إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

السبت، 21 فبراير 2009

العمـــــــل

1). مدخل (من الدلالات إلى الإشكالية):
غالبا ما يُفيد الشغل في التمثّل الشائع العمل العضلي و الجهد الجسدي الذي بموجبه يحوّل الإنسان الطبيعة. و هكذا يرتبط مفهوم الشغل في التمثّل الشائع بالعمل اليدوي، و يقصي العمل الفكري كفاعلية يمكن اعتبارها شغلا. و في التمثّل المعجمي العربي، فإنّ الشغل يفيد ـ إضافة إلى العمل اليدوي ـ شغل حيّز مكاني، فيكون بهذا ضدّ الفراغ؛
 حيث نقول مثلا: "هذه الطاولة تشغل هذا المكان". و يفيد الشغل ـ كذلك ـ العمل الفكري خصوصا حينما يصبح الفرد مهووسا بفكرة معيّنة، فيقال مثلا: "هذه الفكرة تشغل ذهن هذا الشخص". بل إنّ كلمة صناعة في اللغة العربية تنتقل من مستوى الحرفة لتشمل العمل الفكري، فيقال مثلا: صناعة الأدب، صناعة الحكمة...الخ. و في التمثّل المعجمي الفرنسي، فإنّ الشغل le travail يفيد كلاّ من العمل الفكري و اليدوي. و إذا انتقلنا إلى مجال الفلسفة، فإن الآراء المتداولة حول ظاهرة الشغل تنقسم إجمالا إلى: فلسفات رافضة للشغل باعتباره إقصاء لماهية الإنسان، و فلسفات تعتبر الشغل أساس كلّ قيمة إنسانية، و أخيرا فلسفات تنتقد الشغل دون أن تقصيه من الظواهر الإنسانية. انطلاقا من هذا تتولّد التساؤلات التالية: ما هي طبيعة العلاقة بين الشغل و ماهية الإنسان ؟ هل الشغل فاعلية تعمل على تحرير الإنسان و تحقيق ذاته ؟ أم أنّه يعمل ـ على العكس ـ على استعباد الإنسان و استلابه ؟           
2). الشغل و ماهية الإنسان:
 إنّ الشغل ظاهرة مرتبطة منذ القديم بتحقيق الحاجات الضرورية في حياة الإنسان. و لكن المجتمعات القديمة كانت تُميّز بين عمل و آخر؛ فاليونان ـ مثلا ـ كانوا يستهجنون العمل اليدوي.. هكذا كان أفلاطون و أرسطو ينظران إلى الشغل و يربطانه بالعمل اليدوي، و من ثمّة فهو عمل لا يصلح إلاّ للرعاع و العبيد. إنّ العمل اليدوي، في نظر فلاسفة اليونان، يتنافى مع ماهية الإنسان، لأنّ الإنسان "حيوان عاقل"، و من ثمّة تكون الخصوصية الأساسية للإنسان هي التفكير. هكذا يكون العبد مجرّدا من خصوصياته الإنسانية، فأصبح ـ كما يرى أرسطو ـ مجرّد آلة، لأنّه يعوّض الآلة التي يحتاج إليها الإنسان. يمكن القول بأنّ هذه النظرة القديمة كانت ترجع إلى غياب فلسفات حقيقية في ظاهرة الشغل، وذلك إلى أن ظهرت الثورة الصناعية التي أبانت عن قيمة العمل و التصنيع. لذا نجد آدم سميث يؤكّد أنّ الشغل هو أساس كلّ قيمة تبادلية، فقد تبيّن بعد تقسيم الشغل، أنّ الفرد أصبح في حاجة إلى غيره لينتج له ما لا يستطيع هو إنتاجه. كما أنّ قيمة المنتوج تزداد بكميّة المجهود المبذول لإنتاجه. فالشغل إذن مثل العملة، فهو الثمن الذي يدفعه الإنسان ليقتني الأشياء أو ليعطيها قيمة. أمّا الأطروحة الماركسية، فإنّها تنظر إلى الشغل من وجهين: فالشغل هو مجهود جسمي و قوّة فيزيائية يسخّر بهما الإنسان الطبيعة لنفسه، حيث يقول ماركس: "إنّ العمل الحيّ يأخذ الأشياء و يبعثها من بين الأموات" ؛ كما أنّ الشغل فاعلية (أو نشاط) مرتبطة بماهية الإنسان، فبواسطته ينمّي الإنسان مواهبه و ملكاته و قدراته. و انطلاقا من هذا يمكن طرح السؤال التالي: هل يمكن اعتبار إنجازات بعض الحيوانات شغلا ؟ إذا تأمّلنا ما تقوم به بعض الكائنات الحيّة، يبدو كأنّها تشتغل، و قد نجدها تضاهي في مهاراتها أمهر الصّناع الآدميين، و مع ذلك يرى ماركس أنّه لا يمكن اعتبار إنجازاتها شغلا، لأنّ الفعل الذي يصدر عنها مجرّد سلوك آلي غريزي و نمطي. فالشغل ـ إذن ـ ظاهرة إنسانية لارتباطه بالوعي. بمعنى أنّ الشغل معاناة فكرية، هو تصميم و تخطيط و تدبير، هو إبداع و خلق و ابتكار، هو سلوك غائي يبحث عن الأفضل، هو شعور بالمتعة و تحقيق للذات. فهو ليس نشاطا معزولا، و إنما هو ـ كما قال ماركس ـ مسار تتفاعل فيه ثلاثة مكوّنات: الشغل ذاته كفعل للإنتاج، و المادة التي هي موضوع التحويل، و الأداة التي بواسطتها يحدث فعل الإنتاج... و كنتيجة لهذا، يرى الماركسيون أنّ الشغل خاصية إنسانية بامتياز. و هذا ما يدعونا إلى طرح التساؤلات التالية: هل استقرّ الشغل على هذا الوضع ؟ هل عمل الشغل ـ عبر التاريخ ـ على تطوير ماهية الإنسان و تحريره من كلّ تبعية و استغلال؟
3). الشغل: استلاب أم تحرّر؟                                                                          
ترى الماركسية أنّ الشغل تحوّل (مع ظهور المجتمعات الصناعية) إلى ظاهرة تعمل على استلاب الإنسان بدل أن تحرّره، حيث يؤكّد انجلز Engels أنّ الشغل أصبح عملا إجباريا يعمل على إذلال الإنسان و إفقاده كرامته. و كان ذلك نتيجة لتقسيم العمل، حيث أصبح الفرد يشتغل مقابل شيء تافه (الأجرة) لا تربطه به أيّة علاقة إنسانية. بل إن تبسيط الشغل أدّى إلى اختزاله في حركة تافهة يكرّرها العامل دون توقف؛ فتحوّل الشغل إلى عمل رتيب و مخبل، يعمل على تشييء الإنسان و الانحدار به إلى مصاف الحيوان. و هذا الإحساس بالاستلاب يظهر ـ كما يقول ماركس ـ من خلال نفور العامل من الشغل حيث يحسّ داخله بالشقاء و التذّمر، و انهيار نفسي و إرهاق يمنعه من تطوير طاقاته و تحقيق ذاته. و تكون النتيجة الحتمية لهذا وضع عكسي: بدل أن يحسّ الإنسان بكينونته داخل الشغل، أصبح يبحث عن ذاته في أوقات الفراغ في أعمال تعتبر مجرّد وظائف حيوانية كالأكل، و النوم، و الإنجاب. إنّ الاستلاب في نظر الماركسية ليس إلاّ نتيجة حتمية للاستغلال الناجم بدوره عن الملكية الخاصّة لوسائل الإنتاج. و يقف نيتشه موقف المستغرب من أمثال هذه التحاليل لأنّه يرى أنّ الاستغلال أمر طبيعي، لأنّ إرادة القوّة كانت دائما هي المتحكّمة في أعناق الناس. فالإنسان بطبعه يعمل على هيمنة "أخلاق القوّة" (أخلاق السّادة) و من الطوباوية أن نفكّر في مجتمع ينعدم فيه الاستلاب لأنّ المجتمعات لا يمكن أن تنسلخ عن أشكال الاستغلال. إنّ المساواة و أفكار التحرّر لا تكون إلاّ بين الأقوياء الأنداد. و تجدر الإشارة إلى أنّ نيتشه يرفض العمل اليدوي لأنّه يعتبره شيئا يتنافى مع القيم الأرستقراطية التي تعبّر عن عدم الحاجة إلى العمل، و ضرورة الانصراف إلى العمل الفكري، و المطالعة، و كتابة الرسائل الطويلة، و هذا كله من شيم السادة الأقوياء. إلاّ أنّ السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الإطار هو: ألا يمكن للإنسان أن يتحّرر من خلال الشغل و بواسطته و مهما كانت طبيعة العمل الذي يمارسه ؟ يرى سارتر أنّ تقسيم الشغل على الطريقة التايلورية أدّى إلى استلاب الإنسان. فمن المعروف أنّ النزعة التايلورية ترى أنّ المردودية في الاقتصاد لا تقوم إلاّ على الزيادة في الإنتاجية بأقلّ من الجهد و التكاليف، و في أسرع وقت ممكن. و من ثمّة يكون العمل المتسلسل القائم على نظام الآلية النموذج المثالي لتحقيق الأهداف الاقتصادية، لكن هذا ـ في اعتقاد سارترـ لا يمنع العامل من التحرّر من أشكال الاستلاب من خلال جدلية العبد و السيد، التي أبان هيغل ـ من خلالها ـ كيف أنّ العبد يستطيع أن يحقّق ذاته بواسطة الشغل و يجبر السيّد بالتالي على الاعتراف به. فلمّا أصبح العبد وسيطا بين السيد و الطبيعة مكّنه ذلك من السيطرة على الطبيعة و من تبعيّة السيّد له، و هذا إدراك أوّلي لصورة الحرّية. و إذا كيّفنا هذا التمثّل مع نموذج العمل المتسلسل يتّضح أنّ جدلية العبد و السيّد لا يمكنها أن تتحقّق إلاّ إذا تصوّر العامل الحركة البسيطة التي يقوم بها في بعدها الوظيفي، أي في تكاملها مع الحركات التي يقوم بها العمّال الآخرون ؛ الأمر الذي يدفع بهم إلى أن يتمثّلوا أنفسهم كما لو كانوا ذاتا واحدة، و من ثمّة يدرك العامل أنّه لا يمكنه أن يحقّق ذاته بمعزل عن الآخرين. و على العامل في ذات الوقت أن يتمثّل فرديته كذات يجب بناؤها من الداخل من خلال عملية التكوين المستمرّ التي ستمكّنه من مواكبة تطوّرات نظام الآلية. إلاّ أنّ السؤال المطروح هنا هو: هل يمكن أن يتطوّر نظام الآلية دون أن يكون على حساب كينونة الإنسان ؟ يرى جورج فريدمان G. Friedmann أنّ نظام الآلية يحتوي على سلبيات، أهمّها، أنّه يعرض العامل إلى استلاب ذهني و إلى تدهور نفسي، بل و استلاب اقتصادي من جرّاء البطالة التي تكون عادة نتيجة حتمية لتعميم الآلية و تطوّرها. كما أنّ بعض المصالح الفردية قد تؤدّي إلى تعميق القطيعة بين العمّال و رؤسائهم ممّا يسبّب تدهور العلاقات الاجتماعية. إلاّ أنّ فريدمان يرى أنّه يجب التخلّص من تلك النظرة الاختزالية و السطحية لنظام الآلية و التي تلخّص هذا النظام في السلبيات فقط. إن إيجابيات الآلية تفوق بكثير سلبياتها. فمن الطوباوية الاعتقاد أنّ العامل يمكن أن يستفيد بشكل مباشر ممّا ينتجه كما كان الأمر معمولا به في القرون الوسطى. و من الطوباوية كذلك أن يتحقّق الإنتاج دون التضحية نسبيّا بحرّية العامل. إلاّ أنّه من الممكن دائما أن يبحث العامل عن تحقيق ذاته و يحقّقها خارج المصنع، في أوقات الفراغ. فيكفي التأكيد على أنّ نظام الآلية أراح العامل من الاستعباد الجسدي الذي كان يعاني منه من جراء الأعمال الشاقّة و المضنية. كما مكّن رجال الأعمال من الربح لما يمثّله نظام الآلية من اقتصاد في التكاليف. إضافة إلى أن نظام الآلية لا يهدّد كرامة الإنسان باعتباره مستهلكا، حيث يستطيع كلّ فرد أن يستجيب لحاجاته الضرورية و ينمّيها نظرا لما سيجده أمامه من وفرة. كتخريج عام، نقول: إنّ الشغل ظاهرة استأثرت باهتمام الفلاسفة و السياسيين و السوسيولوجيين، و علماء الاقتصاد و غيرهم. ففي الوقت الذي يرتبط فيه الشغل عند البعض بالإنتاجية و التقنية، و التصنيع، و التقدّم والتخلف... الخ ؛ يرتبط عند آخرين بالالتزام، و خلق الذات للذات، و خلق الذات للآخر، و الرغبة و الحرّية و الاستلاب... الخ. و مهما تعدّدت الأطروحات، فإنّنا لا نستطيع أن نتصوّر العالم اليوم دون ظاهرة الشغل، أو حياة ليس فيها عمل، إلاّ إذا كنّا طوباويين أو مستغرقين في أحلام اليقظة؛ و كما قال كارلايل: "إنّه من الحماقة أن نلعن الشمس لأنّها لا تشعل لنا لفائف التبغ". و من ثمّة، لا بدّ من الاعتقاد بالبعد الفلسفي للشغل باعتباره علاقة ميتافيزيقية جديدة بين الذات و نفسها، بين الذات و المجتمع. فإذا كان ديكارت قد قال:"أنا أفكر فأنا إذن موجود" ؛ فإنّنا يمكن أن نعارضه بهذه الفكرة: "أنا أشتغل إذن أنا موجود" لأنّ أبشع أشكال الاستلاب هو استلاب اللاشغل (أو استلاب البطالة). فالشغل وحده يستطيع أن يحقّق للإنسان إنسانيته و يضمن له كرامته. إنّنا اليوم نوجد بالقدر الذي نعمل، بل الأصحّ أنّ وجودنا متوقّف على الشغل، من خلاله نستطيع أن نتفاعل مع ذواتنا و مع الآخرين، وهو الكفيل بأن يقيم التصالح بيننا و بين أنفسنا، بيننا و بين مجتمعنا.
منقــــــول عن مواقع مغربية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق