إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الخميس، 9 مايو 2013

ـ 2 ـ السّيادة فضاء المواطنة

إعداد: الصحبي بوقرّة 
أستاذ مبرّز في الفلسفة.
الدّرس الثاني.
"Nous commencerons à devenir homme qu'après avoir été citoyens"
Jean-Jacques RousseauDu Contrat social, 1o version, p. 287
1 ـ الإرادة العامة و سيادة المواطنة:
 لا يمكن الحديث عن المواطن خارج الدولة رغم أنّ الحقوق التي يتمتّع بها المواطن داخل الدولة سابقة على وجودها، إنّها حقوق طبيعية و مقدّسة لا يمكن التنازل عنها لأنّها ترتبط بجوهرية الإنسان، حتّى أنّه وقع الربط  في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بين حقّ الفرد كإنسان و حقّه كمواطن.[1] بحيث تكون مهمّة الدولة ضمان هذه الحقوق للإنسان حتّى يصبح مواطنا و للمواطن حتّى يظلّ داخل الدولة إنسانا، و يبيّن روسو علاقة الدولة بالمواطن بوضوح عندما تحدّث في الفصل السادس من كتاب العقد الاجتماعي عن الدولة التي تُبنى على أساس تعاقدي، قائلا: "و هذه الشخصية العامة، التي تتكوّن هكذا من اتّحاد الشخصيات الأخرى كانت تحمل قديما اسم "المدينة" أو الحاضرة
و تحمل الآن اسم "الجمهورية" أو "الهيئة السياسية" وهي التي يسمّيها أعضاؤها "دولة" إذا كانت سلبية غير عاملة و"هيئة السّيادة" إذا كانت عاملة... و أمّا الشركاء فيتسمّون في وجه جماعي مشترك باسم "الشعب" و يطلق على الأفراد اسم "مواطنين" على أنّهم مشتركون في سلطة السّيادة، و "رعايا" بصفة كونهم خاضعين لقوانين الدولة".
المواطن من هذا المنطلق هو فرد يندرج ضمن الدولة و هو مثلما له حقوق له واجبات و هو مثلما يكون حرّا و سيّدا يكون في نفس الوقت مطيعا للقوانين و خاضعا لها دون أن يكون عبدا.  غير أنّ خضوع المواطن للقانون لا يعني أنّ المواطن قد سلب حرّيته لأنّ مفهوم الحرّية عند روسو يقترن بالقانون "فولدت الحرّية يوم ولد القانون" و بالتالي خضوع المواطن للقانون لا يعني أنّه فقد خاصية الإنسانية الحقيقية "فإذا منح كلّ واحد نفسه للمجموعة كلّها فإنّه لم يمنح نفسه لأحد". لأنّه في نهاية المطاف لا يخضع لسلطان أحد و هو بهذا يحافظ على حرّيته، بل على إنسانيّته التي تضمنها سيادة ما يسمّيه روسو "الإرادة العامة"، لأنّها السّيادة الوحيدة الضامنة للحقوق الطبيعيّة.
Jean-Jacques Rousseau :
 "Il n'y aura jamais de bonne et solide constitution que celle où la loi régnera sur les cœurs des citoyens. Tant que la force législative n'ira pas jusque-là, les lois seront toujours éludées."                                       Considérations sur le gouvernement de Pologne, p. 955
ç و هذا يفيد أنّ الحديث عن سيادة الدولة يقترن بالحديث عن الحقوق الطبيعية للإنسان التي تحوّلت إلى حقوق مدنية للمواطن و لعلّ هذا ما جعل سبينوزا من جهته يقرن نشأة الدولة بضرورة المحافظة على حقوق الإنسان و خاصّة الحرّية، فالسّيادة بهذا المعنى ليست نفيا للحقّ، بل هي ما يضمنه.
2 ـ السّيادة فضاء الحقّ و القانون :
و قد حاول الفكر السياسي التعاقدي مع سبينوزا و روسو خاصّة إثبات منزلة الديمقراطية باعتبارها النظام الذي يضمن التوافق بين واقع السّيادة و قيمة المواطنة، بل هو توافق ينتهي مع سبينوزا إلى ربط الصلة بين الحقّ و القانون، و بين حالة الطبيعة و الحالة المدنية، و بين القوّة و الحرّية. فكيف يمكن أن نوازن في النظم الديمقراطية ـ مهما اختلفت صورها ـ  بين قوّة الدولة باعتبارها حقّا طبيعيّا للسّيادة و بين حرّية الإنسان باعتبارها حقّا طبيعيّا للمواطنة ؟
يفهم سبينوزا الحقّ الطبيعي على أنّه القانون الطبيعي و الأساسي الذي يخضع له كلّ كائن حيّ ألا وهو قانون حفظ البقاء، و حجّتنا في ذلك قوله: "أعني بالحقّ الطبيعي نفس قوانين الطبيعة ذاتها أو قواعدها التي يحدث كلّ شيء وفقا لها، أي بعبارة أخرى قوّة الطبيعة ذاتها…. و على ذلك فكلّ ما يفعله الإنسان وفقا لقوانين طبيعية يفعل بحقّ طبيعي كامل، و يكون له من الحقّ على الطبيعة بقدر ماله من القوّة." [2]   
و يتحرّك الحقّ الطبيعي وفق ضرورة تقول أنّه على كلّ إنسان أن يعيش في أمان و أن يحفظ استمرارية حياته. و بما أنّ الجميع اقتنع أنّ حقّ القوّة  في حالة غياب الدولة سيؤدّي إلى إفلاس الحياة الفردية و الجماعية. فكان من الضروري أن يهتدي البشر إلى استخدام العقل لتهذيب و توجيه الانفعال. و هكذا تكون ولادة الدولة أو المجتمع المدني لحظة تاريخية حاسمة في انتصار العقل على الانفعال، غير أنّ الانفعالات تسيطر على الجزء الأكبر على رغبات الناس  إذ يوجّه الانفعال العقل في حالة الحقّ الطبيعي نحو قانون حفظ أناني للبقاء، و يوجّه الانفعال العقل في الحالة المدنية نحو حفظ جماعي للبقاء؛ و لهذا السبب بالذات احتلّ القانون في فكر سبينوزا مقاما تأسيسيّا لأنّه الأداة التي ستعدّل من سيطرة الانفعال على العقل، و "لو كان العقل وحده هو الذي يسيطر على أفعال الناس لما التجأ أحد  إلى القانون”. و بما أنّ الدولة تمثّل كلّ المواطنين، و تدبّر شأن المجتمع لها الحقّ الكامل في وضع القوانين أو سنّ تشريعات جديدة. و على الأفراد أن يلتزموا بالطاعة، التي لا يمكن أن تكون خضوعا طالما:
t احتكمت الدولة بالعقل و إليه و لم تنْقَد وراء الانفعالات أو الشهوة العمياء، إذ الحاكم الحكيم هو من يحتكم إلى العقل حماية للمصلحة العامة للأفراد.
t أطاع الحاكم مثله مثل باقي المواطنين نفس القوانين السائدة، فإن كان الحاكم فوق القانون يكون قد خرج عن الاتّفاق و هدّد المصلحة العليا و بالتالي أصبح من الواجب مقاومته. ولا يهمّ إن كان هذا الحاكم فردا أو هيئة طالما كان هناك التزام بالعقل و احترام للقوانين، لكن إذا كان فردا يستحسن أن تكون هناك هيئة استشارية إلى جانبه لا تقرّر و إنّما تنبّه أو تعظ. [3]  و كلّ فساد أو ظلم أو شرّ يحلّ بالمجتمع يعزى إلى سوء حالة النظام أو فساد في الحكم، إمّا لأنّه لم يتمكّن من تهذيب انفعالات الناس و جعلهم يغلّبون العقل أو لأنّه أصابه إغراء الانفعال فغيّب العقل و المصلحة العامة للأفراد.
 و لذلك يقول سبينوزا أنّ الناس لم يخلقوا صالحين لأن يكونوا مواطنين، و إنّما ينبغي أن يجعلوا صالحين لذلك، و فضلا عن ذلك فإنّ انفعالات الناس الطبيعية واحدة في كلّ مكان، فإذا ما استشرى الفساد في مكان ما، و ازدادت الجرائم انتشارا في دولة دون الأخرى فلا بدّ أنّ الدولة الأولى لم تمض في عملية توحيد رعاياها كما ينبغي، و لم تضع قوانينها ببعد نظر كافٍ، و بذلك تكون قد أخفقت في استخدام حقّها في ممارسة الحكم".
و المواطن لا يطيع السّيادة إلا انطلاقا من حساب المصلحة و المنفعة لا انطلاقا من منطق الإكراه، بلغة أخرى يمكن للمواطن أن يدمج قدرته مع قدرة الآخرين أو أن يوظّفها ضدّهم، فالدافع يمكن أن تحرّكه المصلحة كما تحرّكه الخشية أو الخوف.
و إذا كانت المدينة هي فضاء المنافع المختلفة فإنّ السّيادة يجب أن تكون فنّ المحافظة على وحدة المنافع، و لذلك فالسّيادة التي تحافظ على ما ينتفع به المواطن أفضل و أبقى من السّيادة التي يهاب سلطتها المواطن. و لهذا يعتبر سبينوزا أنّ الدولة التي تكون دوافع فعل مواطنيها الرغبة أكثر قدرة من الدولة التي تكون دوافع فعل مواطنيها الخوف. و هو بهذا يكون من أوائل المفكّرين الذين بيّنوا أنّ السّيادة لا تقاس بدرجة الخوف و إنّما بدرجة الثقة التي توحي بها باعتبارها فضاء تحقيق المنافع، و لعلّ هذا ما يفسّر مطلب سبينوزا بأن تتسامح الدولة بخصوص الأشياء التي لا تقدر على منعها،
و هذه القاعدة تطال حرّية التعبير، و لذلك من المفترض أن تتسامح الدولة فيما من المفترض لا يمكن نفيه. فليس من مشمولات السّيادة منع الأفراد من التفكير و من قول ما يفكرّون فيه. بل و لا تكون السّيادة التي تنفي الحرّية أكثر قوّة بل أكثر ضعفا و لذلك هي تسود بفرض الخوف أي بفرض أسوء أشكال السّيادة، و أبشع درجات العبوديّة .
"أن يكون المرء أسير لذّته فلا يستطيع أن يرى أو أن يفعل ما هو حقّا مفيد له فتلك أبشع درجات العبوديّة. و الحريّة لا تكون إلاّ لمن اختار بمحض إرادته أن يعيش مهتديا بالعقل وحده. أمّا الفعل الذي نقوم به تلبية لأمر، أعني الطاعة، فلئن كان يجرّد من الحريّة بوجه من الوجوه، فإنّه لا يحوّل صاحبه مباشرة إلى عبد، بل الدافع المحدّد للفعل هو الذي يحوّله إلى ذلك. فإذا كانت غاية الفعل نفع الآمر به لا نفع القائم به، كان هذا القائم به عبدا لا خير فيه لنفسه، و على العكس من ذلك، فإنّ الذي يطيع صاحب السّيادة طاعة كليّة، في ظلّ دولة أو نظام يجعلان القانون الأسمى هو خلاص الشعب بأسره، لا مصلحة الآمر وحده، لا يجب أن يعتبر عبدا، لا خير فيه لنفسه، بل هو مرؤوس؛ و هكذا تكون هذه الدولة أكثر الدول حريّة لما اعتمدته قوانينها من العقل القويم، لأنّ كلّ فرد في هذه الدولة يستطيع متى أراد أن يكون حرّا أي أن يعيش بمحض إرادته مهتديـا بالعقل." سبينوزا ـ رسالة في اللاهوت و السياسة.
و لأجل ذلك يميّز سبينوزا في معرض حديثه عن المواطنة و العبوديّة  و عن الطاعة و الخضوع بين الطفل و العبد و الرعيّ و المواطن:
العبد: هو ذاك الذي يكون نفع فعله من أمره به [السيّد] لا خير فيه لنفسه.
الطفل: هو ذاك الذي يكون نفع فعله مصلحته الخاصّة [الابن] حيث يكون من أمره [الوالد] بالفعل وصيّا و مسؤولا على مصلحته.
الرعيّ: هو ذاك الذي عليه أن يمتثل لقوانين المدينة و لمؤسّساتها.
المواطن: هو ذاك الذي يتمتّع بكامل مزايا المدينة وفقا للحقّ المدني.
و يمكن أن نستنتج مع سبينوزا و انطلاقا من هذا التمييز أو التصنيف التفاضلي بحسب طبيعة الطاعة و درجة الخضوع:
أوّلا: أنّ الطفل بالرغم من قصوره و قلّة وعيه قد يضمن في طاعته مصلحته الخاصّة و هو في ذلك أفضل من العبد الذي لا يعدّ ذاتا.
ثانيا: أنّه لا معنى للحديث عن التمتّع بالحقّ في غياب القيام بالواجب، بحيث لا نستحقّ المواطنة إلاّ لأنّنا رعايا.
ثالثا: أنّ ما يميّز الرعيّ عن العبد هو أنّ الأوّل طاعته واجبة و العبد طاعته خضوع.
رابعا: أنّ ما يميّز المواطن هو أنّه يجمع في فضاء الدولة بين طاعة الطفل و واجب الرعيّ ليضمن في آن المصلحة الخاصّة و العامة.
خامسا: أنّ العدالة هي تجسيد للحقّ و تحقيق له، فلا يوجد حقّ خارج عدالة قوانين الدولة. فالعدل يتمثّل في إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه طبقا للقانون المدني، و أمّا الظلم فهو سلب شخص ما حقّه بمخالفة هذا القانون.
3 ـ  العدالة بما هي قانون الحقّ:
نفهم انطلاقا ممّا تقدّم أنّ العدالة مع سبينوزا هي الشاهد على علاقة الوصل بين الحقّ و القانون، حيث تكون السّيادة العادلة هي التي لا يتعارض فيها الحقّ مع القانون و لا يخالف فيها القانون الحقّ،  و الناس جميعا يخضعون بطبعهم لقانون كلّي شامل هو قانون الكوناتوس، إذ هذا القانون هو المحدّد لنظرية الحقّ لدى سبينوزا، فالحقّ الطبيعي لا يستنبط من العقل ـ كما قلنا آنفا ـ  بقدر ما يعبّر عن قوّة الرغبة في الوجود و البقاء،  و في هذا المعنى يقول سبينوزا "أنّ الحقّ الطبيعي لكلّ إنسان يتحدّد حسب الرغبة لا حسب العقل السليم"،[4] و هذا يفسرّ كيف أنّ حقّ الطبيعة ليس إلاّ تمظهرا لقانون الطبيعة. و في ظلّ الدولة تستعيد هذه الرغبة شيئا من العقل فتجعل من الحقّ و القانون و العدالة قيما مدنية، فالقيم لا توجد خارج ما وضعه الإنسان فلا توجد من وراء معاني العدل و الظلم أيّة مرجعية مطلقة سابقة على المرجعية الموضوعة من قبل الإنسان، لأنّ الإنسان وحده هو مصدر التشريع في هذا العالم، أمّا في المطلق فالخطأ و الإثم و الظلم و ما إلى ذلك ألفاظ خالية من كلّ  معنى؛ و لذلك يقول سبينوزا :"لا يوجد في حال الطبيعة ما يمكن أن يقال عادلا أو ظالما، بينما نجد ذلك في حال التمدّن.[5]"  
 المجتمع السياسي استمرار للحالة الطبيعية و مواصلة لها، إذ لا توجد أيّة قطيعة بين الحالة الطبيعية و الحالة المدنية، و إنّ مهمّة العقل، بوصفه جزءا لا يتجزّأ من الطبيعة ليست مساعدة المرء على تجاوزها بل على المحافظة عليها؛ و لكن لأنّنا نعتقد أنّ لنا من الحقّ بقدر ما لنا من القدرة فإنّنا بهذا المعنى نختزل الحقّ فيما يمكن أن يتحقّق و ليس فيما يجب أن يكون، و لعلّ هذا هو مشكل حالة الطبيعة.  و لكن كيف يمكن لأشخاص يرزحون تحت الانفعالات و يتصرّفون بصورة فردية بما ينافي الصواب و العقل أن يقرّروا بصورة جماعية إطاعة العقل و الاهتداء به ؟
* السبيل الوحيد هو أن يتعّهد الجميع أمام الجميع بأن يتصرّفوا في جميع الأمور على مقتضى العقل، إلاّ أنّهم حال افتراقهم سرعان ما يقعون من جديد تحت نيّر الأهواء فلا يتردّدون في نكث عهودهم، طمعا في تحقيق بعض المصالح الشخصية. و هكذا فإنّ العهد يبقى مهدّدا في كلّ لحظة بالزوال، إذ لا يمكنه المكوث طويلا أمام الانفعالات القوّية الجارفة، و الانفعال لا يزال على حدّ عبارة سبينوزا إلاّ بانفعال مناقض له و أقوى منه. و بالتالي الوفاء بالوعد لا يتحقّق إلاّ إذا كان المتعاقدون أنفسهم يرغبون في ذلك جميعا.
سبينوزا:"إن صحّة أي عقد رهن بمنفعته، فإذا بطلت المنفعة، انحلّ العقد في الحال و لم يعد ساريا  و من ثمّ يكون من الغباء أن يطلب إنسان من آخر أن يلتزم بعقد إلى الأبد دون أن يحاول في الوقت نفسه أن يبيّن له أنّ فسخ العقد يضرّ من يفسخه أكثر ممّا ينفعه. و هذه نقطة مهمّة للغاية في تأسيس الدولة".
و لذلك كان من اللازم خلق علاقة قوى جديدة بين المتعاهدين تكون بديلا لعلاقة القوى الطبيعية، و بالفعل فلا أحد يترك ما يرى أنّه خير إلاّ أملا في خير أعظم، أو خوفا من ضرر أكبر، و لا  أحد يقبل الشرّ إلاّ تجنّبا لشرّ أعظم منه أو أملا في خير بعده.[6] و على هذا الأساس يكون كلّ فرد مطالب لمصلحته ـ إمّا تجنّبا لشرّ أو تحقيقا لخير أفضلت ـ أن يفوّض إلى السلطة العليا كلّ ما له من قدرة بحيث يكون لهذه السلطة الحقّ الطبيعي المطلق على كلّ شيء، أي السلطة المطلقة في إعطاء الأوامر التي يتعيّن على كلّ فرد أن يطيعها إمّا بمحض اختياره و إمّا خوفا من العقاب الشديد، و المقصود بالسلطة العليا هنا هو المجتمع.
  و حتّى لا يبدو غريبا ما يقوله سبينوزا أو حتّى لا نخلط بينه و بين السلطة المطلقة التي يقترحها هوبس يجب أن نؤكّد أنّه مع سبينوزا لا يفقد الأفراد إذ يفوّضون إلى المجتمع كلّ ما لديهم من حقوق طبيعية، غير حرّية وهميّة، ذلك أنّهم يوجدون في طور الطبيعة، في حالة من التبعيّة المتبادلة أساسها الخشية و الأمل، و الفرق الوحيد بين الحالة الطبيعية و الحالة المدنية هو أن دواعي الخشية و الأمل في الحالة الأولى تختلف من شخص إلى آخر، بينما تبقى هذه الدواعي، في الحالة الثانية واحدة  و مشتركة بين الجميع.
 çإنّ ما يحفظ العقد من جهة و يحفظ المجتمع السياسي من الوقوع في الاستبداد و الظلم من جهة ثانية هو تصوّر علاقة ديناميكية بين كوناتوس الرّاعي و كوناتوس الرعيّة، و السّيادة بوصفها تعبّر عن كوناتوس الراعي و الرعيّة في آن تعبّر عن واقع حيّ شأنها شأن المواطنين المؤلّفين لها، و هكذا تتحوّل السّيادة فضاء المواطنة و تتحوّل المواطنة فضاء للسّيادة، و انطلاقا من هذا الفهم يظهر الاختلاف جليّا بين هوبس و سبينوزا، فالأوّل يظهر العلاقة علاقة غالب بمغلوب أو سيّد و عبد، أمّا في رأي سبينوزا فإنّ طاعة الحرّ لشرائع الدولة و احترامه لسيادتها هو في الحقيقة احترام لذاته و لذلك تختلف هذه الطاعة عن طاعة العبد لسيّده، فالعبد تحرّكه الخشية و قلّما يحرّكه الأمل، و المواطن يسلك بموجب الأمل أكثر ممّا يسلك بموجب الخشية.
 çلا يمكن أن نفهم علاقة التضمّن بين السّيادة و المواطنة إلاّ بالنظر إلى نظام ديمقراطي تكون فيه السّيادة للشعب، و لذلك نتحدثّ مع سبينوزا عن الديمقراطية باعتبارها عقل الدولة و عن الاستبداد باعتباره جنونها.
ç لو كان من الواجب أن تكون السّيادة لمن كان مهابا أكثر من غيره لكانت للمواطنين بالضرورة لأنّ المستبدّ إنّما يهاب شعبه و يخشاه إلى أقصى حد، إذ يظلّ تهديد المواطنين للدولة بعد سلب حقوقهم أشدّ من تهديد الأعداء لها.
سبينوزا:"إنّ الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليس السّيادة، أو إرهاب الناس... بل هي تحرير الفرد من الخوف... فالحرّية هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة"
4 ـ الّسيادة في النظام الديمقراطي :
الديمقراطية كلمة يونانية الأصل مكوّنة من لفظينdemos     أي الشعب، وkrats  أي السلطة،
 و هذا ما يفيد معنى "حكم الشعب" أو "سلطة الشعب". و حيث تكون الديمقراطية نظاما يراد به أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، فتكون السّيادة له و ليست محصورة بيد أقلّية من البشر. و لقد سادت الديمقراطية معظم دول العالم المتحضّر، و بدأت الدعوات التي تطالب بهذا النظام في العالم العربي انطلاقا من ثورة تونس تظهر بشكل سلميّ أحيانا و بشكل عنيف أحيانا أخرى؛ و تتجسّد سيادة الشعب في النظام الديمقراطي من خلال ثلاث صور:


الديمقراطية المباشرة: هي الصورة الحقيقية لمبدأ السّيادة الشعبية، إذ لا تقبل الإرادة العامة كما قلنا الإنابة أو التمثيل.
ج. ج. روسو  يدافع على الديمقراطية المباشرة لأنّها الصورة الوحيدة التي تتماهى فيها السّيادة و المواطنة.

الديمقراطية شبه المباشرة: تقوم على وجود برلمان منتخب يتولّى سنّ القوانين، و لكن للشعب الحقّ في الاعتراض على القوانين التي يسنّها البرلمان، أو له الحقّ في اقتراح القوانين، و للشعب أيضاً الحقّ في مراقبة النوّاب و البرلمان.

الديمقراطية التمثيلية: وفقاً للنظام الديمقراطي التمثيلي فإنّ السّيادة لا تمارس من قبل الشعب مباشرة، و إنّما يعهد بها إلى ممثّلين منتخبين، و هكذا فإنّ التمثيل يكون بمثابة صلة وصل بين المواطن و السلطة.


الديمقراطية قوّة هائلة في تحريك المجتمعات الإنسانية:
 تجعل الحرّية قاسما مشتركا لكافة المواطنين.
 ترفع الخوف من السّيادة و تضمن هيبة الدولة.
 تجعل الإنسان مواطنا و المواطن إنسانا.
  توجد التوازن بين الحكومة و المعارضة.
تفسح المجال العقلي للنقاش و الحوار و الإقناع.
 تفتح آفاق الإبداع و التعدّدية و الاختلاف.
 تدير الصراع السياسي والاجتماعي بشكل سلمي.
 تجعل من الشعب في نفس الوقت حاكما و محكوما.
ç إذا كانت الديمقراطية هي النظام الأنسب للسّيادة العاقلة فإنّ اللائكية هي ما به يحافظ هذا العقل على اتّزانه و ثباته حيث تتحرّر السّيادة من قوى الانفعال التي عادة ما توظّف للقمع و الاستبداد أو للاستكانة و الصبر. و قد رفع سبينوزا في مؤلّفاته اللّثام عن هذا التوظيف:
 >العبد: الذي تحرّكه قوى الانفعال و يخضع للانفعالات الحزينة.
> رجل الدين: الذي تحزنه انفعالات العبد الحزينة.
 >رجل الدولة: الذي يستغلّ هذا الوضع فيستخدم الانفعالات الحزينة لتدعيم نفوذه و سلطانه.
و لعلّ هذا المعنى هو الذي قصده ألبير كامو عندما قال: "أنّ محاكم التفتيش هي حصيلة اندماج الدين بالسياسة " و هذا الاندماج إذا كان يخدم السياسة و رجال الدين لتبرير القمع و الاستبداد و الدعوة إلى الاستكانة و الصبر ـ كما بينّ ذلك سبينوزا ـ فهو لا يخدم الدين و لا المتديّن. [7]
و حتّى يستعيد الإنسان في فضاء السّيادة عافيته و مكانته كمواطن يجب أن يستعيد العقل مقامه أمام قوى الانفعال و العاطفة، و تستعيد الإرادة دورها في تحويل الخضوع طاعة و الطاعة حريّة؛ و الإرادة كما توظّف في خدمة الحريّة و العقل توظّف في خدمة العبوديّة و الخضوع.
و عندها يصحّ القول بأنّ بقاء السّيادة يتوقّف على الإرادة الحرّة لمواطنيها، فما أن تضعف هذه الإرادة أو تنقطع حتّى يصبح وجود الدولة مهدّدا بالزوال؛ وعزل المستبدّ لا يكون بمحاربته أو مقاومته أو حتّى بالقضاء عليه و إنّما يكون بتغيير في الإرادة أو برفض للطاعة، فلا يتعلّق الأمر بانتزاع شيء من المستبدّ و إنّما بعدم تقديم شيء له.  هذا يعني أنّ الشعوب هي التي تصنع المستبدّ وهي الوحيدة القادرة إذا أرادت على عزله. و المستبدّ يكون كذلك بإرادة الشعب و إذا أراد غير ذلك تحرّر، هذا الموقف يذكّرنا بما قاله أبو القاسم الشابي بخصوص إرادة الشعب:
إذا الشعب يوما أراد الحياة   «««   فلا بدّ أن يستجيب القدر
ولا بدّ لليل أن ينجلي      «««       ولا بدّ للقيد أن ينكسر
"الشّعب يريد إسقاط النظام" هذا شعار الثورة في تونس و شملت انفلونزا الثورة مجمل البلاد العربية، إذا أراد الشعب كان ما يريد، و ما كان  في ما مضى هو ما أراده الشعب قبل ذلك، فإذا كان النظام استبداديّا فهذه إرادة العبيد المريضة بوهن في العقل و استحكام الانفعال و إذا كان ديمقراطيّا فهذه إرادة الأحرار و قد استعادت عافيتها فانتفضت ثورة و رفضا و مقاومة، فليس كما نكون يولّى علينا بل كما نريد، و ما نريده يكون.
و السياسة الحديثة لا تتأسّس ضدّ المواطن بل مع المواطن كما بيّن ذلك لاحقا ميشال فوكو. هذا ما راهن عليه الفكر السياسي في عصر الأنوار وهذه الفكرة التي رسمتها الفلسفة السياسية للمواطن و الدولة، مواطن إنسان يتمتّع بكلّ حقوقه السياسية و المدنية و الاجتماعية و الاقتصادية و دولة تنبني على أساس المشروعية و الإرادة العامة و استمراريتها مشروطة بمدى استجابتها للإرادة العامة مستندة في ذلك إلى سلطة القانون و قوّته. رغم ما يثيره الجمع بين القانون و القوّة من مشكل في الدولة ذلك أنّ الدولة بهذا المعنى تحتاج لتطبيق القانون إلى نوع من القوّة  و هذه القوة هي ما يسمّى بالعنف المشروع و قد اعتبر ريكور في كتابه التاريخ و الحقيقة أنّه "ظهر مع الدولة ضرب من العنف له سمات شرعية و هذا الجمع بين القانون و الدولة يمثّل مشكلا". و قد كشفنا في حديثنا عن الاستبداد شكلا من أشكال هذا المشكل.  و ليس هنالك من حلّ لتذليل مشكل العلاقة بين القانون و القوّة داخل سيادة الدولة إلاّ بتحويل السّيادة ذاتها فضاء للمواطنة و ليست نفيا لها أي فضاء للحقّ  و العدالة.
فلاسفـــة العقــــــد

هوبس
سيادة القوّة
* لتجاوز حالة الطبيعة أو حالة الحرب و الموت العنيف.
* غاية السّيادة المطلقة حفظ الحياة و ضمان الأمن.
 * ضرورة التنازل عن كلّ الحقوق الطبيعية لصاحب السّيادة.
* نظام استبدادي أو كلياني.
* سلطة التنّين رمز القوّة المطلقة.
État-Leviathan
لوك
سيادة الوفاق
* غياب السلطة المشتركة.
* لا تنازل و إنّما تفويض.
* تأمين الخير و الملكية الخاصّة.
* نظام ليبيرالي
* سلطة الخير و المنفعة.
 
Trust 
سبينوزا
سيادة القانون
* في حالة الطبيعة يهيمن قانون الغاب.
* في المجتمع المدني تنظّم الحياة وفق مقتضيات العقل.
* العقد تأمين للحقّ.
* نظام ديمقراطي [الحرّية]
* سلطة العقل
Etat de liberté

روسو
سيادة الحقّ
* الخوف من فقدان الحرّية.
* تأمين الحقوق المدنية.
* القانون ضامن للحرّية.
* نظام ديمقراطي [الحقّ]
* سلطة الإرادة العامة
Etat de droit



هوبز: " العهود بدون سيف ليست سوى كلمات لا قدرة لها بتاتا على المحافظة على حياة الإنسان، و الكلمات أضعف من أن تستطيع ردع طموح الأفراد أو طمعهم أو غضبهم أو انفعالاتهم إلاّ إذا اقترنت بقوّة تؤيّدها أو سلطة تبعث الخوف في نفوسهم"
ج. روسو: "ليس الأقوى بقوي دائما قوّة تجعله يسود أبدا إذا لم يحوّل قوّته حقّا والطاعة واجبا"
ج. روسو: "لنتّفق إذا على أنّ القوّة لا توجد الحقّ، وعلى أن ليس للمرء إلاّ أن يطيع ذوي السلطان الشرعي"
ج. لوك: "بما أنّ البشر يولدون متساوين في الحرّية التامّة، و في حقّ التمتّع بكلّ الحقوق و الامتيازات التي تخوّلها لهم قوانين الطبيعة، في أمن دون صراع، فإنّ كلّ واحد له بحكم الطبيعة، القدرة ليس فحسب على المحافظة على ممتلكاته الخاصّة أي حياته و حريّته و ثرواته [...]  بل أيضا أن يحاكم كلّ من ينتهك قوانين الطبيعة و يعاقبه"
سبينوزا: " ترتبط الديمقراطية بالعقل و تهتدي به، فهو الذي يجنّب الإنسان دواعي الشهوة و يحقّق الفضيلة و يدفع بالرغبة إلى تنفيذ أوامر السلطة الديمقراطية. هذا التنفيذ للأوامر أو ما يصطلح عليه بمفهوم الطاعة، يعدّ إحدى مبادئ الحكم الديمقراطي، التي تمكّن المواطن كعنصر فاعل في المجتمع من خدمة المصلحة العامة، بالاستجابة لقوانين السلطة العليا و الخضوع لها، لأنّها تتوافق مع قوانين العقل"




 الهوامش:
[1] تقول المادة الثانية لإعلان حقوق الإنسان "إنّ هدف كلّ تجمّع سياسي المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية الدائمة... "  نلاحظ عندئذ أنّ ما تفيده هذه المادة هو أنّ الإنسان لم يوجد من أجل الدولة كما اعتقد هيجل بل جعلت الدولة لخدمة الإنسان.
 [2] - Spinoza :Traité politique – traduit par M. Francis –Gallimard. Paris 1954- chapitre II paragraphe 3
[3] لا يمكن أن تكون هذه الهيئة مقرّرة لأنّه لا يجوز أن توجد قوى متطابقة في قوّتها و إرادتها، في الفصل”السابع من رسالة في اللاهوت و السياسة” لا يرى سبينوزا حرجا في أن يكون الحاكم ”ملكا“، بشرط أن يكون إلى جانب الملك مجلس كبير منتحب من طرف الشعب”. لذلك يمزج سبينوزا بين الملكية و الجمهورية، حتّى و إن ظلّ سبينوزا يفضّل النظام الجمهوري لأنّه يجسّد مبدأ حكم الشعب عن طريق ممثّليه، لكن ملكية ديمقراطية خير من استبداد مطلق.
[4] رسالة في اللاهوت و السياسة، الفصل: 16 ص: 379
[5] علم الأخلاق ـ ج. 4 / القضية: 37
[6] لقد تحدّث سبينوزا عن ما يسمّيه القانون الشامل للطبيعة و ذلك في كتابه رسالة في اللاهوت و السياسة  ـ الفصل16ص: 380 وهو مبدأ يمكن صياغته بهذا الشكل بين  أكثر من شرّ نختار الأدنى و بين أكثر من  خير نختار الأعظم. 
[7]  يحتوي الكتاب المدرسي على تحديد دقيق لدلالة اللائكيّة [كتاب العلوم ص: 322]
طريق النجاح نتقدّم بجزيل الشكر للزميل: الصّحبي بوقرّة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق