أنجز الدرس: د. علي الشنّوفي (سنة: 1987 / 1988)
و نستطيع أن نقول إنّ العقلانية اليونانية اتّسمت بصفات خاصّة
منها عامل النقاش و الجدال. هذا العامل الذي ظهر في أثينا لا بين المدارس الفلسفية
و المذاهب الفلسفية فقط بل في الساحة الأثينية l’agora حول المسائل الرئيسية التي كانت تهمّ المدينة اليونانية
آنذاك، و النقاش لم يكن مجرّد عامل خارجي للعقلانية اليونانية بل إنّه يندرج ضمن
الموقف اليوناني من العقل. من ذلك الجدال الأفلاطوني
السفسطائي الذي ترتكز عليه أهمّ مواقف أفلاطون من
الفلسفة، و الجدال الذي نجده ضمن فلسفة أرسطو
في "ما بعد الطبيعة" و خاصّة في الكتاب الأوّل، بما أنّ
أرسطو يقوم بشبه تأريخ للفلسفة، و لكنّه تاريخ غائي يريد أرسطو
أنّ يبيّن من ورائه أنّ الحقيقة اكتملت عنده بعدما ظهرت جزئيّا في
الفلسفات السابقة. يمكن أن نقول إذن، أنّ العقلانية اليونانية اتّسمت بعامل النقاش
و الاعتقاد بأنّ الحقيقة تتكوّن شيئا فشيئا عن طريق الجدال، و مهما كان موقف أرسطو
من هذا الجدال إذ نجده ينبذ الجدلية الأفلاطونية و
يحاول تركيز علم يتخلّى تماما عن هذه الجدلية، ذلك أنّه يقرّ في نفس الوقت بأنّ
الجدلية هي التي تبلور المبادئ العقلية الأساسية مثل مبدأ عدم التناقض، و هذا
المبدأ هو مبدأ مؤسّس للعلم، لكن العلم لا يؤسّس هذا المبدأ بل يبقى في مجال البحث
الجدلي.. و لبيان الاختلاف بين هذا النوع من العقلانية و العقلانية الحديثة يمكن
أن نعتبر أنّ العقلانية الحديثة كما ظهرت عند ديكارت
أصبحت تعتقد أنّ العقل مهما كان موازيا للواقع هو عقل ابستمي إنساني، أي ليس هناك
وجود عقلي خارج الإنسان، و هذا العقل منسجم تماما، أي أنّ اختلاف المجالات التي
يبحث فيها العقل لا يجعل العقل مختلفا، بل أنّ ديكارت
يلح على أنّ العقل يمكن له أن يعرف الذات و الوجود بنفس المعايير، فالعقل الديكارتي
يوحّد مجال المعرفة و يوحّد نفسه في الآن نفسه و يركّز على ضرورة الوضوح
و البداهة و التمييز و يعطي القيمة الأولى للعقل
العارف لا العقل كما هو، فديكارت
يميّز بين ما يسمّيه ratio Cognoscendi وRatio essendi . و يبيّن ديكارت
أنّه لا مجال للنقاش و الحوار ضمن هذا العقل الجديد، و لذلك يتخلّى تماما عن
المدرسة و عن القرون الوسطى و عن أرسطو. فديكارت
يعتبر العقل نورا طبيعيّا، و لهذا لا يعتقد في ضرورة الاعتماد على تاريخ الفلسفة و
على ما كان يعتبر السلطة الكمّية في ذلك الوقت و خاصّة الفهم الذي كان متداولا
لفلسفة أرسطو! [1]
، فالعقل الديكارتي يفترض مفهوم النظام. و سواء تعلّق
الأمر بالتأمّلات أو بالنصوص الديكارتيّة الأخرى،
ينبغي أن نطبّق عليها ما ردّده ديكارت نفسه في
الإجابة عن الافتراضات من أنّ نظام الأفكار هو النظام الفكري الوحيد الذي يختلف أو
يتناقض مع نظام المواد. فديكارت كما يتضّح
ذلك في التأمّلات لا يحلّل مادة بعد مادة أو موضوعا بعد موضوع، أي لا يخضع لنظام
علاقة المواد ببعضها بل يحلّل الأفكار حسب ضرورة تسلسلها، الواحدة بعد الأخرى، فديكارت
عندما يبرهن مثلا على وجود الله في التأمّلات لا يدرج مجموعة من البراهين مع بعضها
في نفس الحيّز بل يفصلها عن بعضها، فهناك برهان يرتبط بالفكر الإنساني و محدوديته،
لذلك وجب أن يورد مباشرة بعد هذه المقولة، بينما هناك برهانين آخرين لا يرتبطان
بمحدودية الفكر بل بمقولتين مختلفتين يحتّمان على ديكارت برهنة
مختلفة على وجود الله و يأتيان في مرحلة مختلفة عن المرحلة الأولى كذلك الأمر
بالنسبة لنصّ قطعة الشمع، فنحن
نعرف من جهة أنّ العالم المادي أي الطبيعة في مجال الفيزياء لا يصل إليه ديكارت
إلاّ في التأمّل السادس فبعد تركيز وجود الذات و بيان ماهية الذات و البرهنة على
وجود الله يكتشف ديكارت الطبيعة. لكن نحن نعرف من
جهة أخرى أن تحليل قطعة الشمع التي تفترض وجودا ماديّا بالنسبة لمن يتعلّق بنظام
المواد، يقع في التأمّل الثاني، لذلك اعتقد بعض الشرّاح في وجود تناقض، لكن لو
جعلنا الأمر يخضع لقانون الأفكار فقط كما يِلحّ على ذلك ديكارت لا
نجد أي تناقض بين هذين النصّين، ذلك أنّ تحليل قطعة الشمع لا يرتكز على الوجود
الحقيقي للعالم المادي بل على وجود ممكن كفرضية فقط، و هذا الوجود الممكن ليس
ممكنا في نظر ديكارت بقدر ما هو ممكن في نظر من اعترض على
ديكارت، فنصّ قطعة الشمع هو جواب على اعتراض، فديكارت
يقول: "لنفترض أنّ هناك وجود عالم
مادي فإلى ماذا يؤدّي تحليل جزء من هذا العالم المادي؟" و
الاعتراض متأتٍّ من طرف التجريبيين و الحسّيين الذين يعتبرون أنّ الأفكار و خاصّة
أن فكرة الروح لا تصدر من العقل بل تصدر عن التجربة و بالتالي عن طريق الحواسّ. و
عندما يحلّل ديكارت قطعة الشمع فهو يبيّن أنّ العالم المادي نفسه لا
يفهم إلاّ عن طريق الفكر، و بذلك تنقلب الوضعية تماما إذ أنّ ديكارت
يخرج بنتيجتين يحطّم بهما موقف الحسّيين والتجريبيين في عقر دارهم: فالنفس
لا تعرف ذاتها إلاّ عن طريق ذاتها، ثمّ إنّ
العالم الحسّي أو المادي لا يفهم إلاّ عن طريق الفكر. و هذا
يبيّن أنّ تسلسل الأفكار هو التسلسل الرئيسي، فكلّما اقتضى الأمر الفكري أن نستنتج
فكرة من فكرة أخرى إلاّ و وجب أن نقوم بذلك الاستنتاج: نظام
الأفكار هو إذن النظام الفلسفي العقلاني الوحيد. و هذا
يحتّم علينا بدورنا أن نقرأ ديكارت انطلاقا
من هذا المبدأ الديكارتي نفسه أي أن نتّبع نظام أفكاره ولا
نظام المواد عنده. [2] إنّ
النظام الفكري، عكس تسلسل المواد، يقتضي أن نبتعد عن المعطى المباشر لهذه المواد و
أن يسترجع نفسه بنفسه و يضع تنظيما مغايرا لما عليه الأشياء في العالم الخارجي حتّى
يترك لنفسه إمكانية التفكير في نفسه لا في غيره، أي أن يفكّر في المبادئ التي
ينبغي أن يرتكز عليها لاكتشاف عملية الفكر نفسها. و أوّل هذه المبادئ الفكرية هي
الانطلاق من مبدأ واحد، يكون في انفصال تامّ و قطيعة واضحة مع كلّ ما كان مغايرا
للفكر، و لهذا نجد ديكارت منذ التأمّل
الأوّل يلحّ على ضرورة التركيز على مبدأ واحد فلن نشكّ في محتويات الحواسّ و لا في
كلّ معطياتها بل في المبدأ الحسّي بصفة عامّة، و بالتالي إرجاع تعدّد المواد إلى
مبدأ فكري عام يكون مبدأ فاصلا بين الفكر و الظنّ مهما كانت قيمة هذا الظنّ. فديكارت
يريد أن يركّز من ناحية العلم الجديد و من ناحية أخرى الفلسفة الجديدة أو بالأحرى
الفكر الفلسفي الجديد. و لذلك ينبغي أن نكتشف هذه الفلسفة الجديدة لتركيز هذا
العلم الجديد و الاكتشاف عند ديكارت أو
الإبداع الفلسفي يختلف تماما عن التواصل أي عن الجدال بالمعنى الفلسفي الأثيني أو
حتّى بمعنى مختلف. فديكارت لا يعتقد
في قيمة الجدال مهما كان المستوى النظري لهذا الجدال، فالفلسفة
عنده هي إنتاج مفاهيم و إبداع فكر فلا نقاش و لا مشاركة في الآراء، و
أن يبدع الفيلسوف عند ديكارت يعني أن
يبلور مفاهيم جديدة، تكون مفاهيم فكرية مجرّدة، لكن مفاهيم فكريّة تأتى عن ضرورة
ما لا لمجرّد الخلق، و هذه الضرورة هي ضرورة فكريّة بحتة وهي ناتجة بدورها عن
إلحاح مسائل أو مشاكل فكرية جديدة و يكون كلّ مفهوم جديد فيها. و هذا المفهوم
الضروري يحتوي في ماهيته على مفارقة، فنحن نخطئ عندما نعتبر أن المفهوم المفارق هو
مفهوم لا فلسفي لأنّه متناقض (على الأقلّ ظاهريّا) لأنّ المفهوم الفلسفي لا يكون
إلاّ مفارقا للظنّ و للآراء السائدة و هذا هو الجديد في المفهوم، فالمفهوم ينبغي
أن يكون مفارقا، و هذا ما نجده في بداية التحرّك الفكري الديكارتي
في التأمّلات: ضرورة الفصل بين الفكر و ما يخالف الفكر و ضرورة إنتاج مفاهيم
مفارقة انطلاقا من اكتشاف
الكوجيتو نفسه. إنّ النظام الفكري الديكارتي يتوخّى منهج الاكتشاف LA RATIO COGNOSCENDI لا الكشف عن ماهية
العالم كما هو معطى. و نظام الاكتشاف هذا نجده في التأمّلات يخضع إلى مبدأ "من
الماهية إلى الوجود" أي نكتشف الماهية ثمّ نتساءل فيما
بعد عن إمكانية وجود هذه الماهية. لكن المفارقة الأولى في هذا النظام نفسه هي
مفارقة الكوجيتو ذلك أنّنا نكتشف
وجود "الأنا المفكّر ثمّ نتساءل عن ماهية هذا الأنا". يقول
ديكارت: "أنا أفكّر أنا موجود" لكن
ما هي ماهيته كوجود يفكّر، و عندما يحاول ديكارت
الإجابة عن هذا السؤال يستعمل طريقة التحليل التي تقتضي الانطلاق من المركّب و تفكيكه
للوصول أخيرا إلى أبسط العناصر و أوضحها. "فأنا
شيء حقيقي موجود حقّا، و لكن أي شيء؟" "شيء يفكّر"، و "ماذا
بعد ؟". ماذا يعني شيء يفكّر؟ " أي شيء يشكّ، يتصوّر، يقدّر و ينكر،
يريد ولا يريد، و يتخيّل كذلك و يحسّ" و
يتساءل ديكارت عن معنى الخيال و الحسّ، لينتهي إلى القول بأنّ
التخيّل و الإحساس بدون عقل لا يساويان شيئا، فالحواسّ ما هي إلاّ مجرّد مخارج
تفتح على العالم الخارجي أمّا ما يفهم الأشياء حقّا فهي قدرتي على إصدار الأحكام
الكامنة في ذاتي، في عقلي، إذ أفهم بها ما كنت أعتقد أنّي رأيته بعيني. لكن هذا
التسلسل من الوجود إلى الماهية فيه مفارقة لأنّ كلّ المسائل التي تنتج عن هذه
المفارقة الأولى في التأمّلات سوف تحترم النظام
الديكارتي العام من الماهية إلى الوجود لا من الوجود إلى الماهية فأنا مثلاّ،
أكتشف ماهية الله، وهو كائن لا متناهي، ثمّ أكتشف وجوده فيما بعد و هذا يعكس علاقة
وجود الكوجيتو بماهية الكوجيتو،
لأنّني في هذه الحالة اكتشف الوجود أوّلا ثمّ أتساءل عن ماهية هذا الكوجيتو
فيما بعد. لكن هذه المفارقة في حالة الكوجيتو قد
يمكن تجاوزها إذا ما اعتبرنا أنّ الكوجيتو وجودا و ماهية
هو في الحقيقة نفس الشيء إنّما اقتضى الأمر الفكر أن اكتشف وجودي كفكر قبل أن
اكتشف ماهيتي كفكر. ذلك أنّنا إذ اعتبرنا أنّ التأمّلات خاضعة برمّتها إلى حدّ
التأمّل الثالث، إلى مبدأ الشيطان الماكر أو
الإلاه الماكر، فالخطأ العام الذي يسود حركة
التأمّلات يبقى ساري المفعول بعد اكتشاف الله و الطبيعة فيظهر الكوجيتو في ضعفه
شبيها بقصّة باسكال، أي شيء يفكّر لكن ضعيف جدّا، أي أنّ الكوجيتو
يبقى مجرّد استثناء داخل الشكّ العام، و بما أنّه استثناء فهو استثناء وجودي قبل
كلّ شيء و هذا الوجود الهشّ للكوجيتو يجعل علاقة الوجود بالماهية علاقة مرتبكة على
الأقلّ ظاهريّا. لكن نظام الأفكار سوف يعطي لهذا الكائن المفكّر مصيرا فلسفيا
مازال الفكر الغربي إلى الآن يريد استرجاعه رغم كلّ النقد الموجّه له، إذ
يكتشف الإنسان كذات ابستيمية.
v المقدمـة:
هناك موقفان رئيسيّان من العقل، موقف له صبغة ما ورائية يعتقد أنّ
العقل مهما اختلف الزمان و المكان و ضمن مجالات مختلفة يبقى أساسا هو هو. و موقف
فلسفي و إبستمي في آن واحد يعتبر أنّ العقل ظاهرة تاريخيّة لا محالة، و يميّز
بالتالي بين عقلانيات مختلفة، كأن يقول عقلانية يونانيّة، عقلانية قروسطيّة،
عقلانية حديثة، عقلانية جدلية... و هذا الموقف ينطلق من فكرة نسبيّة العقل و يحاول
إبراز الصفات الخاصة لكلّ عقلانية. لكنّه ربّما لا يهتمّ بمسألة علاقة هذه
العقلانيات بإمكانيّة وجود عقل واحد أو على الأقلّ صفات أساسية و أوّلية لكلّ نوع
من هذه العقلانيات.
v
المنهج عند
ديكارت:
يقول
ديكارت في الجزء الأوّل من مقالة الطريقة (الصفحة: 35 من طبعة G.F 1966):
« Ainsi mon dessin n’est pas d’enseigner
ici la méthode que chacun doit suivre pour bien conduire sa raison, mais
seulement de faire voir en quelle sorte j’ai taché de conduire la mienne »
ثمّ يذكر في الجزء الثاني من مقالة الطريقة ( الصفحة 47 من طبعة
1966. G.F):
« 1.le premier était de ne
recevoir jamais qu'une chose pour moi, que je ne la connaisse évidemment été
telle : c’est-à-dire, d’éviter soigneusement la précipitation et la prévention
; et de ne comprendre rien de plus en mes jugements, que ce que se présenterait
si clairement et si distinctement à mon esprit, que je n’eusse aucune occasion
de le mettre en doute.
2.le second de deviser chacune des difficultés
que j’examinerais en autant de parcelles qu’il se pourrait, et qu’il serait
requis pour les mieux résoudre.
3.le troisième, de conduire par ordre mes
pensées, en commençant pour les objets les plus simples et les plus aisés à
connaître, pour montrer peu à peu, comme par degrés, jusques à la connaissance
des plus composés ; et supposant même de l’ordre entre ceux qui ne se précèdent
point naturellement les uns les autres.
4.Et le dernier, de faire partout des
dénombrements si entiers, et des revues si générales, que je fusse assuré de ne
rien omettre »
هذه إذن قواعد المنهج حسب
ديكارت وهي قواعد بسيطة في حدّ ذاتها إلى درجة أنّها
تبدو ضئيلة جدّا أو ضعيفة جدّا لأنّها لا تثري حقّا المنهج و البحث الفلسفي. و ربّما
لشيء كهذا يلحّ ديكارت في الجزء الأوّل من مقالة
الطريقة على أنّ منهجه لا يصلح للغير بل يصلح لديكارت
نفسه ولا يبيّن لنا طريقة الاكتشاف أو البرهنة و لذاك نجد الجزء الأوّل من مقالة
الطريقة يهتمّ بحياة ديكارت و بصفة خاصّة بتعليمه
المدرسي و كيف اعتقد أنّه ينبغي أن ينطلق من هذه القواعد الأربع لبناء تفكير جديد.
و كأنّ المنهج الديكارتي عندما نرجعه إلى هذه القواعد الأربع
فقط، يبدو منهجا تقنيّا ضعيفا، بينما مشروع ديكارت،
هو مشروع ثوري حسب موقف ديكارت نفسه، ذلك
أنّ ظهور الشكّ و قواعد المنهج تشكّل تحوّلا جذريّا بالنسبة للتعليم المدرسي، أي
أنّ الفكر الذي يريد تركيزه، ديكارت، لا يهتمّ
بتكثيف المعرفة بقدر ما يهتمّ بتغييرها تغييرا جذريا و ارتقاء النفس إلى مرتبة
جديدة تكون فاعلة في معرفتها إذ يجتهد الفيلسوف
بالنسبة لديكارت في الوصول إلى الالتحام بنفسه و الانطلاق
منها قبل كلّ شيء عكس المنهج المدرسي الأرسطي،
ذلك أنّ الفكر عند أرسطو هو فكر
مواز للكائن، للوجود، هذا الكائن الذي ينبغي أن يقال حسب مقولات متعدّدة، فالكائن
عند أرسطو هو كائن المقولات، و المقولات هي مقولات الكائن،
و لذلك نجد أرسطو في التحليلات الأولى (الجزء 1 الفقرة 3) و في
التحليلات الثانية (ج 2. ف 5) يعيب على الأفلاطونية جدلية
التقسيم التي ظهرت خاصّة في المحاورات الأخيرة و تبلورت بصفة نهائية في محاورة
السفسطائي. فأرسطو يرى أنّ منهج القسمة الأفلاطوني Dichotomie عشوائي، فالتقسيم الثنائي لا يخضع
لمبدأ عقلي محدّد لأنّه يضع الوسائط التي تجعلنا ننتقل من جزء إلى آخر و من ثنائية
إلى أخرى عندما نميّز في الجنس الواحد أنواعا مختلفة، أي عندما نميّز في المفهوم
الواحد عنصرين مختلفين، فأرسطو يعيب على أفلاطون
عدم الوصول إلى المفهوم و التشبّث بالفكرة لا بالمفهوم، و فلسفة
أرسطو من هذا المنظور هي فلسفة محاولة إيجاد تطابق بين الأشياء، و هذا هو
عمل المفهوم، و لكن أرسطو نسي أنّ فلسفة
أفلاطون لا تبحث عن تطابق بل على صحّة شيء ما أو على عدم صحّته، فعندما يحلّل
أفلاطون ادّعاء ما، فهو يحاول أن يحكم على مدى صحّة هذا
الادعاء، أي أنّه يمتحن مدى اقترابه من الفكرة و مشاركته فيها، فعلاقة الفكر بالادّعاء
عند أفلاطون هي علاقة الأب و البنت و الخاطب، إذ يحاول الأب
(الفكرة و المثال) الحكم على هذا العنصر الثالث (الخاطب) الذي يدّعي و يريد أن
يقترب من العنصر الثاني (البنت) (وهي ما يشارك في المثال) ليشارك في العنصر الأوّل.
و ديكارت يقترب من أفلاطون
في هذه الناحية، و يبتعد كلّ البعد عن أرسطو
خاصّة في القاعدة المنهجية الأولى و الثانية أي قاعدة البداهة و التحليل. ذلك أنّ
البداهة و التحليل يفترضان الشكّ في كلّ الأشياء غير الواضحة و المتميّزة و الشكّ
في كلّ الأشياء المركّبة كما يفترضان الانطلاق من حدس أوّل، فعقلانية ديكارت
ترتكز على الحدس و البداهة و
هذا المبدأ لا يمكن للمدرسيين و لا لأرسطو
قبوله لأنّ المعرفة عندهم موازية للكائن لا للنفس العارفة و إرادتها. و نظام
الأفكار الذي يرتبط بهذا الحدس الأوّل، أي بالبداهة، هو تسلسل الحدوس و اتّصالها
ببعضها مع أنّها منفصلة، فكلّ حدس هو حدس فكرة واحدة واضحة و متميّزة لكن نظام الأفكار
ينبغي أن يكون سلسلة الحدوس المرتبطة ببعضها رغم أنّها منفصلة . و لذلك يحتاج هذا
المنهج إلى العودة دائما و عدّ الأفكار في كلّ مرّة و بانتباه شديد و بإرادة
متمادية لكي لا ينزلق الخطأ بينها. و هكذا تكون العودة دائما، إلى البداهة الأولى،
إلى الحدس الأوّل، و بالتالي إلى الكوجيتو المنعزل تماما عن العالم و عن الله بل و
عن مجموعة الأفكار التي تظهر فيما بعده، و لهذا فإن كان فكر سقراط
و أفلاطون هو فكر
الساحة الأثينية أي نقاش لا يخضع لتحديدات نهائية ننطلق منها لنستنتج منها تحديدات
أخرى مثلما سيكون الأمر مع أرسطو، فإنّ
الأمر عند ديكارت يصبح مخالفا جدّا أو مخالفا لما سيكون عليه
الأمر عند ليبينيتز وهو فيلسوف المكتبة و ما سيكون عليه
الأمر عند هيقل وهو فيلسوف الجامعة و ما كان عليه الأمر عند الغزالي
وهو فيلسوف المدرسة النظامية و ما كان عليه عند ابن رشد وهو
فيلسوف قرطبة و فيلسوف المسجد، فالأمر عند ديكارت
يصبح مخالفا، ذلك أنّنا نبقى دائما في عزلة الكوجيتو و عزلة الأفكار لذا سوف يحتاج
ديكارت إلى الله كضمان للحقيقة. إنّ العقل عند ديكارت
هو مجموعة الأفكار الواضحة و المتميّزة أي مجموعة الحدوس وهو عقل وثوقي توكيدي،
لكن وثوقيته محدودة، لأنّ كلّ فكرة واضحة و متميّزة هي صحيحة بصفة مطلقة، و كلّ ما
أدركه بصفة واضحة و متميّزة هو صحيح و بالتالي مطلق و هذه هي وثوقية ديكارت،
لكنّي لا أدرك كلّ الأشياء، هناك أشياء لا أدركها لأنّ ذهني متناهٍ، و هذا يبيّن
محدودية إطلاقية أو وثوقية فلسفة ديكارت أو
عقلانية ديكارت و لهذا تبقى في عقلانية ديكارت
ثغرات كبرى سوف يحاول الديكارتيون الآخرون
فيما بعد سدّها. و ما ينبغي أن نؤكّد عليه في هذه القواعد البسيطة للمنهج، هو
القاعدة الأولى لأنّ كلّ القواعد الأخرى تخضع إلى هذه القاعدة الأولى، و هنا ينبغي
أن نذكّر بالنمط أو النموذج الذي يخضع إليه هذا المبدأ الأوّل. نحن نعلم أنّ ديكارت
يقول أنّ الرياضيات هي أحسن معيار للحقيقة في الفلسفة، و الرياضيات عنده لا بمعنى
الحساب و لكن بمعنى الهندسة لأنّ الهندسة تمكنّنا من مشاهدة الشكل بصفة واضحة، أمّا
العدد و عمليات التعديد فهي تثقل الذهن ولا تمكّنه من سلسلة الحدوس الواضحة التي
تحتاج إليها فلسفة ديكارت، فالرياضيات بمعنى الهندسة،
لأنّها لا تبالي من جهة بالمحتوى فهي مجرّدة و لأنّها من جهة أخرى تجعل الذهن يفكّر
في نفس عملياته لا في شيء خارج عنه، و لأنّها تمثّل من جهة ثالثة تسلسل عقلاني
واضح. و الرياضيات بهذه المعاني تصبح الطريق الملكي للفلسفة عند ديكارت،
و لهذا يتخلّى ديكارت عن منهج الجدل الأفلاطوني و عن منهج البرهان
الأرسطي الذي هو منطقي لا بمعنى رياضي هندسي، و يلحّ ديكارت
على الكوجيتو، وهو في معناه الأوّل يدلّ كالرياضيات على استقلالية الفكر. فالعقل
يصبح لأوّل مرّة مع ديكارت جوهر، فهو
فكر خالص، أي فكر لا يفكّر فقط في الواقع بل يفكّر في نفسه و في الممكن، فالشكّ
إذن عكس ما نفهمه غالبا ليس شكّا في الواقع بقدر ما هو شكّ في الممكن، أي معنى
الفكر عند ديكارت، لأوّل مرّة يسترجع ذاته ليفكّر بصفة خالصة
تماما، و لهذا يعتمد ديكارت على مبدأ: من
المعرفة إلى الكائن النتيجة صحيحة، أو مبدأ من الماهية إلى الوجود أو
مبدأ من القيمة الموضوعية للفكرة إلى القيمة الصورية للفكرة، و هذه المبادئ الثلاثة
تدلّ على مدى القيمة التي يعطيها ديكارت إلى الفكر
الخالص قبل وصوله إلى العالم الخارجي، ذلك أنّ الفكر مستقلّ بذاته و أصبح جوهرا. و
لذلك كلّ ما أعرفه بصفة واضحة و متميّزة أعرفه بصورة مطلقة رغم أنّي لا أعرف كلّ
الأشياء، وعندما يتساءل ديكارت هل أنّي
متيّقن من يقيني؟ فهذا يعني من ناحية هل أنّ الفكرة البديهية التي تبدو لي كذلك
لها قيمة موضوعية و من ناحية أخرى هل أنّ هذه الفكرة لها قيمة صورية، و هذا يعني
أوّلا هل أنّ فكرتي بقطع النظر عن العالم الخارجي هي فكرة صحيحة أم مجرّد ظنّ أو
خيال، و يعني ثانيا هل أنّ هذه الفكرة الصحيحة لها ما يوازيها في العالم الخارجي،
و بطبيعة الحال يعطي ديكارت للسؤال الأوّل أكثر قيمة،
أي للبحث عن القيمة الموضوعية للفكرة، لكن كيف نعرف أنّ الفكرة كفكرة بقطع النظر
عن العالم الخارجي عندما تبدو لي بديهيّة تكون صحيحة، أي إلى أي مدى يمكن أن نعتبر
مثالية عقلانية ديكارت مثالية موضوعية بالمعنى الذي يعطيه
ديكارت لكلمة "موضوعية"؟ هذا ما يجرّ ديكارت إلى
بحث خاصّ بالأفكار انطلاقا من مصدرها إلى قيمتها و إلى علاقتها بالعالم الخارجي. و
لكي يجيب ديكارت على هذا السؤال الرئيسي في فلسفته ينبغي أن يضع
موضع شكّ كلّ الواقع و كلّ الممكن و من هنا نفهم أنّ الشكّ عند ديكارت
جزء رئيسي لا مجرّد مدخل إلى لفلسفته. و الشكّ يتوخّى فرضية الشيطان الماكر، أي
مجرّد فرضية فكرية خالصة لكي يكون الشكّ أوّلا شكّا فكريّا و منهجيا فقط لا شكّا
معاشا أو تجربة حياتية شكلية، و منهجي لا يعني فقط مجرّد مدخل للفلسفة بل أساسا له
قيمة فكرية فقط، و يرمى بما أنّه منهجي إلى تأسيس العلوم و المعرفة الصحيحة على
مبادئ ثابتة و لذلك لا يحتاج ديكارت إلى الشكّ
في أشياء أخرى، أو إلى تنزيل الشكّ إلى الحياة (و لهذا يترك مجالا خارج الشكّ،
مجال الدين و الأخلاق و السياسة أو هو لا يهتمّ بهذه القضايا على الأقلّ على مستوى
البحث الفكري الأوّل). و لهذا يكون هذا الشكّ مرّة واحدة، أي يكون كحدث فكري ينتج
تحوّل جذري من الظنّ إلى الفكر الخالص، و إلى جانب أنّه شكّ منهجي هو شكّ ما ورائي
بمعنى أنّه شكّ لا نهائي عكس موقف أرسطو الذي يقرّ
أنّه ينبغي أن نقف عند حدّ ما لكي نؤسّس العلم. أمّا ديكارت
فهو لا يقف إلاّ على مستوى الواقع و لا على مستوى الممكن، الشكّ يمكن أن يكون لا
نهائيّا و دائريّا، و لهذا يشعر ديكارت أنّ الفكر
قد يؤدّي إلى الجنون. و الشكّ ثالثا يميّز مبدئيّا بين الواقع و الممكن و كلّ ما
يمكن أن نكتشفه من أفكار صحيحة يبقى ضمن هذه العملية الإرادية اللامتناهية مجرّد
استثناء، لكنّه استثناء هامّ جدّا، رغم أنّ هذا الاستثناء الهامّ هو الذي سوف
يخرجنا من الشكّ و يكتشف الله كضامن للحقيقة ثمّ يكتشف موضوعية الأفكار و صورية
الأفكار و يعطينا معيارا بين الأفكار و الحكم عليها.
v
الكوجيتو عند
ديكارت:
بما أنّ الشكّ له طابع ما ورائي أي هو شكّ في الواقع و في الممكن في
آن واحد، فإنّ اكتشاف الكوجيتو، أي اكتشاف وجود شيء يفكّر لا يمكن ضمن هذا الإطار
إلاّ أن يكون مجرّد استثناء، أي أنّه اكتشاف بالفعل كحدث واقعي لا اكتشاف قانوني و
مشرّع في حدّ ذاته، و هذا يعني أنّ الشكّ يبقى دائما ساري المفعول، لكن هذا
الاستثناء يجعلنا نتحصّل على معيار للأفكار الواضحة و المتميّزة، و لذلك يمكن
للذات الابستيمية حتّى قبل اكتشاف ضمان أنطولوجي للحقيقة، أن تميّز بين الأفكار
الواضحة و الصحيحة و الأفكار غير الواضحة و غير الصحيحة، ذلك أنّ الكوجيتو هو
طبيعة بسيطة، أي أن التحليل يجعلنا في النهاية نتمكّن من بلورة فكرة الكوجيتو
كفكرة بسيطة ، بل هو طبيعة بسيطة و مطلقة بالمقارنة مع الرياضيات التي هي أفكار
واضحة و متميّزة أي طبيعة بسيطة بالنسبة للكوجيتو، بينما الكوجيتو هو طبيعة بسيطة
مطلقة، و هنا يكمن مشكل ابستمي عند ديكارت
و هو في الحقيقة مشكل يمسّ كلّ عقلانيات القرن السابع عشر و يتمثّل في الدور
المزدوج الذي تلعبه الرياضيات بالنسبة للعقل أو الفلسفة العقلانية، لأنّ الرياضيات
تبدو من ناحية النموذج الاسمي للوضوح و التميّز و لذلك يستوردها كلّ فيلسوف عقلاني
لعقلة فكره و فلسفته، و لكنّها من ناحية أخرى تصبح نموذجا ثانويا بالنسبة لهذا
الفكر أو العقل أو الفلسفة. إنّ الكوجيتو استثناء وهو معيار لفكرة واضحة و متميّزة
وهو طبيعة بسيطة مطلقة، و لذلك فهو جوهر بمعنى ابستمي فقط، بما أنّنا مازلنا في
إطار الاستثناء، يعني أنّنا إذا حدّدنا الجوهر كشيء مستقلّ بذاته و يدرك ذاته
بذاته، فإنّ الكوجيتو كجوهر ابستمي قبل اكتشاف ضمان مطلق للحقيقة يبدو أنّه لا
يستطيع أن يكون مستقلاّ بصفة مطلقة مع أنّه يمكن أن يدرك ذاته بذاته، هذا الجوهر
هو جوهر بما أنّه طبيعة بسيطة، فهو جوهر بسيط أي لا ينقسم، عكس مفهوم الجوهر عند أرسطو
و حتّى عكس مفهوم الجوهر عند ديكارت عندما لا
يتعلّق الأمر بالفكر بل بالمادة. فالكوجيتو إذن هو استثناء، معيار للحقيقة و طبيعة
بسيطة مطلق وهو جوهر لا ينقسم وهو لذلك أداة براغماتية لا أنطولوجية لتأسيس
العلوم، و هذا لا يعني أنّ هذه العلوم عندما تؤسّس على هذا الكوجيتو الذي لم يؤسّس
أنطولوجيا بعد، تبقى محلّ تردّد أو شكّ لأنّ تأسيس هذه العلوم يكفيه الكوجيتو
الابستيمي لبيان صحّتها. و لهذا فإنّ الكوجيتو إلى جانب هذه الصفات المتأتيّة عن
كونه استثناء، وهو جوهر بسيط و واضح، هذا الكوجيتو هو أيسر معرفة من الحجم لأنّه
بسيط بينما الجسم مركّب، وهو جوهر روحي، أي يجب أن نميّزه عن الجسم تميّزا جوهريّا،
لا تمييزا عرفيا، فالكوجيتو روح وهو إلى جانب طبيعته الروحانية، ذهني خالص، أي أنّنا
ينبغي أن نميّز في الفكر نفسه بين الفكر كفكر بسيط مطلق و الفكر الذي يبدو كصفة
عرضية داخل هذا الفكر أي الخيال و الإرادة و الإحساس، إذ عندما نقول هنا أنّ
الكوجيتو ذهني أي أنّه يتميّز عن الخيال و الإرادة في الفكر نفسه تميّزا لا جوهريا
بل عرضيا فقط. فهذا الكوجيتو الذي يشكّل استثناء ضمن الشكّ الماورائي و الذي يعتبر
كمعيار للحقيقة و كطبيعة بسيطة مطلقة و كأداة ابستيمية لتأسيس العلم و كجوهر بسيط
لا ينقسم، هذا الكوجيتو الروحي و الذهني يعرف ذاته بذاته مباشرة
v
نـظرية
الأفكار البسيـطة:
بعد بيان أهمّ الصفات التي يتميّز بها الكوجيتو عند ديكارت
ينبغي أن نحلّل محتويات هذا الكوجيتو أي الأفكار، و عندما نقول محتويات الكوجيتو
فذلك يعني أنّ الفكرة عند ديكارت لا تنتج
عن فعل الفكر أي عن عمل فكري إيجابي يكون خلاّقا للأفكار و فاعلا فيها، الفكرة عند
ديكارت منفعلة، فهي مجرّد لوحة على حدّ عبارة سبينوزا،
و بما أنّها مجرّد لوحة، مجرّد انعكاس لشيء خارجي، فينبغي أوّلا و قبل كلّ شيء أن
نبحث عن مدى موضوعية تمثّل الفكرة لهذا الشيء الخارجي أي عن القيمة الموضوعية
للفكرة. هذا هو الشكل الأساسي الذي يضعه ديكارت
في التأمّل الثالث: ما هي القيمة الموضوعية للأفكار؟ و هذا السؤال يفترض أنّ
الأفكار قد تكون لها قيمة موضوعية مختلفة حسب درجات قدرتها على تمثّل الشيء
الخارجي، الشيء الذي يفترض بدوره أنّ الأشياء الخارجية لها مراتب وجودية مختلفة (و
هو ما يبرز لنا مدى تأثّر ديكارت بالنظرة
اليونانية للوجود و المعرفة، بما أنّ المعرفة و الوجود لهما مراتب مختلفة، هذا الشيء
الذي لم يفهمه هوبز من خلال الاعتراضات الثلاثة). و يعرّف ديكارت
الفكرة كشيء ينبغي أن يعكس شيئا خارجيّا، لكن السؤال هو التالي: هل أنّ الفكرة
تعكس حقّا الشيء الخارجي، و مشكل التأمّل الثالث هو البحث في إمكانية الحقيقة عن
طريق البحث في القيمة الموضوعية للفكرة، بينما يبحث التأمّل الرابع في إمكانية
الخطأ. عندما يبحث التأمّل الثالث في القيمة الموضوعية للفكرة يريد أن يصل إلى
بيان الكيفية التي تنتج بها الحقيقة. بينما يبحث التأمّل الرابع في الحكم le jugement و الخطأ ينتج عن الحكم. فبالنسبة
لديكارت القيمة الموضوعية للفكرة هي التي تحدّد قيمة الحكم لا العكس و لذا
ينبغي أن نبتدئ بالبحث في القيمة الموضوعية للفكرة، و يميّز
ديكارت بين القيمة الموضوعية و القيمة الصورية. و القيمة الموضوعية هي قدرة
الفكرة على تمثّل شيء خارجي، بينما القيمة الصورية هي قيمة الفكرة في حدّ ذاتها.
إنّ القيمة الموضوعية لا تقاس بقيمة الشيء الخارجي بل بقيمة تمثلها للشيء الخارجي.
يتمحور البحث في التأمّل الثالث، إذن، حول القيمة الموضوعية للفكرة، لذلك يبدأ ديكارت
بالتمييز بين الأفكار التي تكون بالضرورة صحيحة أو مخطئة و الأفكار التي لا يمكن
أن يقال عنها صحيحة أو مخطئة ثمّ يعرض ديكارت
(بدون أن نفهم لأوّل قراءة على الأقلّ لماذا) بتمييز آخر بين الأفكار
الفطرية Innée و الأفكار
المصطنعة Factice و الأفكار
العارضة Adventice . لكنّنا عندما
نمعن النظر في هذا التمييز نفهم أنّ غاية ديكارت
من هذا التمييز، هو تعرّضه إلى مشكلة المصادر المختلفة للأفكار، فقد كان البحث
الأوّل بين الأفكار التي يمكن أن تكون صحيحة أو خاطئة هو بحث في نوعية الأفكار
التي ينبغي أن تعكس شيئا خارجيا، بينما لا يتعرّض التمييز بين الأفكار فطرية و
أفكار مصطنعة و أخرى عارضة إلى مدى تطابق الفكر مع هذا الشيء الخارجي بل إلى مصدر
الفكرة فقط، لماذا يتعرّض ديكارت إلى مشكل
مصدر الأفكار بينما يمثّل البحث في القيمة الموضوعية للأفكار البحث الأصلي، لماذا
يتعرّض إلى هذا البحث الثاني الذي يبدو مشوّشا لتسلسل الأفكار؟ يبدو أنّ ديكارت
شعر بنفس الشعور الذي ظهر في بداية التأمّل الثاني عندما كان يبيّن أنّ الكوجيتو
قادر على معرفة نفسه بنفسه مباشرة مبرزا آنذاك اعتراضا ملحّا من طرف التجريبيين
والحسّيين الذين يتشبثّون بالموقف القائل بأنّ الفكر يصدر عن العالم الخارجي الحسّي،
فتحتّم الأمر على ديكارت أن يأخذ
مثالا من هذا العالم الحسّي و هو قطعة الشمع كافتراض لوجود العالم الحسّي لبيان أنّ
الفكر يعرف نفسه بنفسه مباشرة، بل إنّ العالم الحسّي نفسه لا يعرف إلاّ عن طريق
الفكر، كذلك بالنسبة لهذا البحث في الأفكار الذي كان عليه أن يواصل البحث في
القيمة الموضوعية للفكرة، ينقطع مؤقّتا ليجيب عن اعتراض تجريبي و حسّي من جديد و يتمثّل
هذا الاعتراض في بيان أنّ القيمة الموضوعية للفكرة تقاس حسب مصدر الفكرة، و مصدر
الفكرة بالنسبة للحسّيين، هذا التمييز الثاني بين الأفكار، يجيب على اعتراض الحسّيين
الذي يرجع مسألة القيمة الموضوعية لمسألة مصدر الأفكار، و الذي يعتقد أنّ القيمة
الموضوعية حسب المصدر هي القيمة المتأتّية عن الحواسّ أي أنّ الأفكار العارضة هي
وحدها الأفكار الصحيحة، أمام هذا الاعتراض أكّد ديكارت على
ضرورة فصل المسألتين (مسألة القيمة الموضوعية للأفكار و مسألة المصادر)، لذلك يضع
ديكارت موضع شكّ كلّ مصادر الأفكار و يبيّن أنّ مسألة المصدر في مستوى
الإنسان لا يمكن أن تعطينا حلاّ للمسألة الرئيسية وهي مسألة القيمة الموضوعية
للأفكار، لكن ديكارت يتساءل هنا، هل هناك شيء ما تكون عنده مسألة
المصدر موازية لمسألة القيمة الموضوعية للأفكار فيجد أنّ الله أو أن فكرة الله هي
فكرة في نفس الوقت تعكس تماما الله وهي صادرة حقّا عن الله أي أنّ المصدر و المطابقة
هما شيء واحد و هذه هي الحالة الوحيدة التي يمكن أن يكون فيها المصدر و المطابقة
شيء واحد، فيستنتج ديكارت من ذلك ، أوّلا أنّ الله
موجود، ثانيا بما أنّه يؤلّف بين القيمة الموضوعية المثلى للفكرة، و المصدر
الحقيقي لهذه الفكرة فالله هو ضامن الحقيقة، ثالثا بما أنّ ديكارت
كان يبحث عن القيمة الموضوعية للفكرة و لم يجد حلاّ لذلك فهو الآن تحصل على فكرة
تكون نموذجا لكلّ الأفكار التي يمكن أن تكون صحيحة، وهذا يعني أنّ ديكارت
الذي كان يبحث عن القيمة الموضوعية للفكرة والذي تحتمّ عليه الأمر فتح القوسين
للحسّيين، تحصّل في فتحه لهذين القوسين على أكثر ممّا كان ينتظر تماما كما تحصّل
على أكثر ممّا كان ينتظر بالنسبة لمثال قطعة الشمع بما أنّه كان يريد الإجابة فقط
على الحسّيين فإذا به يكتشف وجود الله و بالتالي بطريقة ملتوية وجد حلاّ لمسألة
القيمة الموضوعية للأفكار. و من هنا نتبيّن أنّ مسألة الحقيقة تصبح ممكنة و هذا هو
الموضوع العام للتأمّل الثالث. (كيف نؤسّس ما ورائيا الحقيقة). القيمة الموضوعية
للفكر إذن هي قدرة الفكرة على تمثّل شيئا خارجيا بعدما تحصّلنا على ضامن لهذه
الحقيقة، الشيء الذي لا يعني أنّ كلّ أفكارنا التي تدّعي إنّها لا تعكس شيئا
خارجيا صحيحة، بل يعني فقط أنّنا تمكّنا من أداة تجعلنا قادرين على التمييز بين
القيمة الموضوعية المختلفة للأفكار. فديكارت يقف
دائما موقفا ضدّ الحسّيين لبيان أنّ الفكر يعرف نفسه بنفسه و أنّ الفكر لا ينتج عن
الحواسّ و الأشياء الخارجية... لكنّه عندما يتشبّث ببيان أنّ القيمة الموضوعية في
الفكرة هي قيمة تمثّلها لشيء خارجي فهو يبقى حسّيا، لأنّه يربط الفكر بالشيء
الخارجي، و هذه هي محدودية نظرية الأفكار عنده، فديكارت
مازال يتحرّك في نظرية التمثّل التي سوف تعرف فيما بعد نقدا جذريّا.
v
مسألة الخطأ:
تعرّض التأمّل الثالث إلى كيفية تأسيس الحقيقة على أساس الله كضامن
لها، لذلك يجب ربط هذه المسألة بالتأمّل الرابع الذي يدرس إمكانية الخطأ، أي البحث
عن الحقيقة في المستوى الماورائي. و لكن قبل التعرّض إلى هذه المسألة ينبغي أن
نسترجع أهمّ ما وصلنا إليه فيما يخصّ مسألة العقلانية عند ديكارت.
ذلك أنّ الشكّ عن طريق فرضية " الإله " الماكر يصل إلى أقصى مستوياته
فيأتي على الواقع و الممكن في آن واحد، ذلك أنّ ديكارت
في شكّه هذا يقف تماما ضدّ كلّ الفلسفات التي سبقته عكس أرسطو مثلا
الذي يبقي نسبيّا على بعض الآراء أو مواقف الفلاسفة الذين سبقوه. كما يقف ضدّ
"المدرسة" بالمعنى التقني و العامي، فكلّ فلاسفة القرن السابع عشر لم
يدرسوا أبدا و هذه خاصّية كلّ الديكارتيين. كما يقف ضدّ الذاكرة في المستوى
الفلسفي، و ضدّ الطفولة و ضدّ المنطق الصوري بالمعنى الأرسطي
(استخراج مفهوم متضمّن في مفهوم آخر) و ضدّ المحتمل (الظنّ في تياتيتوس) و ضدّ
المعرفة الموسوعية (أرسطو و هيقل)
و ضدّ الأحكام المسبقة و الآراء... و هو لا يؤسّس الحقيقة إلاّ على اليقين أي على
الأفكار الواضحة و المتميّزة، هذه الأفكار التي نقبلها هكذا، بدون أنّ يكون فعل
الفكر فيها فعل إيجابي حقيقي لأنّ الأفكار مجرّد صورة تمثّل العالم الخارجي (ليس
الحسّي فقط). و لكن كيف نتحقّق بصفة مطلقة أنّ الأفكار البديهية هي حقّا واضحة و متميّزة؟
هناك من اعترض على ديكارت (خاصّة أدرنو)
قائلا، لكي نتحقّق من أنّ فكرة ما هي فكرة متميّزة ينبغي أن نميّزها عن كلّ
الأفكار التي يمكن أن ترتبط بها، أي ينبغي أن نقوم بعملية لا متناهية في التمييز
بين هذه الفكرة و كلّ الأفكار لكي نتحقّق أخيرا عن طريق التحليل من أن الفكرة
المتبقّية الأخيرة تتميّز حقّا عن كلّ الأفكار الأخرى. لكن الذهن عند ديكارت
متناه فكيف يمكن لنا التحقّق من تمييز فكرة عن غيرها تمييزا مطلقا ؟ يجيب ديكارت
بأنّ الله هو ضامن الحقيقة، فالفكر الإنساني متناه لكنّ الله لا متناه، لكن "أدرنو"
لا يفهم هذا الجواب لأنّ ديكارت لا يوضّح
تماما علاقة الذات المتناهية بالله كضامن مطلق للحقيقة. فما يرمي إليه ديكارت
هو أنّ علاقة الذات المتناهية بالله ليست في الحقيقة علاقة مخلوق بخالق أي ليست
علاقة أنطولوجية بل هي علاقة متناه بلامتناه. فالله ليس له معنى ديني بل له فقط
معنى ابستيمي، أي أنّ اعتراض أدرنو صحيح و كذلك
جواب ديكارت صحيح لكن لغة التواصل بينهما غير واضحة، لأنّ أدرنو
يتحدّث لغة دينية بينما يريد ديكارت أن يوضّح
مسألة ابستيمية تتمثّل في بيان أنّ الحقيقة كفكرة واضحة و متميّزة ينبغي أن ترتبط
بمجموعة كلّ الأفكار الأخرى، لكنّني لا أستطيع أن أقوم بهذه العملية. و لذا يكفي
حسب ديكارت أن أدرك بصفة منفصلة و عن طريق الحدس أي خارج
الزمن و الديمومة الذي يكون لا متناهيا ـ فكرة واضحة ما. و بما أنّ العقل الإنساني
عند ديكارت هو عقل مستقيم بطبيعته،
إذ يعتقد ديكارت أن العقل نور طبيعي و هو مشترك بين كلّ الناس،
فالعقل عنده موجود بطبيعته عند كلّ الناس أي العقل عند الفيلسوف هو عقل كلّ الناس
أمّا الفرق الوحيد فيكمن في الانتباه فقط، فما هو مدى هذا العقل المستقيم و ما هو
مدى حصوله على أفكار فطرية صحيحة، ما عساه يفعل ما مدى وصوله إلى الصواب و وقوعه
في الخطأ ؟ إنّ الخطأ عند ديكارت هو الوجه
الوحيد للسلب و هو الوجه المكمّل للعقل المستقيم، أي ليس هناك إمكانية وجود وجوه
أخرى سلبية للعقل، فبالنسبة إلى ديكارت ترجع كلّ
أوجه السلب إلى الخطأ، فأن يكون رجلا مجنونا فهو أن يكون خارج ابستيمية الخطأ و
الصواب، كما أنّ الوهم ليس صحيحا أو خاطئا، فديكارت إذن
لا يعترف بالوهم في حين أنّ كانط يقول إنّ
هناك وهما داخليا في العقل الذي لا يقتصر على الخطأ و الصواب، إذن هذا العقل
المستقيم عند ديكارت لا يستطيع أن يؤدّي إلى الخطأ، فما هو الخطأ
عنده و كيف يؤسّس هذا المستوى الما ورائي ؟ يقول ديكارت في
التأمّل الرابع، الإنسان له ملكة حكم (ديكارت
في التأمّل الرابع ينقد الحكم لكن لا ينقد ملكة الحكم كما سيفعل كانط)
و هذه الملكة تحتوي في الحقيقة على ملكتين متميزتين، الذهن من ناحية، و الإرادة من
ناحية أخرى، و كلّ من هاتين الملكتين على حده ليس فيها نقص، حتّى الذهن نفسه مع أنّه
متناه، و النقص الوحيد يأتي عن علاقة الإرادة بالذهن و عن هذه العلاقة ينتج الخطأ.
فالخطأ إذن لا ينتج عن الإله و لا عن الذهن و لا عن الإرادة و لا حتّى عن علاقة
الذهن بالإرادة في حدّ ذاتها بل على نوع ما من هذه العلاقة عندما نثبت عن طريق الإرادة
أفكار غير موجودة في الذهن. ذلك أنّ الإرادة اللامتناهية و التي أشبّه بها بصفة
مطلقة الله تعبّر عن حرّية اللامبالاة بصفة مطلقة و هذا الشيء إيجابي في حدّ ذاته
(بما أنّني أشبه الله) و لكن هذه الإرادة التي تجعلني أشبه الله هي التي تجعلني
أثبت أو أنفي أشياء غير موجودة في الذهن إلى درجة أنّ حرّية اللامبالاة تبدو من
جهة إيجابية تماما و من جهة أخرى سلبية تماما... إيجابية لأنّها قدرة على الفعل أو
عدم الفعل، على النفي أو على الإثبات، سلبية لأنّها مصدر الخطأ، و هناك من وجد في
هذا الفهم للإرادة و الحرّية تناقضا صارخا عند ديكارت
( ملاحظات Alquiet للتأمّلات)، و في
حقيقة الأمر ليس هناك تناقض عند ديكارت بل هناك
تمييز بين مستويين، مستوى ما ورائي و مستوى إبستيمي (تحليل GUIROULT لمسألة الإرادة عند ديكارت)
مستوى ما ورائي حيث يؤسّس ديكارت الخطأ و المستوى
الابستيمي حيث تتقيّد الإرادة بالذهن، و حتّى الخطأ نفسه يبيّن أنّ الإرادة حرّة
تستطيع أن تقوم بعمل ما ورائي. و لكن هل ينبغي أن تكون الإرادة دائما مقيّدة
بالذهن لكي لا نخطئ أم العكس ؟ يبدو أن ديكارت
يجيب العكس، فالأفضل أن تبقى الإرادة لا متناهية حتّى و لو تخطئ لأنّها مصدر حرّيتي
المطلقة، لكن الأحسن أحيانا أن نقيّدها لكي لا ننفي أو نثبت بصفة عشوائية، الأفضل
هو أن أخطئ و أن لا أخطئ في آن واحد، أن أخطئ هو أن أكون حرّا دائما، وأن لا أخطئ،
هو أن تكون الإرادة مستنيرة بذهن هو نور طبيعي مستقيم، و هكذا يؤسّس ديكارت
الخطأ في مستوى ما ورائي لكنّه في آن واحد يؤكّد على ضرورة التنبّه دائما و إثبات
الأفكار الواضحة و المتميّزة فقط، أن تكون الإرادة لا متناهية فذلك دليل حرّيتي حتّى
و لو انزلقت هذه الإرادة في الأخطاء، و هكذا يتحصّل ديكارت
في نهاية التأمّل الرابع على نتائج مختلفة:
1) كلاّ من ملكة الذهن و ملكة الإرادة ليس فيهما عيب و لا تنتج الخطأ
على حدة.
2) إرادتي هي وسيلة حرّيتي المطلقة.
3) عليّ أن أتنبّه كي لا أنفي أو لا أثبت إلاّ ما هو موجود في الذهن.
4) لكنّي توصّلت إلى أنّ الخطأ مؤسّس في مستوى ما ورائي.
v
طبيعة
العقلانية عند ديكارت و حدودها:
سنحاول أن نسدّ من داخل العقلانية التي سادت في القرن الثامن عشر،
الثغرات التي بقيت بارزة في العقلانية الديكارتية، و التي ترمز إلى نوعية هذه
العقلانية و مكانتها في تاريخ الفلسفة. لقد رأينا كيف يحاول
ديكارت إخضاع كلّ الأشياء إلى نظام العقل، انطلاقا من الذات العارفة و من
ضرورة التثبّت في كلّ خطى تفكيرنا، أي التثبّت في قيمة وضوح الشيء الذي نريد أن
نفهمه بعلاقته بالأشياء الأخرى. فديكارت يبين في
التأمّلات أنّ اكتشاف وجود الله و اكتشاف الطبيعة ينتج في مرحلة ما من هذا الوجود
الفكري، و ينتج لضرورة فكرية ما، و لمرحلة ما فقط، لكن ديكارت
يبيّن من ناحية أخرى أنّ هناك أشياء لا ندرك ماهيتها رغم أنّنا نكتشف وجودها، هذا
إلى جانب المجالات العملية التي لم يستطع ديكارت
أو لم يجد متّسعا من الوقت لفهمها فهما عقليا. فديكارت
إذن ترك ثغرات كبرى لم تلجها العقلانية، فعقلانيته هي من ناحية مطلقة و من ناحية
أخرى غير مطلقة، مطلقة لأنّ كلّ ما أعرفه، أعرفه بصفة واضحة و متميّزة، و لكنّي لا
أعرف كلّ الأشياء. و سيكون منطلق كلّ العقلانيات التي نَمَتْ في ظلّ العقلانية
الديكارتية، محاولة تجاوز الثغرات و تعميم مبدأ العقل عليها. و نجد هذا النقد موجّه
من طرف فيلسوف ديكارتي، إذ يقول سبينوزا
"لقد انطلق الفلاسفة اليونان من الطبيعة، و لقد انطلق ديكارت
من الذات العارفة، أمّا أنا فأنطلق من الله" و فعلا فإنّ أوّل تعريف نجده في
كتاب الأخلاق هو تعريف الله، فالله هو الجوهر الوحيد الذي يفهم كعلّة و كغاية
لنفسه أي أنّ الله هو كلّ الوجود، بل أنّ سبينوزا يعادل
بين الله و الطبيعة بصفة مباشرة. يؤكّد سبينوزا إذن،
أنّ الوجود لا يحتوي إلاّ على جوهر واحد، وهو بذلك يختلف عن
أرسطو و ديكارت، وهو جوهر لا متناهي و يحتوي على عدد لا متناهي
من الصفات لا يدرك منها الإنسان إلاّ صفتين فقط صفة المادة و صفة الفكر، و مع ذلك
فإنّه يدرك إدراكا عقلانيا تامّا هذا الجوهر. لذلك فالإرادة عنده معادلة للماهية
أو للفكر، أي أن كلّ ما يفكّر فيه الله يوجد بالضرورة، و من هنا نستنتج أنّ الله
ينفي تماما فكرة الخلق بمعنى تكوينه شيء بصفة حرّة، فكلّ موجود و حتّى وجود الله
نفسه يخضع إلى حتمية مطلقة، و من هنا نرى الفرق الأساسي بين عقلانية سبينوزا
و عقلانية ديكارت، فعقلانية ديكارت التي
أعلنت على نفي الغائية و إقرار العلّة الفاعلة أساسا، لم تستطع في الحقيقة أن تنفي
الغائية نفيا مطلقا، ذلك أنّها احتفظت بها في أهمّ مجالات الفكر الديكارتي خاصّة
على المستوى الماورائي في فهم الله و على مستوى علاقة الجسم بالروح في الإنسان، ثمّ
مستوى نتائج علاقة الروح بالجسم، بما أنّ ديكارت
يقول بحرّية اللامبالاة أي بحرّية لا تخضع لأي حتمية و يكون مبدأها العلّة
الغائية، فالعلّة الغائية هي إذن التي تجعل الإنسان حسب ديكارت
يقوم بأعمال حرّة بصفة مطلقة لأنّه لا يخضع إلاّ إلى إرادته فقط و بدون أي شرط
خارجي. أمّا سبينوزا فإنّنا نجد عنده نفي كامل للعلّة الغائية من كلّ
مجالات فلسفته لأنّه منذ البداية أي منذ تحديد الله يجعل هذا الجوهر الواحد خاضعا
خضوعا تامّا للعلّة الفاعلة و يكون سببا لذاته. و لهذا نجده في حاشية الكتاب الأوّل
عن الأخلاق يفرد مجالا خاصّا لنقد العلّة الغائية نقدا نهائيا، فالكتاب الأوّل
الذي يحدّد فيه سبينوزا الوجود بصفة عامة و يبيّن فيه أنّ
الله هو الجوهر الواحد و أنّه خاضع لحتمية مطلقة و أنّ كلّ الأشياء تنتج عنه بنفس
الحتميّة، كان يكفي لدحض العلّة الغائية لكن سبينوزا
رأى من الصالح أن يفرد لها مجالا خاصّا، فحاشية
الكتاب الأوّل من الأخلاق تحاول أن تبيّن:
1) أنّ كلّ الأفكار المسبقة ترجع في النهاية إلى الاعتقاد في
الغائية.
2) مصدر هذه الغائية: كيف تنشأ ؟ مما تتكوّن ؟
3) نقد الغائية و بيان أنّها مجال يلتقي فيه الفيلسوف الكلاسيكي مع
الفكر السائد عند البشر. يبيّن سبينوزا إذن أنّ
كلّ الأحكام المسبقة تصبّ في الغائية، ذلك أنّنا لو نشرنا الأشياء حسب عللها
الغائية لعلمّناها بصفة خاطئة، و لمّا حاولنا دائما ربط الأمور بعللها بصفة مؤقّتة،
لكنّنا عندما نعجز على ذلك نصدر أحكاما ذاتية نحاول أن نفسّر بها الظواهر بل
النوايا و الأهداف و الغايات التي تظهر لنا كذلك بصفة ذاتية، فكلّ الأحكام المسبقة
ترجع إلى الغائية، و الغائية تنشأ عن سببين:
1 ـ عن إرادة الإنسان بصفة عامة أمام غموض الكون و جهله لعلاقات
الأشياء، إرادة الإنسان المستمرّة في البحث عن العلل.
2 ـ عن رغبة الإنسان في الحفاظ على البقاء و البحث عن منفعته بصفة
خاصة، لكنّه بحثا مخطئا غالبا، لأنّه يفسّر الظواهر الطبيعية حسب منفعته. فالعلّة
الغائية هي إذن اغتراب اقتصادي و اغتراب إيديولوجي، اغتراب اقتصادي لأنّها بحث
مخطئ عن المنفعة، و اغتراب إيديولوجي لأنّها بحث مخطئ عن العلل، فهم مخطئ للوجود و
اغتراب لأنّها تؤدّي إلى قلب علاقات الأشياء حتّى أنّ الإنسان يضع العلّة مكان
النتيجة و العكس بالعكس. عندما يغترب الإنسان هكذا، أي عندما يبحث عن العلل بدون
أن ينجح في بحثه هذا مع تشبّثه بمحاولة فهم الوجود ينتهي إلى تفسير الظواهر
الطبيعية (التي ينبغي أن تخضع إلى حتمية مطلقة) تفسيرا أنثروبومورفيا
أي حسب ما يشعر به هو و ما يريده هو و ما يفهمه هو. و يعكس كلّ ذلك
على الظواهر الطبيعية فيقول أنّ الأشياء جعلت بل و خلقت لهذه الغاية أو تلك فينزلق
في التفسير الغائي بصفة لا شعورية. إلى هذا الحدّ يقول سبينوزا
أنّ هذا السلوك لا يؤدّي إلى شيء خطير جدّا. لكن الإنسان يتمادى في سلوكه هذا لأنّه
يلاحظ أن توجّهه الأوّل أي تفسير الظواهر بعلل غائية حسب المنفعة لا يكفي، لأنّه
يلاحظ من جهة أخرى أشياء تبدو له غريبة في الطبيعة، حوادث طبيعية و تقلّبات طبيعية
لا تتماشى مع منفعته فيركن الإنسان إلى غائية أشدّ خطورة و يقول أنّ هذه التقلّبات
ناتجة عن غضب الطبيعة بل عن غضب الآلهة فتختلط الأمور عنده لأنّه في البداية كان
يميل إلى تفسير الأشياء بصفة موازية لمنفعته أي بصفة إيجابية و حسب طريقة غائية
لكنّها مازالت لم تظهر الجانب السلبي و بالتالي تمزّق الإنسان أمام هذه الظواهر
الطبيعية فينتج الخوف ـ هذا الخوف الذي جعله هوبس
أساس الإنسان ـ الذي يبين سبينوزا أنّه ينتج
في مرحلة ما فقط من ظهور التفسير الغائي، و عندما ينشأ الخوف يكون الإنسان دينيا
وهو الدين المتواجد حسب سبينوزا، أي دينا
مخطئا دائما يفسّر الأشياء تفسيرا غائيا، وهو في الحقيقة انثروبولوجيا مقلوبة، (من
هنا نرى إمكانية تأثير سبينوزا على
فيورباخ في ماهية المسيحيّة) الدين المخطئ، انثروبولوجيا مقلوبة لأنّها تضع
الإنسان مكان الله و تضيف له صفات متناهية لا أكثر ولا أقلّ، أي تضع إنسانا يعرف و
يقدر على القيام بأعمال معيّنة، لكن يعرف بصفة مطلقة، ثمّ يلاحظ أمام فهمه لتقلّب
الطبيعة، يعتقد أنّ هنالك آلهة تغضب أحيانا و ترضى أحيانا أخرى و من هنا ينتج سلوك
القربان الذي ينتج عن تكوين صورة شخصية عن عناية الاهية شخصية و هنا يظهر سلوك
الوهم، يعني تفسير وجود الآلهة حسب سلوك الإنسان دائما و تغيّر سلوكه وهو منتهى
الاغتراب حسب سبينوزا. لكن الأخطر من ذلك كلّه أنّ الفلسفة نفسها لا
تتخلّى عن هذا الفهم المخطئ للوجود، أي أنّ الفلسفة تلتقي مع الظنّ المشترك فتقول
بحرّية اللامبالاة و تفسّر السلوك البشري تفسيرا غائيا. و يبيّن سبينوزا
أنّ جهل الإنسان بالعلل هو الذي يدفعه إلى الاعتقاد بأنّ سلوكه لا
يخضع إلى علل، و هذا ما نجده عند ديكارت، فعندما
يقرّ ديكارت أنّ إرادتنا حرّة بصفة لامتناهية فذلك يعني حسب
سبينوزا أنّ ديكارت
لا يبحث عن العلل التي تسبّب هذه الإرادة أو ذلك السلوك، فحرّية اللامبالاة إذن هي
جهل لا تجاوز حقيقي للحتمية، بل هي جهل لها، فديكارت
يقلّب الأمور، أي يكون عن جهل معرفة تريد أن تكون أسمى، و الحال أنّه ينبغي أن
نتثبّت في العلل المؤدّية إلى سلوك بشري ما، لا أن نتجاهلها و نركّز على هذا الجهل
ميتافيزيقيا الحرّية و الإرادة المطلقة. و لهذا ينقد سبينوزا
حرّية اللامبالاة و يبيّن أنّها موازية للفهم السائد عن الحرّية. كأن الفلسفة هنا
تدعم هذا الفكر السائد أي هذا الحكم المسبق عن الإرادة الإنسانية، بينما يعتقد سبينوزا
أنّ الإرادة تخضع إلى حتمية محكمة لكلّ الظواهر الطبيعية و الإنسانية، و في الفصل
الثاني من كتاب الأخلاق يبيّن سبينوزا عكس ديكارت
أنّ الفكر لا يمكن أن يكون جوهرا مستقلاّ بذاته و منعزلا و واعيا بنفسه مباشرة،
عوض الكوجيتو يقول سبينوزا الإنسان
يفكّر أي أنّ الفكر موجود له تاريخ و لا يرتبط بذات مؤسّسة على فعل إرادة بصفة
انفصالية، و الفكر بالنسبة لسبينوزا هو الفكر
المشترك، بمعنى الفكر المطابق للواقع و الموجود، عند كلّ من يرتفع إلى درجة العقلانية
يكون الفكر المشترك صحيحا دائما، و يكون صحيحا لأنّه، تواصل مع فكر الغير أي أنّه
مجموعة المعارف و العلوم التي تصل إليها الإنسانية في طور ما من أطوارها، و هكذا
يخلع سبينوزا عن الكوجيتو الصبغة التأسيسية
الماورائية الذاتية التي وضعها ديكارت في بداية
التأمّلات. و يحاول سبينوزا أن يبيّن
أنّ العقلانية التي نشأت في القرن السابع عشر و التي ظهرت أساسا في الفيزياء
الرياضية يجب أن تعانق كلّ مجالات الحياة، و هكذا ينقد سبينوزا
ديكارت الذي يقول بالعقلانية و يبيّن أسسها لكن لا يطبّقها
و لا يسحبها على كلّ مجالات الحياة الإنسانية، بالنسبة لسبينوزا
ديكارت يتناقض مع نفسه لأنّه يدافع عن العقلانية من جهة و يحصرها في ميدان
الطبيعة فقط من جهة أخرى، بينما الأولى أن ننسج على غرار العقلانية التي ظهرت في
الطبيعة لفهم الظواهر الإنسانية، و أهمّ المجالات التي ينبغي أن تلج إليها العقلانية
هي أوّلا الكتب المقدّسة، ثانيا الانثروبولوجيا، ثالثا المجال السياسي. بالنسبة
للكتب المقدّسة يبيّن سبينوزا عكس ابن
رشد و ابن ميمون أن في الفقرة السابعة من رسالة في اللاهوت و
السياسة، أنّ غاية الفلسفة و طبيعة القول الفلسفي ليست لهما علاقة بالغاية من الدين
و طبيعة النصوص الدينية، فالدين بالنسبة لسبينوزا هو
مجموعة قيم و مبادئ بسيطة ترمي في جوهرها إلى الطاعة و حب الخير لا أكثر و لا أقلّ،
أي أنّ النصّ الديني له هدف عملي فقط فهو لا يحتوي على معارف بمعنى معرفة عقلية، و
رغم كونه يحتوي على معارف تاريخية فإنّه لا يحتوي على حقائق بالمعنى العقلي، في
حين أنّ الفلسفة غايتها نظرية، أي ترمي إلى تأسيس حقائق تمكّننا من معرفة الطبيعة
و الإنسان. و لهذا ليس هناك أي اتّفاق بين النصّ الديني و النصّ الفلسفي، و هذا لا
يعني أنّ النصّ الفلسفي و النصّ الديني متنازعان، فقط هناك فرق بين النوعين. و
يحاول سبينوزا عبر دراسة مدقّقة للكتب المقدّسة (التوراة و
الإنجيل) ليبيّن أنّ هذه الكتب كتبت على مراحل و حسب ظروف من أشخاص مختلفين، و أنّ
النبي الأقوى هو الذي يمتلك مخيّلة أقوى. ثم يقوم سبينوزا بدراسة
فيلولوجية ليبيّن أنّ كلّ معاني الكتب المقدّسة تدور حول الطاعة أساسا لا المعرفة،
و بما أنّ للدين غاية عملية فهو يشبه السياسة لا الفلسفة. و هكذا يحوّر
سبينوزا المسألة فيربط الدين بالسياسة، و يقول أنذ الدين ينبغي أن يخضع
للسياسة بالمعنى الذي يعطيه سبينوزا للكلمة أي
السلطة المتكوّنة من كلّ أفراد الشعب و هي تنتج بالضرورة حكما ديمقراطيا، و هذا
الحكم الديمقراطي يرتكز عند سبينوزا على ضرورة
حرّية الفكر و المعتقد، و بالتالي ضرورة التفلسف، ذلك أنّ الحكم الديمقراطي لا
يستطيع أن يدعم نفسه إلاّ بتنوّع الفكر و إثراء المواقف المختلفة بينما صيغ الحكم
الأخرى و خاصّة منها الملكية تستعمل الدين لإضفاء صبغة قدسية على شخص الحاكم و هذا
ما ينبغي نقده، و لهذا ينادي سبينوزا بضرورة
دراسة الظواهر و السلوك البشري كأنّهما أشياء طبيعية بأتمّ معنى الكلمة. أن يفرح
الإنسان أو أن يحزن، أن يخاف أو أن يكون له رجاء كامل في تغيير حالته و حال
الآخرين... هذه أمور طبيعة لا ينبغي لرجل الأخلاق الكلاسيكي أن ينقدها لمجرّد
كونها انفعالات، و أن يحكم حكما سلبيّا و بشكل نهائي على الإنسان، ذلك أنّ الأخلاق
قبل سبينوزا كانت تقول من ناحية أنّ الإنسان حرّ ( حرّية
ميتافيزيقية، حرّية لامبالية ) و بالتالى مسؤول، و من ناحية أخرى تعيب عليه سلوكه
الذي يؤدّي حسبها إلى الرذيلة. فهذه المواقف فيها مغالاة من جهتين، فهي مغالية لأنّها
تعزل الإنسان عن الطبيعة و تجعله متحكّما في كلّ أفعاله، و هي مغالية لأنّها تحكم
عليه غالبا حكما سلبيا، كأنّه لم يستطع أن يستعمل هذه الحرّية استعمالا حسنا. و
الحقيقة حسب سبينوزا تتمثّل في تجاوز هذه المواقف، أي أن
نفهم الإنسان كغيره من الكائنات و كغيره من الظواهر و أن لا ننزلق في الذمّ بل أن
نعين الإنسان قدر المستطاع مع الآخرين على الوصول إلى الفكر المشترك و إلى الحياة
الديمقراطية بالمعنى الواسع للكلمة، أي أن نقبل الاختلاف و أن نخرج من الاختلاف
شيئا يثري إنسانيتنا. و هكذا نرى كيف يرتكز سبينوزا على
عقلانية ديكارت لكن يحاول تحريرها من القيود و المجالات الضيّقة
التي وضعها فيها ديكارت.
الهـــوامـش:
[1] و لو قارنا موقف ديكارت
بموقف كلّ من أفلاطون و أرسطو من
تاريخ الفلسفة لظهر لنا الطابع الجديد الذي تتّسم به العقلانية الديكارتية. فنحن
نعرف أنّ أفلاطون يعتمد على نظرية ما في تاريخ الفلسفة، بل يركز
محاوراته على اختلاف مواقف كلّ من بارمنيدس والسفسطائيين
مثلا بدون أن يعلم بالضبط إلى أي مدى يرجع أفلاطون
إلى هؤلاء الفلاسفة، فكأنّ فلسفته تدع هذا العامل التاريخي بدون أن تغلقه. بينما
يختلف الأمر عند أرسطو، إذ نجده في الكتاب الأوّل
من ما وراء الطبيعة يبسط بطريقته الخاصة أهمّ آراء الفلاسفة السابقة ثمّ نجده فيما
بعد يتخلّى أو يكاد تماما عن مثل هذه المواقف اعتبارا منه أوّلا أن الفلسفة اكتملت
و ثانيا أنّ مجال الآراء و هو مجال الجدل يصبح عند أرسطو عكس
ما كان عليه عند أفلاطون. فالجدلية
سابقة عن العلم و بالتالي لا يمكن أن تدعّي أنّها علم فهي أدنى من العلم لأنّها
مجال للآراء المتناقضة فقط و لكنّها من جهة أخرى ضرورية في العلم إذ أنّها المجال
الذي يرتكز عليه العلم. أمّا عند ديكارت فمجال
الآراء مهما كانت قيمته يصبح عائقا فلسفيا ينبغي على الفلسفة أن تتجاوزه تماما.
لكن ديكارت في التأمّل الأوّل على الأقلّ يقحم نظرة فلسفية
للتاريخ بصفة غير واضحة و نسقية، عندما يفرّق بين مرحلة الشباب و حدث الفكر أي
انتقال الفكر إلى الفلسفة في عملية ثورية تجعل الفكر يتخلّى عن الآراء وعن الظنّ
المشترك و حتّى عن الظنّ المستقيم.
[2] لا بدّ من أن نشير هنا إلى
المبدأ الذي انطلق منه Marcial Gueroult في بداية كتابه عن ديكارت
مذكّرا أنّ Dulboz أستاذه كان يقول:
"لا ينبغي أن ندرك فلسفة ما لنكتشف الفهم العميق لها. بل ينبغي فقط أن ندرس
هذه الفلسفة أو تلك لإنتاج فهم دقيق و صحيح لا عميقا". و من هنا يجب أن نفرّق
بين الفهم العميق و الفهم الدقيق. فكثيرا ما نعتقد أنّنا نفهم بعمق فلسفة ما عندما
نستخرج منها مقولة ما مثلا مقولة الحرّية أو الكوجيتو أو الديمومة أو الجدلية و نجعلها
مقولة رئيسية أو الحدس الرئيسي لفهم كلّ فلسفة فننزلق في فهم سطحي لأنّنا لم نحترم
نسقية هذا الفكر و نظام أفكاره و استخرجنا حدسا قد يكون مخالفا لحدس شارح آخر، و بالتالي
لا نتمكّن من الأخذ بكلّ مفاصل نسق فلسفي ما لذلك ينبغي أن نهتمّ بالنسق أوّلا و
قبل كلّ شيء. و الاهتمام بالنسق يفترض
أوّلا: أن
نتخلّى عن حياة الفيلسوف (هذه أمور تهتمّ بها البلديات، و حرّاس حدائق الحيوانات
لا الفلسفة، فنحن لم نكتشف بعد أنّ موظّف البلدية أو حارس حديقة الحيوان صار شاردا
أو قردا، و بالتالي فإنّ ممن يعتقد أنّ في حياة الفيلسوف بعض العناصر التي تعطي
أضواء على هذا الفيلسوف لا يمكننا من التفلسف، تماما كما لا يصبح حارس الحديقة
قردا
ثانيا: ألا نحاول اقتطاع بعض النصوص مهما
كانت قيمتها لفهم كلّ عناصر هذه الفلسفة.
ثالثا: ألا نقارنها بفلسفة لاحقة
رابعا: أن نقرأ هذه الفلسفة لا قراءة
تاريخية بالمعنى المتداول بل قراءة فلسفية لتاريخ الفلسفة. لكن هناك مواقف متعدّدة
منها من يعتزم تماما تاريخ الفلسفة عبر الزمان و منها من يهتمّ بتاريخ المسائل أو
المفاهيم الفلسفية. مثلا يمكن القول بالنسبة لفلسفة ما سابقة على هيقل،
إنّها في الحقيقة فكريا لاحقة لهيقل، كأن نقول
مثلا على غرار موقف ألتوسير Altusser ، أنّ سبينوزا تجاوز
هيقل قبل هيقل أي تجاوز الموقف الفلسفي
القانوني الجحود من الفلسفة و ركّز فلسفته على القوّة الحقيقية. و هذا ما وصل إليه
الفكر اليومي كأن نقول أن إنسانا ابن عصره، فهذا القول قد لا يكون دائما صحيحا
فلسفيا.
تماما كما نجد ذلك عند إفلاطون
في الجدلية الصاعدة، وهي أهمّ منحى للجدلية التي ترتقي من الظنّ إلى العلم، إلى
المعرفة (فلسفة جدلية) حيث تتجرّد النفس عن الجسم و تنفصل عنه (فيدون) و تلتحم مع
نفسها عبر التذكر و التوليد إلى أن تصل إلى الفكرة الخالقة و تنمو دائما نحو الخير
المطلق.
* ـ الكوجيتو عند
كانط يبقى مبدأ المعرفة، و رغم كوننا نستطيع أن
نعتبر أن الكوجيتو عند كانط جوهرا غير
بسيط بل مركّب، مركّب من مجموع المقالات و المفاهيم و المبادئ و من ناحية أخرى من
الأطر الماقبلية للإحساس، أي الزمان و المكان، فالزمان يصبح عند كانط
من معطيات الكوجيتو، و لذلك فإنّ كوجيتو كانط
يمكّننا من معرفة كلّ الظواهر لكي لا يمكننا من معرفة نفسه بنفسه بصفة مباشرة بما
أنّ معرفة الكوجيتو لنفسه عند كانط ينبغي أن
تكون معرفة ذاتية. يرى كانط أن مفهوم
بدون حسّ فارغ و الحسّ بدون مفاهيم أعمى. فلا يمكن إذن للكوجيتو أن يعرف نفسه
مباشرة أي دون أن يمرّ بالإحساس و لهذا فالكوجيتو يصاحب كلّ عمليات التفكير لكن لا
يصاحب نفسه.
* ـ فكرة العقل السليم هذه
مسلّمة من مسلّمات الفكر و الفلسفة، كانط و كلّ
الفلاسفة اعتقدوا في وجود طبيعة مستقيمة للعقل، فهو مجعول للوصول بطبيعته إلى
الحقيقة و أنّه يكفي أن ننتبه لهذه الحقيقة لنتحصّل عليها.
* وكأن الفلسفة هنا لا تستطيع أن تكتفي بالبرهنة
الرياضية وتحتاج إلى العودة والتكرار و الإلحاح على ضرورة نقد كل الأحكام المسبقة،
وأساس هذا الأحكام هي العلة الغائية، كأن الفلسفة تحاول بطرق مختلفة اقتلاع هذا
الحكم المسبق لا لشيء إلا لأنه مسيطر على ذهنية البشرية، ولهذا ينبغي على الفيلسوف
ألا يكتفي بالنسج البرهاني الاستدلالي الرياضي ليبين بخطاب أقرب إلى الأفكار
السائدة في مجتمع ما كيف ينبغي أن ننقد بصفة مستمرة هذه الأحكام المسبقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق