إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

السبت، 4 مايو 2013

ـ 3 ـ إنّية الغيرية

"الغير ليس أنا، و لكنّه أنا آخر"  سارتر  
1 ـ الغير بما هو أنا آخـر:
يأخذ "الغير"  Autrui  في اللغة العربيّة معاني الاختلاف و التعدّد و النفي و التغيّر، و ترجع لفظة الغير إلى كلمة غير التي تستعمل 
عادة  للاستثناء بمعنى "لا" و بمعنى" سوى"، و يأخذ " الغير" في الدلالة المعجميّة الفرنسية معنى الآخر من الناس بوجه عام، أمّا "الآخر"   L'autre فيفيد الاختلاف و التميّز، و هذا يعني أنّ مفهوم الغير هو تضييق لمعنى الآخر، و بالتالي فكلّ غير هو آخر و لكن ليس كلّ آخر غيرا، فالغير أخصّ و الآخر أعمّ، بمعنى أنّ الآخر المرادف للغير هو الذي يتمّ حصره في مجال الإنسان فقط دون غيره. و تحافظ الدلالة الفلسفية على هذا الاختلاف بين الدلالتين، إذ يحمل الغير في الفلسفة على معنى الآخر البشري، إذ يبرز الغير كآخر بشري مخالف للذات، كما يبرز كائنا مماثلا للذات من حيث التركيب الأنطولوجي، و من حيث مقوّمات الوعي و الإرادة 
و الحريّة؛ و هذا يعني أن بين الآخر و الغير تمايزا طفيفا  من جهة كون الآخر يختلف عنّي أمّا الغير فهو يختلف و يشبهني في آن.

الغير هو الآخر الإنسانيّ: الغير ليس شيئا آخر و إنّما أنا
 آخرalter ego ، الغير هو ما ليس أنا و لكنّه أنا آخر.
الإشكال الذي سنحاول تسليط بعض الضوء عليه إذا لا يرتبط بالآخر بعامة و إنّما بالآخر الإنساني أي بالغير، دلالة و حضورا و منزلة.

الغير و الزمان: الذات الإنسانية لا تعيش في الزمان فحسب بل تؤلّفه و تبنيه، و يحتاج الغير شيء من الزمن حتّى يظهر لنا، و لكن العلاقة بين الزمن و الغير أكثر عمقا من هذا، فظهوره الأوّل في شكل غريب étranger ، ثمّ في الحياة اليومية كمجاور  voisins، ثمّ في علاقة أخرى كقريب   prochain   أو صديق...  كلّ هذا و غيره يكشف أنّ الزمنية في النهاية هي زمانية العلاقة.

فما الذي يختلف في الكيان الماثل أمامي إلى درجة تدفعني لاعتباره آخر ؟ و ما الذي فيه ـ رغم غيريّته ـ يشبهني بحيث يكون غيرا ؟ و هل يمثّل الغير في اختلافه تهديدا لي ؟ ألا تبيّن درجات الاختلاف و التشابه  في الغير عن زمنيّة علاقة الإنّية بالغيرية ؟ أليس من الممكن أن نتحدّث عن الغيرية بمنطق الغرابة و الغربة و الاغتراب كما نتحدّث عنها بمنطق التشابه و المحايثة و المماثلة ؟ ألا يعني هذا أنّ الزمان هو الذيّ يحددّ شكل العلاقة بالغير و هو الذي يصنع لهذا الأخير وجها لا يكون حسب إنّية الغير و إنّما حسب إنّية الأنا ؟ ألا يعني ذلك في النهاية أنّ مشكل الغير هو في الحقيقة مشكل الأنا، إذ ما الغير إن لم يكن أنا الذي أرفضه أو أخشاه أو أُحبّه  باعتباره أنا التي ليست أنا ؟
2 ـ الإنيّة و الوجود للغـــير:
 * العزلة لا تمكّنني من معرفة ذاتي  فحسب بل قد تدفعني إلى الكذب و المغالطة ، هنا يجب أن نلاحظ الطابع المفارقي للمغالطة التي من المفترض تكون لإيهام الغير و تظليله وهي هنا لإيهام الذات و تظليلها، و لذلك نحن لا نلمس فرقا بين هذا الشكل من المغالطات و مفهوم "سوء النيّة" لدى سارتر، و الكذب على الذات أو سوء النيّة هو شكل من أشكال  الرفض لما أكون، بحيث من يقول أنا لا يكون بالضرورة أناإنّ ما أكونه بالنسبة لذاتي هو رهين ما أكونه بالنسبة للغير، أليس النمط المزدوج للوجود هذا، أوجد لذاتي و أوجد للغير هو الخاصّية الأساسية للإنّية أو للحقيقة الإنسانيّة ؟ و يعني أن يكون الإنسان وجودا لذاته
« l’être pour Soi »  أن تكون له مطلق الحرّية في اختيار شكل وجوده من جهة،  و أن يكون موضوع ذاته من جهة ثانية. شكل الوجود هذا في مستواه الثاني – أي أن أكون موضوعا ـ هو شديد الصلة بالوجود للغير « être pour autrui » فبأيّ معنى يتحدّد الوجود الإنساني باعتباره وجودا للغير ؟
* تكشف تجربة الخجل هذا النمط المزدوج للإنّية بما هي "وجود لذاته": فأن أخجل يعني أن ينتابني شعور مُخزٍ عن الذات، خجل يحرج وجودي ذاته، الخجل إذا يعبّر عن حميميّة الذات التي حوّلت ذاتها موضوعا ؛ وهو بهذا المعنى وعي يختلف عن الطابع الاستبطاني  التفكّري للكوجيتو المنغلق في عالم الأنانة.

Sartre: « et par l’apparition d’autrui, je suis en mesure de porter un jugement sur moi-même comme sur un objet, car c’est comme objet que j’apparais à autrui. »
و هذا يعني أنّ الغير هو الذي يدفعني للعودة إلى ذاتي، فيحدّ من تلك القدرة على الرفض و الكذب، لأنّني في هذه اللحظة لا أنظر إلى ذاتي كما أريد أن أنظر إليها و إنّما كما يُنظَر لها، الخجل إذا بهذا المعنى أيضا اعتراف و معرفة، اعتراف بأنّ الذي هو قبالتي ليس آخر بل هو الغير أو أنا آخر، لأنّه لو لم يكن كذلك لما أحرجني " إذ نظرة كلب لا تحرجني" على حدّ عبارة مرلوبونتي؛ وهو معرفة لا تكون ممكنة إلاّ بوساطة الغير كفعالية نظر، إذ بفضل هذه الفعاليّة يتحقّق شرط المعرفة ألا وهو الموضعة، إذ لا تكون المعرفة ممكنة إلاّ إذا توفّر موضوعها و هذا لا يكون ممكنا في العالم الضمن ذاتي حيث تعجز الذات على تحويل ذاتها موضوعا؛ و لكنّ هذه القدرة على الموضعة هي التي ستكشف الطابع الإشكالي لحضور الغيرية التي كما تكون شرطا و وسيطا تكون عائقا و تهديدا ؟ إذا كان الغير وسيطا بين الذات و ذاتها فما الذي يبرّر اعتباره تهديدا ؟
*  الخطر يكمن في أنّ الغير ينظر إليَّ كشيء، انطلاقا من حركة خرْقاء أو ما شابه، يعتبرني وجودا أخرقا أو فظّا، بحيث تكون هذه الأحكام السمة النهائية لوجودي:
1 /  وضعيّة جون فال جون  Jean Valjean في البؤساء « Les Misérables » ، فمهما ترفّعت أفعاله و سلوكياته الخيّرة و النبيلة،  يبقى بالنسبة للشرطيّ جافيت (Javert) سارقا للخبز، وهو بهذا يجمّده في فعل مضى، و يحدّد كلّ أفعاله اللاحقة بما كان، أو هو في الحقيقة لا ينظر إليه الآن إلاّ بمنظار خارج الزمن و التاريخ.
الغير أيضا يمتلك القدرة على الرّفض و بالتالي الكذب و المغالطة. بل أكثر من ذلك ينتقل موضوع نظره إلى مستوى آخر من الوجود يسمّيه سارتر: "الوجود في ذاته"«être en soi»    وهو وجود الأشياء.
2 / شخصية غارسان  Garcin، الذي تذكرّه إيناس  Inèsدائما بجبنه، و لعلّ ذلك ما دفعه للقول: [1]
Garcin « l’Enfer, c’est les Autres »
سارتر [بلسان قارسان]: "الجحيم هو الغير"

ألا يفيد واقع الموضعة المتبادلة أنّ الصراع هو أساس اللّقاء بالغيرية ؟ أليس الصراع هو جوهر الوجود الإنساني و الشكل الأصيل للرفض ؟ و إذا كان في حضور الغير غُنما ما فأيّ غُنم يحقّق الصراع معه ؟
3 ـ  الإنيّة و منطق الصراع:

 ـ  يحتلّ مفهوم الصراع في فكر هيقل مكانة متميّزة، إذ هو أساس الوعى و الوجود و التاريخ،  و يعتبر هيقل أنّ شرف الإنسان يكمن في كونه "وجودا لذاته" أي وجودا مغايرا و تاريخيا و ليس وجودا ثابتا و نهائيا، و بالتالي لحظة يعي الإنسان بأنّه وجود لذاته يقطع الحبل الذي يشدّه للطبيعة  و أشياءها ليظهر وجودا مضافا قبالتها، و هذه الرغبة في القطع مع الطبيعة  أو رفض البقاء موضوعا من موضوعاتها، تأخذ شكل صراع ضدّ الغير.
ـ هذا الصراع إذا ليس صراعا للبقاء ـ  كما تحدّث عن ذلك هوبز وداروين ـ و إنّما صراعا شرفيا من أجل الاعتراف. الإنسان يرغب إذا في أن يعترف به الغير بما هو وجود لذاته، و هذا يفترض أن أُظهِر في وجه الغير وجودا حرّا، لا يخشى المواجهة، و مستعدّ  للتضحية بالحياة من أجل الحريّة، و لذلك يأخذ الصراع من أجل الاعتراف مظهرين: بما هو نشاط يقوم به الإنسان على ذاته، أي أن أثبت لذاتي حرّيتي، وهو كذلك إجراء نمارسه على الغير، إذ نفرض عليه الدخول في صراع لنوفّر شروط إمكان الاعتراف، و يمكن أن نختزل ذلك بالقول:
 ـ  يرغب الإنسان في أن يعترف به الغير، و هذا يقتضي أوّلا التعرّف على الذات في الغير، و ثانيا الاعتراف بالغير كمماثل للذات؛ هنالك إذا في فعالية الاعتراف هذه شيء من المبادلة، أو الصدى المعرفي الذي تحدّثنا عنه آنفا، أن أعترف بالغير و أن يعترف الغير بي، فالذات التي تواجه الغير في صراع الموت هذا يجب أن تعثر عند الآخر على صورة من ذاتها، باعتباره أيضا وجودا لذاته. يقودنا هذا الصراع إلى جدلية السيّد و العبد، و غنم الجدلية يتحقّق ببقاء الطرفين، و هو بقاء يفرز موقفين مختلفين من الصراع أو شكلين من الوعي: موقف العبد الذي يتنازل عن الصراع خوفا من الموت، و الذي يعلن إيثاره البقاء على حياة الحرّية، و العبد تاريخيا هو الذي أعلن هيمنة قانون الطبيعة على الإنسان وهو الذي يعلن تفوّق قانون البقاء لديه، و لعلّ هذا ما يفسّر الارتباط الإيتيمولوجي بين لفظة عبد    servusفي اللاتينية و فعل حفظ    conservareفي مقابل موقف السيّد الذي كان مستعدّا لمواصلة الصراع و التضحية بحياته، فخيّر الحرّية على الحياة.
 ـ و لكن موقف السيّد بالرغم من قيمته التاريخية لا يخلو من مآخذ  باعتباره يستعيد من جديد منطق العطالة التي قطع معها، بحيث يرفض أن يكون غير ذاته، أي يرفض أن يكون وجودا لذاته، فيختار الوجود على نمط الأشياء أي وجودا في ذاته؛ نتحدّث إذا عن حالة نكوص و ارتداد إلى الوراء، إذ لم يعد هنالك من رغبة إلاّ إبقاء الأمر على ما هو عليه، أي المحافظة  conservare  على حياة الترف و الاستمتاع  و استهلاك الأشياء التي ينتجها غيره.
فينحدر السيّد إلى أحطّ درجات الرغبة و يجعل التدمير شرط علاقته بالطبيعة، و لكن هل تفيد هذه العلاقة بالطبيعة السيطرة عليها ؟ لا، لأنّ العمل هو شرط سيادتها، و طالما أنّ السيّد لا يعمل فلن يكون سيّدا على الطبيعة. و في المقابل يدخل العبد في صراع جديد مع الطبيعة فيقوّي تاريخيا إرادته، و هذه القوّة التي تدرك بفضل العمل تستعيد للعبد إنسانيته المفقودة في الصراع الأوّل، فيكون العبد عبدا للسيّد و سيّدا على الطبيعة و يكون السيّد سيّدا على العبد و عبدا للطبيعة، و هذا يعني تاريخيا ـ و إن ظهر في الأمر مفارقة ـ أن في السّيادة بعض عبودية و أنّ في العبودية شيء من السّيادة.
و لتجاوز المفارقة و تذليلها كان من اللازم إزالة الفوارق و تجاوز علاقات السيادة و العبودية، كالنهاية التاريخية للتميّز العنصري   l’apartheid  بحيث يكون دور العبد أن يكون فاعلا في التاريخ، كما كان السيّد تاريخيا منطلق التاريخ، و بحيث نكفّ عن الحديث عن حرّية طرف أو حرّية آخر، لنتحدّث عن حرّية كونية تقدّم الثورة الفرنسية مثالا صارخا عنها، و إذا كانت الحرّية هي معنى التاريخ، فإنّ هذا يعني بناء وحدة سياسية يمكن لكلّ حرّية فرديّة أن تجد في فضاءها مكانا لها، و لن يكون هذا ممكنا إلاّ إذا حصر كلّ طرف حرّيته ليمكنّ الطرف الآخر من التواجد كحرّية أيضا، و الإنسان لا يكون حرّا إلاّ إذا اعترف و أقرّ بحرّية الغير، و الاعتراف بحرّية الغير يبقى رهين النظر إليه لا كموضوع أو عبد و إنّما كنِدٍّ و مماثل، و لكن هذا الطرح يثير مشكل علاقة الاعتراف بالصراع و كأنّ الصراع هو الضمانة التاريخية لاقتلاع الاعتراف و التحرّر: فهل لا يكون الاعتراف إلاّ على أساس الصراع ؟ و هل لا تكون العلاقة مع الغير إلاّ علاقة صراع ؟ و هل من معنى لعلاقة تقوم على أساس الصراع ؟ بل هل يمكن أن نتحدّث عن عالم  بينذاتي رهانه الاعتراف و منطلقه الصراع ؟
4 ـ الغيرية إنّية الآخر:
يتعلّق الأمر هنا بقلب حقيقيّ على منطق الأنانة و الموضعة و الصراع، بل هو تفكيك نهائيّ للعزلة و مراجعة حقيقية لفكرة البينذاتيّة، قلبٌ نبيّن  من خلاله كيف يمكن للإنّية انطلاقا من الوعي أن تُقرّ ضرورة بحضور الكائنات العاقلة و الحرّة خارج مجال أنانته، من جهة كون الغيرية وجودا صنوا ماثلا أمامها، و تسمّى قدرة الوعي هذه على رصد الحرّية وسط الموضوعات الماثلة أمامه، أي رصد ذوات أخرى تمتلك عقلا و حرّية، تسمّى "فينومينولوجيا الحرّية"، بمعنى القدرة على التعرّف بفضل إشارة أو سمة على الغير كذات مختلف عن الأشياء و كوجود صنو، و بما أنّنا نرصد الإنسان باعتباره جسدا أوّل الأمر فإنّنا نوجهّ السؤال الذي طرحناه آنفا إلى ما يوجد من إنسانيّ في بنية جسد الغير بحيث يكون إشارة أو علامة ندرك من خلالها ما به يكون  هذا الكائن أمامنا وجودا مماثلا ؟
ـ  يميّز فيختة بين عالم العطالة للجماد  la nature inorganique  و عالم الحركة للكائنات الحيّة، يصاحبه أيضا تمييز داخل عالم الكائنات الحيّة بين الحيوان و الإنسان و ذلك لامتلاك الإنسان جسدا يأتي بفضله أفعالا و حركات لا يدركها الحيوان، و لذلك تعلن لنا بنية الجسد حضور كائن حرّ  يختزل في وجهه ـ على حدّ عبارة هيقل ـ كثافة روحيّة.
ـ  و هذا ما  يؤكّده روسو عندما يعتبر أنّه يمكن للإنسان أن يتعرّف بشكل مباشر على الغير باعتباره أنا آخر alter ego ،  فيتأثّر بما يصيبه، لأنّه يمتلك عاطفة أصيلة هي " الشفقة" و عاطفة الشفقة هي أقدم عاطفة تعلن التواصل المباشر بين الأنا و الغير.
 ـ و قد تحدّث عن هذا المعنى شوبنهاور معرّفا الشفقة   la compassionأو الرأفة    la pitié إيتيمولوجيا على أنّها ابتلاء مباشر أو مشاركة في الابتلاء    souffrir avec
و لكن هذا شكل من العلاقة مع الغيرية لا يتعدّى حدود المشاركة السلبية و التلقائية في المشاعر و الأحاسيس و لكنّها تبقي الغير خارج عالم الإنّية، كما أنّ هذه الأحاسيس لا تتجاوز الوعي بواقع البؤس الذي يلازم وجود الغير؛ إذا كانت العاطفة هي ما يضمن الاعتراف بإنّية الغيرية فإنّ هذا لا يعني بناء علاقة تكون فيها الإنّية غيرية و الغيرية إنّية إلاّ إذا تحوّلت العاطفة ودّا و الودّ صداقة
و الصداقة حبّا .
ـ الودّ قد يقرّبني من الغير و لكّنه لا يفترض بالضرورة المبادلة أو المعاملة بالمثل؛ و لا العطف صداقة إذ هو هذا الشعور الذي يجعلنا نريد الخير للغير، و هنا أيضا ليس هنالك عودة أو مبادلة؛ أمّا  الوضعية الوحيدة التي تجعلنا أصدقاء فهي تبادلنا الودّ و العطف، ولا ينقص هذه الوضعية إلاّ تحويل الودّ المتبادل حباّ، فالصديق هو ذاك الذي يحبّ بصدق الخير لغيره، و لذلك عدّت الصداقة فضيلة.     و لكن عالمنا اليوم لا ينظر للصداقة على أنّها قيمة أخلاقية، إذ ننظر اليوم للصداقة على أنها نوع من التعايش الممتع، لذلك كثيرا ما نخلط بين الرفيق أو الصاحب الذي نشاركه حفلا و بين الصديق، او نخلط بين الزميل و الصديق، و لذلك من الضروري أن نميّز بين ثلاثة أشكال من الصداقات واحدة فقط تكون حسب أرسطو أفضلها:
نحبّ ما نرغب فيه،
 و بالتالي الصداقة هنا تكون تجميعا لذوات لها نفس الرغبات و نفس الملذّات، و الصديق هنا هو ذاك الذي نحبّذ مجالسته.
ـ صداقة تقوم على مبدأ امبيدوكل  Empédocle  الذي يقول بتجاذب المتشابهان كأن نقول في لغتنا: "الطيور على أشكالها تقع".
ـ  هذه الصداقة تبدو عرضية و مؤقّتة ترتبط بما تحقّقه من متعة،
 و لكن إذا زالت اللذّة  زالت الصداقة، لذلك هي تولد بسرعة
 و تموت بسرعة.
نحبّ ما ينفعنا، وبالتالي الصداقة هنا تكون تجميعا لمصالح مشتركة و متبادلة، فالصديق هو الذي يخدمني و أخدمه.
ـ  هذه الصداقة تبدو كذلك عرضية ترتبط بما تحقّقه من منفعة،
و لكن إذا زالت الحاجة و المصلحة زالت الصداقة، لذلك هي تولد بسرعة و تموت أيضا بسرعة.

نحبّ الخير للغير.
 و بالتالي للصداقة هنا سجلّ أخلاقي يتجاوز منطق المتعة و المنفعة.
ـ هذه الصداقة تحركّها نيّة صادقة و إرادة ثابتة و لذلك ترتبط بالفضيلة أو بأهلها.
ـ لذلك يميّز أرسطو بين سجلّ العاطفة و الانفعال الذي يرتبط بالميل و بين سجلّ الفضيلة و الحكمة الذي يرتبط بالإرادة

يجب أن نعترف أنّ الرّاهن لا يفرز مثل هكذا علاقة مع الغير أو مثل هكذا صداقة تبدو نادرة إن لم نقل مستحيلة، و لقد تفطّن كانط لصعوبة تحقّق الصداقة، إذ يقتضي تحقّقها مزج الاحترام بالحبّ، أي إحداث نوع من التوازن المثالي بين الحبّ الذي يزيل كلّ المسافات مع الغير و بين الاحترام الذي يستعيد شيء من المسافة. و العلاقات اليوم موزّعة بين هذا و ذاك و نادرا ما ننجح في إحداث توازن حقيقي بين الحبّ و الاحترام، و لعلّ ذلك ما دفع كانط للإقرار بمثالية هذا التوازن، فالحبّ بمفرده قد يتحوّل إساءة للصداقة، و الاحترام يبقى في صوريته باردا، كالاحترام المتبادل بين الزملاء.
ـ إذا هنالك في الصداقة شيء من الحبّ، و لكن الحبّ ليس الصداقة،  يبدو أنّنا نستعيد من جديد مقاربة فويرباخ  التي تؤكّد أنّه بالحبّ يمكن للإنّية أن تتجاوز منطق الأنانة، فالحبّ في جوهره إيثار إذ  أن تتجاوز الإنّية منطق الأنانة و أن تنشغل كذلك بالنوع و الماهية أليس هذا هو جوهر الحبّ
و قد تلحفّ بمنطق الغيرية [2].
فشرف الإنسان يكمن في تعاليه على القانون الأناني للأنانة، فأن يكون المرء إنسانا يعني في المحصّلة النهائية أن يعلن انتماءه للنوع  و الماهية، و لعلّ هذا ما دفع  فويرباخ  للتمييز بين "الماهية الطبيعية" الخاضعة لقوانين الطبيعة، و بين "الماهية الإيتيقية" الخاضعة للفضاء الإنساني كنوع مخصوص، و المرتبطة بفكرة الترفّع و التعالي و الرفض، و فالإنسان حسب فويرباخ ليس مجرّد كائن حيّ و إنّما هو ذات تبحث في الغير عن حقيقتها و تحقّق بفضل الغير ماهيتها.  و الحبّ بالنسبة لفويرباخ هو التمظهر الأرقى بالنسبة لماهية الإنسان، لأنّه يمكن الفرد من التعامل مع الغير كوجود ضروري لوجوده، بمعنى التعامل مع وجود أنا آخر غيري و مختلف باعتباره شرط بقاء النوع ـ من جهة ـ و النظر إلى أنا الآخر باعتباره كذلك وجودا مماثلا  mon semblable،   و هذه المفارقة لا تكون ممكنة إلاّ إذا تجاوزت التعامل مع الغير كغيرية، الحبّ إذا هو الحلّ للتموقع  أو الإقامة في حدود المفارقة، لأنّه الوحيد الذي يلطّف التناقض و يقيه في آن، و الحبّ هو شرط التعامل مع الغير دون إقصاءه و هو شرط التحرّر من الأنانة، وهو كذلك شرط تجاوز منطق الموضعة  و منطق الرغبة و الصراع، فالرغبة في جوهرها سعي للامتلاك، و ما نعّده اليوم حبّا هو في الحقيقة الارتباط   L’attachement ،  و لذلك يكون غالبا خانقا، بل و كثيرا ما نصادف الحبّ خارج حدود الارتباط ذاته، لأنّنا بفضله نفهم الغير دون الحكم عليه أو امتلاكه.
مشكل الإنّية و الغيرية لا يحلّ إذا داخل سجلّ إبستيمولوجي أو سجلّ أنطولوجي، لأنّها سجّلات إمّا تجعل رهان العلاقة معرفيّا بحيث يكون الآخر شرط الموضعة، أو رهانا أنطولوجيا يجعل من الغير مناسبة لاقتلاع الاعتراف منه، الحلّ إذا في جوهره إيتيقيا ينفتح على الغيريّة دون اختراقها، و إيتيقا العلاقة المشدودة إلى مسؤوليّة الذات لا إلى حرّيتها تنتقل بنا من مركزية الذات إلى مركزية الغير، و من الأنانة و الأنانيّة إلى الإيثار و الغيريّة ALTRUISME.   لعلّ هذا ما قصده ليفيناس في معرض حديثه عن "إيتيقا الغيريّة" في مؤلّفه "الكلّية و اللاتناهي"، إذ بيّن  في هذا الكتاب كيف أنّ حضور الغير وجها ليس مدعاة ضرورة لا للموضعة و لا للصّراع و لا للعنف كما ذهبت إلى ذلك وجوديّة سارتر، بقدر ما هي علاقة قبول و مسؤولية، و في هذا القبول بالآخر دون احتوائه في نظرة تموضع تكمن إنسانية الإنسان.
فالمسألة عند ليفيناس لا ترتبط أساسا بهذه النظرة أو تلك و إنّما ترتبط بالأساس الذي بفضله نقرأ أو نحلّ لغزية الغير، ألا وهو الوجه الغفل أو المكشوف الماثل قبالتي، و في العلاقة الإيتيقية التي تحيل على المواجهة لا بمعنى الصراع الهيقلي و إنّما بمعنى الوجه لوجه، يدفعني الغير نحو الحبّ أو على الأقلّ يمنعني من التعامل اللامبالي مع نظرته، و لذلك أنا مسؤول على وجه الغير، أو على ما يكشفه وجه الغير أو يحيل عليه، أي مسؤول على التجاعيد التي تفسد الجمال الأصيل و المقدّس للوجه. الوجه إذا بهذا المعنى ليس مشهدا  و لا ذاتا نموضعها في فعالية نظر و إنّما هو نداء

ليفيناس:" يفرض الوجه ذاته عليَّ فلا أستطيع أن أمتنع عن سماع ندائه، أو أن أنساه، أو أن أتخلَّى عن مسؤوليتي أمام بؤسه"
Emmanuel Lévinas, Humanisme de l'autre homme, Paris, Le Livre de Poche, Biblio-essais, 1994, p. 52-53
انطلاقا من هذا التصورّ المشحون بالوحي الديني، نعرّف الغير باعتباره القريب منّي، هذا الغير و ليس شخصا مجرّدا ـ كما يعتبر ذلك كانط و كونت ـ لا وجه له، هذا الكائن الذي بقدر ما يختلف عنّي بقدر ما يقترب منّي. و إذا كان الغير وجها خارج السياق و دون أيّة استعارة أو صورة، فإنّه من الممكن أن نعتبر هذا الوجه كلاما و عبارة، أو هو لغة تستدعي الحوار، أو على الأقلّ لغة تدعو إلى الإنصات لصوت  الغير في وجهه صوت الوجه الصامت.
هكذا يتحوّل الحديث عن الذات حديثا عن مسؤوليتها تجاه الغير لا حديثا عن ماهيتها الخاصّة، و لا معنى للكوجيتو إلاّ باعتباره انشغالا و طيبة تجاه الغير، و هكذا يحدِّد إيمانويل ليفيناس أنطولوجيا جديدة لا تتأسّس على معرفة الذات، بل على الطيبة إزاء الغير: أنْ تكون، هو أنْ تكون للآنا الآخر، أي أن تكونْ طيِّبًا. الطيبة هي الجواب الحقيقي لتوسُّل وجه الغير. الطيبة هي عدم اهتمام بالذات: "الطيبة تقوم باعتبار الآخر أهمّ من الذات". في هذا المنظور ليس بالإمكان الحديث عن الفلسفة باعتبارها حبّا للحكمة، بل باعتبارها "حكمة الحبّ"، و الحبّ يدفعنا إليه وجه الآخر الذي يقول في صمته و حزنه و ضعفه: "لا...لا... لا... تقتل".[3]
 5 ـ الغيرية  بما هي بنية الإدراك:
و لكن هل لا يكون الآخر في غيريّته إلاّ موضوعا أقصيه أو ذاتا نتحمّل مسؤولية بؤسه ؟ و هل يختزل مشكل الإنّية و الغيرية في بعدها العلائقي؟ أليس من الممكن أن تحيل الغيرية على آخر آخر  حيث لا يكون موضوعا و لا ذاتا ؟ ألا يكشف اللقاء بالغيرية وعيا جديدا بالعالم و الذات ؟ بل ألا يكشف غيابها وحشية العالم من حولنا و صمتية أشياءه و هوس الذات و جنونها ؟
ج. دولوز:" الآخر ليس موضوعا في حقل إدراكي، و ليس ذاتا تدركني: إنّه في البدء بنية الحقل الإدراكي"
Gilles DELEUZE, Logique du sens, Paris, ed minuit1997, p357
هذا ما يحاول جيل دولوز  معالجته في مقاربته التي تذكرنا بوحدة "روبنسون" في كتاب ميشال تورنيه، حيث كشف دولوز كيف أنّ الآخر هو من يحرّرنا من العزلة و بالتالي يحرّر الإدراك من فقر المعنى، إذ يفسح الآخر في حضوره المجال لعالم آخر هو ممكن في حضوره لكنّه ليس كائنا في إدراك، و هذا الممكن الكائن في وجه الآخر يضفي معنى إضافيا للعالم من حولي  [4].

يقول م. تورنيه على لسان بطله: "إنّ وحدتي لا تنسف قابليّة تعقّل الأشياء فقط و إنّما تنسف جذريا وجودها حتّى لكأنّ الشكّ يتهدّد كلّ إحساساتي إلى درجة أنّ الأرض التي أقف عليها تضلّ في حاجة ملحّة للآخر كي لا تميد، لآخر يقف عليها."
م. تورنيه:" لا يحصّنُنا من الوهم و السراب و من الهلوسة و الهذيان إلاّ أخ لنا أو جار أو صديق أو عدوّ... مهما كان الآخر... المهمّ شخص ما ... يا ربّ شخص ما آخر". 
"A Speranza, il n'y a qu'un point de vue, le mien, dépouillé de toute virtualité. Et ce dépouillement ne s'est pas fait en un jour. Au début, par un automatisme inconscient, je projetais des observateurs possibles - des paramètres - au sommet des collines, derrière tel rocher ou dans les branches de tel arbre. L'île se trouvait ainsi quadrillée par un réseau d'interpolations et d'extrapolations qui la différenciait et la douait d'intelligibilité. Ainsi fait tout homme normal dans une situation normale. Je n'ai pris conscience de cette fonction - comme de bien d'autres - qu'à mesure qu'elle se dégradait en moi. Aujourd'hui, c'est chose faite. Ma vision de l'île est réduite à elle-même. Ce que je n'en vois pas est un inconnu absolu... Partout où je ne suis pas actuellement règne une nuit insondable. Je constate d'ailleurs en écrivant ces lignes que l'expérience qu'elles tentent de restituer non seulement est sans précédent, mais contrarie dans leur essence même les mots que j'emploie. Le langage relève en effet d'une façon fondamentale de cet univers peuplé où les autres sont comme autant de phares créant autour d'eux un îlot lumineux à l'intérieur duquel tout est - sinon connu - du moins connaissable. Les phares ont disparu de mon champ. Nourrie par ma fantaisie, leur lumière est encore longtemps parvenue jusqu'à moi. Maintenant, c'en est fait, les ténèbres m'environnent. Et ma solitude n'attaque pas que l'intelligibilité des choses. Elle mine jusqu'au fondement même de leur existence. De plus en plus, je suis assailli de doutes sur la véracité du témoignage de mes sens. Je sais maintenant que la terre sur laquelle mes deux pieds appuient aurait besoin pour ne pas vaciller que d'autres que moi la foulent. Contre l'illusion d'optique, le mirage, l'hallucination, le rêve éveillé, le fantasme, le délire, le trouble de l'audition... le rempart le plus sûr, c'est notre frère, notre voisin, notre ami ou notre ennemi, mais quelqu'un, grands dieux, quelqu'un!"
Michel Tournier, Vendredi ou les Limbes du Pacifique (1969), Éd. Gallimard, coll. Folio, 1972, pp. 53-55.
هذا الحضور الخاصّ للغيرية يسمّيه دولوز " الغير الماقبليautrui apriori  "  الذي يكوّن بنية الإدراك، و لكن ما هذه البنية ؟ إنّها بنية الممكن على حدّ عبارة دولوز [5]، إنّ هذه البنية " ليست شخصا و لا تشير لأحد إنّها فقط أنا بالنسبة للآخر و الآخر بالنسبة للأنا "، و بالتالي في غياب هذه البنية تكون الذات وجها لوجه أمام العالم الكائن ـ  الذي هو الواقع لا شكّ في ذلك ـ و لكنّه واقع بالنسبة لي، و أنا مدين للآخر إذ بفضله أضيف للواقع  الكائن واقعا ممكنا آخر أستبطنه في إدراكي فأصنع بفضله معنى مضافا و دلالة أخرى و إذا كان الغير مع سارتر يضيف لذاتيتي شكلا آخر للوجود يسمّيه سارتر "الموضعة"    l’objectité  حتّى و إن كان يحوّلني في فعالية نظره شيئا  أو موضوعا، فإنّ الآخر مع دولوز يضيف للعالم من حولي عالما ممكنا آخر.
ج. دولوز:" هذا العالم الممكن ليس واقعا أو على الأقلّ هو لم يوجد بعد كواقع متعيّن و لكنّ هذا لا يعني عدم وجوده: إنّه المُعبَّرُ عنه الذي لا يوجد بعد إلاّ في تعبيريّة وجه أو ما يعادل وجه الآخر... الغير إذا هو في البدء وجه عالم ممكن"
Gilles DELEUZE, Logique du sens, Paris, ed minuit1997, p355
لكن الوجوه المتعدّدة للغيرية التي قد تفهم على أنّها الآخر الموضوع أو على أنّها الغير بما هو ذات أو على أنّها الآخر بما هو بنية، لا تفهم الغيرية إلاّ باعتبارها ما يكون خارج الأنا حتّى و إن استبطنته الذات، فهل لا تفهم الغيرية إلاّ على معنى خارجي؟ ألا ينبغي أن نتجاوز السطح إلى العمق لتتراءى لنا غيرية الآخر سرّا سطحيّا جدّا، في مقابل غيرية الأنا التي تتوارى عن الأنظار أو التي لا يمكن إدراكها إلاّ بحفريات ترتدّ بنا إلى الخفيّ و المكبوت و المسكوت عنه ؟
الهوامش:
[1]    - Sartre dans « Huis clos » scène V, pages 120 et 122
 [2] - Ludwig Feuerbach, Pensées sur la mort et l’immortalité de l’âme, « Mais l’essence humaine, éthique de l’homme, consiste justement à renoncer à son être pour soi simplement naturel, à se poser un fondement de son être, à être par un autre, à avoir le fondement de son être dans l’être d’un autre. C’est ainsi que l’amant fait de l’aimée le fondement de son être. » éditions du Cerf, page 140.
[3]  - Emmanuel  Lévinas,  Éthique et Infini, op.cit., p. 97.
 [4]  M.Tournier : « Vendredi ou les limbes des pacifique » p45
 [5]  - Gilles DELEUZE, Logique du sens, Paris, ed minuit1997, p354

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق