دراسة من إعداد الأستاذ: محمد كريم النيفر
مقابل انغلاق
ثقافات معيّنة على نفسها دفاعا عن الخصوصية ورفضا للكونية، و ما تثيره هذه و تلك من
جدل يعكس عند البعض أزمة هوّية و يعكس عند البعض الآخر أزمة فائض هوّيات.
وضعية استكشافية:
ما الذي يبرّر التفكير في مسألة الخصوصية و الكونية ؟ يبدو أنّ ما يَسم الواقع الإنساني من
تعدّد و تنوّع و اختلاف، و ما يميّز الإنساني من نزوع نحو
الكوني من ناحية و ما يمثّل القاسم المشترك في الفضاء الإنساني من ناحية أخرى بما
هو مؤشّر على الوحدة، أو الوجود النوعي للإنسان من ناحية أخرى
ما يشرّع النظر في مثل هذه المسألة، علاوة على ما اقترن به واقع الاختلاف من صراع
((… و عنف مُورس تحت شعارات مختلفة (…) بالإضافة إلى ظهور أقليّات تدافع عن حقّها
في الاختلاف و الاعتراف بها، بما هي وجود أو كيان مستقلّ، له هوّيته المميّزة، ما
يفيد أنّنا نعيش اختراق ثقافات لخصوصية ثقافات أخرى باسم الكوني،
كيف يمكن للخصوصية أن تنفتح على الكونية دون أن تفقد خصوصيتها ؟ (…) أم هل
علينا أن نختار بين الخصوصية و الكونية ؟ ألا يمكن للكونية أن تكون أفقا للخصوصية ؟
(…) ألا ينبغي أن نميّز بين كوني يجب إنقاذه و كوني يجب أن ننقذ أنفسنا منه ؟ و بأيّ
معنى يمكن أن ندافع عن الخصوصية و نعيشها دون القطع مع الكونية ؟ (...) يمكن
مبدئيا القول بأنّ الخصوصية تستدعي الكثرة و التنوّع و الفوضى، في حين تحيل الكونية على الوحدة و النظام. فهل يعني ذلك أنّه ليس بالإمكان التفكير
في هذه المسألة وفق ما تسمح به هذه الثنائيات׃
أي الفردي في مقابل الكلّي / الوحدة في
مقابل الكثرة / الفوضى في مقابل النظام ؟ ألا تترجم هذه الثنائيات رؤية اختزالية،
تنتهي عادة إلى الانتصار لقطب و التضحية بالآخر؟ (…) يقتضي التفكير في إشكالية العلاقة بين
الخصوصية و الكونية منهجيا التساؤل عن دلالة الخصوصية و مقوّماتها. تحيل الخصوصية
على معنى الهوّية، على ما هو جوهري و ثابت و أصيل و مميّز لمجتمع ما (…) أو للنحن الثقافي، لكن هل ينبغي النظر إلى الهوّية من جهة
اعتبارها مقولة منطقية ( أ = أ، منطق الهو هو، أو الهو عينه) أم من جهة
اعتبارها ما يتحقّق تاريخيا و ما تقتضيه التاريخية من حركة و تغاير و تحوّل و كسب؟
سؤال الثابت و المتحوّل يحيلنا على سؤال الهوّية من جديد (…) أعني هل هي كيان بسيط
أم كيان مركّب ؟ بلغة أخرى هل تردّ جذور الهوّية إلى ثقافة واحدة منغلقة على ذاتها
متأصّلة في عمقها أم أنّ جذورها متعدّدة و أصالتها تستمدّ من أصالة انفتاحها و قدرتها
على التأثّر بالتاريخ و التأثير فيه من ناحية، و من قدرتها على الإبداع و التجديد
من ناحية أخرى ؟
* يتوّلد عن التسليم بأنّ الهوّية بسيطة أو
جوهر بسيط، الدفاع عن الخصوصية، و باسم هذه الخصوصية ندافع عن انغلاق الهوّية
الثقافية على مختلف الثقافات، اذ باسم ذات الانغلاق ننظر إلى كلّ ما هو آت من
ثقافة أخرى على أنّه غريب و غيريّة تتهدّدنا، ينبغي رفضها و إقامة جدار عازل يحول
دونها و التأثير فينا أو غزونا خشية تحوّلنا عمّا نحن عليه (…) فنعيش أزمة هوّية. و لا شكّ أنّ من بين أهمّ استتباعات مثل
هذا الموقف القائل بالانغلاق دفاعا عن الخصوصية رفض كلّ تواصل مع الآخر و إحلال
العنف محلّه بما يعنيه من يأس من الإنساني أو ادّعاء احتكاره و ادّعاء الأفضلية و الاعتراف
بضرب واحد من التعامل يحكمه منطق الصراع و الصدام و يترجم عن قداسة الهوّية و حيويتها
و ما تستوجبه من خوض مغامرة الحياة حفاظا عليها.
* أمّا إذا افترضنا الطابع المركّب للهوّية أي
هوّية تتحدّد على ضوء عوامل مختلفة و متعددة، فإنّ الكونية قد تفهم بما هي أفق
للخصوصية، فبأي معنى نفهم الكونية بما هي أفق للخصوصية ؟ و هل يعني ذلك إمكان
تجاوز القول بالكونية بما هي نفي للخصوصيات ؟ لكن ما دلالة الكوني و ما مشروعية
القول بالكوني و الدفاع عنه ؟ لئن أحال
الكلّي على سجلّ منطقي فإنّ الكوني يحيل على سجلّ قيمي. لكن ألا يمكننا أن نقارب
الكوني من نماذج تفكير مختلف، كأن نقاربه من جهة الطبيعة و من جهة الوظيفة ؟ فعلى
مستوى الطبيعة يحيل الكوني على ماهية ثابتة، على ما هو نوعي في الإنسان و على ما
هو مشترك بين البشر، أو ما يوحّد الجنس البشري. أمّا على مستوى الوظيفة يمكننا أن
نعتبر الفكر كما الكلام الوظيفة النوعية للإنسان أي مجال الكوني، دون أن ينفي
هذا الذي نعتبره كونيّا الخصوصية، فإذا كانت اللغة خاصّية نوعية و كلّية فإنّ
الألسن متعدّدة، و إذا كان الفكر مجال الكلّي فإنّ تفكيرنا مختلف، و إذا كان
الرّمز مجال الكوني فإنّ الرّموز تختلف صورها و تتعدّد دلالاتها و إذا كان المقدّس
حاضرا في كلّ المجتمعات فإنّ صورته و فعله و فعاليته تختلف. وهو ما يحيلنا إلى
النظر للخصوصي بما هو فضاء الثقافات (الكثرة) أمّا الكوني فيحيل على فضاء الحضارة (الوحدة). و إنّ الإنساني لا يستقيم ما لم نأخذ مأخذ
الجدّ واقع الكثرة في الخصوصيات دون نفي الوحدة التي يعبّر عنها الكوني (…). غير أنّ الواقع الإنساني بما يتضمّنه من
تناقضات هو ما يثير مشكل علاقة الخصوصي بالكوني، فالكوني من جهة الواقع ليس بمثل
النقاء نصوّره من جهة المفهوم وهو ما يدفعنا لإثارة علاقة الكوني بالإيديولوجي و بالإيتيقي
(…). يفهم الكوني الإيديولوجي بما هو كوني هيمنة (…)،
تتّخذ من الكوني أفقا للعقل الأداتي، أو الحسابي، أي أفقا للمصلحة بدل الحقيقة، و للنجاعة
(المردودية) بدل القيم، وهو ما يتجلّى واقعا، في العولمة التي تبّشر بالوحدة
على حساب الكثرة، و باسم الوحدة تتلف الخصوصيات، وهو ما يؤشّر على أزمة تواصل، إذ
بقدر ما تشتدّ أساليب الهيمنة العولمية أو الكوني العولمي بقدر ما تشتدّ مقاومة
الخصوصيات و تشتدّ مبرّرات انغلاقها، ليتحوّل الدفاع عن الخصوصية مواجهة للهيمنة،
بما تعنيه (…) من سيادة منطق الصراع و الصدام، (…) و اللامعقول، و حلول لغة العنف
بدل لغة الحوار (…) إنّ الدفاع عن الخصوصية لا ينبغي أن يحمل على معنى رفض الكوني
و إنّما رفض الكوني الهيمني أو كوني الموت دفاعا عن كوني الحياة أو كوني كلّية
الإنسان و وجوده النوعي (…).
مقتطف من محاضرة الأستاذ׃ أحمد الملولي ـ بنزرت ـ في 28/11/2007
تمهيد׃
يقول جون دون: "الإنسان ليس جزيرة منعزلة" أي إنّه
عالمٌ ضمن عوالمَ، و جزءٌ من كلٍّ، و وحدةٌ داخلَ كثرةٍ، و خصوصيّة داخل كونيةٍ…
لذلك تتحدّد هوّيته بتحدّد الأفق الاجتماعي و الثقافي و الحضاري الذي ينتمي
إليه. غير أنّ هذا الانتماء الأوّلي للإنسان هو بدوره منخرط ضمن آفاق أرحب تنتسب
لمجتمعات أخرى و ثقافات أخرى و حضارات أخرى أي لهوّيات أخرى و خصوصيّات أخرى تكون
عادة فاعلة في هوّيته الأمّ و منفعلة بها أحيانا… و من هذا المنطلق تتحوّل الإنيّة
إلى إنيّات و الغيريّة إلى غيريّات ليكون لزاما علينا تحويل دفّة البحث الفلسفي في
اتّجاه ريح الثقافات بحثا عن الجزر الأخرى المُتاخمة لجزيرة الإنسان عسانا نستطيع
فكّ شفرة ”الكنز المفقود“ بفكّ الالتباس الحاصل لنا في فهم الآخر المختلف عنّا
عرقيّا و رمزيّا، المحتجب عادة خلف قناع الوشم و الطقوس و الأسطورة و العادات
المعادية أحيانا لخصوصيتنا و اللامتماهية ـ ظاهريا على الأقلّ ـ مع هوّيتنا الشيء
الذي يجعل من آخر الثقافات الأخرى نقطة استفهام عملاقة بشأن سؤال لم يطرح سلفا
إلاّ ضمن إطار حذر مُتوجّس أو ضمن هالة من الحكم المسبق و التصوّر الإيديولوجي
المغلوط لهوّية أصيلة و لأصل عرقي يُشرّع لبعض الشعوب الحديث عن مركزية
إثنية تنتصر لثقافة على أخرى ستُثبِت البحوث الأنثروبولوجية فيما بعد
أصوليتها و عنصريّتها لا لشيء إلاّ لأنّ الهوّية المزعومة إن هي إلاّ هوّية مركّبة
لهوّيات قد يتعذّر أحيانا تحديد هوّيتها و خصوصية مُنحدرة من أصل كوني لا أصل له
إلاّ الإنسانيّ المُتكثّر من وَحَداته اللامتناهية أي من حضارة إنسانيّة و من
ثقافة كونية .
يمكن القول إنّ التعامل الفلسفي مع إشكالية الخصوصية و الكونية يستوجب منذ
البدء توسيع مجال البحث الأنطولوجي في مسألة الإنيّة و الغيرّية إلي مجال
أنثروبولوجي فنستبدل بذلك ثنائيــة ”الأنا“ و ”الأنت“ بثنائية ”النحن“ و ”الهم“ طارحين بذلك علاقات الثقافات فيما بينها من
جهة التوتّر المُنشِئ لصراع الحضارات و التواتر الداعي لحوار الثقافات قصد تأسيس
حدٍّ أدني من التواصل بين الملل و النحل في زمن عولمة الاقتصاد و عولمة الرّمز و عولمة
المشهد و عولمة النموذج الداعي دائما إلى تجاوز الخصوصيات و اغتراب الهوّيات الشيء
الذي دفع بالبعض إلى الإعلان المبكّر عن نهاية التاريخ في حين ذهب البعض الآخر إلى
إعلان بداية جديدة لتاريخ إنسان الهوّية المركّبة المتجاوز لنظريّات التطوّر
الكلاسيكية القائمة أساسا على رصد التحوّلات البيولوجية بطرح نظريّة الطفرة
الثقافية المنادية بكونية القيم و كونية المشهد العالمي الجديد لحضارة الإنسان
كوحدة لكثرة مزعومة. لكن قبل ذلك و نظرا لخصوصية المسألة، يجب التسلّح و كما يقول ڤاستون باشلار بـ "حاسّة وضع الأسئلة" فماذا نعني بمفهوم الثقافة ؟ و ما هي خصوصية
الخصوصية ؟ و أيّة هوّية يمكن رصدها لمفهوم الهوّية ؟ و ما هو وضع الهوّية بين
التقوقع و الانفتاح؟ و هل أنّ الكونية تحقيق للخصوصية أم طمس لها ؟ و ما هي رهانات
الكونية ؟
1) مفهوم الثقافة
يُعتبر مفهوم الثقافة من أكثر المفاهيم اللّصيقة بمفهوم الإنسان نظرا لأنّه
الكائن الوحيد من بين بقية الكائنات الذي استطاع تحوير وجوده الطبيعي وترجمته إلى
وجود رمزي عن طريق ابتداعه للغة و الفنّ و الدين و الأسطورة و إلى وجود اصطناعي
قائم على منظومة الأدوات التي استعملها الإنسان البدائي و طوّرها الإنسان المعاصر
تأقلما مع منطق الحاجة التي هي أمّ الاختراع، فحاجة الإنسان البدائي إلى التوقّي
من حرّ الصيف و قرّ الشتاء مثلا هي التي كانت وراء ابتداعه للباس الذي اختلف من
ثقافة إلى أخرى، لذلك يُمكن فهم هذا المصطلح على أنّه كلّ إضافة قام بها الإنسان
للطبيعة و كلّ مجهود رمزي أو جمالي أو معرفي أو تقني حاول به الإنسان التواصل مع
الآخرين أو تطوير وجوده البدائي من الوحشيّة إلى المدنية و الحضارة عبر التاريخ.
غير أنّ الإنسان لم يعرف ثقافة وحيدة و كلّ ثقافة لأي شعب من الشعوب مهما كانت
درجة تأخرّه أو تقدّمه ما تنفكّ تتطوّر إمّا بفعل داخلي نابع من تجارب الشّعوب أو
بفعل خارجي قائم أساسا على مبدأ المُثاقفة الذي هو تأثّر الثقافات فيما بينها غير
أنّ اكتشاف نظرية المثاقفة لم يتبلوّر بشكل جدّي إلاّ في القرن التاسع عشر مع نشأة
علوم بأسرها قامت أساسا للبحث في الثقافات و لدراسة الاختلافات بين الشعوب مثل
الاتنولوجيا و الاتنوغرافيا و الأنثروبولوجيا .
2) الثقافة و الخصوصية:
إذا ما اعتمدنا تعريف الثقافة الذي صاغه إدوارد بيرنات تايلور في كتابه ”الحضارة البدائية“ الصادر سنة 1871 الذي يعتبرها « هذا الكلّ المُعقّد الذي يحتوي على
المعارف و الاعتقادات و الفنّ و الأخلاق و القانون و التقاليد و كلّ الاستعدادات و
العادات التي يكتسبها الإنسان بما هو عضو داخل مجتمع…» يمكن أن نُعرّف الثقافة بأنّها خصوصية
الفرد و خصوصية المجتمع الذي ينسب إليها باعتبار أنّ الخصوصية من حيث الاصطلاح هي
التميّز عن البقيّة أي التفرّد بشيء لا يمتلكه الآخرون فاللغة مثلا أو اللهجة أو
الانتساب الديني أو الممارسات الطقوسية أو عادات بعض المجتمعات و آدابهم هي بمثابة
أنظمة رمزية لا توجد إلاّ لديهم لذلك تُعتبر خصوصيتهم الخاصّة بهم و هوّيتهم
الثقافية التي توارثها ذلك المجتمع وساهم في ابتداعها و تطويرها تاريخيا، و من هذا
المنطلق يُمكننا أن نكتشف أنّ الخصوصية كانتساب رمزي مُتعدّد الأبعاد لمدوّنة
ثقافية مُعيّنة هي امتداد لهوّية الفرد التي لم تَعُد تُفهَم فَهْما سطحيّا
مُتعلّقا بالتثّبت إن كان اسمه مُستعارا أم حقيقيا بل أصبح هاجس البحث عن الهوّية
هو هاجس التنقيب الجادّ عن الجذور الحضارية و الانتماءات الرمزيّة الكامنة بطريقة
لاواعية في الخلفية الثقافية للفرد. غير أنّ مبحث الخصوصيات و هاجس الهوّيات
الاثنيّة قد تحوّل في بداية القرن العشرين إلى مبحث استعماريّ عنصريّ قائم على
التفرقة بين الأعراق و افتراض أفضلية شعوب على شعوب أخرى بسبب الخصوصيات المختلفة
و الهوّيات الهجينة و نذكر على سبيل المثال الحملات النازية التي سعت إلى تنقية
الجنس الآري و شنّ حملات إقصاء و تهميش استهدفت الآخر و عملت على إبادته فهل يُشرّع
الاختلاف الثقافي و الانتماء الحضاري المُتباين إقصاء الخصوصيات الأخرى ؟ هل
يحقّ لبعض التصوّرات الدّفاع عن مشروع الاثنية المركزية أم أنّ هذه الأفكار لا
تُعَدُّ إلاّ أوهاما سياسية و اختيارات إيديولوجية لم تفهم بعد الهوّية الحقيقية
للهوّيات التي هي في واقع الأمر هوّيات مركّبة و خصوصيات مُستلهمة من نماذج
بينثقافية متباينة و مستندة إلى نفس البُنى المنطقية تقريبا ؟
3) الهوّية الثقافية بين الكثرة و الوحدة:
يعتقد البعض أنّ الخصوصية بما هي مكوّن من مكوّنات الهوّية الفرديّة أو
الجماعيّة هي مُعطى ثابت لا يتغيّر و غير قابل للتطوّر و ذلك بفهم الهوّية
استنادا لظرفية زمكانية و تاريخية و اجتماعية أي بالنظر إليها ضمن وضعية مُعيّنه
غالبا ما تكون قابلة للتغيّر بمرور الزمن و بفعل العديد من المؤثّرات فهوّية
الطفل مثلا تتغيّر بتغيّر سنّه من الطفولة إلى المراهقة إلى الشباب إلى الكهولة
ثمّ إلى الشيخوخة كما يمكن أن تتغيّر بتغيّر مستواه العلمي من الأميّة إلى المعرفة
التي هي بدورها تتغيّر بتغيّر درجاتها و الهوّية المنتسبة إلى انتماء رمزي أو
إيديولوجي معيّن يمكن أن تتغيّر بتغيّر مُعتقدات أصحابها و كذلك الشأن بالنسبة
للهوّيات الثقافية التي يمكن أن تتجاوز الإطار البسيط لها لتصبح هوّية مركّبة على حدّ تعبير إدغار موران، و ذلك بفعل الانفتاح على الثقافات الأخرى
و استيراد أنماط سلوكية و فكرية و رمزية مختلفة عن الهوّية الأمّ لذلك دأب علماء
الانتروبولوجا على دراسة التفاعل الثقافي و الحضاري بين الشعوب و رصد انتشار
الثقافات أو بعض الأنظمة الخصوصية على مستوى كوني و من روّاد هذه المدرسة
الانتشارية نذكر الباحث الأمريكي ذو الأصل الألماني ” فرانز بواس“ (1942ـ1858) الذي قام بالعديد من البعثات
الانتروبولوجية الدّارسة للعلاقات الممكنة بين الثقافات لعلّ أهمّها: بعثة شمال
المحيط الهادي التي اكتشف خلالها وجود علاقات ثقافية بين
ثقافات شمال آسيا و ثقافات الشمال الشرقي للولايات المتّحدة الأمريكية على
مستوى اللّباس و الطقوس و العادات و الطباع المشتركة و البُنى و المفردات الثقافية
و ضمن محاولته تحليل ذلك أعاد المسألة إلى التجاور الجغرافي الذي يجعل من اللّقاء
الثقافي أمرا ممكنا و حتميّا الشيء الذي يكون وراء استيراد و تصدير الخصوصية
الثقافية لكلا الشعبين، و إذا قمنا بتعميم الظاهرة تصبح المسألة مؤدّية إلى القول
إنّ كلّ ثقافة هي في الأخير مزيج لعديد من الثقافات التي أثّرت فيها تاريخيا الشيء
الذي جعله يكتشف مفهوم النسبية الثقافية و يرفض الأفكار المُنادية بالاثنية
المركزية القائلة بأفضلية عرق على عرق آخر و بحضارة على حضارة أخرى…
لقد حاول هذا الباحث اكتشاف الكثرة ضمن الوحدة الظاهرة للثقافات فكانت أعماله
مُلهمة للعديد من الدّراسات الإنسانية مثل اللسانيات التي حاولت دراسة كيفية دخول
مصطلحات ثقافة ضمن ثقافة أخرى و عمليات استيراد المفاهيم و التمفصلات اللغوية التي
يمكن أن تؤدّي في بعض الأحيان إلى ابتداع أنظمة لغوية جديدة و اشتقاق لسان من لسان
آخر.
غير أنّ أعمال كلود ليفي ـ شتراوس قد حاولت النظر إلى المسألة من منظور آخر
باحثة في ما هو مشترك بين الثقافات و ما يمكن أن يؤسّس وحدة إنسانية تكون قاسما
مشتركا لجميع الثقافات مهما اختلف مستوى تحضّرها و مستوى عقلانيتها و طبيعة وعيها
سواء كان وعيا إحيائيا يحاول رؤية العالم رؤية أسطورية أنثروبومورفية ( نزعة تعطي خصائص إنسانية للظواهر
الطبيعية) أو وعيا علميا متوسّلا بالتقنية و بآخر مستجّدات الاكتشافات العلمية.
هذا و قد استلهم هذا الأخير منهج الانثروبولوجيا البنيوية ممّا توصلت إليه
اللسانيات من خلال تطبيقها للمنهج البنيوي الدارس للبُنى التي تحكم اللغات و للهياكل
المشتركة بينها مثل اشتراك جميع اللغات في البنية النحوية و الصرفية و التركيبية و
إن اختلفت الألسنة، لذلك كانت أعماله عبارة عن حفر في الأسس الخلفية للثقافات ضمن
الاشتغال على بنى معيّنة مثل القرابة و الأسطورة و قد أدّت دراساته الاتنوغرافية
على قبائل ”ماتو ڤروسو“ و قبائل الأمازون و الدّراسات التي أجراها على هنود البرازيل و خاصّة على أنظمة القرابة و على ظاهرة زواج
المحارم إلى اكتشاف أنّ هذا النوع من الزواج يكاد يكون منعدما في جميع الثقافات
تقريبا باستثناء الأسرة الفرعونية في مصر القديمة حيث كان الفراعنة يقبلون بذلك
حفاظا على نقاء الدم الملكي المنحدر حسب اعتقادهم من أصل إلهي. كما أدّت دراسته
للبُنى الأسطورية بين شعوب العالم ( مثال دراسته للأساطير التي تبحث في أصل نشأة
التبغ ) إلى اكتشاف علاقة التمثّلات الأسطورية في جميع الثقافات بالبُنى الواقعية
الاجتماعية حيث نجد مثلا اعتماد الأماكن الموجودة في الرقعة التي ينتمي إليها
الشعب و أسماء الأشخاص و التراتبيّة الاجتماعية المحلّية في كلّ الأساطير تقريبا
الشيء الذي يعكس أنّ البدائي يفكّر بنفس طريقة المتحضّر و ما الفرق بينهما إلاّ
فرق في الظروف الاجتماعية و الاقتصادية التي أحاطت بكليهما و أسهمت في ترقّي
المتحضّر و بقاء البدائي في نفس المرتبة لذلك أكّد في كتاب ”العرق والتاريخ“ رفضه للنظرّيات العنصريّة مثل نظرّية” ڤوبينو“ القائلة بضرورة التمييز بين الأعراق ـ
مُثبتا أنّ لا شيء في العلم المعاصر يمكن أن يؤكّد أفضلية عرق على آخر أو أفضلية
ثقافة على أخرى بل كان إسهام الثقافات البدائية واضحا في إثراء المخزون الإنساني
للشعوب إنّ أطروحة كلود لفي ـ شتراوس هي بمثابة البحث في الميتا ـ ثقافة أو في
اللاوعي الثقافي إذا ما شرّعنا لأنفسنا استيراد المفهوم اليونڤي (نسبة إلى كارل غيستاف يونـڤ) الدّارس للاوعي الجمعي و لأنّها كذلك فقد
كانت محاولة جادّة في رصد ما هو كوني بين الثقافات و إن كان كونيّا ضمنيّا أي
كونيّا غير مرئي أي غير واضح المعالم و غير جلي في حدّ ذاته إلاّ بضرب من ضروب
التأويل و التخصّص العلمي الشيء الذي يشرّع لنا التساؤل عن إمكانية تحقّق الكوني
الفعلي و عن مدى واقعه و آفاقه و حدوده غير أنّ التساؤل بشأن الكوني هو في الواقع
تساؤل بشأن التواصل و الأنظمة الرمزية لا لشيء إلاّ لأنّ الكونيّة هي في أكثر
معانيها حميميّة تعني الامتداد الزمكاني و اللانهائية و التداخل لأنظمة الوحدة ضمن
كثرة ممكنة تداخل العناصر الأربعة ( كما بيّنا ذلك منذ بدء المبحث) لتشكيل الكون و
منها التكوّن.
القراءة البنيوية للأساطير حسب كلود ليفي شتراوس:
لئن اعتبر بعض الألسنيين و الأسلوبيين و الإنشائيين أنّ اختلاف الروايات بشأن
الأسطورة الواحدة يمكن أن يجسّد عائقا أمام دراستها لذلك اختار جلّهم الاشتغال على
الرواية الجيّدة دون سواها مستبعدين كلّ الروايات المنقوصة أو المحرّفة. فإنّ كلود ليفي شتراوس يعتبر أنّ وراء كافّة روايات الأسطورة جهازا
عقليا واحدا و أنّ تنوّعها بالذات هو الذي يجب أن يتيح لنا استخلاص البنية
المشتركة بين جميع الروايات و بين هذه الأسطورة و بقيّة أساطير العالم و قد سبق أن
عبّر عن ذلك الباحث الأسلوبي الروسي "فلاديمير بروب" سنة 1928، و في هذا الصدد يمكن أن نختار
أسطورتين اشتغل عليهما كثيرا شتراوس في׃ كتاب "أسطوريات"׃
عن أصل التبغ أسطورة تيرينو:
نصّ الأسطورة׃ " كانت هناك امرأة ساحرة و كانت تلطّخ بدم
جسدها الملوّث نباتات كاراغواتا ( وهي نبتة من رتبة العلفيات أو البروماليات،
تتلطّخ أوراقها المركزيّة بالأحمر في قاعدتها). و من ثمّ تُطعمها لزوجها، فكان حين
يأكل منها يَعرِج في مشيته، و لا تعود لديه رغبة في العمل. و حين أخبره ابنه بذلك، أعلن أنّه ذاهب
للبحث عن عسل في الدغل، و بعد أن صفّق بنعلَيْ خُفَّيْه الجلديين لكي يسهل عليه
إيجاد العسل، اكتشف جرّة عند جذع شجرة، و بالقرب منها حيّة. فأعطى لابنه ما وجد من
عسل، و أعدّ لامرأته مزيجا من العسل و لحم أجنّة الأفعى، المُستخرجة من بطن الأفعى
التي قتلها، و ما أن بدأت المرأة في الأكل حتّى أصيبت بحكاك في جسمها. و أخذت
تحكّ، و أعلنت لزوجها أنّها ستفترسه، فهرب الرجل و تسلّق شجرة فيها عش لببّاغاوات،
و أخذ يهدّئ زوجته التي أصبحت متوحشّة بأن يرمي إليها من حين إلى حين أحد صغار
الطير الثلاثة الموجودة في العشّ و في حين كانت تلاحق أكبر هذه الأفراخ الذي
أخذ يرفرف هربا منها، فرّ زوجها في اتّجاه حفرة كان قد حفرها بنفسه متّخذا إيّاها
فخّا للصيد. فتجنّب الحفرة لأنّه كان يعرف مكانها، لكنّ زوجته وقعت فيها فماتت
فردم الرجل الحفرة و حرسها، فنمت من تربتها نبتة مجهولة، أثارت فضوله فيَبَّسَ
أوراقها تحت الشمس، و راح إذا، جنّ الليل يدخّنها خفية. فضبطه رفاقه و سألوه عمّا
يدخّن، و هكذا امتلك الناس التبغ". (كلود ليفي شتراوس׃ النيّئ والمطبوخ. ص: 108)
أسطورة من
"بورورو" عن أصل التبغ:
نصّ الأسطورة׃ " امرأة تحمل قطعة من أفعى قتلها زوجها في
الصيد، فتحبل من دم الحيوان المُتقاطر على جسدها، و تلد أفعى تُقيم في رحمها فلا
تخرج منه إلاّ لتقطف لها ثمارا من الشجر، ثمّ يقوم أخوة المرأة، بطلب منها، بقتل
الأفعى في فترة من فترات خروجها، و من رماد جثّتها يولد التبغ في عداد نباتات أخرى"
( كلود ليفي شتراوس׃ النيّىء والمطبوخ. ص: 212 )
ملاحظة أولى׃
يُورد شتراوس في نفس المصدر أسطورة من توبا متشابهة الأحداث عن أصل التبغ أيضا.
ملاحظة ثانية׃
الولادة من رماد الجثّة لها صدى مماثل في الأساطير الإغريقية و الفرعونية
و الرومانية و في بعض المعتقدات الصينية لأسطورة طائر الفينيق رمز الخلود و التحدّي
الذي كلّما قُتل بُعث من رماده من جديد.
وفي ما يلي جدول مقارن للأحداث و الشخصيات كما تأوّلها شتراوس ليبرز التشابه البنيوي:
الأسطورة الأولى:
زوجة تستعمل الدم الملوّث سمّا.
لها زوج يقتل الأفاعي.
أجنّة أفعى تستخرج من الرحم قبل الأوان.
يتسلّق الزوج الشجرة.
تقتل المرأة على يد زوجها.
على قبر الضحية يولد التبغ.
الأسطورة الثانية:
زوجة تحبل من الدم الملوّث.
لها زوج يقتل الأفاعي.
أفعى تبقى في الرحم بعد الولادة.
يتسلّق الابن الشجرة.
يقتل الولد على أيدي إخوة أمّه
على محرقة من الضحية يولد التبغ.
4) التواصل الإنساني و مطلب الكوني:
إذا ما تعلّق الأمر بمسألة التواصل يجب أن نتوصّل أوّلا إلى إيجاد تعريف يليق
بخصوصية المسألة المرتبطة أساسا بخصوصية الإنسان ذلك ”الحيوان الرامز“ ـ على حدّ
عبارة ﺁرنست كاسيرر، و بخصوبتها المُنفتحة بمصراعيها على
إمكانية الفهم للآخر قصد تأسيس تفاهم ممكن معه و أيضا على إيجاد صلة به،
بتوسّط مؤسّسة الرّمز بين باثّ و متلقٍّ حيث يقول يورغن هابرماس:« أن نقول شيئا ليس معناه فقط أن نقول شيئا،
بل ـ أن نقول شيئا لأحد ـ و أن ُنفِهمه ما نريد أن نقوله له…» هابرماس ”نظرية فعل التواصلي“ 1981 ·
غير أنّ الرمز و إن، وضع في العلوم اللسانية موضع التباس ضمن حقل دلالي يفرّق
مفهوميا على الأقلّ ـ بينه و بين العلامة و الإشارة و العبارة و الدوالّ و المدلولات
و يجمع الكلّ ضمن باب اللغة و أفق السيميولوجيا فإنّه في المبحث الأنثروبولوجي
يتّخذ أبعادا أكثر عمقا و أكثر إجابة عن كثرة الإنساني المتشضيّة بين اللغة و الدين
و الفنّ و العلم التي تعتبر بأسرها أنظمة رمزيّة ناتجة عن كائن ينتج الرمز و
يتمادى في إنتاجه متجاوزا وحدة النظام إلى كثرة الأنظمة كما تجاوز من
قبل وحدة الثقافة إلى كثرة الثقافات، غير أنّ لعبة الكثرة و الوحدة هي التي كانت
سببا خلق أزمة بين الثقافات جعلت من مطلب الكونية مطلبا للا تواصل و الصراع بين
الحضارات بما هو صراع بين الرّموز الثقافية لها و بالتالي يكون صراعا بين هوّيات و
خصوصيات مختلفة الشيء الذي يدعونا للتفكير في هذا العنف الذي تخفيه الكونية
المعولمة و خطورته على مبدأ الاختلاف الثقافي و التفكير أيضا في الحلول الممكنة في
استنقاذ سؤال الخصوصية من الاضمحلال و التلاشي بفعل تأثيرات الكونية السلبية
الاحتوائية أي في ما يمكن أن يحافظ على الخصوصيات و ما يجعل مطلب الكونية ممكنا و ذلك
بتمكين هذا التواصل الثقافي، أي بجعل حوار الثقافات ممكنا عن طريق تعلّم ثقافة الحوار
و كذلك بالتمييز بين "كلّي" يجب إنقاذه و "كلّي" يجب أن ننقذ
أنفسنا منه (على حدّ عبارة الدكتور علي الشنّوفي)·
أ ـ الاختلاف الثقافي و صدام الحضارات:
يعتبر سؤال الاختلاف هو سؤال الخصوصية عن
جدارة، التي لا تكون كذلك إلاّ باكتشاف المختلف و المنتمي إلى سجلّ هوّيات أخرى،
غير أنّ الاختلاف قد يشمل سجّلات و مجالات يمكن أن تحوّل الاختلاف ـ الذي يعني
التنوّع ـ إلى خلاف حقيقي يجعل التقاء الثقافات غير ممكن و يحوّل الرغبة في
الكونية إلى استعمار فكري وإيديولوجي يجعل من المشهد العالمي صداميا و صراعيا، و ضمن
هذا الأفق المتوتّر اشتغل العديد من مفكّري ما بعد الحداثة الذين من بينهم صاموئيل هنتنڤتون الذي حاول أن يبيّن خاصّة في كتابه: "صِدام
الحضارات" الصفة السلبية للكونية بماهي قتل و طمس
للخصوصيات حيث اشتغل على علاقة الحضارة الغربية بغيرها من الحضارات و حاول نقد
العقل الغربي الذي يسعي إلى فرض السيطرة الاقتصادية و السياسية على الحضارات
اللاغربية هذه السيطرة التي تحولت فيما بعد إلى سيطرة ثقافية قائمة على طمس
الهوّيات و الانتماءات الرّمزية و ذلك استنادا إلى محاولة تصدير الفكر الحداثي
المنادي بالتحرّر الفكري و الديني السياسي إلى الثقافات الأخرى، و ذلك ضمن محاولة
تأسيس مشروع كوني يريد امتصاص الخصوصيات ضمن فكرة ”الحضارة العالمية“ التي تسعى إلى التعامل مع الإنسان وفق
المقاييس الأخلاقية الغربية الشيء الذي كان سببا في وجود ردّات فعل صداميه من
الخارج عن طريق المدافعين عن الهوّيات الدينية و الخصوصيات القومية و من الداخل عن
طريق مجابهة المهاجرين و الأقليّات العرقية الموجودة في أوروبا و أمريكا للممارسات
التي قد تتّخذ طابعا عنصريا أحيانا ضدّهم يكون مستهدفا لرموزهم الثقافية و لديانتهم
و لانتماءاتهم الفكرية المختلفة.
و كنتيجة لتحليل هذه الفكرة يعتبر هنتنڤتون أنّ التنازل عن الخصوصيات الثقافية لبعض
الشعوب لن يكون بالسهولة التي يتصوّرها الغرب بل إنّ المقاومة للغربنة وا لتشبّث بالهوّية قد يصل إلى حدّ استعمال
العنف إذا ما تعلّق الأمر بالمساس بالمقدّسات الدينية خاصّة، لذلك لا يمكن
تجاوز صراع المطلّقات الذي يعبّر عنه ماكس فيبير بحرب الآلهة إلاّ بالتحاور مع الآخرين قصد
إيجاد ما يمكن أن يكون مشتركا بين الجميع أو عن طريق فسح المجال لجميع الخطابات
للتعبير عن رأيها و معتقداتها بكلّ حرّية وبدون أي تحفّظ سياسي أو عرقي أو
إيديولوجي و بهذه الطريقة يمكن إيجاد نظام عالمي يؤسّس للتعايش السلمي بين
الحضارات·
إنّ نظرّية هنتڤتون و إن بدت إنسانوية في نهاية التحليل من
خلال طرحه للحلّ السلمي الذي يمكن أن يستنقذ الاختلافات الثقافية عن طريق
حوار الثقافات فإنّه في الواقع حلّ سياسي يريد استنقاذ الحضارة الغربية و تحديدا
انتماءه الأمريكي من العنف الذي قد يتولّد من جرّاء مقاومة القيم الدخيلة على
الثقافات الأخرى و تأثيرات ذلك على السياسة الأمريكية و على مصالحها الاقتصادية
فيما بعد نظرا لأنّ المختصّين في العلوم الحضارية يعرّفون مفهوم الحضارة العالمية
بأنّه ﺁخر مرحلة يمكن أن تصل إليها ثقافة ما حيث أنّ الثقافات تنشأ ضمن إطار ضيّق
ثم تتطّور ضمن اتّجاه داخلي ينتج ثقافات فرعيّة محلّية و ضمن اتّجاه خارجي يسعى
إلى تصدير الثقافة المحلّية نحو ثقافات أخرى ثمّ إلى تدويلها لتتحوّل إلى ثقافة
عالمية ثم تتطّور هذه الثقافة العالمية لتصبح حضارة عالمية غير أنّ قانون الحضارات
العام يقرّ بأنّ كلّ حضارة تبلغ أشدّها ثمّ تتفكّك و تندثر...
ب ـ حوار الثقافات و رهانات الكونية:
إنّ مطلب التواصل هو أوّلا وقبل كلّ شيء،
مطلب حوار متبادل يكون كلّ طرف فيه فاعلا و كذلك منفعلا، غير أنّ الانفعال هنا لا
يجب أن يفهم على أساس سلبي يضع سؤال الهوّية موضع خطر بل يجب أن يكون حوار
الثقافات مبشّرا بإثراء فكري و انفتاح حضاري قادر على تحقيق رهان التحضّر بما
يتطلّبه من حضور، و راهنية، و قادرا في الآن ذاته على تجذير الهوّيات و تأكيد
خصوبتها و خصوصيتها في معزل عن التعصّب و العنف و الإقصاء الرمزي لذلك يقول تزفيتان تودوروف في كتابه ” اللانظام العالمي الجديد“ ترجمة وليد السويركي، أزمنة عمان. ص 88 ـ89 : « لا الأفراد، و لا الجماعات مضطّرة
للموافقة على طرائق تفكير الآخرين و سلوكياتهم، أيضا لا يملكون الحقّ في منع
الآخرين من الاستمرار في خياراتهم، و لا في اضطهادهم…» لأنّ المثاقفة شحذ للرؤية و تأكيد
لبينذاتية معانقة للكوني و مؤسّسة لبينثقافية يكون الإنسان هاجسها الأوّل و هاجسها
الأخير، فلا تكون الأنا ضمنها موضع خطر إذا ما اعتبرت نفسها آخر للآخر و إذا ما
اعتبرها الآخر بمثابة أناه و ذلك عودا على بدء إلى المشروع الأخلاقي الكانطي، كما صاغ معالمه في مبادئ كونية ثلاث وهي
كالتالي׃
✾ ـ القاعدة الأولى׃ افعل بحيث تجعل من قاعدة فعلك قانونا كلّيا
للطبيعة.
✾ ـ القاعدة الثانية׃ افعل دائما بحيث تعامل الإنسانية في شخصك و في
أشخاص الآخرين كغاية لا
كمجرّد وسيلة.
✾ ـ القاعدة الثالثة׃ افعل بحيث تكون إرادتك باعتبارك كائنا
ناطقا، هي الإرادة المشرّعة الكلّية
...الذي ربّما تحقّق يوما ما…
5) أزمة الكوني في ظلّ العولمي׃
يؤكّد جان بودريار في " السلطة الجهنّمية" أنّه׃" يوجد بين لفظتي "العالمي" و"الكوني"
تشابه خادع "وهذا الالتباس المفهومي يذكّرنا بالمقارنة
التي قام بها جيل دولوز بين الفيلسوف و السفسطائي قائلا إنّنا لا
يمكن التمييز بين الكلب و الذئب ـ و ذلك ناتج ربّما عن العفوية و السذاجة التي
كرّسها الخطاب الإعلامي الذي عادة ما يخلط بين الكوني و العولمة.
يعتبر هذا المفكّر الذي ينتمي إلى الحقبة الما بعد حداثية للفلسفة (فلسفة
الهوّية والاختلاف) " أنّ العولمة هي عولمة التقنيات و السياحة
و الإعلام" و من خلال هذه العناصر التي رصدها
يمكن أن نفهم أنّ العولمة هي الانتشار الكوكبي للرأسمالية العالمية فما " يتعولم هو السوق أوّلا، وفرة التبادلات و كلّ
المنتجات، و تدفّق المال المستمرّ" وفق حركة حرّة عبر الحدود الإقليمية و القارّية،
و في ذلك سعي إلى إعادة صياغة "مجتمعات الأطراف" و تشكيلها على صيغة
" مجتمعات المركز" بمعنى نقل المركز إلى جميع الأطراف في سياق عملية
الإنتاج و التبادل و التوزيع… فالعولمة هي مجموع عمليّات تاريخية متداخلة تتمثّل
في تحريك البضائع و رؤوس الأموال و المعلومات و حتّى الأشخاص بصورة لا سابق لها من
السهولة و الآنية و الشمولية و الديمومة، إنّها لحظة من لحظات النموّ الطبيعي
لنظام الإنتاج الرأسمالي يتمثّل في تعميم التبادلات الاقتصادية و الاجتماعية و المعلوماتية
على نحو يجعل العالم سوقا موحدّة للتبادل… لذلك يمكن اعتبارها ضربا من ضروب "
نهاية الجغرافيا" و يعتبر بودريار أنّ " الكوني يهلك بالعولمة" لأنّ العولمة قد كان منطلقها تجاريّا
منذ البدء لكنّها تحوّلت إلى متاجرة بالرّموز الثقافية مدخلة "الرأس مال
الرّمزي" (على حدّ عبارة بيار بورديو) ضمن مزايداتها الامبريالية التي تكون
ورقتها الرابحة في نهاية اللعبة هي البورنوغرافيا أي هيمنة صورة الجنس و شعوذات
العنف على المشهد القيمي لتفقد كلّ القيم قيمتها الإنسانية و ذلك لحظة سلعنة
الرّمز و تعليب الثقافات و تبضيع (من البضاعة) الجسد و تمدية (من المادّة) الكوني
لتتحوّل بذلك " الديمقراطية و حقوق الإنسان إلى عابر
للحدود كأي إنتاج عالمي، كالنفط، ورؤوس الأموال…" ( أو ربّما إلى" عابر
سرير" على حدّ التعبير الإبداعي للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي…) للوهلة الأولى، يبدو هذا العبور للقيم
أمرا محمودا إلاّ أنّه في الواقع يولّد" تجانسا" بين البشر و هذا
التجانس لا يمكن أن يتحقّق إلاّ على أساس منطق " التمييز و الاستبعاد"׃ فيتمّ تفصيل لوحة قيم محدّدة و مركزتها، و على
ضوئها يتمّ إقصاء قيم الهوّيات الأخرى و ذلك في انتظار، إمّا اندماجهم تلقائيا ضمن
الخارطة القيمية السائدة أو دمجهم عنوة متى لاح من الأطراف بوادر مقاومة لهذا
المركز، و من ثمّة، و كما لاحظ المفكّر الأمريكي "هنتنقتون"، " تكون الفكرة القائلة بأنّ
الشعوب الغير غربية ينبغي عليها تبّني القيم و المؤسّسات و الثقافات الغربية هي
فكرة لا أخلاقية في نتائجها"…
طريق النجاح: نشكر الأستاذ: محمد كريم النيفر و نرجو له مزيد التألّق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق