إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الأربعاء، 8 مايو 2013

ـ 3 ـ في التظنّن على السّيادة و المواطنة

الدّرس الثالث: 
إنجاز الصحبي بوقرّة ـ أستاذ ملرّز في الفلسفة ـ
1 ـ  في نقد الديمقراطية و الدولة:
هل يحقّ لنا نقد الديمقراطية ؟ فإذا كانت الديمقراطية هي النظام المثالي الذي داخله يمكن الحديث عن السّيادة و المواطنة فكيف يمكن التشكيك فيها ؟ بل هل يحقّ لنا  التظنّن على ما أساسه يقوم كلّ حقّ و مشروعيّة ؟
نؤكّد في البدء أنّ ما يدفعنا لاستئناف التفكير في السّيادة في ظلّ النظام الديمقراطي ذاته لا يندرج ضمن الدعوة إلى القطع مع الديمقراطية أو ضمن موقف يائس منها و إنّما يندرج بالنسبة إلينا ضمن مطلب الديمقراطية و الدعوة إليها، لأنّ هذا النقد لا يكون إلاّ على خلفية رفع تناقضات هذا النظام من جهة، و لأنّ الديمقراطية تظلّ رغم تناقضاتها أفضل الممكنات بالنسبة لنظام يمكن أن يضمن توازن المجتمع من جهة ثانية. و في الحقيقة كثيرة هي المبرّرات التي تدفعنا اليوم للتظنّن على السّيادة القائمة على النظام الديمقراطي بدءا بالمَأْتَى مرورا عبر المفهوم وصولا إلى الواقع و الضرورة التاريخية:
ç فمن جهة المأتى: الديمقراطية عنصرية في أصلها الإغريقي و الروماني، إذ لم تكن تعتبر المرأة الأثينية مواطنة و كان النظام الديمقراطي يقوم على أساس عبودي، و لعلّ هذا ما  يدفعنا للتمييز  بين الدلالة الكلاسيكية للديمقراطية و دلالتها التعاقدية خاصّة عند روسو و سبينوزا.
 çو من جهة المفهوم: فالديمقراطية تحيل على سلطة الشعب، و نظرا للاختلاف القائم داخل الشعب الواحد فإنّ هذه الديمقراطية ستكون لصالح سلطة الأغلبية، وهي بهذا المعنى ستكون نفيا لذاتها لأنّها ستكون في مضمونها تهديدا لحقوق الأقلّيات.
ç و من جهة الواقع: يكشف الواقع تفاوتا طبقيا، يصل إلى حدّ التناقض يثير هذا التناقض مشكل العدل و المساواة، بل قد يدفعنا إلى الاشتباه في الحقّ ذاته كما فعل ماركس في تمييزه بين حقّ الإنسان و المواطن.
ç و من جهة الضرورة التاريخية: فإذا كانت السّيادة الدولة تعبّر عن لحظة تاريخية، فإنّها ستكون بمثابة النموذج في العلم الذي يكون حلاّ لمشكل تاريخي، فإذا تغيّرت طموحات الإنسان و حاجياته الاجتماعيّة فقدت السّيادة كلّ قيمة.
و بالفعل إذا كان هيقل يعتمد على التاريخ ليثبت تعالي الدولة، فإنّ تاريخ ميلاد الدولة أو تاريخ تطوّر المجتمعات البدائية يكشف بدوره مبرّرات نشأة الدولة و يبّين في ذات الحين علاقة الدولة بالمجتمع، إذ لم تكن هناك في المجتمعات القديمة دولة رغم وجود الناس، و رغم وجود أناس أقوياء فقد "مرّ عهد لم يكن فيه للدولة وجود و كانت فيه العلاقات العامة تستند على المجتمع نفسه و النظام و تنظيم العمل على قوّة العادات و التقاليد و على النفوذ و الاحترام الذي يتمتّع به شيوخ السلالة" هكذا تحدّث لينين، و لكن هذا الوضع لم يدم إذ بلغ التطوّر الاقتصادي درجة فرضت انقسام المجتمع إلى مالكين و عبيد و لكي يضمن الإقطاعيون الاستقرار الضروري للإنتاج كان لا بدّ من إقناع العبيد بعدالة النظام فوُضعت القوانين و نشأت السلطة القانونية، و هذا يكشف أنّ التاريخ لا يثبت تعالي الدولة كما يقول هيقل، بل يكشف تورّط الدولة مع الطبقة الصاعدة اقتصاديا، و في هذا تجاوز للطرح الهيقلي إذ ليست الدولة  "سلطة فرضت من الخارج على المجتمع و ليست هي حقيقة الفكرة الأخلاقية أو صورة حقيقة العقل بل هي ثمرة المجتمع في مرحلة معيّنة من نموّه وهي الدليل على أنّ المجتمع يتخبّط في تناقض مع نفسه يستعصي على الحلّ" [1] و يختصر لينين هذا المعني بالقول: " الدولة هي ثمرة التناقضات الطبقية المتناحرة و مظهرها ".
ç فظهور الدولة مرتبط بظهور الملكية الخاصّة لوسائل الإنتاج و أدوات الإنتاج، فالمجتمعات التي لم تكن فيها ملكية لوسائل الإنتاج لم تعرف الدولة، لأنّها لم تكن في حاجة إليها، لذلك تظهر الدولة و كأنّها جهاز فوق المجتمع في حين أنّها تعبير عن طبقة من طبقات هذا المجتمع، بحيث تكون الدولة أداة قمع أو هي كما يقول لينين "آلة لصيانة سيادة طبقة على أخرى "
   Marx :" L'Etat est la forme par laquelle les individus d'une classe dominante font valoir leurs intérêts communs. "    Idéologie allemande   
لذلك لا تمثّل الدولة ضرورة أبدية بل إنّها قابلة للاضمحلال و التهافت و ذلك بزوال شروط تشكّلها، و نحن لا نحتاج في رفضنا للدولة إلى إلغائها بل إلى إزالة شروط تحقّقها و عندها تضمحلّ.[2]
Engels : " La société, qui réorganisera la production sur la base d'une association libre et égalitaire des producteurs, reléguera toute la machine de l'Etat là ou sera dorénavant sa
place: au musée des antiquités. "
هكذا كان يتحدّث ماركس عن وعي شقيّ يخلق القيم و يعبدها بالقول: "اصطنع البشر باستمرار، حتّى الوقت الحاضر، تصوّرات خاطئة عن أنفسهم و عن ماهيتهم و عمّا يجب أن يكونوه. و لقد نظّموا علاقاتهم وفقاً لأفكارهم عن الله و الإنسان؛ و لقد كبرت منتجات عقولهم هذه حتّى هيمنت عليهم، فإذا هم الخالقون ينحنون أمام مخلوقاتهم. ألا فلنحرّرهم إذن من الأوهام و الأفكار و العقائد و الكائنات الخيالية التي يرزحون تحت نيرها"،[3] الدولة من صنع الإنسان و لكن ليس لخدمة الإنسان بل لاستعباده و السيطرة عليه ، هذا المعنى هو الذي جعل نيتشة يعتبر في كتابه "جينيالوجيا الأخلاق" أنّ الإنسان هو المذنب في حقّ ذاته، و أنّ برودة الدولة أو وحشية تعاملها مع الإنسان سببها الإنسان ذاته، باعتباره انتصارا للعدميّة و النفي.
2 ـ في نقد المواطنة:
معاينة صورة المواطن على ضوء ملامح حضارة التصنيع و الاستهلاك و ما تميّزت به من تركيز على المنفعة و المردودية أدّى إلى تفتّت و تشظّي صورة الإنسان و من خلفها صورة المواطن و بدأت أعراض الحضارة بما تحمله من أمراض تنتقل إلى المواطن.  فكيف ساهمت هذه الأعراض في تفتّت فكرة المواطن و أين تظهر ملامح هذا التفتّت ؟ و بأيّ معنى يكون الانخراط في حضارة الاستهلاك و التصنيع دليل أفول زمن المواطن و الإنسان ؟
تتميّز حضارة التصنيع كما أبرزها ماركوز في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد، بأنّها حضارة يغلب عليها مبدأ المردودية، و أنّ علاقة الإنسان بالإنسان هي علاقات نفعية عقلانية مجرّدة تعاقدية نفعية براغماتية شرسة، و تهيمن في ظلّ هذا التصوّر رؤية اختزالية و أداتيّة للإنسان، و تظهر هذه الرؤى للإنسان من خلال العملية الاستهلاكية التي تقوم بتغيير وجه العالم و الحياة الاجتماعية و تحوّل كلّ شيء إلى سلعة حيث يصبح لكلّ شيء مقابل و خاضعا للتبادل النفعي. و قد تحدثّنا عن هذا الجانب المتشيِّءِ و المغترب للإنسان في معرض نقدنا للكلّي الايديولوجي أو لكلّي العولمة أو النظام الواحد،  فكلّ شيء في هذا المجتمع خاضع للنظام غير أنّ النظام بهذا المعنى هو عنصر إفساد. فهل يمكن أن نتحدّث عن مواطن في ظلّ هذا النظام ؟
لو تتبّعنا السياق السياسي الذي من المفروض أن تتحقّق فيه المواطنة لوجدنا أنّه ملغّم بالعديد من الانتهاكات فإذا كان شرط تحقّق المواطن هو تمتّع المواطن بأهمّ حقوقه مثل الحرّية و الديمقراطية و احترام إنسانية الإنسان فإنّ خاصّية المجتمع الصناعي و سياسة البعد الواحد "يلقى تحبيذا من صنّاع السياسة" فتقنيات التصنيع هي تقنيات سياسية و من هنا فإنّها تدين سلفا أهداف العقل و الحرّية". فما تعمل عليه القوّة السياسية داخل المجتمع ليس حماية الحرّية الإنسانية بل تسعى إلى إلغائها عبر ممارستها لأنواع من الرقابة و الإخضاع للنظام فالحكومة كما يقول ماركوز لها دور قوّة "الرّقابة"، إذا كان المطلوب هو التعدّدية داخل المجتمع السياسي الديمقراطي فإنّ البعد الواحد قد ألغى فكرة التعدّدية السياسية بقضائها على برامج المعارضة. و هو ما حوّل: "برامج الأحزاب الكبيرة التي بلغت درجة متماثلة من الرّياء." بحيث لا يستطيع المواطنون التمييز بين الأحزاب لقوّة اتّحادهم و تماثلهم ممّا يعسر إمكانية التغيير الاجتماعي و الإبقاء على نفس النظام القائم و يحصل اندماجا سياسيا. وإذا كان من حقّ المواطن حريّة التفكير و التعبير فإنّ المجتمع السياسي الصّناعي من خلال العقلانية التكنولوجية يطمح إلى تصفية العناصر المعارضة و المتعالية في "الثقافة الرفيعة" بما يحجب عنها القدرة على إبراز مظاهر التناحر و الاختلال في الواقع الاجتماعي لأنّ هذه الثقافة آخذة في التلاشي لتحلّ محلّها ثقافة استهلاكية تنتج بكثرة و تستهلك بكثرة سواء كانت موسيقى أو أدب "لأنّ أدب المجتمع الصناعي ليس مهمّته نفي النظام القائم بل توليده." و حتىّ كلمات الحرّية التي يلفظها الزعماء و السّياسيون في حملاتهم على الشاشات مجرّد كلمات دعائية لا معنى لها." و حتّى اللغة أصبحت مجرّد لغة آمرة و منظّمة" وهي التي تحثّ الناس على العمل و الشراء و القبول.
"إنّ كلّ هذا لا يمكن أن يعكس إلاّ صورة لإنسان خاضع مسلوب التفكير و الإرادة و الكلام و ليس مواطنا لأنّ المواطن من حقّه أن يعبّر بحرّية و يفكّر و يقبل و يرفض و يتصرّف بحرّية غير أنّ المجتمع الأحادي يسلبه كلّ هذه الحرّيات بمختلف أنواعها و لن يبقى لديه من حقّ سوى حقّ القبول و الامتثال. فأين هو المواطن أمام هذا الزخم من الإملاءات و التجاوزات ؟ و إذا كان شرط المواطن هو تمتّعه بالديمقراطية فإنّ ديمقراطية النظام الصّناعي: "هي التي تلغي بنفسها و بكلّ دعة و اطمئنان مبادئ الديمقراطية."
 إنّ ما يمكن الخلوص إليه أنّ حضارة التصنيع تتميّز باللاعقلانية غير أنّ هذه اللاعقلانية أصبحت تتمتّع بحقّ المواطنة و أنّ هذه الحضارة توجد في مأزق كبير لأنّها تغافلت عمّا يصير به الإنسان إنسانا و هو كرامته التي ضاعت قداستها. فهذه الحضارة اتّسمت بوأد القيم الإنسانية تحت ركام اقتصاد المزاحمات مقابل انتصار قيم التنافس و المردودية و النفعية و الاحتكار و هو ما ساهم في انعدام روح المواطنة و التعاون و أمسى المجتمع ذو بعد واحد مجتمع الإنتاج من أجل الاستهلاك و التجارة من أجل إنماء الدخل لتتحوّل التجارة من تبادل لإرضاء الحاجات الحياتية إلى صراعات تقتضي العنف و التحايل والخداع و التركيز على القوّة العسكرية التي تطوّرت من أداة للدّفاع عن النفس و الأوطان إلى أداة للسيطرة و التهديد و فرض الرأي و البضاعة و الفكر و الإيديولوجية.
تميّزت ملامح المواطن داخل المجتمع ذو البعد الواحد بتسارع خطواته نحو هاوية اللاعقل و التشيّؤ و الاغتراب عن طريق عقله الأداتي، هذا العقل الذي استفرد بحياة الإنسان الاجتماعية من خلال طبيعته السلطوية العنيفة الآمرة و حوّلها إلى مجرّد نسق انبطاحي. و أمام هذا الفراغ الإيتيقي مقابل تزايد الحاجات الزائفة تشظّت فكرة المواطن و أصبحت تئّن تحت تأثير وسائل الدعاية و أشكال التسويق و أنماط السلوك المرتبطة بنظام إنتاج صناعي و رأسمالي. حصرت علاقات الناس ببعضهم عن طريق عقل حسابي نفعي. فإذا كان من أبعاد المواطنة التضامنية هو تنازل المواطنون عن أنانيّتهم و وضع المصلحة العامة قبل أي اعتبار حفاظا على الوطن، فإنّه لم يعد ممكنا الحديث عن المواطن. إذ كيف لمجتمع يربّي أفراده على حبّهم لذواتهم و منافعهم و مصالحهم الخاصّة و تحقيق سعادتهم على حساب شقاء الآخرين أن يصنع منهم مواطنين أحرارا ؟ و هكذا تبدو صورة المواطن في المجتمع الصّناعي آخذة في التلاشي. و لكن هل يفضي القول بتلاشي صورة الإنسان في المجتمع الاستهلاكي و تشظّي قيمة المواطن إلى اليأس من المواطنة ؟ و هل يعني نقد المواطن نقد المواطنة ؟
كثيرة هي المسائل التي تدفعنا اليوم إلى التشاؤم لا سيما و أنّ "المواطن الأسير" يحمل ثقافة الجلاّد، مثقل بأصفاده، إذ أصبح الأجراء و العمّال يتدثّرون بقيم و حاجيات زائفة فهم مجرّد أدوات خاضعة للنظام و عقولهم المستسلمة لم تعد تقدر على التغيير و الثورة لأنّها انخرطت في هذا النظام و حصل تزييف في وعيها بواسطة التماثل "فإذا كان العامل و ربّ العمل يشاهدان نفس البرنامج التلفزيوني و إذا كانوا جميعا يقرؤون نفس الصحيفة فإنّ هذا لا يدلّ على زوال الطبقات و إنّما يشير على العكس إلى مدى مساهمة الطبقات السائدة في تحديد الحاجيات... " فإذا كان هؤلاء مشغولون بالاختيار بين تشكيلة هائلة من البضائع و الخدمات فإنّها تظلّ مجرّد حرّية وهمية زائفة "إذ أنّ قدرة المرء على اختيار أسياده بحرّية لا تلغي السّادة و لا العبيد."
يستغني الإنسان ذو البعد الواحد عن الحرّية بوهم الحرّية، إنّه ذلك الذي يتوهّم أنّه حرّ لأنّه يختار بين تشكيلة كبيرة من البضائع و الخدمات التي يكفلها المجتمع لتلبية حاجاته، إنّه كالعبد الذي يوهب الحرّية في اختيار سيّده ؟ و هل يكون حرّا من لا يختار إلاّ سيّدا ؟ و لذا يقول ماركوز إنّ الحرّية المنظّمة من قبل مجموع اضطهادي هي أداة قوية للسيطرة، حيث يفرغ هذا الإنسان من أي بعد نقدي ليعارض أو يطالب بالتغيير، ولا يبقى فيه إلاّ على البعد الإيجابي، الذي يقبل المجتمع و الواقع كما هو بل و يرضى به بسعادة، معتبرا أي موقف غير هذا موقفا غير منطقي و لا عقلاني. و هكذا ينتهي ماركوز  للقول إنّ دولة الرّفاه في حضارة التصنيع  تفرز عالما استبداديا توتاليتاريا أخطر و أقوى من كلّ النظم الاستبداديّة الأخرى، و لدولة الرّفاه القدرة على وأد أي محاولة لمعارضته بل و على دمج القوى الاجتماعية و استنفار و تعبئة جميع طاقات الإنسان لحمايتها و الذود عنها.
و بالتالي لا سبيل إلى تحرّر هذه الطبقة بعد أن تماثلت و خضعت في دولة الرّفاهة التي لم تنجز سوى افتقاد الحرّية في إطار ديمقراطي، و إنّ الحرّية الوحيدة المتبقّية "للمواطن الأسير" هي رضاءه التخلّي عن حرّيته بكلّ ديمقراطية. فإذا كانت بداية المجتمع الصّناعي قد تأسّست على الحقوق و الحرّيات فإنّ مرحلة متقدّمة تصبح ما به قام المجتمع لا قيمة له أمام تصاعد وتيرة الإنتاج و الاستهلاك. فهل من مخرج لمواطن فقد مواطنيّته ؟ إذا كان ماركوز قد فقد ثقته في الطبقة العاملة باعتبار اندماجها في النظام القائم فإنّه يجعل باب الأمل مفتوحا أمام المعطّلين والمهمّشين في المجتمع الصناعي لإحداث تغيير؟ فهل معنى ذلك أنّ المواطن الحقيقي هو الإنسان المهمّش باعتباره لازال قادرا على الرّفض و التمرّد و الثورة و قول "لا" أمام السلطة الاستبدادية ؟
قدّمت لنا الثورة التونسية إجابة واقعيّة و دقيقة عن هذا السؤال ففي غياب المثقّف و النخبة و المواطن الذي انخرط في الحياة الاقتصادية و استهلكه الاستهلاك و أفنته مشاغل اليوميّ، انتفض الإنسان الذي لم يتحوّل بعد مواطنا متواطئا مع النظام، انتفض المهمّش و المغيّب و المعدم و الفقير. و هكذا في زمن التناقضات تنجب السّيادة اليوم مواطنا بلا كرامة أو إنسانا بلا حقوق، و الثورة بهذا المعنى ليست إلاّ تعبيرة الرّفض للسّيادة و للمواطنة دون كرامة. و الثورة هي هذا الانحراف السياسي من خطّ التواطؤ و القبول إلى خطّ المواجهة و الرّفض.
و في زمن التناقضات أيضا تصنع دولة الرّفاه المواطن و لكنّها لا تصنع الإنسان، و الغريب أنّه من المفترض أنّ حضارة التصنيع جاءت من أجل تيسير حياة الناس و تعميم الرخاء و نشر الحرّية و الديمقراطية لا من أجل تفقير الناس أو تجويعهم و من أجل استبعادهم أو استعبادهم. و أسوأ ما في الأمر حلول الانغلاق في المجتمع من خلال تعميق الهوّة بين أقلّية في يدها الحلّ و العقد و اتّخاذ القرار و خضوع وسائل الاتّصال الجماهيري من ثقافة و فنّ و إعلام تحت سلطة هؤلاء. لقد فات الأوان، إذ انفلتت التقنية من قبضة الإنسان و عوض أن يصارع بها إنّه يصارعها فتنتصر، بغسل دماغه و تفكيك وعيه، و لعلّ هذا ما تفطّن إليه إريك فروم لحظة تحدّث عن هشاشة المواطن اليوم و هوانه زمن هيمنة التقنية الدعائيّة و البروباغاندا.
إريك فروم: "يجب حظر كلّ أساليب غسل المخّ المستخدمة في الإعلانات السياسية و الصّناعية، فخطورة أساليب غسل المخّ تلك لا تقتصر على دفعنا إلى شراء أشياء نريدها، و لسنا بحاجة إليها، و إنّما هي أيضا تقودنا لاختيار ممثّلين سياسين لا يمكن أن نريدهم، أو نحتاج إليهم لو كناّ مالكين تماما لقدراتنا الذهنية، فالحقيقة أنّ أساليب الإعلان التي توجّهنا نجحت في جعلنا غير مالكين تماما لقدراتنا الذهنيّة بفضل التشابه بين  تلك الأساليب و أساليب الإيحاء المتّبعة في التنويم المغناطيسي؛ و لدرء هذا الخطر، يجب منع الأساليب الإيحائية المغيّبة للعقل في الدعاية للسّلع أو للسياسيين""الإنسان بين الجوهر و العرض"
يكشف راهن السّيادة اليوم في ظلّ النظم الديمقراطية أو غيرها من النظم كيف أنّ الدولة اليوم تحوز مكوّنين إثنين بدل "الخوف" أو" القوّة" أو الحقّ... يبطلان أيّ معارضة أو مقاومة بل يضمنان مواطنة و موافقة، المكوّن الأوّل للسّيادة اليوم هو أنّها كما قلنا دولة رفاه، مع أنّها في الحقيقة دولة تبذير تعمل دوما على خلق حاجات مصطنعة للناس و من ثمّ تلبيها، أمّا المكوّن الثاني فهو أنّها دولة حرب دائمة، تستنفر كلّ القوى لمواجهة الخطر الدائم و المهدّد لها(كالحرب النووية أو الغزو الخارجي و خطر الشيوعية)، حيث تعمل دوما على التذكير بذلك الخطر لكبح و دمج القوى التي لم يستطع الجهاز قمعها و دمجها.
ماركوز:" إنّ الجهاز الإنتاجي و السلع و الخدمات التي ينتجها تفرض النظام الاجتماعي من حيث أنّه مجموع، فوسائل النقل و الاتّصال الجماهيري و تسهيلات المسكن و الملبس و الإنتاج المتعاظم لصناعة أوقات الفراغ و الإعلام، هذا كلّه يترتّب عليه مواقف و عادات مفروضة و ردود أفعال فكرية و انفعالية، تربط المستهلك بالمنتج بصورة محبّبة، و من ثمّ تربطهم بالمجموع، إنّ المنتجات تكيف الناس مذهبيا و تشرطهم، و تصنع وعيا زائفا عديم الإحساس بما فيه من زيف" "الإنسان ذو البعد الواحد، 48."
3 ـ في الحاجة إلى براديغم جديد للمواطنة:
" يلزمنا نموذج جديد للمواطنة العالميّة يمكنه أنّ يحطّم الرابطة بين الانتماء و الإقليميّة" هكذا تحدّث ستيفان كاستلاس عندما كشف الالتباس في "المواطنة الديمقراطيّة" التي تفرض في الآن الانتماء السياسي و الانتماء الثقافي، و لكن هذا التجانس يبدو  إشكاليّا، "فالتنوّع الاتنو ـ ثقافي يجعل التجانس الثقافي مستحيل التحقّق" و هذا يعني أنّ القاعدة التي تقول بأنّه لا يحقّ للفرد إلاّ الانتماء سياسيا و ثقافيا لدولة أو أمّة واحدة غير قابلة للتحقّق، بل و غير ممكنة إلاّ بالإكراه و التعسّف و بالتالي بنفي الديمقراطيّة ذاتها أو بنفي المواطنة في معناها الكوني.
كاستلاس: "على الأفراد أن يكونوا قادرين على ممارسة حقوقهم من جهة كونهم كائنات بشريّة و ليس من جهة كونهم كائنات قوميّة. و قد يكون هذا النموذج متعدّد الثقافات بالمعنى الذي قد يعترف فيه بالتنوّع العرقي". العولمة و الهجرة ـ المجلّة الدولية للعلوم الاجتماعية عدد: 156
البحث عن باراديغم جديد للمواطنة و للديمقراطية ليس مطلبا بمعنى النافلة بل مطلب بمعنى الشرط الضروري الذي دونه لا يمكن تجاوز معضلات الشأن السياسي و الثقافي على حدّ السواء، مواطنة تمكّننا من القطع مع باراديغم "الإنسان الفرد" في شكله الاستبدادي، و في شكله الليبيرالي، أو مواطنة كونيّة تعترف بالتنوّع، تقوم على "دستور كوني... لكلّ ما هو جوهري بالنسبة إلى السّلم الدائمة" كما عبرّ عن ذلك كانط، حيث يصبح الإنسان غاية ذاته و يصبح الآخر غاية في ذاته، هكذا تبنى المواطنة الكونيّة على أساس إيتيقي، بحيث نستعيد للسياسة أخلاقها و نقطع مع القطع الميكيافيلي بين السياسة و الأخلاق، و لكن لا معنى لهذا الأساس الإيتيقي إذا لم نتحرّر من صورة الذئب التي رسم بها هوبس ملامح الإنسان، و إذا لم نقطع مع العقل الأداتي الذي اختزل الإنسان في منطق المنفعة و المصلحة، فنواجه هذا العقل المهوس بالقيم البراغماتيّة، الذرائعيّة و الاستراتيجيّة، بعقل تواصلي يستعيض عن العنف بالحوار، و عن الصراع بالاعتراف المتبادل. كما أنّ البحث عن باراديغم جديد للمواطنة يشترط كذلك باراديغم جديدا للديمقراطيّة، يتجاوز مزالق النظم الديمقراطيّة اليوم، التي ظاهرها ديمقراطي و فعلها هيمني إرهابي، هذا  الباراديغم الجديد يسمّيه إدغار موران "المواطنة المركبّة" الذي قد يكون رهين تربية المستقبل و لكنّه المدخل الأساس إلى سياسة الإنسان؛ ديمقراطية لا تتحددّ وفق منطق الوحدة و التجانس الاجتماعي و إنّما و فق جدل الكثرة و الوحدة، بحيث يكون التجانس اختلافيا و الاختلاف توافقيا.
الهوامش:
   [1]Engles : " l'origine de la famille, de la propriété privée et de l'Etat" p:155
[2] لينين: الدولة لا تلغى إنّها تضمحلّ
[3] كارل ماركس و فريدريك انغلز، الأيديولوجية الألمانية، ترجمة فؤاد أيوب، دار دمشق، ص: 19
طريق النجاح: شكرا للأستاذ: الصحبي بوقرّة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق