إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الأربعاء، 25 فبراير 2009

الرؤية الدينية للعالم

الأستاذ: محسن الميلي
مسألة الدين من أدقّ المسائل و أكثرها إثارة لتباين المواقف و التأويلات إذ تتعدّد المداخل الممكنة لمقاربتها و تختلف صيغ تعريف التجربة الدينية و تحديد قيمتها. فمن جهة أولى نلاحظ أنّ الدين موضع التقاء سجلاّت و أقوال مختلفة. فبينما يعلن الفقيه أنّه أحقّ الناس بالتفكير في الدين اعتبارا لاختصاصه بهذا المجال، يبيّن الفيلسوف أنّ الدين قضية فلسفية لأنّه ما من قضية إلاّ و يجوز إخضاعها لمقتضيات التفكير العقلي. و في ذات الوقت يعتبر الانتربولوجي و عالم الاجتماع و المحلّل النفساني أنّ العلوم الإنسانية مؤهّلة لدراسة الظاهرة الدينية و تحليلها. و من جهة ثانية تتقابل الآراء بشأن تحديد ماهية الدين و مضمونه إذ يعتبر بعضهم أنّه 
تجربة روحية ذاتية باطنية، و يعتبر آخرون أنّه ظاهرة أو مؤسّسة اجتماعية بينما يرى آخرون أنّه وحي منزّل من الله. و من جهة ثالثة يتأكّد الاختلاف في خصوص بيان قيمة الـدين: فمن قائل إنّه تعبير عن صبيانة العقل البشري أي عن رغبة طفولية في البحث عن حماية أبوية، إلى قائل إنّه وهم و سعادة وهمية و أفيون للشعب، إلى قائل بأنّه الوحيد المعبّر عن الحقيقة في إطلاقيتها و أنّه السبيل الأمثل لتحقيق الإنسان إنسانيته و بلوغه مراتب الكـمال الإنساني... كلّ هذه التناقضات تجعل من الدين موضعا للمفارقات فهو يثير لدى البعض الحيرة و الشكوك لما يتضمّنه من إيمان بحقائق غيبية تتجاوز حدود العقل، و هو لدى البعض الآخر مثار للريبة و الاحتراس و الاتّهام اعتبارا لما قد يتّصل به من تعصّب و تشدّد، و هو لدى فريق ثالث، دليل للأمن و اليقين لما يشيعه في النفس من اطمئنان و سكينة و رجاء. هذه الدّواعي و غيرها تدفعنا إلى مساءلة الدين. و سننزّل مساءلتنا للدين من حيث هو رؤية للعالم. لذا لن يتّجه حديثنا إلى هذا الدين أو ذاك بشكل خاص و إنّما إلى الدّين عامّة أي إلى ما يجعل منه دينا أيّا كان اسمه أو شكله أو مضمونه. فما الدين ؟ و بأيّ معنى يمكن أن يشكّل رؤية للعالم و ما الذي يميّز هذه الرّؤية عن غيرها ؟ ما قيمة هذه الرؤية، و ما دلالتها بالنسبة إلى الوجود الإنساني؟ أيّ معنى تضفيه على الوجود: هل هي علامة اغتراب الإنسان و انسحابه من العالم و من الحياة إلى دنيا الخيال و الماوراء و الوهم أم إنّها تعبير عن سعي إلى المعنى و التحرّر و عن رغبة في مقاومة العدم و اللامعنى و في تجاوز الألم و الشقاء؟
1 ـ  ما الدّين ؟
يميّز التهانوي في كشف اصطلاحات الفنون بين معنيين للدين لغوي و شرعي: ففي اللغة يطلق الدين على العادة و السيرة و الحساب و القضاء و الحكم و الطاعة و السياسة و الرأي: و هكذا يقال: دانه دينا أي حاكمه و حاسبه و قاضاه. و يقال دان له أي أطاعه و خضع له. و يقال دان به بمعنى اتّخذه دنيا أي مذهبا و منهجا في حياته. فالدين يشير إذن إلى علاقة غير متكافئة بين طرفين، علاقة قوامها التعظيم و الإجلال و الطاعة. و يشير لفظ الدين إلى معاني قريبة في لغات أخرى. و أمّا في الشرع فيطلق الدين على الشرع و يشتمل على العقائد و الأعمال، و يطلق على كلّ ملّة نبيء و هو يضاف إلى الله لصدوره عنه، و إلى النبيء لظهوره منه و إلى الأمّة لتديّنهم به و انقيادهم له. و إذا حاولنا الآن التعمّق في مضمون الدين فسنجد أنّ كلّ دين يتضمّن مجموعة من المعتقدات و مجموعة من الطقوس. تشكّل المعتقدات المحتوى النظري للدين أي جملة الحقائق أو الأفكار التي هي لدى المتدّين محلّ تصديق و إيمان و هي التي تحدّد منظوره للوجود و تصوّره للألوهية، و منزلته في الكون و موقفه من الحياة و الموت و الخير و الشرّ و من القيم عامّة. و أمّا الطقوس فهي جملة العبادات و الأعمال و الممارسات الفردية أو الجماعية التي يأتيها المتدّين تعبيرا عن معتقداته و تجسيدا لها في الواقع. و لكن ما الذي يميّز هذه المعتقدات و الطقوس الدينية عن غـيرها من أشكال الوعي و الممارسة ؟ ما هو العنصر أو ما هي العناصر الخصوصية التي تعرف الوعي الديني ؟ في الواقع تضعنا مسألة التعريف هنا إزاء منظورين ممكنين داخلي و خارجي أي النظر إلى الدين كظاهرة خارجية موضوعية نعاينها من خارج بمعزل عن ذواتنا، و هذا هو المنظور الخارجي الذي يمكن أن يكون فلسفيا أو انتروبولجيّا. و النظر إلى الدين كتجربة ذاتية معيشة كما يحياها المؤمن، و قد يكون هذا المنظور الداخلي دينيا أو فلسفيا أيضا. غير أنّه يمكننا التغلّب نسبيا على صعوبة التعريف و الانتهاء إلى تحديد بعض الخصائص المشتركة في الديانات بما يمكّن من القول إنّها مكوّنة لماهية الدين و للوعي الديني و من هذه الخصائص:
v   الخاصية الأولى: يمكن القول إنّ الوعي الديني قوامه الإيمان و الاعتقاد.
والإيمان حسب التهانوي هو "التصديق الجازم اليقيني الثابت سواء أكان استدلاليا أو تقليديا" التصديق الذي لا يداخله الرّيب و الظنّ وهو حصول المعرفة في القلب. وعند لالاند: "الإيمان تصديق فكري و روحي كامل أشدّ قوّة في الذات من اليقين و لكنّه غير قابل للبرهنة و لا لنقله إلى الآخرين". و يقتضي الإيمان لدى أب الفلسفة الوجودية كيركيجارد طاعة لا مشروطة للإرادة الإلهية. نفهم من هذا أنّ الإيمان الديني يختلف عن الوعي الفلسفي العقلاني الذي يرفض الإقامة في معارف مطلقة أو عن التفكير العلمي الذي يخضع نتائجه لمقتضيات ما يستجدّ في منــاهج البحـث و أدواته من تعديل. لكن دون أن نستنتج من ذلك بالضرورة أنّه يتنافى مع الفلسفة و العلم لأنّ محتواه يختلف عن مبحثيهما و هو ما يحيلنا إلى الخاصية الثانية لهذا الإيمان.
v   يشكّل عنصر المقدّس خاصية مميّزة الاعتقاد الديني إذ المقدّس محور حياة المتديّن.
و المقدّس هو الموضوع الذي تتعلّق به التجربة الدينية و هو في الآن ذاته الكيفية المميّزة للتدّين و الإيمان. فالإيمان يتّجه إلى المقدّس و هو ذاته فعل تقديسي. و يدلّ المقدّس على ما هو فائق للطبيعة و الإنسان وعلى ما يتحكّم في الكون أو في المصير الإنساني و على ما يمكن أن يكون قوّة مطلقة عليا أو مثلا أعلى. و قد يكون المقدّس إلها واحدا أو آلهة متعدّدة، بل ربّما جسّدته بعض الديانات الإحيائية و الوثنية في ظواهر طبيعية ... و أمّا التقديس فيتجلّى في تلك المشاعر المتباينة إزاء المقدّس مثل مشاعر الرّهبة و الرّغبة، الخوف و الرجاء، الحذر و التقرّب. و إذا كان المتديّن يعظّم المقدّس و يجلّه و يتقرّب إليه و يخشاه باعتباره مصدر النّعم أو المحن فإنّه من جهة أخرى يحتقر الدنيوي الذي يحيل على المدنّس في ديانات و على الدّنيا في ديانات أخرى و هو كلّ ما سوى المقدّس. و على هذا النحو يكون الدين رؤية للعالم و موقفا من الوجود يميّز بين وجود مقدّس و وجود دنيويّ، و هذه الرّؤية قيميّة معياريّة تفاضلية أخلاقية بالأساس. لكن تختلف الديانات هنا إذ تعتبر الديانات التوحيدية أنّ المقدّس ليس من هذا العالم بل هو إله متعال بإطلاق على كلّ ما يبلغه فكرنا و فعلنا، بينما ترى بقية الديانات أن المقدّس كائنات من هذا العالم كائنات روحانية أو متجسّدة. و مثلما يتجلّى المقدّس و التقديس في المعتقدات فإنّه يتجلّى أيضا في الطقوس و في الممارسات الدينية الاحتفالية و العبادات...
v   ويمكن الإشارة إلى خاصية ثالثة مميّزة للدين إذ أنّه يحمل تطلّعا إلى المطلق و المتعالي إذ
يفترض الدّين شعورا عميقا بأنّ الحياة الدنيا لا تروي التعطّش الإنساني إلى الخلود و إلى حياة أفضل و من هنا ارتبطت الدّيانات بعقائد البعث و الحياة الأخرى أو بالاستمرار في الحياة في أجساد أخرى. و ما الإيمان بالمقدّس إلاّ صورة من صور التعلّق بالخلود و رفض الطابع المتناهي لوضع الإنسان في العالم. و إجمالا نقول في خصوص تعريف الدين إنّ الدين تجربة روحية و ظاهرة موضوعية تتجلّى في معتقدات و طقوس و إنّ أبرز خصائص الدين أنّه قائم على الاعتقاد و الإيمان، و على التمييز بين وجود مقدّس و وجود دنيوي و أنّه تعبير عن تطلّع إلى تجاوز محدودية الوضع الإنساني في العالم و تناهيه.
2 ـ قيمة الدّين
إنّ تفكير الفلسفة في الدين لا يقتصر على المعاينة و التعريف بل يتجاوز ذلك إلى مساءلة معنى الدين و قيمته. فما قيمة الرؤية الدّينية و ما دلالتها ؟ هل هي علامة اغتراب و ضياع و شقاء و تيه في الوهم و اللامعقول ؟ ألا يمكن أن نرى فيها سعيا إلى التحرّر و إضفاء لمعنى على الحياة و مقاومة للعبثية ؟ لتحليل هذه المسألة نعتقد أنّه ينبغي البدء بتحديد إطار منهجي يجنّبنا مزالق الأحكام الانفعالية و المواقف المسبقة المدافعة عن الدين أو الرافضة له، فلا يمكننا الانطلاق من نظرة قبلية نسقية للدين لأنّه لا يوجد في الواقع دين واحد و لا فهم واحد و لا تطبيق واحد للدين. ذلك أنّ الدين قد عبّر عن نفسه بأشكال بالغة التغاير عبر التاريخ. و هذا ما يتحتّم علينا اعتماد مسلكية نقدية مفتوحة لا نظرة مذهبية مغلقة. و إذا كان الدين قد أدّى وظائف متباينة فمن التعسّف حشرها في اتّجاه واحد لا يكون إلاّ اختزاليا و اعتباطيا. و تقتضي هذه المنهجية النقدية بحث الشروط التي يكون فيها الدين اغترابا و الشروط التي يتحوّل فيها إلى تحرّر. فضمن أيّة شروط إذن يمكن الحديث عن الدين سبيلا إلى الاغتراب بما هو مفهوم عام دالٍّ على الضياع في الوهم و الجهل و على الخضوع و التبعية و سلب فعالية الذات الإنسانية و فقدانها لحرّيتها ؟
أوّلا:  يكون الدين اغترابا حين يؤمن المتديّن أنّ الاتّجاه إلى الإله يقتضي الإعراض عن الحياة و التاريخ و الانسحاب من العالم. و يتجذّر هذا الموقف في تلك الثنائيات العنيدة : الروح و الجسد / المقدّس و المدنّس / الدنيوي و الأخروي. و في هذه الحالة يتحوّل الدّين إلى ضروب من الرّهبنة و احتقار الجسد و استقذار للحياة الدنيا و يؤدّي إلى عدم الشعور بالمسؤولية إزاء الواقع و التاريخ. و في ذلك تعبير عن نزعة هروب من العالم و بحث عن خلاص فردي. و يمكن أن نحيل هنا عن النقد النيتشوي للدين المسيحي إذ يقول " ليست المسيحية إلاّ أفلاطونية الشعب" و في سياق آخر "أفلاطونية الفقير و المسكين" و يشبّهها بالبوذية "ذلك أنّ المسيحية كالبوذية لا تعملان على تخليص الإنسان من الآلام بقدر ما تدفعانه إلى استعذابها فهما ديانتان من ديانات المعذّبين و المتألّمين" (ما وراء الخير و الشرّ). و هذه الديانات علّمت الناس كراهية الأرض و لم تولّد بالتالي إلاّ إنسانا مريضا.
ثانيا: يكون الدين اغترابا و أفيونا عندما يبحث الإنسان عن الإله في حالات العجز و مواضع الإخفاق و الجهل. يحاول المتدّين أحيانا ـ أمام محدودية العلم و أزماته و فراغاته و عدم امتلاكه إجابات حاسمة ـ يحاول ملء فراغات المعرفة العلمية بأجوبة "دينية" أو بالأحرى تيولوجية فيقع إسكان الإله في تلك الشقوق التي تتخلّل العلم، و كأنّ الدين لا ينتصر للإله إلاّ بالكشف عن جهل الإنسان و محدودية علمه. و إذا تحوّل الدين إلى بديل عن العلوم فإنّ المآل هو الصراع بين الدين و العلم و إذا تقدّم العلم و نجح في ملء بعض ثغراته فإنّه سيطرد تلك الآلهة التي سمّاها بعض الفلاسفة "بإله الثقوب". و هنا يظهر الدين بمظهر الخصم للعلم و المشلّ لحركة الإنسان. و لا نعني بهذا أنّ العلم قادر عن الإجابة عن كلّ تساؤلات الإنسان و إنّما فقط أنّ الدين ليس نظريات علمية و لا هو بديل عنها.
ثالثا: يكون الدين أفيونا على مستوى اجتماعي و سياسي إذا اقتصر على كونه تعويضا وهميا عن التعاسة الواقعية. و يكون ذلك عندما يقع استخدامه في دفع الإنسان إلى قبول تعاسة الدنيا في انتظار وعود حياة أخرى. و بهذا الشكل يصبح الدين " تحقيقا وهميا للكائن الإنساني" (ماركس) . و مثل هذا التدّين يصيب الشخصية بالانشطار و التمزّق و هو نقيض التحرّر الذي يعني توحّد الإنسان مع ذاته.
رابعا: يمكن أن يتحوّل الدين إلى عامل اغتراب إذا اتّخذ طابعا إيديولوجيا أو مؤسّسة تدّعي القداسة كما هو الحال في الدولة التيوقراطية التي تحتكر الدين أو كما هو الحال في أيّ مجموعة أو أيّ مذهب مماثل و تبعا لذلك ينعت بالكفر أو الزندقة كلّ من يخالف المذهب الرسمي. إذ تجميد الإيمان الديني في مؤسّسة و في قوالب ثابتة و مغلقة يؤدّي إلى سيادة مناخ الجبرية و الوثوقية و الخرافة و هذا المناخ ملائم لشيوع أخلاق العبيد على حدّ تعبير نيتشه. و عموما يمكن القول مع غارودي :" إنّ إيمانا بالإله لا يؤدّي إلى إيمان بقيمة الإنسان يكون هروبا و ضياعا و أفيونا." و لكن إذا كان الدين أفيونا فهل كلّ الدين أفيون و هل كان كذلك دائما ؟
يدفعنا هذا السؤال إلى البحث في شروط إمكان الدين المحرّر. و سنبيّن ذلك من جهتين: من جهة استقراء الواقع التاريخي و من جهة تحليل طبيعة الإيمان الديني.
أوّلا: فمن جهة الواقع التاريخي كان الدين في حالات كثيرة دافعا إلى التحرّر. و لا يتأكّد هذا في المقاربة الداخلية للدين فحسب أي لدى المتديّن و إنّما لدى ناقدي الدّين أيضا، وهو ما تبيّنه الماركسية مع انجلز بشأن المسيحية في بعض مراحلها حيث تجسّدت في حركات داعية إلى الاحتجاج على السلطان الروماني ثمّ في حركة الإصلاح الديني مع مارتن لوثر، و يمكن تعداد هذه الحالات الواقعية بشأن بقية الدّيانات.
ثانيا: و أمّا إذا ما رمنا تحليل طبيعة الإيمان الديني فبإمكاننا اكتشاف القوى الكامنة فيه و التي تجعل منه قابلا لأن يكون موقفا متحرّرا مستنيرا. إنّ الدين في نظر موريس بلوندال " فلسفة فعل" أي فلسفة تجد أقصى تحقّقها في تغيير للعالم لا ينقطع. و السبب في ذلك أنّ فعل الإيمان هو فعل التعالي و إنّ التعالي هو الخاصية الأساسية المميّزة للإنسان. و إذا كان التعالي من منظور سلبي يؤدّي إلى الهروب و الانسحاب من العالم كما رأينا سابقا، فإنّ له دلالة إيجابية أيضا. التعالي الإيجابي فعل مبدع خلاّق، انفتاح على أفق لا متناه، يسعي إلى الارتقاء باستمرار إلى ما هو أعلى و أفضل. إنّ العالم هو مجال تحقّق الفعل الإنساني و الحرّية الإنسانية. و إذا كان الدين قائما على الإيمان بالمطلق فليس معنى ذلك في نظر بعض المفكّرين أنّ الأمر يتعلّق برؤية وثوقية. فالنسبية مداخلة للرؤية الدينية التي تقتضي النظر العقلي كما يقول ابن رشد و التي تعترف بالآخر و تقوم على التسامح و التواصل و الانفتاح. يقول ابن رشد في ردّه على المغالطات الكلامية و الوثوقيات: " فكلّ هذه الطوائف قد اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة و صرفت كثيرا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزّلوها على تلك الاعتقادات و زعموا أنّه الشريعة الأولى و إذا تؤمّلت جميعها و تؤمّل مقصد الشرع ظهر أنّ جلّها أقاويل محدثة و تأويلات مبتدعة "(مناهج الأدلّة). و من جهة أخرى و إضافة إلى خاصيتي التعالي و النسبية نعاين في الرؤية الدينية خاصية الأمل و الرجاء، و مثلما تقودنا هذه الخاصية أحيانا إلى التيه و الضياع و الحلم فإنّها تغذّي من جهة أخرى فكر الإنسان و فعله نحو مقاومة العبثية و العدمية و اللامعنى بإضفائها معنى على الحياة و الموت و بتوسيعها الحياة إلى الحدّ الأقصى. فخلافا لسارتر الذي يقول " عبثا نحيا و عبثا نموت " و " أنّ الإنسان عاطفة غير مجدية" يبيّن غارودي أنّ الإيمان هو الرجاء وهو قوّة الأمل. و ختاما نقول إنّ مقاربة تحليلية نقدية للرؤية الدينية للإنسان و العالم تسـاعدنا علـى فهم ذواتنا و راهننا على نحو أفضل و تجنّبنا المواقف الانفعالية و الأحكام المسبقة بشأن هذه المسألة و تعلّمنا أنّ الحديث عن مواطن الوهم و الاغتراب الديني لا يعني بالضرورة موقفا سلبيّا بل يمكن أن نرى فيه موقفا نقديا ضروريا أي لحظة ضرورية في كلّ إيمان حيّ. لقد كشف هذا النقد عن أشكال من الزيف التحف بها الفكر الدّيني عبر التاريخ فظهر بمظهر المبرّر لجهل الإنسان و عجزه و المكرّس لاغترابه و كأنّ الإنسان لا يحقّق ذاته إلاّ بمعزل عن الإله أو ضدّه بينما يمكن فهم العلاقة على نحو آخر. فالإلهيّ هو المتعالي الذي يسعى الإنسان إلى التماثل معه باعتباره" المثل الأعلى" لا "الخصم" الذي يشلّ إرادة الإنسان. إنّ نقد ماركس و فرويد و نيتشه تعلّق بالدّيانات السّائدة و الآلهة الزّائفة و بذلك قدّموا خدمة جليلة للإيمان و "أعادوا إلى السّماء طُهره" بعد كشف أقنعة التديّن الزائفة و أشكاله المغتربة. و هكذا ينتهي بول ريكور إلى أنّ النقد  ـ الذي يتّخذ أحيانا شكل إلحاد و تشكيك ـ  ليس ريبيّا و إنّما خطوة تمهّد لتأسيس إيمان حقّ ينفتح فيه الإنسانيّ على الإلهيّ بنحو حرّ فلهذا النقد أيضا دلالة دينيّة تحرّر الإيمان من الخرافة و الوهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق