إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

السبت، 21 فبراير 2009

الأسطورة و الرمز: ملحمة جلجامش نموذجا

محمد رمصيص 29 مارس 2007
تشتمل مفردة ميتولوجيا في تراكيبها اللغوي على جذريين mythos الخيال و logos العلم. و الجمع بين المتناقضات يولّد الدهشة و الاستغراب. و هذه الإحالة تهيّئ المتلقّي و الدّارس على حدّ سواء لارتياد عوالم عجائبية تحكي في الغالب قصّة مقدّسة أو حدثا وقع في الأزمنة الأولى زمن البدايات الخارق. و بعبارة أخرى فالأسطورة تروي كيف أنّه بفضل إنجازات الكائنات فوق طبيعية ظهرت واقعة ما إلى الوجود، سواء تعلّق الأمر بالواقع ككلّ أو بجزء منه.1. أمّا على المستوى الاشتقاقي فكلمة أسطورة منحدرة من فعل سطر الأحاديث العجيبة و الخارقة للطبيعة و للمعتاد عند البشر. فقط تجب الإشارة هنا أنّ ما يميّز الأسطورة عن الخرافة هو 
الاعتقاد بالأولى. فالأسطورة موضوع اعتقاد.2. و لأنّها كذلك فإنّ مواضيعها متنوّعة بتنوّع أسئلة الإنسان القديم. فهي تتحدّث عن أصل الكون و الوجود و عن صراع الخير و الشرّ و تجلّيات الظواهر الطبيعة التي هزمت الفرد غير ما مرّة. و من ثمّة فمتنها يعكس نمط تفكير و شكل من أشكال إدراك العالم و محاولة تفسيره و فهمه، إنّها بكلمة مركزة ذاكرة الوجود البشري القديم و مدوّنة تفكيره. فعندما تحدّث هوميروس مثلا عن زيوس إله الآلهة ذو السلطة اللامحدودة فإنّه عكس نمط الحكم الإغريقي آنذاك. و قس على ذلك أنّ كلّ أسطورة تعكس بشكل ما ظاهرة إنسانية و هذا ما يبرّر تلاقي التاريخي بالعجائبي و الواقعي بالمتخيّل في أمشاجها. علما أنّ مصادرها متنوّعة تبدأ بالنقوش و الشعر كالإلياذة و الأوديسة لهوميروس مرورا بالمسرح و أنساب الآلهة إضافة للتاريخ و المحاورة الشهيرة و الرسائل و التماثيل و الفسيفساء.3. و إذا كانت الأسطورة رصدا لخوارق و صراعات عجائبية فضلا عن إشارتها لوقائع تاريخية فإنّها لذلك لا تحتكم من حيث تماسك أحداثها لمنطق العقل. و على حدّ تعبير الدكتور أحمد خليل’ فالأسطورة ذات بنية مزدوجة تاريخية و لا تاريخية .4. و بتحويلها لهذه الوفرة من المصادر توفّر متنا حافلا بالرموز و الإيحاءات، كما تكثّف تجارب مجتمعية سابقة و تحيل أشخاص محدّدين لقيم كونية:"فأرفيوس" مثلا يرمز للإصرار و الثبات على الرأي و"بنلوب" تحيل على الوفاء. في الوقت الذي يشخّص جلجامش في الأسطورة البابلية الذات المعذّبة بفكرة الموت و سؤال الخلود.
1 ـ ملحمة جلجامش.5. و سؤال الموت:
تعود وقائع هذه الملحمة البابلية إلى منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد ببلاد الرافدين حيث استبدّ جلجامش بشعبه و سخّرهم لتشييد المعابد و المباني و تحقيق نزواته الشخصية. لكن موت صديقه "أنكيدو" جعله يفكّر مليّا في سؤال العدم و الفناء. و اقتنع أنّ السلطة وحدها لا يمكن أن تكون وسيلة للبقاء الدائم بعد أنّ ضيّع نبتة الخلود مع الأفعى. و بذلك غيّر من سلوكه قصد التطّهر من أخطائه أمام الشعب و أمام الذات. و انكبّ على بناء و تشييد المعالم الحضاري كوسيط مادي يمكن أن يخبر به الشعوب المستقبلية بتواجده "معبد عشتار، سور أروك نموذجين. "و إذا كان جلجامش قد اقتنع أنّ نهاية كلّ حياة موت. فإنّه احتال على الموت و عمل على تحويله لحياة من خلال بناء معبد صديقته الهالكة عشتار مثلا. معبد لا يفارقه صخب الزوار و حركية الحياة. جسر يجعل الفرد يفكّر في الوجود و العدم في ذات الآن. و ظلّ يؤمن أنّ الموت هي التي تختار ضحاياها إذا استثنينا الانتحار طبعا. و من ثمّة حاول استيعاب تجربة الموت بالبحث عن معنى للحياة الزائلة! إنّ محاولة جلجامش فهم إشكال الموت بعد نوع من الاستعداد لاستقباله باعتباره حقيقة حتمية. و لحظة وجودية مزلزلة يعبّر من خلال الفرد إلى حيّز العدم. و طالما أنّه حمل بين أضلعه هاجس الموت يمكن اعتباره عاش التجربة بشكل رمزي قبل أن يعيشها بيولوجيا! إنّ إشكالية الموت و قضية العدم لدى جلجامش تولّد عنها ثالوث مفاهيمي هيمن على أحداث الملحمة وهي: الخلود الزمن و الموت. و على هذا المثلّث بنيت أحداث هذه الأسطورة ككلّ. فسبب إحساسه بتفاهة الحياة نابع من صدمة موت صديقه أنكيدو كتجربة مأساوية جعلت مسكونة بهاجس الفناء. و من ثمّة بحث بدون جدوى عن وسيطة للخلود و الانتصار على الزمن الذي ترك عليه بصماته بترهّل جسده وضعف قوّته و نحن نعلم أنّه:"كلّما تقدّم الإنسان في السنّ واقترب من نهايته، يصير الفرد أكثر فأكثر موضوع ممارسة طقوسية و قداسية ليجد نفسه ساعة الموت قد استعاد روحانيته و قداسته من جديد.6. إنّ معايشة جلجامش لتجربة الموت الرمزي جعلته يكتشف أنّ الزمن سيف ذو حدّين.. فهو ينضجنا و يقتلنا في آخر المطاف! و هذا زاد سؤال الموت تعقيدا و على حدّ تعبير كنفسيوس:"إنّنا لا نعرف أي شيء عن الحياة فكيف لنا أن نعرف شيئا عن الموت." و رغم أنّ تجربة الموت تبقى مستحيلة لأنّ كلّ ما نعرفه عنها وصف خارجي و ليس معايشة داخلية لأنّها تمثّل فعلا لا يتكرّر! فإنّه عزّى نفسه بأنّ الموت تمثّل حياة على مستوى مغاير:"إنّ الموت تغيّر من الوضع الأنطلوجي للإنسان ففراق النفس يؤدّي إلى ميلاد نمط وجود جديد حيث يصبح الإنسان موجودا روحيا ليس إلاّ، أي يصير روحا." .7. و رغم اقتناع جلجامش بأنّ كلّ كائن حيّ هو مشروع موت مستقبلي فقد تعامل مع هذه الحقيقة بكلّ الجرأة و الشجاعة المطلوبتين.. و هذا ما جعل منه نموذجا للبطل المأساوي الذي يصارع رغم معرفته المسبقة بهزيمته الحتمية. فهو وإن لم يصل لجواب مقنع عن سؤال الموت فإنّه ظلّ يمارس حياته دون تهيّب أو خوف ! و من ثمّة تقاطعه و فلسفة طرفة بن العبد القائل: فإنّ كنت لا تستطيع دفع منيّتي// فدعني أبادرها بما ملكت يدي.
إنّ اختراق ملحمة جلجامش لهذا الزمان السحيق من خلال وصولنا اثني عشر لوحا عثر عليها علماء الحفريات وعنها ترجمت الملحمة.. يعتبر في حدّ ذاته جوابا على سؤال الخلود. فلو عاش أو بعث جلجامش من جديد لأدرك أنّ فعل الكتابة كفيل بتخليده في التاريخ بصرف النظر عن واقعية أو لا واقعية أحداث الملحمة. "فليس لنا حقّ التساؤل إذا ما كان ذلك صحيحا أو زائفا. فسؤال مثل هذا لا معنى له ذلك أنّ اللغة الأدبية لغة اتّفاقية أو اصطلاحية يستحيل فيها اختيار الحقيقة و التي هي علاقة بين الكلمات و الأشياء التي تدلّ عليها، بينما لا وجود في الأدب لهذه الأشياء." .8. إنّ سؤال الموت لا يجب أن يحجب عنّا سؤال الحبّ و الكره المتبادل بين جلجامش وعشتار الهة الخصب و الجنس كمحرّك للحياة الشيء الذي يجعل من الملحمة نصّا أدبيّا في قلب انشغالات الإنسان المعاصر و علاقته بالأخر. دون نسيان حبّ المغامرة و اقتحام المجهول بقصد تأسيس معرفة إجرائية بالعالم. و لعلّها كانت السبب في اهتداء جلجامش إلى أنّ العمل هو أحد الوسائل الممكنة لخلود الإنسان على الأرض مادام الموت البيولوجي حقيقة حتمية في جميع الحالات.
2 ـ جلجامش و البحث عن المطلق:
تتقاطع ملحمة جلجامش إلى حدّ كبير بمكوّنات التراجيديا الإغريقية حيث النهاية الحتمية لأبطالها بعد مجابهتهم للصعاب و الكوارث و من ثمّة جمعهم لصفتي الشجاعة و الهزيمة. علما أنّ تراجيدية جلجامش تكمن في كونه فردا ينتسب للتاريخ لكنّه فكّر في التعالي عليه عبر وسيط نبتة الخلود و رفض الموت و وقع الزمن على الجسد. و بذلك فهو يعيد لأذهاننا سؤال الزمن الذي لا يقهر في قصّة أهل الكهف… إنّ عظمة جلجامش تكمن بالأساس في كونه سار نحو حذفه بخطى ثابتة و هذا يثير لدى المتلقّي التقدير و الدهشة و الشفقة في ذات الآن. لأنّ كفاحه كان له معنى فمجرّد خوض جلجامش تجربة البحث عن جواب لسؤال الموت تمنحه صفة البطل المأساوي. و إن كانت الملاحم تصف أبطالها بالجلال و العظمة فإنّها في ذات الآن تحكم عليهم بالتلاشي و الردى. و هذا ما مزّق جلجامش و جعله يحتج على ثلّته الدنيوي و المحكوم بالزوال! و يمارس نوعا من البطش برعيته التي ما فتأت تتذّرع للآلهة التي خلقت له غريما لم يستطيع قهره إلاّ بإغرائه ببغية روضته بواسطة الجنس فتوارت قوّاه و انهارت… هنا تحديدا تروّج الملحمة فكرة ارتباط المرأة بالشرّ و المآسي وهذا ما يفسّر رفض جلجامش الزواج من عشتار! وعدم إقباله على مباهج الحياة ! بل إنّ اجتنابه الزواج يمثّل نوعا من التعالي على نصفه البشري و بحثه عن المطلق. فرفضه لعشتار رفض ضمني لحياة متبوعة بالموت خاصّة إذا علمنا أنّ عشتار ترمز للجنس. هي ظلّت تردّد أنّه بدون الغداء يموت الإنسان جوعا و بدون التناسل يفنى الجنس البشري. و مادام الموت حتميا في جميع الحالات فليس أمام لجلجامش من حيلة سوى العمل كفعل يعطي الحياة معنا و لوجود البشر مبرّرا. فبالعمل المنتج يعيد الإنسان تجديد ذاته و تطويرها، إذ به تصبح الحياة أكثر سوا و رقيا من حياة الطبيعة…
إحالات:
1 ـ  مقالات في الأسطورة ـ محمد يشوتي. ص: 6
2 ـ  مضمون الأسطورة في الفكر العربي ـ خليل أحمد خليل. ص: 8
3 ـ  أنظر قصد التوسع أساطير إغريقية ـ عبد المعطي حجازي
4 ـ  مضمون الأسطورة في الفكر العربي المعاصرـ خليل أحمد خليل. ص: 12
5 ـ ملحمة جلجامش ترجمة عبد الغفّار مكاوي مراجعة الدكتور عوني عبد الرؤوف
6 ـ مقالات في الأسطورة ـ محمد يشوتي. ص: 21
7 ـ  نفس المرجع السابق. ص26.8  ـ مدخل إلى الأدب العجائبي ـ تزفتان تدوروف ـ ترجمة الصديق بوعلام ـ ص: 110

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق