تحرير الأستاذ: خالد كلبوسي. القيروان 27 ـ 5 ـ 2010
الموضوع: هل تتحقّق الحرّية بمعزل عن الآخرين ؟
يراود حلم الحرّية مشاعر و عقول الملايين في كلّ الأوقات، إنّها المنسيّ الذي لا يُنسى و الرّجاء المطلق حين يخيب الرّجاء. كم من إنسان واجه آلة الطغيان الجبّارة من أجل الحرّية بل قد « نجد مُدُنا بأكملها هلكت من أجل حرّية مزعومة». و نحن يمكن أن نتخيّل أنّات الإنسانية المُقيّدة الطامحة لنيل الحرّية بأيّ ثمن مهما كان. غير أنّه يمكن الزّعم بأنَّ الوعي الحادّ بقيمة الحرّية يُمثّل ميزة الأزمنة الحديثة بلغة هيغل، و فعلا إنّ العصر الحديث هو الذي رفع شعار الحرّية و سعى إلى تحقيقها فعليًّا في الواقع حيث يمكن
القول إنّ الإنسانية بدأت صناعة تاريخها فعلا. و إنّ من مظاهر الوعي بقيمة الحرّية نُموّ ما يُعرف بالنزعة الفردية حيث يسطع نجم الفرد لأوّل مرّة في سماء الحداثة الساعية إلى التخلّص من كلّ وصاية بكلّ ما أوتيت من جهد و شجاعة. فهل إنّ ارتباط الحرّية بالنزعة الفردية يفترض أنّ المجموعة تُمثّل عائقا يحول دون تحقيق الفرد لذاته و بالتّالي لحرّيته ؟ هل يمكن أن يُحلّق الفرد حرّا بعيدا عن المجتمع ؟ ألا يُمثّل الآخرون شرطا أنطولوجيا لتحقيق الحرّية مهما كانت علاقة الأنا بهم ؟
يرتبط معنى الحرّية بالفعل الإنسانيّ بما هو فعل إرادي. إذ لا قيمة للحرّية إن لم تمتزج بنبض الحياة المتدفّق في كلّ الاتّجاهات. إنّها تستبعد و تصارع كلّ إلزام سلطوي يُفرض على الأنا من الخارج سواء كان مصدره بشريا أو غيبيا. و لهذا يبدو أنّ تحقّق الحرّية رهين استبعاد الآخر في صيغة الجمع، ذلك أنّ الفرد يولد و ينشأ داخل فضاء اجتماعي يُوجّه سلوكه و تفكيره منذ الطّفولة حتّى أنّه يمكن القول إنّ الفرد يعيش داخل المجتمع دون تفرّد دون خاصّيات فردية يختارها هو لنفسه. و لهذا يتحدّث البعض أنّ الفرد لا يولد حين يولد إنّما يولد حين يبدأ هو نفسه الاختيار، إنّ الولادة البيولوجية قدر بينما الولادة الوجودية اختيار. الآخر هو قبل كلّ شيء ما ليس أنا يحوّلني ظهور الآخر في العالم إلى مجرّد موضوع نكرة، شيء من الأشياء، يسلبني إنّيتي على نحو ما بيّن ذلك سارتر في" كتابه الوجود و العدم" عندما حلّل نظرة الآخر إلى الأشياء أوّلا و إلى الأنا ثانيا. فلنتصوّر مع سارتر أنّني أجلس" في حديقة عمومية و غير بعيد منّي يمتدّ بساط من الخضرة و على طول هذا البساط كرسي، يمرّ إنسان بالقرب من الكرسيّ. ينظر الأنا إلى الأشياء محوّلا إيّاها إلى موضوعات لنظرته ( ما يُمثّل الأشياء هنا بساط من الخضرة، كرسي…) وهي ما يُشكّل عالمه في تلك اللحظة و لاحقا ينضاف إليها الشخص الذي يمرّ بالقرب من الكرسيّ. غير أنّ الأنا سرعان ما يدرك أنّ الشخص الذي حوّلته نظرته إلى موضوع ينظر هو إلى الأشياء مثله. عند ذلك يشعر أنّ هذا الآخر "يسرق" منه عالمه في مرحلة أولى يقول سارتر:"إن ظهور الغير يشكّل انسحابا متحجّرا للعالم كلّه". و في مرحلة ثانية يسرق منه ذاته عندما ينظر إليه مثلما ينظر إلى بقية الموضوعات. لذلك يقول سارتر " أخجل من نفسي كما أظهر للآخرين". ذلك أنّ الآخر ينظر إليّ كما ينظر إلى أي شيء من الأشياء و هكذا يكون "الآخر هو الجحيم". ينتج عن ذلك صراع مرير بين الأنا و الآخر بين الفرد و المجتمع لا يستطيع تجاوزه إلاّ عبر النّفي أي التّمرد على الحشد أو القطيع على حدّ عبارة نيتشه. ها هنا يمكن لنا كذلك أن نستعين في تحليل علاقة الأنا بالآخر بجدلية السيّد و العبد الهيغلية حيث يصفها هيغل بأنّه "صراع من أجل الحياة أو الموت" عند هذه الفكرة يلتقي سارتر مع ألبير كامو Camus الّذي يعتبر التمرّد ميزة العالم الحديث بما يحتويه ذلك من حرّية و التزام. فإذا كان لا بدّ من قدر، فقدر الإنسان أن يكون حرّا، يحمل حرّيته على كاهله بما تعنيه من مسؤولية و ليس بما تعنيه من أثقال، هي هو وهو هي، لا فرق. لكن هذه الحرّية لا يفوز بها إلاّ الجسور ذلك الذي يملك روح التمرّد الخلاّق و ليس "التمرّد" العامّي المبتذل.
لئن كانت علاقة الأنا بالآخرين يحكمها الصّراع المرّ من أجل الحرّية، فهذا لا يعني أبدا أنّ الفرد يمكن أن يوجد بمعزل عن الآخرين اللهمّ إلاّ ضمن تصوّر موغل في المثالية وهو ما اصطلح على تسميته بـالأنانة le solipsisme على غرار التّصور الدّيكارتي. ذلك أنّ الفرد لا يكون فردا إلاّ بالنسبة للمجتمع و الأنا لا يكون "أنا" إلاّ بالنسبة للآخرين. و الآن إذا كان لا بدّ من الاجتماع فكيف السبيل إلى تحقيق الحرّية ؟ يعلم الجميع أنّ الإنسان لا يستطيع تحصيل معاشه بلغة ابن خلدون إلاّ بمساعدة الآخرين من بني جنسه، أي عن طريق العمل. فالعمل هو الذي يحرّر الإنسان من عبودية الضّرورة. و رغم أنّ النظام الرأسمالي الحديث يجعل العمل مغتربا، فإنّه يفتح الباب دون قصد أمام العامل ليتخلّص ليس من عبودية للطبيعة فحسب بل من عبودية الإنسان للإنسان. حيث بإمكان اتّحاد العمّال فيما بينهم أن يجعل الإنسانية تدخل تاريخها الحقيقيّ و ذلك بتجاوز النظام الرأسمالي نفسه كما دعا إلى ذلك ماركس أو على الأقلّ بالتأسيس لمجتمع عادل كما يتصوّره جان راولس في نظريته للعدالة القائمة على مبدأي الحرّية للجميع من جهة و تكافؤ الفرص من جهة أخرى. غير أنّ اجتماعية الإنسان لا تختزل في التعاون على تحصيل الرّزق، بل تفترض كذلك الاشتراك في إدارة الشأن العامّ أي ما يُسمّى الوجود السّياسي. يلاحظ روسو في بداية كتابه "العقد الاجتماعي" أنّ" الإنسان ولد حرّا لكنّه مكبّل بالأغلال حيثما وجد." إنّما الأغلال هنا هي قيود المجتمع كخيوط العنكبوت تفوح منها رائحة الموت. غير أنّ ذلك لا يعني أبدا أنّ بإمكان الإنسان أنّ يتخلّص من الاجتماع، إنّما يدفعنا ذلك إلى البحث عن حلّ ممكن لمشكل الحرّية. و الحلّ هنا ليس في العزلة إنّما الحلّ في إنشاء دولة القانون. و يعني ذلك القوانين التي يختارها الشعب لنفسه بنفسه و ليست القوانين التي يخترعها البعض ليستعبدوا البعض الآخر. فأن يشارك المواطن في إنشاء قوانين يلتزم بها لا يتناقض مع حقّه الطبيعيّ في الحرية، ها هنا تتمثّل الحرّية في أن يطيع المواطن القوانين لا أن يخضع إلى إرادة سيّد مزعوم يُرغم الرّعية على تنفيذ أوامره لحساب مصلحته الشخصية لا المصلحة العامة، يقول منتسكيو في هذا السياق :"الحرّية تتمثّل في فعل كلّ ما تسمح به القوانين" إنّ فكرة مشاركة المواطن في إنشاء القوانين في المجال السياسي هي التي تجد كفؤا لها في فكرة التشريع الذاتي للإرادة في المجال الأخلاقي لدى كانط، حيث أنّ الإرادة الخيّرة هي التي تصوغ بنفسها الواجب الذي يلتزم به الإنسان، إنّ الإنسان مع روسو و كانط هو الذي ينشىء القاعدة و يلتزم بها و بذلك يحقّق حرّيته. و بيّن أنّ القاعدة سواء في المجال السياسي أو المجال الأخلاقي ليست قاعدة خاصّة بفرد معزول عن الآخرين إنّما قاعدة موجّهة لسلوك الأفراد داخل المجتمع. و هكذا فإنّ الآخرين يمكن أن يساعدوا الأنا على تحقيق الحرّية. لكن من الممكن هنا أن نتحدّث عن شروط إمكان نظريه مثالية في حين أنّ المطلوب التحقّق الفعلي للحرّية. عند هذه النّقطة علينا أن ننظر إلى الحرّية باعتبارها جهدا و كسبا منحوتا فهي ليست معطى إنّما هي مهمّة تاريخية. جهد جماعي ما ينفكّ يحرّك التاريخ الإنساني حيث لا تستبعد الحرّية الضرورة، فالإنسان يتخلّص من عبودية الضرورة الطبيعية و التاريخية ليس بتجاهلها إنّما بمعرفة القوانين الطبيعية و التّاريخية و استغلالها لصالحه على نحو ما نستغلّ معارفنا العلمية في تلبية حاجاتنا. غير أنّ الحرّية لا تظهر في العلم فقط. بل لعلّ الفنّ هو أشدّ التعبيرات الإنسانية عمقا عن الحرّية الخلاّقة حيث فرادة الإبداع و الإيغال في الذاتية لا يستبعدان البعد الكوني للعمل الفنّي، بل لا يكون عمل ما فنّيا إذا كان مجرّد تعبير عن مشاعر و خواطر شخصية خالصة. إنّ الذات المبدعة ليست انطوائية بل هي انفتاح على العالم و التاريخ، و العمل الفنيّ في حقيقته نداء خالد و حرّ للآخرين. من هنا تتأتّى كونية الحكم الجمالي على نحو ما شرحه كانط في كتابه "نقد ملكة الحكم". هكذا يمكننا أن نعتبر أنّ من حقّ العصر الحديث أن يفخر بميلاد النّزعة الفردية على ألاّ تفهم باعتبارها رفضا قطعيا للآخرين، بل إنّ حرّية الفرد في المجال الأخلاقي و السياسي لا معنى لها خارج المجتمع و الدّولة. و نحن قد نسيء فهم الوجودية إذا اعتبرناها فلسفة رفض الآخرين. صحيح أنّ الوجودية ذات نزعة فردية لكنّها لا تنكر وجود الآخرين أوّلا ولا تعتبر حرّية الاختيار خاصّة بالفرد في عزلة عن الآخرين، يقول سارتر:" إذ أختار لنفسي فإنّني أختار الإنسان". إنّما الخطر الحقيقي الذي يهدّد حرّية الأفراد في عالمنا المعاصر يأتي من تحويل الحرّية إلى قناع إيديولوجيّ يخفي إرادة السيطرة و الهيمنة. فالليبرالية المعاصرة لا "تملك" من الحرّية إلاّ اسما مفرغا من المعنى. إنّها حرّية المستهلك المذلّة حيث يتمّ التحكّم في الأفراد من خلال توجيه رغباتهم نحو أقصى حدّ من الاستهلاك، و لعلّ أشدّ الأمور فضاعة أن يتمّ إخضاع الأفراد و الجماعات باسم ديمقراطية مزعومة على مرأى و مسمع العالم كلّه دون أن يخجل الفاعل عمّا يصدر عنه من مغالطات و حيل قد لا تنطلي حتّى على الأغبياء. يجب التّمييز إذن بين حرّية أصيلة و أخرى مزيّفة. بين وجود إنسانيّ أصيل و آخر مغترب. حتّى لا تسقط الإنسانية في العبثية المطلقة ممّا يُنبئ بالكارثة. و على الإنسانية أن تحذر السّقوط في شراك الغربان الناعقة تلك التي تدّعي أنّ الحرّية قد تحققّت و انتهى التاريخ بانتشار ما يُسمّى النظام العالمي الجديد.
طريق النجاح: نشكر للزميل خالد الكلبوسي على تعاونه.
الكتابة فن و تفكير و حوار.الاستمرار ضروريّ.
ردحذفأ,ت,ث.