إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الثلاثاء، 8 سبتمبر 2009

إيريك فروم: جذور التملك وآفاق الكينونة

د. محمّد سبيلا
تمهيد:
ترجع صلتي(1) بإيريك فروك (1900-1988) إلى بداية السبعينات عندما فكرت في تناول مسألة العلاقة بين الماركسية والتحليل النفسي في إطار دبلوم الدراسات العليا آنذاك. وقد كنت أود أن أدرس هذه العلاقة من خلال نموذج واحد كان يبدو أن فروم هو ممثله الأبرز آنذاك وفعلا كاتبت إيريك فروم عن طريق دار انتروبوس بباريس التي كانت قد نشرت كتابه "أزمة التحليل النفسي" فأجابني برسالة شخصية من سويسرا يرحب فيها بلقائي وبإمدادي بما يتوفر لديه من مراجع وبمساعدتي في الحصول على ما ليس متوفرا منها. غير أني بعد التفكير مليا في الموضوع اقتنعت بصعوبة التركيز على نموذج واحد خاصة وأن أغلب مؤلفاته لم تكن قد ترجمت آنذاك إلى اللغة الفرنسية. فتخليت عن هذا الموضوع واخترت أن أدرس "تصور الإنسان بين ماركس وفرويد". لذلك فأنا عندما أعود مرة
أخرى إلى نصوص فروم فإني أرجع بنوع من الحنين إلى تلك الفترة التي استأنست فيها كثيرا برواد مدرسة فرنكفورت وبخاصة ماركوز وفروم. تتسم أفكار إيريك فروم بالطابع النقدي للمجتمع الصناعي المعاصر ضمن أفق "الرفض الكبير" le grande refus الذي أطر المشروع الفكري للمدرسة النقدية، التي استلهم أصحابها الماركسية والتحليل النفسي في فهم ونقد المجتمع الصناعي المعاصر الذي يسجل انكسار وعود الحرية، والعقلانية، والسلم، واللاعنصرية التي بشرت بها الأنوار، وانتصار الاستبداد واللاعقلانية والعنصرية والحرب. غير أن موقف فروم يتميز بعدم اتخاذه مواقف جدية صارمة، وبعدم رفضه السلبي والجذري للمجتمع الصناعي، ويتبنى خطابا توكيديا وإيجابيا يختلف عن الخطاب السلبي والنافي للنظرية النقدية(2). يتسم هذا الموقف بنزعة إيجابية واضحة تنتقد المجتمع الصناعي بسبب الطبع الذي يولده، ويدعو إلى ضرورة طبع إيجابي "منتج" يتجه نحو تحقيق الأداء الوظيفي الجيد للفرد في المجتمع المعاصر. وهذا الطبع المنتج هو طبع الفرد البالغ، العاقل، القادر على إقامة علاقات مع الآخرين، وعلى الإنتاج، وعلى تصريف طاقة الحب والتعاون... إن فروم ليس مناهضا جذريا للمجتمع التكنولوجي بل يدعو إلى أنسنة هذا المجتمع، في حين يتشكك معظم ممثلي النظرية النقدية في إمكان ذلك ويرون استحالة السعادة في هذا المجتمع(3). يرى فروم أن كلا من المجتمع المعاصر والإنسان المعاصر يعيش حالة استلاب قوية فكلاهما مريض. لكن فروم يرى أنه يتعين إصلاح المجتمع وتكييفه مع حاجات الفرد، لأن نظريته على وجه العموم نظرية متمركزة حول الفرد.لقد خلفت رأسمالية القرن التاسع عشر في أوربا أي الرأسمالية الشرسة في ذروة تطورها طبعا اجتماعيا Caractère social يتسم بالتنافسية الحادة، وأهمية الملكية الخاصة، وقابلية الاستغلال، والنزعة السلطوية إضافة إلى النزعة العدوانية والفردانية.وهذا الطبع الاجتماعي المهيمن الذي يفرضه المجتمع عبر آليات وسيرورات تنشئة اجتماعية قوية تربوية في العائلة، والمدرسة، وإيديولوجية عبر وسائل الإعلام والأدب والطقوس الدينية، منذ الطفولة الأولى، هو طبع اجتماعي استلابي ومستلب Alienant بمعنى أنه يجعل الفرد غريبا عن نفسه وليس سيد نفسه لأن قوى خارجية تتحكم فيه وتوجهه، وتوهمه عكس ذلك.واستلاب الإنسان واغترابه في المجتمع التكنولوجي المعاصر، على الرغم من اكتسابه للوعي الذاتي وللعقل والقدرة على التخيل، هو استلاب عميق ومركب. فالإنسان غريب عن ذاته إن عن النوع الإنساني برمته وغريب في عمله أي عن نشاطه الذاتي وغريب عن الآخرين وغريب عن الأشياء المنتجة والمستهلكة ومن خلالها عن الطبيعة ذاتها. وهي تقريا نفس أصناف الاستلاب التي يتحدث عنها ماركس في "مخطوطات 1844". يلاحظ أحد الباحثين أن هذا الاستلاب، على الرغم من ارتباطه ببنية اجتماعية-تاريخية محدودة، إلا أنه أصبح من القوة والرسوخ بحيث يكاد يبدو وكأنه استلاب طبيعي ذو جذور بيولوجية أو مرتبط بالشرط الإنسان ذاته. فالإنسان كائن ذو حاجات لا نهاية لها ولا إشباع لها، ابتداء من الحاجات البيولوجية الأساسية إلى الحاجات السيكولوجية والاجتماعية التي لا قرار ولا إشباع لها. فوعي الإنسان بحاجاته ومشاكله يحول بينه وبين الشعور بالإشباع والاكتفاء، حتى وإن ثم إشباع الحاجات الأساسية. وهذه الحاجات السيكولوجية والاجتماعية العميقة والأساسية تتمثل في:
- الحاجة إلى إقامة علاقات مع الآخرين.
- الحاجة إلى الإبداع والفعل.- الحاجة إلى الأمن والأمان والاستقرار.
- الحاجة إلى هوية خاصة مميزة.- الحاجة إلى السلوك والتوجه في المجتمع، أي إلى فهم وتحليل العالم المحيط وإعطائه معنى.
إلا أن الطبع المجتمعي المهيمن في المجتمع الرأسمالي الصناعي المعاصر يكيف كل هذه الحاجات إما بالقمع، أو التحويل، أو التمويه وهو يجعل الفرد في حالة عناء وإرهاق نفسي تعمقه مشاعره بالاستلاب. العنصر المحوري المشكل للطبع المجتمعي السائد في هذه المجتمعات هو مسألة العندية (L’Avoir ) أو التملك (Possession ). والمجتمع الاستهلاكي الحديث في الغرب يعمق هذا الطبع ويجعل التملك ليس فقط استجابة لمتطلبات الصناعة والتجارة الرأسمالية أو مجرد تلبية ضرورية لحاجات بل يجعل منه نموذج السعادة، ورمز القوة، وبشيرة الخلاص الروحي. بل إن فروم، عندما يلين العلاقة بين النمط الامتلاكي والنمط الكينوني قائلا بأنهما معا موجودان في الإنسان نوعا وفردا، وضاربان في أعماق النفس والطبيعة الإنسانية، ومضمران ضمنيا فيها، يعود ليؤكد أن قوة الحاجات البيولوجية وارتباطها بضرورة البقاء، هو ما يزكي ويرسخ قوة ونمو وهيمنة النمط الامتلاكي(4). يتتبع فروم المنابع المختلفة لهوى التملك في النظام الاقتصادي والاجتماعي، وفي الثقافة، واللغة، وينقب في جذوره البيولوجية حيث يقف عند دور الطبع الشرجي وفي إذكاء وترسيخ هذا الهوى (Passion ). الطبع الشرجي Le caractère anal من منظور التحليل النفسي، هو الطبع الذي يجعل كل الطاقة الحيوية للشخص تتوجه نحو التملك، والاحتفاظ، والتوفير، وتخزين المال والممتلكات، وهي طاقة توجه وتكيف كل مشاعر الشخص وسلوكاته وتلفظاته وكل أنشطته، حيث يصبح المال مفتاح كل الممتلكات وملكية الملكيات، ويأخذ قيمة رمزية استثنائية(5). صحيح أنه يمكن تفكيك الرغبة في التملك وإرجاع قسط كبير منها إلى رغبات وديناميات أخرى كما يرى بعض المحللين النفسيين حيث تصبح هذه الرغبة تعبيرا واعيا عن الشعور بالقلق، أو عن الرغبة في الأمان، أو في إشباع الحاجات الأولية، أو امتلاك القوة، أو عن التعويض عن مشاعر النقص المداهمة للنفس، أو عن الرغبة في التميز، أو التنافس، أو الحسد، أو استجلاب الاعتراف(6) الخ. لكن تفكيكها إلى هذه المكونات لا يعني إذابتها أو قابليتها للانحلال بل يدل على أنها رغبة شائكة معقدة وراسخة ومتجذرة في النفوس تتداخل فيها عدة عوامل سوسيولوجية، وسيكولوجية، ورمزية، وأنها على الأقل بلورة وتعبير عن كل أو عن بعض هذه العوامل. هذا التركيز على أهمية التملك سواء في جذوره الطبيعية والبيولوجية أو في نظاهره السيكولوجية باعتباره بؤرة الوضع الاستلابي والطبع الاجتماعي الرأسمالي يقابله في برنامج الخلاص الذي يقترحه فروم والذي يضم عشرين نقطة(7): التركيز على "التخلي عن كل أشكال التملك حتى يحقق الكينونة الكاملة"(8) وكذا إقامة كل مكونات الحياة الاجتماعية من أمن وهوية ومعرفة وثقة في النفس على أساس الكينونة لا على أساس التملك أي على أساس ما نحن لا على أساس ما نملك. ما هو إذن نمط الكينونة الذي يبدو أنه يشكل محور اليوتوبيا الفرومية؟ المقومات الأساسية للكينونة التي هي العنصر المحوري في اليوتوبيا الإنسانية التي يبشر بها ويدعو لها فروم، والتي تشكل العمق الفلسفي لهذه اليوتوبيا هي:
- التعبير عن الذات- الفعالية والنشاط
- العلاقة مع الآخرين
- البذل ومشاركة الآخرين
- التضحية من أجل الآخرين والتخلص من النرجسية والأنانية
- الحب واحترام الحياة(9)
إن الكينونة هنا تكاد تكون نقيض التملك، و"شهوة" الكينونة هي نقيض شهوة التملك، بل إن ما يعطي معنى للحياة ليس هو إرضاء شهوة الملكية، التي هي شهوة ضاربة بجذورها في أعماق النفس/الجسم ككل الحاجات البيولوجية، بل، على النقيض من ذلك، الخروج من الذات نحو الآخرين للتضامن معهم ومشاركتهم في كل شيء. وبذلك يبدو وكأن بعد الكينونة كبعد يوتوبي وخلاصي، هو نقيض الحاجات البيولوجية، وكأن الانتقال من التملك إلى الكينونة هو انتقال من الحاجات البيولوجية إلى الحاجات الإنسانية بالمعنى القوي، أي من الحيوان إلى الإنسان الأرقى الذي لم يعد عبدا للشهوات والرغبات.ارتكازا على هذه المقولة المحورية يقين فروم برنامجا لتحقيق الإنسان الجديد مكون من عشرين بندا أولها ومفتاحها رفض كل أنماط وأشكال التملك، من أجل تحقيق الكينونة الكاملة. وهو برنامج فلسفي وسياسي ذو ملامح اشتراكية، وذو نزعة إنسانية يمتح من العهدين القديم والجديد، ومن تعاليم بوذا، والقديس أوغسطين، ومن تحليلات ماركس، وبخاصة من سيد الصوفية الألمان جميعا Maître Ekhart1260-1327 ذو التأثير القوي على جل الفلاسفة الألمان. حضور أفكار إيكهارت شاهد على بعد صوفي في اليوتوبيا الفرومية بدعوته إلى حياة زهدية متحرر من شهوة التملك التي تستبعدنا وتشدنا وتتحكم فينا وتفقدنا حريتنا؛ وبدعوته إلى حياة مستلهمة لمعنى الكينونة كحضور قوي للحياة والنشاط والبذل والولادة والتجدد والطفح والانبثاق والإنتاج، مثلما هي رؤية صوفية تستلهم تعاليم بوذا الذي يرى أن مصدر وعلة آلام الإنسان هي الشهوات ورغبات الاحتياز. تسعف هذه الأفكار الخلاصية المستوحاة من عصور سابقة، أي أفكار الزهد والحد من الشهوات والأهواء، التي كان لها معنى في مجتمعات زراعية تحكمها ندرة الخيرات، وغياب التفاوت الاجتماعي الحاد، وقوة المعتقد الديني، تسعف فروم في تصور إمكانية الإفلات من إكراهات المجتمع الحديث، مجتمع الإنتاج، والوفرة، والاستهلاك، والمتع الحية، ولكنها في نفس الوقت تكاد تبدو أقرب إلى الحلم أو اليوتوبيا بعيدة المنال.يبدو أن فروم في نقده للمجتمع الصناعي الغربي الحديث يبتعد عن الكثير من مظاهر الخطاب الراديكالي الرافض المألوف لدى أقطاب مدرسة فرنكفورت ويتبنى خطابا توكيديا وإيجابيا لا يركز على التناقضات الداخلية التي يمكن أن تفجر النظام الاجتماعي، كما لا يركز على فاعل تاريخي بعينه، مطورا تحليلا سيكولوجيا وأخلاقيا ذا استلهام اشتراكي وذا نزعة إنسانية كبديل للنظام القائم(10).
- ملاحظات ختامية:
1– يرجع فروم استلاب الإنسان المعاصر إلى هيمنة طبع اجتماعي يفرضه النظام الاقتصادي الرأسمالي السائد في المجتمع الحديث على أفراده وعلى المجتمع ككل. محور هذا الطبع هو شهعوة التملك التي تسم الطبع الفردي وتتحول من حاجة تتطلب الإشباع إلى حاجة تخلق حاجات متزايدة باستمرار وتجعل من الكمالي شيئا أساسيا وضروريا. إلا أنه يلاحظ نوع من التأرجح وعدم الوضوح في متن فروم. فهو تارة يرجع شهوة التملك إلى الشرط التاريخي المتمثل في الرأسمالية التنافسية، وتارة يردها "الطبيعة الإنسانية" ذاتها في جذورها البيولوجية كالطبع الشرجي Le caractère anal أو حتى في البنية النفسية للكائن اليشري. والموقفان مختلفان ونتائجهما مختلفان، فاعتبار شهوة فإرجاع شهوة التملك إلى شروط تاريخية معناه قابليتها للتعديل وإمكان الشفاء منها في حين أن إرجاعها إلى مكونات طبيعية بيولوجية أو سيكولوجية يجعل أمر تعديلها عسيرا إن لم يكن مستحيلا.
2 – يبدو أن هناك صعوبة في الفرز وفك الاشتباك بين نمطين أساسيين للوجود الإنساني: نمط الكينونة ونمط التملك، وذلك بسبب تداخلها العضوي والوظيفي-الاستعاري، حيث تعبر إحداهما عن الأخرى تعبيرا رمزيا أو تقوم مقامها في المجتمع الصناعي الحديث التي تعتبر العملية الأساسية السائدة فيه بشكل موضوعي (خارجي) وحتمي هي عملية التبضيع الشامل.لقد حاول فروم أن يميز بين الوجه الكينوني والوجه التملكي لمجمل الأفعال الإنسانية حيث ميز في التعلم بين اكتساب وتحصيل المعلومات والتعلم عن طريق يقظة الذهن، وميز في الإيمان بين كونه اعتقادا تملكيا لبعض الأفكار، وبين كونه اهتداء وتوجها داخليا وموقفا، كما حاول أن يجتهد في التمييز بين وجهي العديد من الفعاليات والأنشطة الإنسانية كالتذكر والتحادض، والقراءة، وممارسة السلطة، والحب والمعرفة... لكن هذا التمييز ظل يعاني إما من عدم الوضوح أو من عسر الفصل بين وجهي عملية إنسانية واحدة متداخلة.
3 – يلجأ فروم إلى استلهام نماذج فكرية وتجارب روحية تنتمي إلى ديانات الشرق الأقصى أو إلى العهد القديم والعهد الجديد أو إلى الإرث الصوفي الألماني وهي بالتأكيد نماذج فكرية وتجارب روحية تقع خارج مجال العصور الحديثة أي تنتمي إلى مجتمعات أولية تتسم أساسا بندرة الخيرات وبقوة الوازع الروحي في حين أن المجتمعات الحديثة المستمتعة بخيرات التطور التقني هي مجتمعات الوفرة والإنتاج والاستهلاك جموح الرغبة، كما أنها مجتمعات تم فيها -بفعل تطور العلم- الكثير من مظاهر نزع الطابع السحري عن العالم وتحرير الأهواء والرغبات. والرغبة في التملك تستمد قوتها من الطبيعة الإنسانية ذاتها لكنها في نفس الوقت تجد سندا قويا في بنية الإنتاج الاقتصادي وفي الآليات الموضوعية لاقتصاد السوق الذي يلعب دور المحدد الحتمي للسلوكات وللشخصية والأخلاق، فالأمر لا يتعلق بمجرد اختبار ذهني أو ذوقي بل هو مرتبط بتشريط موضوعي عام للحياة الإنسانية في العصر التقني الحديث. فما مدى صلاحية ومشروعية التبشير بثقافة ذات ملامح زهدية Ascetique مستمدة من عصور مختلفة ومنصرمة؟
4 – الفكر الألماني هو الفكر الذي فكر بعمق في الحداثة أي فكر فيها تفكيرا فلسفيا، أي فكر في ماهيتها الميتافيزيقية كتصور محدد للكينونة والكائن والعقل والمعرفة والحقيقة والتاريخ، لكنه أيضا هو الفكر الذي مارس نقدا راديكاليا وشاملا للحداثة. مظاهر هذا النقد عديدة. فهو فكريا نقد لميتافيزيقيا الحداثة ولبنيتها الفكرية ولعقلها ولخلفياتها ولنتائجها الفلسفية، وهو من الزاوية السوسيولوجية نقد لاذع لمظاهر الاستلاب والتشيؤ. فقد ركزت الماركسية على نقد الاستلاب باعتبارها مفعولا أساسيا للرأسمالية القائمة على الملكية الخاصة وعلى استغلال العمل. يندرج في هذا النقد جل الماركسيين بمن فيهم لوكاتش ومدرسة فرنكفورت، وضمنهم فروم. لكن هناك نقد آخر للحداثة كبنية فكرية وللمجتمع الحديث ذاته وهو الخط الفكري المنحدر من نيتشه عبر هيدجر. هذا الصنف من النقد يركز على نقد الخلفيات الميتافيزيقية، لكنه يولي أهمية خاصة للتقنية باعتبارها اكتمالا للميتافيزيقا ونمطا خاصا لعلاقة الإنسان بالعالم وجذرا أساسيا للاستلاب والتشيؤ. وهذا الصنف من التشخيص النقدي نكاد لا نجد له صدى في تحليلات فروم الذي يتحدث أحيانا عن التصنيع والمجتمع الصناعي لكنه لم ينتبه لدور التقنية ونمط الوجود التقني في توليد الاستلاب والتشيؤ.يركز النقد-التشخيص الفرومي لوضعية المجتمع المستلب والإنسان المستلب يركز كليا على العملية الاقتصادية الكبرى في المجتمع الرأسمالي أي عملية التبضيع الشامل للمجتمع، التي يرى نها هي مصدر كل الأدواء.في هذا التشخيص السوسيواقتصادي يبدو الحضور الماركسي قويا في فكر فروم، وهو حضور يغيب معه محدد آخر كليا تقريبا عن فكره وهو المحدد التقني. صحيح أن فروم تحدث عن المجتمع الصناعي، لكنه لم يول الأهمية الفكرية الكافية للتقنية من حيث هي نمط وجود محدد للسلوك والأفكار والقيم والتصورات، ومن ثمة الحضور القوي لمفهوم الاستلاب والغياب شبه الكلي لمفهوم التشيؤ(11)، لأن تصور الإنسان في الماركسية كما يرى هيدجر يدور أساسا في إطار الإنتاج والاستهلاك. وفكرة الإنتاج هي أساس ميتافيزيقي للماركسية ذاتها. "فكل كائن يبدو وأنه مادة وموضوع عمل معين"(12). والتاريخ الإنساني يبدو بمثابة عمل وفعل الإنتاج الذاتي للإنسان بواسطة الإنسان، لأنه ينتج ذاته وهو ينتج الطبيعة.يبدو أن عدم إيلاء فروم للتقنية ولنمط الوجود التقني في ذاته أهمية يعود إلى بقائه ضمن باراديغم الإنتاج أي ضمن الأفق الفكري للماركسية. فهذه الأخيرة كما أوضح ذلك هيدجر لم تفهم التقنية ولم تستوعبها، ومن ثمة لم تولها الأهمية الكافية في التحليل. ولذلك فإنه لا يمكن فهم ماهية التقنية ومفاعيلها الاجتماعية والفكرية المختلفة من خلال الماركسية وانطلاقا من أفقها الفكري(13). ورغم أن البعض يعتبر ماركس مفكر التقنية(14) فإنه يبدو أن ماركس لم يستوعب الماهية الميتافيزيقية للتقنية ولم يفكر فيها خارج مفعولاتها ومقولاتها التي تنعكس بشكل قوي في منظومته الفكرية، والتي تمتد لتنعكس في فكر من تأثروا بالماركسية واعتمدوها أداة لتحليل المجتمع الغربي الصناعي المعاصر، ومن ضمنهم إيريك فروم.
الهوامش:
1) نص مداخلة د.محمد سبيلا وهو من بين أعلام الفكر العربي المعاصر ومن الوجوه الفكرية العربية الحاضرة بقوة في الأوساط الجرمانية. رئيس الجمعية المغربية للفلسفة، وعضو مؤسس لمركز الحوار بين الثقافات والحضارات في الأكاديمية العالمية للفلسفة بإمارة الليكتنشطاين. إلى جانب مهنته كأستاذ جامعي للفلسفة الحديثة بجامعة محمد الخامس بالرباط/المغرب، فإنه جد نشيط في ميدان الترجمة والإعلام والثقافة.
2) P.Zimma : L’école de F. p. 163.
3) Zimma, 173.
4) Avoir et Etre, p. 121.
5) انظر في هذا الباب كتاب:Ernest Borneman : Psychanalyse de l’argent, tr. Fr., Paris, PUF, 1978.الذي هو تجميع لعديد من الدراسات التحليلنفسية المتعلقة بأصل وطبيعة المال والرغبة في التملك وبخاصة الدراسة التالية في نفس الكتابMorris Guisberg : Possession et cupidité, p. 338-346.
6) Avoir et Etre, p. 197-198.
7) Avoir et Etre, p. 197.
8) Avoir et Etre, p. 121-127.
9) نفس المرجع السابق، ص: 83.
10) Zimma : L’école de Francfort, p. 156.
11) باستثناء حديث فروم عن الإنسان المستلب الذي يعيش أناه كموضوع خارجي لإدراكه، Avoir ou Etre, p. 253 .
12) انظر:E.Ganty : Penser la modernite, PUM, p.98-99 ; « Tout étant apparaît comme la matière d"un travail donné ».
13) Ganty : p.387-391.
14) Kostas Axelos : Marx penseur de la technique, Gallimard.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق