إقرار باحتكار الثروة، و بالمقابل فإنّ الطموح إلى عدالة مطلقة هو طموح غريب عن الواقع. و هذا ما يستدعي حلاّ واقعيا بأنّ "ننظّم أشكال التفاوت الاقتصادي الاجتماعي على نحو يستفيد منه الجميع"، ليكون من الممكن الارتقاء اجتماعيا و اقتصاديا و الانتقال من طبقة إلى أخرى. ذلك أنّ "الوضع الاقتصادي هو حصيلة عدّة معايير؛ علاقة الفرد بالملكية و نوعية العمل و الدخل و مستوى التعليم". و يكون من الضروري فسح المجال للغير للارتقاء، و بدل إقامة علاقات على المنافسة و الصراع و التصادم، يكون من الضروري إقامة "علاقة تعاون و ليست علاقة استغلال" على حدّ عبارة ايريك فروم. إنّ التعاون هو العلاقة الأكثر إنسانية و الأكثر ملاءمة للتواصل الإنساني إذ "بدون هذا التعاون يستحيل إيقاف التوجّه الأعمى للآلة الاجتماعية " و بدل تمثّل السعادة على أنّها تكديس للثروة و تشيئة للعلاقات الإنسانية و تألية لأنشطتها، يكون من الضروري أن نتمثّلها في معنى العطاء و التضحية و النظر إلى الآخر كقيمة، ذلك أنّ "الفرحة تغمر الإنسان حين يعطي و يشارك، و ليس حين يستغل و يكتنز " كما يذهب إلى ذلك ايريك فروم.
ليست العدالة قيمة مطلقة بل هي مرتبطة بالنجاعة المادية، ذلك أنّه لا يمكننا أن نعدل إلاّ عند وجود ما هو مادي وما هو نافع ذلك أنّه "إذا جعلتم العدالة غير نافعة تماما، فإنّكم ستخربون بذلك ماهيتها" ذلك أنّه يكون من الضروري أن يوجد الإنتاج و المنفعة، كي تكون العدالة ممكنة؛ إنّ المنفعة ليست قيمة مضادّة للعدالة بل هي شرط تحقّقها الفعلي. كما أنّ العدالة ليست خطرا على الثراء و ليست تهديدا للمصالح الاقتصادية، و إنّما هي شرط كلّ تماسك اجتماعي؛ لقد تنبّأ البعض ـ خطأ ـ  بأن منحة البطالة ـ كقيمة عادلة ـ  يمكن أن تضع الاقتصاد الفرنسي في وضع عجز، و لكن تبيّن على العكس من ذلك، ممّا يعني ـ في المطاف الأخيرـ أنّه لا تعارض بين العدالة و النجاعة.
إنّ الاقتصاد لا يقصد لذاته، أي لتكديس الثروة، و إنّما يستمدّ قيمته من اجتماعيته. إنّ مهمّة العدالة الاجتماعية ملقاة بالأساس على عاتق الحكومات كما يذهب إلى ذلك ايريك فايل، ذلك أنّ العامل لا يتحدّد كيانه بموقعه في المصنع، و إنّما هو ـ إضافة إلى كونه عامل ـ فهو مواطن ضمن حكومة يوكل لها الحفاظ على حقّه، لقول ايريك فايل :"إنّ المواطن هو بادئ الأمر عضو في مجتمع العمل. و أوّل ما يطالب به هو جزء عادل من الإنتاج الاجتماعي". و بهذا المعنى يتّضح تعقيد دلالة العدالة التي هي حصيلة جهود اقتصادية و سياسية. وهي قيمة تجمع حولها كلّ المنتجات الإنسانية، من دين و أخلاق و سياسة. كما أنّ كلّ هذه القيم لا وجود لها في فراغ، و إنّما ضمن تحقّق فعلي للثراء المادي، و بقدر ثراء المجتمعات، بقدر توقها إلى قيمة العدالة. إنّ العمل لا يحتوي فحسب على قيم الثراء و المنفعة و المردودية و إنّما هو في حدّ ذاته قيمة: إنّه أوّلا و أساسا صانع للوجود الإنساني.
الخاتمـة:
إنّ الممارسة تجعل الإنسان يكتشف نفسه كقدرة على التحويل و التغيير ذلك أنّ الفكر وحده كنشاط روحي لا يمكن أن تكون له هذه الصفة. كما أنّ العمل يكشف الإنسان للآخرين كقدرة على الإبداع و كحافز على الانتماء الإيجابي داخل الانتظام الاجتماعي. وهو إضافة إلى ذلك ضامن للقدرة الاقتصادية و النفوذ السياسي و هذا ما يجعل العمل ـ  في المطاف الأخير ـ فلسفة وجود قادرة على التأثير على كلّ هذه المجالات و لكن ما نخشاه باستمرار أن يكون العمل نقطة ضعف و مكمن كلّ التأثيرات الأخرى التي تتدخّل باستمرار لتخضعه إمّا لإرادة اجتماعية أو لاستغلال اقتصادي أو لنفوذ سياسي. لتكون بذلك الإدانة موجّهة للنفوذ المفروض على العمل و ليس على العمل ذاته. و يبقى بذلك العمل هو القيمة التي تتأكّد من خلالها الذات كقدرة على الفعل و على التحويل و هذا ما يتعذّر بالتفكير التأمّلي وحده. غير أنّه لا بدّ من الإشارة إلى ضرورة التمييز بين العمل و التطبيق ذلك أنّ هذا الأخير مرتبط بتصوّر تقني للفعل و الممارسة و لا ينظر في قيمة إنتاج ما إلاّ إذا كان ماديا في حين أنّ العمل يمكن أن يكون ممارسة ذهنية فلا يمكن أن ننفي على سقراط قيمته العملية رغم أنّ ما أنجزه لا علاقة له بالممارسة في دلالتها التطبيقية و التقنية. فقد غيّر وجه التاريخ و وضع اللبنات الأولى و الأساسية للعقل. و بهذا أمكننا أن ننتهي إلى أنّ العملي هو كلّ جهد له قدرة على التأثير و التحويل و لكن في الدلالة الموجبة ذلك أنّ الحرب مثلا لا يمكن أن تدرج رغم قدرتها على التحويل و التأثير ضمن ما هو عملي. فالعمل ـ في المطاف الأخيرـ هو التحويل الإنساني الإيجابي للمادة و للوعي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق