إذا أردت أن تزرع لعام واحد، فازرع قمحا٬ و إذا أردت أن تزرع لعشرة أعوام٬ فازرع شجرا، أمّا إذا أردت أن
تزرع لمائة عام... فازرع إنسانا... (مثل صيني)
الإنسانيّ… بين الكثرة و
الوحدة.
مدخل:
الفلسفة، هي ملحمة الملاحم، لأنّها تعبير عن مغامرة فكريّة للإنسان، لا نعرف
بدايتها، و لن تعرف مستقرّا… هي مغامرة السّؤال اللافح الضمئ… هي مغامرة العقل
العاشق لحقيقة تُغويه فلا يطالها، لا لشيء إلاّ لأنّها " كالشمس كلّما انتقبت
يسيرا، استعلنت كثيرا، فلمّا أمعنت في التجلّي كان نورُها حجابَ نورها…" و
الكلام لابن سينا. منذ البدء كان هاجس الفلاسفة الما قبل سقراطيين مساءلة أصل العالم، هذا الكلّ المتجانس و العجيب
هذه الكثرة المتكاثفة المتآلفة رغم تداخلها و التباسها الظاهر،
إنّ هذه الأفكار، إذ ردّت العـالم إلى أصل ذرّي بسيط منطلقـة من إرجاع
الكثـافة إلى الوحدة كمبدأ قد أسهمت فلسفيـا في طرح إشكـالات هـامّة من أبرزها:
كيف تتحوّل الوحدة إلى كثرة ؟ و كيف نردّ ما هو متكثّر إلى وحدة ممكنة ؟ هل يصحّ
هـذا المنطق على المفهوم الفلسفي؟ هل يمكننـا استيراد هذا النموذج الذرّي في فهم
العالم لنفهم به مشكلة الإنساني و معضلة الإنسان هذا الكائن الذي يعيش في العالم و
في وعيه عوالم ؟ هذا الكائن المتفرّد وعيا و جسدا، و المتكثّر علائقيا و كونيّا… و
لكن بأيّ معنى يمكن فهم الإنسان كوحدة ؟ أ بالنظر إلى وعيه… إلى جسده… أم
إلى غرائزه ... أم إلى ما هو إنساني فيه ؟ ألا يكون ما هو إنسانيّ في الإنسان
مؤسّسا لمنطق تكثّري قد لا نستطيع محـاصرته إلاّ بضرب من ضروب الحذر و المجازفة
خصوصا إذا ما فجرّنا إنيّة الإنسان انفتاحا صوب الغيريّة المفروضة فرضا على وجوده
الذي لن يفهم إلاّ كـ «وجود مع الآخرين» على حدّ تعبير ”مارتن هيدڤار“؟… لكنّ كلّ هذه الأسئلة المتعلّقة
بالإنسان و الإنسانيّ، هي الأخرى متقاطعة مع أسئلة أخرى و هواجس أخرى مثل أزمة
الهوّية و هاجس الخصوصيّة و معضلة الكونية… و هي في مجملها مشاكل إن أثيرت لن تكون
إجاباتنا بشأنها إلاّ متاهة تفضي بنا إلى متاهة، لا لشيء إلاّ لأنّ الإنسان كما
عبّر عنه ”شارلز داروين“ في مقدّمة كتاب ”أصل الأنواع“: «لا يزال قادرا على الإفلات من ثقوب الشباك
التي نحاول أن نصيده بها» و لكن برغم ذلك، يظلّ التفكير فيه شرفا
للمفكِّر و تشريفا للمفكَّر فيه… لأنّ "ما يهمّ في الفلسفة عادة، ليس بلوغ
الهدف، بل المهمّ هو تلك الأشياء التي يلتقيها الفيلسوف في الطريق" والعبارة ِلـ ”هافيلوك إيليس“ في كتاب ”رقص الحياة“…
الإنيّة و الغيريّة:
تعريف الإنيّة و الغيريّة:
الإنية: * لسان العرب " ابن منظور":" من الجذر "إنّ" وهو
حرف تأكيد و إثبات... يعني نعم و "إنى" الشيء بلوغه و إدراكه و
"أني " "تأنّى" و "استأنّى" تثبّت
و"إني" و "إنّني" بمعنى إنّي كذلك..."
* المعجم الفلسفي" جميل صليبا" :"الإنيّة اصطلاح فلسفي قديم معناه تحقّق
الوجود العيني، يقول الجرجاني في "التعريفات":" الإنيّة
هي تحقّق الوجود العيني من حيث مرتبته الذاتية"... و يقول الكندي: "إنّ كلّ ما له إنيّة له
حقيقة..."(رسائل الكندي الفلسفية)... و قال: "و الخاصّة هي
المقولة على نوع واحد وعلى كلّ واحد من أشخاصه منبئة عن إنيّة الشيء" (نفس
المصدر السابق) و سواء أقُلتَ الإنيّة نسبة إلى الأنا أو الأينية نسبة على (أين)
أي الوجود في المكان أو الأيية ( من أي) نسبة الى المقول جواب أي شيء هو أو
الإنيّة نسبة إلى إنّ فإنّ جميع هذه الألفاظ تدلّ على تحقّق الوجود. .. و معناها قريب من معنى الهوّية... و
كثيرا ما يجيء معنى الإنيّة والهذيّة (من هذا) بمعنى واحد..."
الغيرية: * لسان العرب "ابن منظور": غير من حروف المعاني، تكون نعتا
وتكون بمعنى لا و ليس... و سوى و تفيد الاستثناء... و قد تفيد تغيّر الحال و تغيّر
الشيء عن حاله تحوّل و تبدّل وغيّر عليه الأمر حوّله و تغايرت الأشياء اختلفت
والمغايرة المبادلة ...."
* المعجم الفلسفي" جميل صليبا": الغيريّة مشتقّة من الغير وهو كلّ
من الشيئين خلاف الآخر... و يقابلها الهوّية و العينية (الشيء عينه أي ذاته)... و
لفظ الغير في علم النفس مقابل للفظ أنا فكلّ ما كان موجودا خارج الذات
المدركة أو مستقلاّ عنها كان غيرها و نحن نطلق على الشيء الموجود خارج الأنا اسم
اللاأنا أو الآخر... و الغيرية عند المحدثين هي الإيثار وهي مقابلة للأنانية
و تطلق في علم النفس على الميل الطبيعي إلى الغير... و يقول ابن رشد " إنّ الذي يقابل الواحد من جهة ما هو
هو هي الغيريّة" (تلخيص ما بعد الطبيعة ص 108)...
1) الإنيّة كِوحدة:
أ ـ الإنيّة من المفهوم إلى المشكل:
يقول ”أرنست بلوخ“: «لا شيء يمنحنا انطباعا بوجود إجابة ممكنة
إذا لم يتوافر في البدء تساؤل ما، لهذا السبب وحده نجد أنّ أشياء ساطعة بقيت في
معزل عن رؤيتنا و كأنّها لم تكن أبدا…» (مدرسة فرانكفورت من هوركهايمر إلى هابرماس ـ د.علاء طاهر ـ ص9 ـ منشورات مركز الإنماء القومي ـ بيروت
ـ ط الأولى)، ما من شكّ في أنّ أكثر الأشياء قربا منّا و أوكدها مباشريّة هي
ذواتنا التي بها نفكّر، و بها ندرك و نعي و نتساءل ونحبّ و لا نحبّ و نفعل و ننفعل
و نتفاعل و منها نخجل أحيانا… غير أنّ حضور هذه الذات و تواجدها في العالم و
البرهنة على وجودها هو ما يُسمّى بالإنيّة التي هي مصطلح مشتقّ من ”الأنا“ ولكنّها
ليست ”الأنا“ بالمدلول الحرفي و إنّما ما به تكون هذه ”الأنا“ ”أنا“ أي عينية
”الأنا“ و ما دلّ على وجودها فعلا و عن حقيقتها الفعليّة بهذا يمكن أن نفهم تعريف
”الجرجاني“ للإنيّة في كتاب ”التعريفات“ باعتبارها «
تحقّقا للوجود العيني من حيث رتبته الذاتية» بذلك يتّخذ هذا المفهوم معنى
أنطولوجيــا، أي وجوديا لأنّ الحديث عن الوجود يعتبر وجوديّة فقياسا على هذا يكون
المبحث في مجال الذات و الأنا: إنيّة [ipséité] (من الجذر اللاتيني ”ipso” أي: الهُو َهُوَ و هذا التأصيل
الفيلولوجي أي الاشتقاقي يكاد يوحي لنا بتعريف ”الجرجاني“ لمفهوَميْ ”الماهية“ حيث يقول « ماهية
الشيء ما به الشيء هو هو و هي من حيث هي»، و"الهُوِيَّة" التي يعرفها
بأنّها: " الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في
الغيب المطلق." يمكن أن نستنتج منذ البدء أنّ مفهوم الإنيّة
باعتباره منطلق البحث في مسألة الإنساني هو مفهوم ديناميكي أي متحوّل يروم
الانزلاق في تيّار التكثير و ليس مفهوما " ستاتيكيا" أي ثابتا و مستبعد
الالتباس والأشكلة، ولأنّه كذلك فهو مفهوم لا تروقه نظريّة الانعزال والتقوقع داخل
حصن الذاتية لأنّ تناولنا له من الخارج بربطه مع الآخريّة و الغيريّة يمكن أن
يوصلنا إلى ممكنيّة ملامسة حقيقية لمدلولاته المتكثّرة والمتوحّدة في الآن ذاته...
ب ـ الإنيّة بين هاجس الإثبات ومأزق الذاتية:
الخطاب الفلسفي الـقديم:
الخطاب الفلسفي الـقديم:
لقد دعا سقراط منذ القرن 5 ق. م إلى ضرورة معرفة الذات
وذلك ضمن عبارة «اعرف نفسك بنفسك» المنقوشة على جدران معبد دلف بأثينا، فكيف يمكننا أن نعرف أنفسنا ونبرهن على
وجود ذواتنا ؟ هل يكون ذلك بالعودة إلى منظومة الجسد أم منظومة النفس أم إلى
كليهما ؟ هل أنّ إثبات إنيّتنا هو إثبات لها لذواتنا أم تأكيد لها أمام الآخرين ؟
وهل نكون في حاجة فعلية إلى إثبات هذه الإنيّة ؟ إنّ مطلب الإنيّة هو مطلب تأسيسيّ في
الفلسفة نظرا لأنّه رافق تاريخها منذ القديم، الذي ارتبط بمفهوم النفس باعتبارها
جوهرا أسمى من الجسد المشوّه و المغضوب عنه أنطولوجيا نظرا لأنّه مجال الزلل و
الشهوة و النقص و الدونية الشيء الذي أدّى بالأفلاطونية مثلا، إلى محاولة القطع معه واعتباره هاجس
العامي الذي يعتقد أنّ تحقيق متعة الجسد و تلبية رغباته هو امتلاك للسّعادة و كشف
عن نقاب الحقيقة، غير أنّ هذا الفهم للحقيقة حسب أفلاطون هو مضادّ لها لأنّه يشرّع
للوهم والانخداع والانغماس في زيف الحواسّ والمحسوسات و سجن للنفس في قبر الجسد
الذي يحاول قدر مستطاعه أن يعطّل توق الروح إلى عالمها العقلي الذي هو عالم المثل
والآلهة والحقائق الحقيقيّة هذا العالم الذي يسعى الفيلسوف إلى بلوغه عن طريق
التدرّب على الموت أخلاقيا و معرفيا عن طريق تهميش الجسد وإقصاء حضوره الفاعل في
الوصول إلى الحقيقة والبحث عن الهوّية الأصليّة للنفس، لذلك يقول في محاورة ”الفيدون“ [§66] على لسان سقراط «إنّ الفيلسوف يلتمس قدر الإمكان كلّ سبيل
إلى إبعاد النفس عن معاشرة الجسد وإنّه يختلف في ذلك عن سائر الناس".
الخطاب الفلسفي القروسطي:
أمّا في الخطاب الفلسفي القروسطي فيمكن أن نقرّ بأنّ مسألة النفس قد حافظت على
مكانتها المرموقة التي سعت الفلسفة الإغريقية أن تدافع عليها مقابل وضع الجسد موضع
المتحوّل و المتغيّر الذي لا يعتمد عليه قطعيّا في إثبات ذواتنا لأنّه ينتمي إلى
مجال الحسّي و مجال التحلّل والفناء ذلك أنّ الفلسفات الإسلامية أو المسيحيّة قد
حاولت ربط المعطيات الدينية المُقرّة بخلود النفس وانحدارها من أصل إلهي بما هو
فلسفي لتصبح مقولة "الأنـا" أو "النفس" مقولة جوهرية سامية
وثابتة وخالدة حتّى بعد زوال الجسد وموته. لذلك نجد ابن سينا مثلا يعطينا مثال "الرجل الطائر"
ليثبت به أنّ النفس حتّى لو كانت معلّقة متعالية عن الجسدي والمادي فإنّها تعي
بذاتها و تثبت إنيّتها و تشعر بوجودها إذ يقول في الفصل الأوّل من المقالة الأولى
من كتاب "الشفاء" (طبع: المؤسّسة الجامعية للدّراسات والنشر و التوزيع
1981 ص18ـ19) « حريّ [بنا] أن نشتغل بإدراك ماهية هذا الشيء الذي صار بالاعتبار
المقول نفسا (...) فنقول يجب أن يتوهّم الواحد يهوي في هواء أو خلاء هويّا (...) و
فرّق بين أعضائه فلم تتلاقَ و لم تتماسَ (...) كان يُثبتُ وجود ذاته ولا يشكّ في
إثباته لذاته موجودا» إنّ مثال "الإنسان المعلّق" الذي حتّى و إن انفصل
عن أجزاء جسده يكون مدركا لذاته كنفس هو رغم طرافته لن يفلت من النقد نظرا لأنّ
فلسفات تجاهل الجسد ستشهد نكسة جدّ هامّة في الفلسفات المعاصرة التي ستسعى فيما
بعد إلى قلب معـادلة الجسد و تثمين ما بخسه طيلة تاريخ الفلسفة الطويل ليتحوّل
الوضع من أفلاطونية تطارد الجسد إلى جسد يطـارد الأفلاطونية التي حـــاولت تسجيل حضورها بطريقة صريحة
أو غير مبـاشرة لفترة طويلة من تاريخ الفلسفة الطويل هذا من ناحية و من ناحية أخرى
قد عرفت فلسفة الحداثة قبل ذلك تجربة يشهد لها في محاولة إثبات الذات وجعلها شرطا
من شروط الوجود بطريقة أكثر عقلانيّة من تصوّر ابن سينا للمسألة.
الفلسفة الحديثة: ديكارت و نظرية ”الكوجيتو“:
لم يكن اكتشاف الإنيّة ثمّ إثباتها بالأمر اليسير أو الهيّن بالنسبة ِلـ ”أمير
العقلانية“ روني ديكارت، نظرا لأنّ هذا الأخير لا يقبل بالبديهي و
العادي و المألوف إلاّ بعد التثّبت من صحّته و تبرئته عقلانيا من كلّ التباس.
لأنّنا إذا اعتقدنا في كلّ شيء على أنّه يقين يمكن على ضوء ذلك أن نؤسّس معارف
أخرى مرتبطة بالمعرفة السابقة التي لم نتثبت من يقينيّتها بعد، فنقع بذلك في وهم
أضخم من الأوهام السابقة لأنّ ما يُبنى على باطٍل باطلٌ بالضرورة. لقد كتب ديكارت في التأمّل الأوّل من ”التأمّلات
الميتافيزيقية“(ص 25 ط 1968) قائلا: " تفطّنت، منذ مدّة، إلى أنّني
تلقّيت منذ كنت صغيرا، جملة من الآراء الخاطئة، كنت أظنّ أنّها صادقة وإلى
أنَّ ما أقمته بعد ذلك على مبادئ هذه حالها من الاضطراب، لا يمكن إلاّ أن يكون
مشكوكا فيه جدّا ومفتقرا إلى اليقين. فكان لا بدّ لي أن أعزم، مرّة في حياتي، على
التحرّر جديّا من كلّ الآراء التي اعتبرتها صادقة إلى حدّ الآن و أن أبدأ كلّ شيء
من جديد من الأسس"
إنّ أزمة البحث عن منطلق صلب وموثوق به، و الذي يمكن أن نطلق عليه اسم ”نقطة أرخميدس“( وهو عالم رياضي و فيزيائي إغريقي، اكتشف
ما يُسمّى في الفيزياء بنظرية مركز الثقل، و يشهد له بمقولته الشهيرة: «أبحث عن
نقطة ثابتة لأرفع بها الأرض» و هذه النقطة التي بحث عنها أرخميدس في علم الفيزياء
أصبحت مجازا فلسفيا مرادفا للثبات و منقذا من منزلق الرّمال المتحرّكة التي هي رمز
للخديعة و المأزق و اللا مرتكز)، هي التي دفعت بديكارت إلى القيــام بعملية هدم لكلّ شــيء و هـي
عملية أطلق عليهـــا هذا الفيلسوف اسم عملية «مسح الطــاولة» ( وهي ترجمة للعبارة اللاتينية tabula rasa ) وهذا الهدم تمّ عن طريق تجربة شكّ منهجي شمل
كلّ شيء تقريبا، فبعد أن شكّ ديكارت في المعارف السابقة، شكّ في الحواس و أكّد
أنّها تخدعنا باستمرار و« من عدم الحكمة أن نطمئنّ لمن حاول أن يخدعنا ولو
مرّة واحدة » ( ديكارت ”مبادئ الفلسفة“ الجزء الأوّل) ثمّ شكّ في
العالم عن طريق المقارنة بين تجربة الحلم و تجربة اليقظة مبرزا أنّ الأحلام إذ
تصوّر لنا أشياء غير موجودة و إذ تجعلنا نتصوّر أنّها موجودة فعلا ماذا يضمن لنا
أنّ ما نراه في يقظتنا هو ليس من قبيل الأحلام و من جنس السّراب والوهم الجميل،
بعد ذلك حاول ديكارت توسيع امبرياليته الشكّية التي لم يصمد شيئا أمامها حتّى
يقينيّة العلوم الرياضيّة و فكرة وجود الله... غير أنّ المبدأ الثابت الذي على
ضوئه سيُعيد هذا الفيلسوف تأسيس كلّ ما قام بهدمه هو أنّه يشكّ و لأنّه لا يمكن أن
يشكّ في أنّه يشكّ فهو لا يمكن أيضا أن يشكّ في أنّه يفكّر و باعتباره كذلك لا
يمكن أن يكون إلاّ موجودا بالضرورة، لذلك صاغ نظرية الكوجيتو
cogito ergo sum أي " أنا أفكّر إذن أنا موجود" لئن أجاب ديكارت بعد رحلة الشكّ التي عاشها عن سؤال وجودي
مسؤول و معضلي في الآن ذاته كان قد طرحه من قبله رائد المسرح الأنڤليزي ويليام شكسبير« أكون أو لا أكون ذلك هو السؤال ؟ (
مسرحية "هاملت" لشكسبير المشهد الأوّل المقطع الثالث) طبع فكر
الحداثة الغربية و أسهم في فتح المجال لانبجاس التيّارات العقلانية التي أثَّرت و
أثْرَت في طبيعة المسائل الفلسفية فيما بعد، فإنّ مشروعه لا يكاد يخلو من نقائص سيكشف
عنه تاريخ الفلسفة فيما بعد حيث سينظر إلى مسألة الإنيّة ليس من المنظور الديكارتي الذي أقصى الغير من أفقه أو يكاد و لم
يهتمّ إلاّ بإثبات ذاته فحسب وذلك يعتبر نقصا في النظرية لأنّه يشرّع للتقوقع و
الانعزال و ”الأنا وحديّة “. هذا المفهوم الذي سيتعرّض للنقد من طرف دعاة الانفتاح
على خصوبة العالم الثري بالمعنى الذي لا يمكن أن نطاله إلاّ بخروج الوعي من قمقم
”الأنا أفكّر“ الكلاسيكية التي ما تفتأ تتخفّى خلف نقاب الذاتية و ما تنفكّ تعلن
برجوازيتا المعرفية و ترنسندنتاليتها العاشقة لذاتها
(الترنسندنتالية: أي التعالي) مُقصية كلّ غيريّة للأنا التي لا يمكن أن تكون إلاّ
متكثّرة فهي الوعي تارة والجسد تارة وهي الرغبة و اللاوعي تارة أخرى و هي أيضا
وجود متزّمن و كينونة منفتحة على الكرونولوجي والأنطولوجي و السوسيولوجي و
السيكولوجي قبل أن تكون منغلقة على الإيڤولوجي المتزّمت و المتزندق الذي نسي أو
تناسى «الفرق بين الوجود والموجود» على حدّ عبارة هيدڤار كما نسي الكوجيتو الديكارتي أنّه لكي يفكّر يجب أن يكون موجودا أوّلا
نظرا لأنّ الوجودية مثلا لا تعترف إلاّ بـ «وجود سابق عن الماهية» أي أنّ الإنسان
يوجد أوّلا كجسد، كوعي، ثم تتحدّد ماهيته وفق علاقته بالعالم و اﻵخر و الغير، من هذا المنطلق يمكننا أن
نتحدّث عن ضرورة فكّ العزلة لأحادية الإنيّة بحثا عن دلالات تكثّرها، حيث يقول ”ج. جيرار“: « إنّ وحدتي، مهما كنت متوحّدا، إنّما
تتخلّلها دلالات إنسانية أحملها معي. فلا وجود إذن لخبرة هي خبرة وحدة الذات».
(”معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية“ جلال الدين سعيد ـ دار الجنوب للنشر ـ
تونس 2004 ـ ص61)
2) الإنيّة المتكثّرة (أو من الإنيّة إلى اﻵخرية):
يمكن أن نفهم التكثّر في هذا السياق بمعنى الوجوه الأخرى التي يمكن من خلالها
الولوج إلى مشكل الإنيّة التي عالجناها إلى حدّ الآن من منظور الوعي و التفكير و
النفس والذاتية والواقع أنّ الإنيّة يمكن تناولها فلسفيا من أنحاء شتّى مُستفيدين
من عبارة المعلّم الأوّل أرسطو «الوجود يقال على أنحاء شتّى»، ذلك لأنّ
الحديث عن الإنسانيّ لا يمكن ملامسته من زاوية وحيدة بل من منطلقات أخرى يمكن أن
تُخرجنا من منزلقات الأحادية إلى دروب الكثرة و الاختلاف و الآخرية. فنشرِّع بذلك للتطرّق
لمسائل متورّطة في مسألة الإنساني مثل: الجسد و اللاّوعي و الزمنية…
أ ـ الجسد:
لقد جسَّد الجَسَدُ مشكـــلا فلسفيا منذ بدايات الفلسفة، حيث رأينا موقف الأفلاطونية التحقيري له ضمن تصوّر مثالي يعطي قيمة
للروحي و للسّماوي (الإلهي) على حساب المادي والحسّي وهو موقف يهمّش الجسد و يحاول
استبعاده لتتمكّن النفس من بلوغ المعرفة والحقيقة حيث نقرأ في محاورة ”المأدبة“ لأفلاطون ما يلي: «إنّ عيون النفس لا تبدأ في النظر
الثاقب إلاّ عندما تبدأ عيون الجسد في غضّ بصرها»، كما علمتنا الديكارتيّة أنّ الجسد هو الخادع و المنخدع نظرا
لاعتماده على الحواسّ أوّلا و نظـرا لطابعه الامتدادي المادي المتحوّل تحوّل قطعة
الشمع بفعل الحرارة. غير أنّ حضور الجسد في التفكير الفلسفي قد شهد تحوّلا يُشهد
له حيث سيحاول الجسد افتكاك مركزيته وردّ الاعتبار لتاريخ السّلب والسلبية الذي
حاصره وذلك ببروز فلسفات جديدة جسّدت النيتشية أبرز محطّة فيها نظرا لاعتبارها فلسفة القلب
والانقلاب على الموروث الفلسفي القديم الذي اتّهمه نيتشه بالصّنمية والفرعونية لأنّه يؤمن بوجود
حقائق خالدة لا تملك الجرأة والقوّة الكافية لتظهر للعيان فلا تعدو بذلك إلاّ أن
تكون أوهاما محنّطة، نسينا أنّها كذلك. لذلك يرفض نيتشه أن تكون الفلسفة الفعليّة « تدرّب على
الموت» مثلما رام أفلاطون أن تكون عليه مُعلنا أن التدرّب على الحياة
هو تدرّب على مبدأ إرادة القوّة و إرادة الفعل اللذان لا يكونان إلاّ بتقديس الجسد
لأنّه «العقل الكبير» والفاعل الحقيقي في هذا العالم حيث يقول في كتاب ”هكذا تحدّث زارادوشت“: « يحمل جسدك أكثر عقلا من أفضل حكمة يفرزها
عقلك» لقد حاول نيتشه أن يبيّن أنّ للجسد أولوية و أفضلية على
منظومة الوعي الذي سيصبح معه مجرّد وسيلة و أداة طيّعة في خدمة الجسد لذلك يعلّق إيريك بلاندال في كتابه: (”نيتشه: الجسد والثقافة“ ـ ص 128ـ ﭙيف ـ
1983) قائلا: « إنّ نيتشه قد عانى جهدا سيزيفيا ليثبت أنّ كلّ شيء
يبدأ من الجسد» ولأنّ الجسد قد أعلن مع النيتشية سيّدا فقد سعى هذا الأخير إلى تأسيس نظرية
أخلاقية قائمة على إعطاء أولويّة أوّلا: للبعدين الإيروسي والديونيزوسي (نسبة إلى ”إيروس“ إله الحب و ”ديونيزوس“
إله الخمر والنشوة عند الإغريق)، و ثانيا: لمبدأ إرادة القوّة الذي يعتبر مفهوما
تأسيسيّا في الفكر النيتشي الذي يرفض التوجّهات الميتافيزيقية نظرا لأنّها تشرّع
للخضوع والاستعباد و بالتالي تكون منظرّة لما يُسمّيه نيتشه بـ”أخلاق العبيد“ التي تعطي أولوية للسّماء
على الأرض و تقزّم الإنسان وتجعله في تبعيّة لأوهام ابتدعها مثل العقل والآلهة و
الحقيقة و الفضيلة و الحال أنّ الأخلاق الحقيقية التي يجب أن نتعلّمها و نعلّمها
هي ”أخلاق السادة“ التي يمكن أن تحوّل الإنسان من كائن عادي خاضع للآخرين إلى
سوبرمان، مؤكّدا لحضوره على الأرض وسيّدا لمصيره وعلى الآخرين، بذلك تضحّي
الإنيّة الفعلية حسب نيتشه هي جسديّة في مجملها، أمّا الغيريّة فتوضع
موضع خطر وفق هذا الفكر الباحث عن السيادة التي لن تتحقّق إلاّ عبر استعباد بشكل
أو بآخر للغير إن لم نقل استبعادا له.
* التصوّر الوجودي والفينومينولجي للجسد (الفلسفة المعاصرة):
تعبتر الوجودية و الفينومينولوجيا من أبرز التوجّهات الفلسفية المعاصرة التي
سعت إلى إيجاد تصوّر للجسد بربطه بالتجربة المعيشة للإنسان في العالم أي باعتباره
ظاهرة قابلة للدّرس و حاملة للمعنى في معزل عن التوجّهات الميتافيزيقية التي تخبّط
فيها تاريخ الفلسفة ذلك لأنّ حضور الإنسان في العالم هو حضور متجسّد فالجسد هو
وعاء للوعي و هو أيضا رابط بين الوعي و العالم فلا يمكننا دراسة العالم بدون توسّط
للجسد و لا يمكننا دراسة الجسد بفصله عن مبدأ الوعي و بعزله عن العالم الذي ينتمي
إليه حسيّا و وجوديا ومن هذا المنطلق يمكن أن نفهم كلمة ”الدازاين“ التي استعملهـا
” هيدﭭار“ بمعنى (الموجود هنا) التي تفيد الوجود في
العالم عن طريق شعورنا داخل ذواتنا بالانتماء إليه وشعورنا بالحضور فيه عن طريق
أجسادنا فالإنيّة هنا هي إنيّة للذات المتجسّدة المنفتحة على العالم وعلى الآخر
باعتباره ذاتا أخرى وجسد آخر منغمس هو بدوره و منخرط في خارطة العالم ذلك لأنّ
الآخر (الغير) لا يشاطر فقط العالم مع الذات المتجسّدة بل يجسّد في حدّ ذاته شرطا
أساسيّا في إعادة هيكلة العالم و في تغييره ليكون كما هو عليه داخل ذاتي المدركة
له لذلك يعتبر أب الفينـــومينولوجيا ”إيدموند هوسرل“ إنّنا عندما ننظر إلى طاولة أو جدار أو
كرسي نعرف أنّه ثمّة أشخاصا آخرين قد قاموا بتشييد الجدار أو بصناعة كلّ ما نراه
بذلك يضحي الآخر حاضرا دائما في وعينا على شاكلة مجموعة من الدّلالات أي أنّه معنى
من معاني العالم وكذلك شرط من شروط تكوّن الأنا لأنّ الأنا تكون دائما مرتبطة بأنا
الآخر عبر حضورها في العالم معه وذلك ما عناه ”هوسرل“ بمفهوم ”البيذاتية“ أو التذاوت هذا
المفهوم الذي يحمل شحنة نفسية يمكن أن تفيد التعاطف وكذلك شحنة رمزية تعني التعرّف
على الآخر عبر مدلولاته الذاتية في العالم لأنّ الموضوعات في الفينومينولوجيا لا يمكن أن ترتبط بذات واحدة بل هي مرجع
لبقيّة الذوات الأخرى لذلك يقول هوسرل: « إنّ الآخر ينكشف لي على هذه الطاولة،
على هذا الحائط باعتبار أنّ هذا الموضوع هو موضوع دوما للآخر وهو كذلك مرجع لكلّ
الذوات الأخرى» ( ايدموند هوسرل:”التأمّلات الديكارتية “التأمّل الخامس)
غير أنّ مفهوم البينذاتية الذي جاء به إيدموند هوسرل وإن نجح في كسر عزلة الكوجيتو الكلاسيكي لديكارت جاعلا من تجربة الوعي الحقيقي تكون ”وعيا
بشيء ما“ أي انفتاحا للذات على تجربة العالم الذي هو قبل كلّ شيء مليء بالذوات
التي بدورها تسعى إلى الانفتاح لتلتقي بالذوات الأخرى إمّا بطريقة مباشرة أو عن
طريق الموضوعات فإنّه قد أغفل بصورة أو بأخرى الجسد الذي سيحاول موريس ميرلوپونتي تحيين الهيكلة الظاهراتية له و ذلك بتجاوزه
لمفهوم البينذاتية الذي دافع عنه أستاذه هوسرل و استبداله بمفهوم أكثر حميمية و أكثر
واقعية هو مفهوم البينجسدية و ذلك أوّلا: نظرا للإحراجات التي يمكن أن تحاصر مفهوم
البينذاتية المعرّضة دائما لخطر اللا تواصل و الموضعة من طرف الآخر عن طريق النظرة
كما هو الشأن بالنسبة لفلسفة جون پول سارتر أو عن طريق عدم الاعتراف بذاتية الآخر كما
هو الشأن بالنسبة للتصوّر الهيڤلي أي عندما « ينسحب كلّ منّا داخل طبيعته المفكّرة
ويضحي كلّ منّا نظرة لا إنسانية بالنسبة إلى الغير و إذا أحـسّ كلّ منّا بأفعاله
لا من حيث أنّ الغير يستعيدها و يفهمها بل من حيث هو يلاحظها كما لو كانت أفعال
حشرة و هذا ما يحصل مثلا عندما يسلّط عليّ نظر شخص مجهول» ( موريس ميرلوپونتي ـ ظاهراتية الإدراك ـ ط ـ ڤاليمار ـ
ص414) و ثانيا: لأنّ تصوّر موريس ميرلوپونتي للجسد قد سعى إلى تجاوز كلاسيكيات التفكير
الفلسفي الدارسة لمنظومتيْ الوعي والجسد على شاكلة انفصالية تكون بمقتضاها الذات
مُقيمة في الجسد ولديها قيمة أفضلية عليه لتتحوّل المعادلة لديه من أنا لديها جسد
إلى أنا متجسّدة ومتداخلة تداخلا ليس بقابل للفصل أو التفاضل مع الجسد حيث يقول موريس ميرلوپونتي في كتاب: ( المرئي واللامرئي ـ ط ـ ڤاليمارـ
ص239):” إذا كنّا ندرك بالجسد، فإنّ الجسد… بمثابة الذات التي تدرك“ نظرا لأنّ
المفهوم القديم للنفس أو للوعي لا يمكن أن يدرك في معزل عن الجسد والجسد بمفرده
الخالي من الوعي لا يدرك هو الآخر لأنّه مجرّد جثّة لذلك يميّز هذا الأخير بين
الجسد الموضوع الذي هو مجال الدراسة العلمية في المختبرات التشريحية والجسد الخاصّ
المتفاعل مع مفهوم الوعي الذي يجعل منه ذاتا متجسّدة وجسد مذوّت الذي به: ”تتعارض
تجربة الجسد الخاص مع الحركة التأمليّة التي تخلّص الموضوع من الذات والذات من
الموضوع والتي لا تمنحنا إلاّ فكر الجسد أو الجسد في الفكرة لا تجربة الجسد أو
الجسد على حقيقته“ ( موريس ميرلوپونتي ـ فينومينولوجيا الإدراك ـ ط ـ ڤاليمار ـ
ص231) إنّ الحقيقة الفعليّة للجسد وفق هذا التصوّر هي الحقيقة المؤكّدة للجسد
الخاصّ كإنيّة متجسّدة فاعلة ومنفعلة ”فيّ“ و بمشهد العالم الذي يكون طابعا في
أجسادنا و مطبوعا بها وذلك هو المعنى الحقيقي للبينجسديّة التي هي علاقة وجودية
بين أجساد العالم التي تتقاطع و تتداخل وفق جدلية الرائي و المرئي ـ اللامس و الملموس
ـ المصافح و المصافح. لئن حاولت الفينومينولوجيا الاشتغال على
ثالوث الوعي ـ الجسد ـ العالم تأسيسا لعلاقة بينذاتية و بينجسدية بين الإنيّة و الغيريّة و فكّا
للحصار الذي لازم تاريخ الوعي طيلة تاريخ الفلسفة فإنّ مدرسة التحليل النفسي مع
قطبها الدكتور سيڤموند فرويد كانت قد اشتغلت و في نفس الفترة تقريبا على
ثالوث آخر هو ثالوث الهوـ الأنا ـ الأنا الأعلى ـ هذه البنية المميّزة
للجهاز النفسي التي ستؤسّس علاقة لا واعية في مجملها مع الغير لينقلب الوضع من
بينذاتية و بينجسدية واعية بالآخر إلـى “بينجنسية" لا واعية يتحوّل ضمنها
الغير إلي مجال للرغبات و النزوع الجنسي المكبوت إن لم يكن مجالا للعدوان و العنف
الناتج لا عن ممارسة واعية بل عن عُقَد مُضمرَة في الخزّان اللاشعوري للإنسان الذي
يمكن أن ينفلت من دائرة الرقابة الفردية ليصبح شحنة تدميرية أو إبداعية يمكن أن
تستهدف الغير كما يمكن أن تنقلب بصورة عكسية على الذات نفسها.
ب ـ اللاوعي:
يعتبر مفهوم اللاوعي من المفاهيم الرئيسية المعاصرة التي أنتجها حقل علم النفس
التحليلـي في القرن العشرين مع مؤسّس هذه المدرسة الطبيب والمحلّل النفسي النمساوي
سيڤموند فرويد وهو أيضا من المفاهيم النقدية الكبرى التي
سعت إلى تجاوز التوجّهات العقلانية في الفلسفة مثل الديكارتية وكذلك التجديد في
حقول علم النفس والعلوم الإنسانية لذلك يرى فرانسوا شاتلي أنّ اكتشاف قارّة اللاوعي وبلورة هذا
المفهوم نهائيّا مع فرويد يُعدّ الحدث الرئيسي الذي ميّز عصرنا ( فراسوا شاتلي ـ مقال بعنوان: فلسفة الحداثة ـ مجلّة العرب
و الفكر العالمي) و كاستتباع لهذا التعليق يمكن أن نصف سيڤموند فرويد بكريستوف كولومب علم النفس المعاصر نظرا لأنّه أزاح النقاب
على الجانب الخفي الكامن وراء تفكير الإنسان و سلوكاته التي كنّا نعتقد فيما مضى
أنّها نابعة عن إرادة حرّة و إنيّة واعية ذات عقل محقّق لسيادة ”الأنا“ ليكتشف أنّ
هذا العقل المزعوم ليس سيّدا حتّى في بيته بل هو مجرّد خادم مطيع لسيّدين اثنين
هما ”الهو“ و ”الأنا الأعلى“ حيث أصبح مفهوم النفس الكلاسيكي منقسما إلى
ثلاثة عناصر يُسمّيها فرويد ببنية اللاشعور أو الجهاز النفسي التي يمكن أن نفهمها
أكثر بالنظر إلى هذا التحديد:
الهــــو:
ـ جانب خاضع لمبدأ اللذّة.
ـ الجانب الخفيّ في الشخصيّة.
ـ الجزء المرتبط بما هو بيولوجي و غريزي.
ـ خزّان للطاقة الليبيدية أي الطاقة الجنسية
التي توّلد الرغبة في إشباع الحاجة الجنسية.
ـ المبدأ الموّلد لنزوتي الحياة والموت لأنّه
محكوم بالنزعة الإيروسية ( نسبة إلى إيروس اله الحب في الميثولوجيا الإغريقية)
والنزعة التاناتوسية ( نسبة إلى تانتوس إله الموت عند الإغريق)
ـ ترمي نزعة الحياة إلي إشباع الرغبة الجنسية
و ترمي نزعة الموت إلى العدوان تجاه الغير فنتحدّث عن ما يُسمّيه فرويد بالصادية أو إلى الرغبة التدميرية للذات
فنتحدّث عن المازوشـية.
ـ لا يُعدّ ”الهو“ خزّانا للرغبة فقط بل
هو أيضا رقعة امتصاص للعُقد النفسية التي تبدأ في التشكّل منذ الطفولة المبكّرة
مثل عقدة أوديب التي تتشكّل لدى الطفل كنتيجة لتعلّقه
الجنسي في المرحلة الفميّة بأمّه وغيرته الغريزية من الأب الذي يحتلّ مكانة
المنافس في موضوع الرغبة العاطفية لدية و التي يقابلها لدى الإناث عقدة إيلكترا.
الأنـــا:
ـ جانب خاضع لمبدأ الواقع.
ـ الوجه الظاهر للشخصيّة.
ـ في حالة توتّر و قلق مستمرّين لأنّه بين مطرقة ”الهو“ و سندان ”الأنا
الأعلى“ الشيء الذي يجعله خادما لسيّدين في الآن ذاته.
ـ الأنا تدرك و تخاف و تدافع و تقاوم و تخضع.
ـ يحدث أن يفشل ”الأنا الأعلى“ في كبت رغبـــات” الهو“.
الأنا الأعلى:
ـ جانب خاضع لمبدأ الواقع.
ـ دوره مواجهة الرغبات ونزوات الحياة أو الموت ومنعها من التسلّل إلى
سطح ”الأنا“
ـ يمارس وظائف الضبط و الحكم و الاتّهام و التجريم
و الإشعار بالذنب و الخطأ و الخطيئة و بتعبير أدقّ هو عنصر يمارس الرقابة
الذاتية على الأنا.
ـ هو الجانب الثقافي و الاجتماعي و التربوي و الديني.
ـ يرجّح فرويد في كتاب " الطوطم و المحرّم" إنّه قد نتج بسبب الجريمة الأولى التي وقعت
لدى القبائل الطوطمية وهي جريمة قتل الأب من طرف أبنائه الذين منعـهم الأب من
ممارسة الجنس مـع جميع نساء القبيلة اللائــي انفــرد بهنّ لذاته ولكن بعد قــتل
هذا الأب أحسّ الأبناء بالذنب فقامت العديد من الشّعائر التكفيريّة عن ذلك
الذنب مثل ظاهرة الختان التي هي ممارسة رمزيّة تحمل طابعا جزائيا بالأساس.
*****
لقد أكّد فرويد من خلال نظرية اللاوعي أنّ الإنسان هو كائن
غريزي بالأساس تحكمه عُقد الجنس و العدوان بطريقة لا واعية و لاعقلانية حتّى و إن
تظاهر بالعفّة و الأخلاق و الاعتراف بالغير فإنّ ذلك لا يعدو أن يكون إلاّ حيلة من
حيل الأنا الظاهرة التي يسعى الإنسان بها أن يُخفي ما يدور داخل لاوعيه
العميق الذي يستمدّ جذوره من الصّدمات الطفولية التي تسعى دائما إلى اختزان
التجربة الخصوصية للفرد و امتصاص تاريخه و زمنيته الملتصقة في حميميتها بحضور
الغير داخل أفقها و تأثيره إيجابا أو سلبا في توازنه أو لا توازنه النفسي الذي قد
يتحوّل إلى حالات مرضية متفاوتة التعقيد و من هذا المنطلق يكون للبعد
الكرونولوجي و التاريخي ضلعا واضح المعالم في مسألة الإنيّة و الغيرية.
ج ـ التاريخ:
يقول ابن خلدون في "المقدّمة":« التاريخ في ظاهره
لا يزيد عن الإخبار… و في باطنه نظر و تحقيق» و يفهم هذا القول على عدم التعامل مع
الظاهرة التاريخية سواء كانت تاريخا شخصيّا للفرد أو تاريخا جماعيا للشّعوب تعاملا
سطحيا بل يجب التحقّق من صحّة الخبر غير أنّ النظر و التحقيق اللذان دعا إليهما
الفكر الخلدوني هما الاعتراف بالتاريخ و بفلسفة الوقائع و الأحداث و دور ذلك في
هيكلة العمران البشري و فهم التحوّلات التي طرأت عليه و رصد دور البعد الزمني في
موقعة العلاقات الإنسانية فيما بينها لأنّ حاضر الإنسان هو استتباع منطقي و تواصل
بشكل ما لماضيه الشخصي أو الاجتماعي أو الحضاري أو الاقتصادي أو السياسي… من هذا المنطلق سعى العديد من الفلاسفة إلى
فهم الإنساني في تكثّره و تنوّعه ضمن تصوّر معيّن لفلسفة التاريخ و في هذا الإطار
سنكتفي بعرض تصوّرين كان لهما قيمة كبرى ضمن تاريخ الفلسفة و هما النظرية المثالية
الجدلية لجورج ويلهالم فريديريك هيڤل (1770 ـ 1831) و النظرية الماديّة التاريخيّة لكارل ماركس (1818 ـ 1883).
*
النظرية المثالية الجدلية لهيڤل:
تعتبر المثالية الجدلية قراءة فلسفية للتاريخ العام للإنسان أي هي حفر في منطق
التاريخ الكلّي دون أن تختصّ في تاريخ معيّن لحضارة ما أو لشعب من الشّعوب و سُميّت
هذه المدرسة بهذا الاسم لأنّ الهيڤلية قد سعت إلى تتبّع نشأة الفكرة أو المفهوم عبر
التاريخ و تطوّرها ضمن مسار جدلي أي ثنائي قائم على التداول بين السّلب و الإيجاب،
النفي و التحقّق، الفعل و الانفعال، الاغتراب و التحرّر، العبوديّة و السيادة،
الموضعة و التذويت، النكران و الاعتراف، النسبية و الإطلاقية… و ذلك تتبّعا
لتشكّل الفكرة المطلقة عبر صيرورتها التاريخية (الصيرورة من صار يصير أي تحوّل
عمّا هو عليه و تبدّل من وضع إلى آخر). فحسب هيڤل كانت بدايات تشكّل العالم من الروح أو
الفكرة أو الوعي المطلق ( لتقريب الصورة من الأذهان يمكن استحضار ما تحدثّت
عنه الأديان السماويّة بشأن قصّة الخلق التي انطلقت من فكرة الإله الذي قال للعالم
كن فكان) فكانت الطبيعة اللانهائية أوّلا غير أنّ العقل المطلق أحسّ بالاغتراب في
الطبيعة فحاول البحث عن ذاته و تجاوز الموضعة التي نتجت له بفعل تحوّل الفكرة إلى
موضوع طبيعي فاكتشفت الطبيعة إمكانية البحث عن العقل داخلها باعتباره ملكة موجودة
في الطبيعة و لم تكتشف بعد، لذلك قام هيڤل برصد لحظات ظهور العقل و مراحل اكتشاف
الإنسان للوعي الذي مرّ بمراحل ثلاث هي: الوعي "في الذات" وهي لحظة وجود
الوعي كاستعداد طبيعي لم يكتشف ذاته بعد و الوعـي "بالذات" وهي لحظة اكتشاف الوعي لدى الإنسان باعتباره
مبدأ يميّزه عن بقيّة الكائنـات و الوعـي " للذات" وهي أهمّ مرحلة في تجربة الوعي نظرا لأنّها
تجسّد لحظة التقاء الوعي الفردي بالوعي الفردي الآخر و عمل كلّ منهما على
نزع الاعتراف من الطرف المقابل بذاتيته لأنّ طبيعة النظرة الأولى بين إنسان و إنسان
آخر تكون عادة مموِضعة أي تتعامل مع الآخر كموضوع و ليس كذات مفكّرة و واعية و مالكة
لما يمكن أن تفتقده الذات الأولى. إنّ عملية انتزاع الاعتراف بين الطرفين كانت
من أبرز محطّات كــتاب " علم ظهور الـروح " لهيڤل لأنّ هذه المسألة لا يمكن أن تحلّ حسب هذا
المفكّر إلاّ بخوض الصراع الذي يضع خلاله كلا الطرفين حياته في الميزان فإمّا أن
يعترف به الآخر أو أن يموت، لكن قد يحدث أن يضعف أحد الطرفين خلال النزاع فيفضّل
الحياة لكن تفضيل الحياة في صراع يمكن أن نموت خلاله له ثمن باهض هو أن يقبل الطرف
المنهزم بأن يكون عبدا للطرف المنتصر الذي انتزع الاعتراف به كذات من طرف الوعي
الثاني. لكن تاريخ العلاقة بين السيّد والعبد لن تنتهي هنا فسيسعى العبد إلى
استرجاع السيادة المنتزعة وذلك عن طريق العمل وعن طريق تطويع الطبيعة لفائدة
السيّد الذي سيظلّ مكتوف اليدين منتظرا لما سيقدّمه له العبد من جهد غير أنّ العبد
سيكتشف هذا الدور الذي يلعبه و يعرف أنّه إذا لم يعمل سيموت السيّد جوعا و بذلك
يضحي العبد سيّدا لسيّده و السيّد عبدا للعبد فيتحرّر الطرف الثاني و تستبدل
العلاقة بينهما بعلاقة حقوقيّة يكون بها لكليهما حاجة للآخر.
لقد حاول هيڤل أن يبيّن من خلال ما يُسمّيه بـ: جدلية
السيّد والعبد، هذه القراءة الرمزيّة للتاريخ ازدواجية العلاقة بين الإنيّة
والغيريّة ذلك لأنّ الوعي بالذات يستوجب الوعي بالآخر و يحتاجه حتّى و إن مرّت
العلاقات البدئية بينهما ببعض العراقيل لذلك يقول: " إنّ الوعي الذاتي لا
يحقّق لنفسه الإشباع إلاّ عن طريق وعي ذاتي آخر".
* الماركسيّة و القراءة المادية التاريخية للتاريخ:
لئن انطلق هيڤل من مسلّمة نشوء الوعي أوّلا و بروز العلاقات
الاجتماعية على ضوئه ثانيا ضمن أبرز لحظات تعرّف الروح المطلق على ذاته فإنّ ماركس قد عمل على قلب الجدل الهيڤلي معتبرا إيّاه جدلا يمشي على رأسه و يجب أن
نقلبه على قدميه و ذلك لسببين: أوّلا لأنّ الهيڤلية انطلقت من الروح المطلق أي من السّماء لتصل
إلى الأرض و ثانيا لأنّ الوعي حسب المنظومة الماركسية هو نتاج للعلاقات الاقتصادية
و الاجتماعية و ليس كما هو الشأن بالنسبة لهيڤل حيث يقول كارل ماركس في كتاب:" الإيديولوجيا
الألمانية" :« ليس الوعي هو الذي يحدّد الحياة بل إنّ الحياة هي التي تحدّد
الوعي» و معنى ذلك و باستعمال المفاهيم الماركسية لا يكون وعي الإنسان الذي هو
عبارة عن بنية فوقية تضمّ كلّ ضروب الأنشطة الثقافية بما في ذلك
اللغة و الدين و الفنّ و الأدب إلاّ نتاجا لبنية تحتية هي المجتمع و الاقتصاد و المؤسّسات
السياسيّة و هذه البنية هي التي تحدّد الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد و
من ثمّ طبيعة الوعي الذي ينتج لذلك يقول ماركس في نفس الكتاب: " إنّ الوعي هو أوّلا
نتاج اجتماعي و يظلّ كذلك طالما وجد بشر". من هذا المنطلق كانت القراءة المادية
للتاريخ التي قام بمقتضاها ماركس برصد التحوّلات الكبرى التي طرأت للوعي
استنادا لتأثّره بطبيعة المجتمع الذي ينتمي إليه و من ثمّ رصد التغيّرات الكبرى
للمراحل التاريخية فالإنسان الأوّل كان يعيش في المرحلة المشاعية البدائية و هذه
المرحلة اتّسمت بالوجود الاجتماعي البدائي الذي يعكس وعيا قطيعيا نظرا لعدم توفّر
الأرضية الاقتصادية للاستقرار حيث كان الصيد هو المبدأ الإنتاجي الوحيد الممكن،
لكن مع اكتشاف الزراعة بدأت بوادر الملكية في التشكّل من خلال ملكية الأرض و ملكية
العبيد الذين هم القوّة المنتجة و في هذا المجتمع العبودي بدأت بوادر الوعي الطبقي
في الظهور نتيجة لوعي العبيد باضطهادهم من قبل السادة و هذا المناخ الاجتماعي هو
الذي أسهم في ثورة العبيد و تحويل المجتمع إلى مجتمع إقطاعي شهد هو الآخر علاقات
اضطهادية من قبل مالكي الأرض و وسائل الإنتاج تجاه الأقنان هذه الطبقة التي تعمل
بمقابل جزء ضئيل من الإنتاج، و مع بروز الثورة الصناعية و تركيز أسس المجتمع
الرأسمالي كان الصراع الطبقي مرتكزا بين الرأسمالية البرجوازية و الـﭙروليتاريا الشغّيلة و المضطهدة الشيء الذي يجعل من
الثورة حتمية تاريخية قصد تأسيس مجتمع اشتراكي يكون فيه العمّال مالكين للمصانع و الفلاّحين
مالكين للأرض لينتهي التاريخ بتصدير الثورة الاشتراكية إلى بقيّة العالم و تأسيس
النظرية الشيوعية الكونية. لقد حاولت الماركسية الإجابة عن سؤال
الإنيّة و الغيريّة من منظور تاريخي و اقتصادي يجعل من المسألة مجرّد صراع طبقي
بين إنيّة مُسيطر عليها و غيريّة مسيطرة اقتصاديا و سياسيا و يجعل من التاريخ عامل
مصالحة بين الطبقات الاجتماعية لكن السؤال الذي يطرح هل يمكن فعلا إيجاد مجتمع خال
من الطبقية و محقّق فعلي لعدالة مزعومة و لمصادقة حقيقية بين الإنيّة و الغيريّة
الشيء الذي يشرّع إلى دراسة العلاقات الممكنة بيننا و بين الغير هل هي فعلا منبنية
على العدوانية أم على الصداقة أم على ضرورة المصادقة ؟
3) الإنيّة و الغيريّة: جدلية الاختلاف و الائتلاف:
لقد حاولنا دراسة الإنيّة في مدلولاتها المختلفة راصدين تكثّرها و آخريّتها
المترامية الجذور بين الوعي و الجسدية و اللاوعي و الزمنيّة غير أنّنا لم نكد
نُفلت خلال هذا التمشّي من التعريج على مفهوم الغير الذي يعرفه جون بول سارتر بقوله: "هو ذلك الأنا الذي ليس هو أنا،
و لست أنا هو" فالغير وعي مغاير و جسد مغاير ولا وعي مغاير لي و منفصل عن
تجربتي الوجودية و عن هوّيتي و خصوصيّتي و مجالي الفكري و الوجداني و إن شاركني
الإطار الزمكاني، الذي يحتويني و إيّاه في هذا العالم، أمّا
الغيريّة فهي الانفتاح على مجال الذوات الأخرى المغايرة لي جسدا و وعيا و المختلفة
جنسا و لونا و معتقدا و فكرا و ثقافة و توجّها إيديولوجيا. على ضوء هذه الاختلافات
الجوهرية بين الإنيّة و الغيريّة تبدو أيّة علاقة بين الذاتيتين شائكة نوعا ما فهل
أنّ هذا الغير المختلف عنّي مكمّل لي أم مكبّل لحرّيتي و استقلاليتي ؟ هل يمكن
تحقيق مصالحة و مصادقة بيننا و بين اللا ـ أنا أم أنّ الصراع و التصادم هو النتيجة
الحتمية المحتملة و الواردة رمزيا أو واقعيا ؟ هل يعني الاختلاف بين الذاتين خلافا
بينهما ؟ إلى ما تردّ أسباب الخلاف ؟ هل هي وجودية أم طبيعية أم ثقافية أم نفسية
أم اقتصادية أم تاريخية ؟ كيف يمكن تجاوز حالات الصراع مع الغير و تحويلها من
فردانية فوضوية مكرّسة للأنانية و الانغلاق و الوحدة إلى غيريّة إنسانوية معترفة بالغير و مؤسّسة لثقافة الحوار
و التسامح و التكاتف و التعاطف و محوّلة للوضع الإنساني و من سباق التدافع إلى
أخلاقيات التتابع و من حبّ البقاء إلى حسن البقاء ؟
فلسفة الصراع بين الأنا و الغير:
يمكن للصراع مع الغير أن يتّخذ أشكالا مختلفة و وضعيات عدّة تتنوّع بتنوّع
الأسباب و تختلف باختلاف نظرتنا له و النتيجة المرجوّة قبليّا من هذا الخيار لذلك
سنحاول رصد هذا المفهوم في بعض المرجعيات الفلسفية التي كنّا قد بدأنا الحديث عن
بعضها بعد، و ذلك وفق هذا الجدول الذي لا نريد به في الحقيقة التأريخ لتاريخ
الأفكار الفلسفية بل استعراض بعض أسباب و ملابسات العلاقات اللامتوازنة القائمة
أساسا على العنف و التعالي و عدم الاعتراف و الموضعة و الرغبة في التجاوز بين
الأنا و اللا ـ أنا، الشيء الذي يجعل من الاختلاف بين الإنيّة و الغيريّة خلافا
حقيقيّا قد يعزّز الرغبة في الأنانية و يخرجنا من كثرة الإنساني إلى وحدة الفرد:
هوبز و الأصل الطبيعي للصراع:
يعتبر هوبز(1588 ـ 1679) وهو فيلسوف أنڤليزي يُصنّف
تاريخيا ضمن فلاسفة العقد الاجتماعي بأنّ طبيعة الإنسان قائمة أساسا على العدوان
تجاه الغير حيث يصف لنا في كتاب "التنّين" وضعية الإنسان في حالة الطبيعة وهي فرضية
عمل انطلق منها بعض الفلاسفة للبحث عن أصل المجتمعات الإنسانية و أصل المؤسّسات
السياسية التي نشأت لتسوية الوضع الإنساني الموسوم بالعنف الناتج عن التنافس و الاحتراس
و حبّ المجد و لكن السبب الأكثر جدّية و الأكثر استدعاء للعنف هو الصراع لأجل
البقاء الشيء الذي يعلن حالة "حرب الكلّ ضدّ الكلّ" التي لا تُعبّر إلاّ
على أنّ "الإنسان ذئب للإنسان" الشيء الذي يستوجب إيجاد حلّ سياسي
لاستنقاذ الإنسان متمثّل في اختراع جهاز الدولة عن طريق التعاقد.
ماركس و الأصل الطبقي للصراع:
ساس الصراع حسب التصوّر الماركسي هو الفروق الطبقية الناتجة عن فروق اقتصادية
بين الطبقة الفقيرة و المضطهدة و بين الطبقة الرأسمالية المالكة لوسائل الإنتاج و لذلك
يكون الوعي الاجتماعي هو وسيلة لخفض التوتّر بين المواقع الاجتماعية قصد تحقيق
مجتمع اشتراكي قائم على ديكتاتورية لپروليتاريا وفق مبدأ ”الأرض للفلاّحين و المصانع
للعمّال“.
فرويد و الأصل النفسي للصراع:
إنّ توجّه سيڤموند فرويد و كما تعرضّنا لذلك هو شبيه جدّا بما ذهب
إليه هوبز حيث يقول في كتاب "قلق في
الحضارة" :« إنّ الإنسان ينزع إلى تلبية حاجته العدوانية على حساب الآخر و إلى
استغلال عمله دون تعويض عنه و إلى استعماله جنسيّا دون رضاه و إلى الاستحواذ على
ممتلكاته و إهانته
و إلى إنزال الآلام به و اضطهاده و قتله" و ذلك استنادا إلى النزوع
الإيروسي و التاناتوسي الذي تحكمه العُقد اللاواعية المختزنة منذ الطفولة في
الخزّان اللاشعوري للهو القائم أساسا على إرضاء مبدأ اللذّة الذي يتعارض مع مبدأ
الواقع المحكوم بالرقابة الشديدة للأنا الأعلى.
سارتر و الأصل الوجودي للصراع:
ـ يقول في كتاب "الأبواب الموصدة": "الجحيم هو الآخرون" و
معنى ذلك لا يفهم إلاّ بفهم التوجّه العميق للفلسفة الوجودية القائم أساسا على
تقديس مفهوم الحرّية الفردية الذي لا يكون له أيّ معنى إذا ما تقاطع مع حرّية أخرى
لأنا مغايرة الشيء الذي يحدّد حرّية الطرفين و بالتالي يكون له دور فاعل في تكبيل
الأنا وخنق أفقها اللا محدود
ـ مفهوم الصراع لدى سارتر ليس ديناميكيا كما هو الشأن بالنسبة لهوبز أو ماركس بل هو صراع ستاتيكي ثابت لأنّه قائم أساسا
على الموضعة للغير و النظر إلى الشّخص الغريب كشيء كإنسان نكرة فاقد لأيّ معنى من
معاني الإنسانية.
ـ الصراع السارتري شبيه جدّا بالتجربة التي تحدّث عنها هيڤل بين وعي السيد و وعي العبد قبل خوض الصراع.
فلسفات التواصل و الصداقة:
ماكس شيلر:
ـ هو فيلسوف ألماني معاصر جسّد كتابه " طبيعة و صورة التعاطف" ركيزة
فلسفته الأخلاقية حيث قام فيه بدراسة ظاهرة التعاطف و الحوار و فهم إنيّة
الأنا و الآخر قصد تأسيس مشروع حضاري للتعامل بين الأنا و الأنت من منظور انصهاري
متلاحم يؤسّس للتواصل و يشرّع للكثرة و العيش المتآنس و أكّد أنّ التعاطف هو أساس
الانصهار الاجتماعي و فكّ العزلة عن المجموعات المهمّشة و الأقليّات المستبعدة و المقصاة
اجتماعيّا أو سياسيا و التي يعبّر عنها بالجماعات اللا ـ عضوية
ـ عند هذا المفكّر يكون أساس الأخلاق كالتزام هو المشاعر التي يحملها كلّ فرد
بداخله و التي تخاطبنا لحظة القيام بالفعل الأخلاقي عن طريق حدس مباشر حاصل عن
شعور عفويّ لا يستند إلى أيّة مرجعيّة دينية أو اجتماعية فلحظة الشعور بالآخر هي
اللحظة الحقيقيّة للأخلاق
ـ ضمن هذا الفهم الحدسي للأخلاق يحاول شيلر نقد التصوّرات التقليدية للأخلاق مثل
الأخلاق الدينية التي ترجع الفعل الأخلاقي إلى واجب يمليه الوعي الديني لأنّ
الأخلاق الدينية هي أخلاق ملغومة و تحمل العديد من المفارقات التي حاول الكشف عنها
خاصّة في كتاب "إنسان الحقد" و من ذلك مثلا الوعي الديني يدعو ضمنيّا
إلى فعل الخير و لكنّه يحمل في طيّاته اللاواعية نوعا من التفرقة بين معتنقي
الديانات أو المذاهب المختلفة و بذلك لم تخرج الأديان من العُقد
الإيديولوجية الحاملة في طيّاتها لشحنات الرغبة في العنف فمثلا نجد أنّ المسيحيّة
هي ديانة تدعو إلى التسامح ولكنّها شهدت العديد من الحروب بين الكاثوليك و
البروتستان.
ـ ملخّص نظرية هذا الأخير هو أنّ الانفتاح الحقيقي على الآخر و الاعتراف به
يجب أن يكونا عن طريق وعي ذاتى نابع من حدس عاطفي باطني و ليس من أي إملاء خارجي
يمليه الدين أو القانون.
إيمانوئيل ليفيناس:
ـ يعتبر من أكبر المفكّرين الذين اتّسمت كتاباتهم بالخطاب الإيتيقي (الأخلاقي)
المنفتح على الغير و قد انعكست التجارب التي عاشها في حياته على هذا التوّجه حيث
ولد بليتوانيا سنة 1905 و هاجرت عائلته إلى روسيا إبّان الثورة
البلشفية أين عاين عن كثب مآسي الفقر و العنف و التفرقة الاجتماعية بين الفقراء و المترفين
ثمّ سافر إلى فرنسا بمفرده في فترة ما بين الحربين قصد الدراسة الجامعية و في تلك
الأثناء شهدت تلك الفترة صعود النازية التي أحدثت العديد من المآسي من اعتقالات و قتل
و تعذيب للأبرياء و لم يسلم هذا المفكّر كغيره من المثقّفين حيث سجن لمدّة خمس
سنوات و تعرّض جميع أفراد عائلته للإبادة من قبل الجيش النازي و كنتيجة لهذه
الظروف التاريخية أطلق صيحة فزع تدعو إلى السّلم و التآلف مع الغير فكتب كتابات
مضادّة للإرهاب و الحرب و النازية
ـ دعا في كتاباته إلى البينذاتية التي تقلّص
من التماسك بين الذوات و تسعى إلى التعامل مع الغير كذات و ليس كموضوع لأن التعامل
معه كذلك يجعلنا متخارجين عنه و الأفضل أن تتداخل ذواتنا أي أن يجعل كلّ منّا
الغير مسؤوليته الرئيسية فالفرد إذا أراد يستطيع أن يفعل أيّ شيء ضدّ الغير و لكن
الغير يطالبني بكلّ شيء أيضا لذلك تكون مسؤوليتي تجاهه ما أن يرى وجهي وجهه لا
نهائية.
ـ أبرز فكرة شملها كتابه ”الكلّية و اللانهائية“ تحليل رمزية النظر إلى الغير ”وجها لوجه“ التي هي أكثر التجارب أخلاقية لأنّ وجه
الإنسان هو الجزء الأكثر تعرّي لديه وهو كذلك الأكثر افتقارا و الأكثر وضوحا و هشاشة
تجعله عرضة لكلّ ضروب العنف و لذلك فإنّ هذا الوجه يكون قادرا على التكلّم دون
كلام أي أنّ قسماته و بؤسه المرسوم عليه تكون قادرة في رمزيّتها الصامتة و المعبّرة
في نفس الوقت أن تكلّمني و تجبرني على عدم ارتكاب جريمة القتل لأنّ الوجه حسب ليفيناس هو دلالة دون نصّ.
طريق النجاح: نتوجّه بجزيل الشكر للزميل: محمد كريم النيفر.
svp tal5ise le max possiblle
ردحذفشكرااا لهذا التلخيص القيم ولكن اين سبينوزاااا
ردحذفشكرااا لهذا التلخيص القيم ولكن اين سبينوزاااا
ردحذفTanks for thes essay
ردحذف