مأزق مفهوم و محنة هويّة ـ الأستاذ: محمد فاضل رضوان
قلق هذا المفهوم و تداخله مع مفاهيم أخرى من
قبيل العالمية،2 هو ما يجعل بعض الدراسات
الحديثة ترفض حتّى الاعتراف به، إذ تعتبره مجرّد خرافة و موضة عصر.3 إنّنا
بحسب تعبير المفكّر الفرنسي ريجيس دوبري (regis debri) أمام نظام لا يزال قيد التشكّل بأدوات و محدّدات نظرية غير موعى
بها وعياً تاماً، كما وقع بالنسبة لانتقال العالم من العصور الوسطى إلى عصر
التنوير، أو من الموجة الفلاحية إلى الموجة الصناعية، أو من الموجة الصناعية إلى
الموجة المعلوماتية، وهي ذروة الحداثة.4 و لعلّ هذا ما جعل روبرتسون
(robertson)، أحد أبرز منظّري العولمة في العالم، في تحقيبه الشهير لتاريخها
يطلق على المرحلة الخامسة التي تتمثّل الصورة المعاصرة التي نحن بصدد عيشها مرحلة
عدم اليقين،5 التي تحيل بالضرورة على قلق
المفهوم و استعصاء حصره اصطلاحياً أو وظيفياً، غير أنّ مسحاً سريعاً لمجموعة من
التعاريف المقدّمة من قبل مجموعة من المفكّرين و الأكاديميين قد يتيح لنا استخلاص
بعض مؤشّرات سيرورة المفهوم على الأقلّ:
1. راجع بهذا الخصوص: هانز بيتر مارتين و هارولد
شومان. “فخّ العولمة”، ترجمة عدنان عبّاس علي، عالم المعرفة، العدد 295، الكويت آب
2003.
عادة ما تقدّم العولمة باعتبارها مصطلحاً
قلقاً يرتبط ذكره بالتوجّس و التحفّظ بالنظر لتعدّد حضوره في مختلف الخطابات
السياسية و الاقتصادية و الثقافية المعاصرة، دون أن يكون هناك سياق جامع مانع يتحكّم
في سيرورة هذا المفهوم، فيسمح بوضعه في إطار تعريفيّ قارٍّ كغيره من المفاهيم، ففي
حين يبدو للوهلة الأولى أنّ الأمر يتعلّق بمصطلح جديد يكاد تداوله الإعلامي يتجاوز
البضع سنوات، فإنّ كلّ من هانز بيتر مارتين و هارولد شومان في كتابهما "فخّ العولمة" يرسمان له جذوراً تاريخية عميقة تعود إلى أكثر
من خمسة قرون، منذ اكتشاف أمريكا و غزوها و كونية عصر الأنوار.1
يعرّف سمير أمين
العولمة بكونها الاختراق المتبادل في الاقتصاديات الرأسمالية المتطوّرة بدرجة
أولى، ثمّ توسيع المبادلات بين الشمال و الجنوب على اعتبار أنّه يمثّل سوقاً مهمّة،6 فيما يذهب هوبرت فيدرين
(Hubert vedrine) إلى أنّ العولمة ليست فكراً و لكنّها وقائع تقنية فرضت نفسها على
الساحة الكونية، و في فرضها لنفسها أقلقت الجميع، و بخاصة الدول و مؤسّسات القطاع
الخاصّ، إنّها ظاهرة لا تمسّ أي اقتصاد، و إنّما بالحصر اقتصاد السوق و الاستهلاك،
و اقتصاد تحويلات العملات و التدبير الاستثماري.7 أمّا صادق جلال العظم
فيعرّفها بكونها وصول نمط الإنتاج الرأسمالي، عند منتصف القرن تقريباً إلى نقطة
الانتقال من عالمية التبادل و التوزيع و السوق و التجارة و التداول، إلى عالمية
دائرة الإنتاج و إعادة الإنتاج ذاتها.8 بينما يرى عزمي بشارة
أنّها طغيان قوانين التبادل العالمي المفروضة من قبل المراكز الصناعية
الكبرى على قوانين و حاجات الاقتصاد المحلّي.9
هذه التعاريف و إن كانت تتقاطع فيما بينها من حيث تركيزها على الجانب الاقتصادي و التقني
الذي يبلغ أوجه في المدّ المعلوماتي، فهي لا توازي أهمّية المفهوم و حضوره المتشّعب
في مختلف الخطابات المعاصرة؛ لأنّنا بهذا المعنى بصدد اعتبار العولمة مجرّد
ممارسات جديدة في التجارة و الاقتصاد المتبادل تستند إلى قوّة التدفّقات المالية
في سوق عالمية واحدة، و اتّساع رقعة المبادلات التكنولوجية، و بخاصّة عبر وسائل
الاتّصال و الإعلام،10 ما يجعل مقاربتنا
للعولمة قاصرة عن الإحاطة بشموليتها و اختزالاً لها في بعض مكوّناتها، و إهمالا
غير مبرّر لتجلّياتها المختلفة و المتعدّدة الأشكال و الألوان، الشيء الذي يتطلّب
ضرورة الوقوف بدقّة و شمولية، إن لم يكن على دلالة المفهوم وهو أمر لا زال
مستعصياً كما أسلفنا، فعلى تجلّياتها على مختلف مظاهر الحياة الإنسانية، و في مقدّمتها
المعطى الثقافي و التربوي الذي يدخل بشكل مباشر في تشكيل الهويّة و الخصوصية المحلّية
التي تشير أغلب الدراسات إلى أنّها قد تكون الضحية الأولى لموجة العولمة،
باعتبارها سيراً نحو التنميط من خلال تمرير نموذج ثقافي واحد يكتسح الثقافات
الجهوية، و يضع مصيرها في خانة الموضوعات التي قد تشغل اهتمام الأنثروبولوجيين بعد
زمن قليل. من هذا المنطلق نتوجّه لمقاربة مفهوم العولمة من زاوية تأثيره المباشر
أو غير المباشر على الخصوصيات الثقافية الجهوية، التي قد تسمح لنا باعتماد مصطلحات
من قبيل الهويّة، و في مقدمّتها المجال الثقافي العربي الذي يقع في دائرة نفوذ
الاكتساح الثقافي الغربي، من خلال محاولة قراءة بعض الاجتهادات الفكرية و الأكاديمية
العربية التي اهتمّت بتوصيف الظاهرة و أثرها و آليات مواجهتها التي من البديهي أن
تقودنا إلى طرق باب الممارسة التربوية في تجلّياتها المادية و الرمزية الجماعية و الفردية،
لأنّ من شأنها أن تشكّل من وجهة نظرنا ملتقى آليات تحصين الهويّة الثقافية العربية
في وجه الاكتساح الثقافي العولمي الغربي.
العولمة نقيض الهويّة:
ليس الحديث عن الهويّة بأقلّ قلقاً و لا
إشكالية من حديثنا السابق عن العولمة، فهي من المفاهيم التي تضخّمت بشأنها
المقاربات و الدراسات إلى درجة جعلت المفكّر ألفرد جروسر
(Alfred grosser) يعلّق بأنّ القليل من
المفاهيم هي التي حظيت بالتضخيم الذي عرفه مفهوم الهويّة،11
وهو أمر يعود إلى تناثر هذا المفهوم على ضفاف تخصّصات عدّة داخل حقل العلوم
الإنسانية من الأنثروبولوجيا إلى السوسيولوجيا، و من السيكولوجيا إلى علوم
السياسة، الشيء الذي يجعل من كلّ محاولة لحصره ضرباً من المجازفة الفكرية المفتوحة
على الاحتمالات كافّة، هكذا يحدّد معجم روبير الفرنسي
الهويّة باعتبارها الميزة الثابتة في الذات، و يختزن هذا التحديد معنيين يعمل على
توضيحهما معجم المفاهيم الفلسفية على الشكل
التالي: إنّها ميزة ما هو متماثل، سواء تعلّق الأمر بعلاقة الاستمرارية التي
يقيمها فرد ما مع ذاته أم من جهة العلاقات التي يقيمها مع الوقائع على اختلاف
أشكالها، و من ثمّ تصبح الهويّة الثقافية هي الفعل الذي يجعل من واقع ما مساوياً
أو شبيها بواقع آخر من خلال الاشتراك في الجوهر، أمّا أنثروبولوجياً فيحضر المفهوم
كعلامة غير منفصلة عن مسلسل الفردنة، أي كشكل من أشكال التمايز بين الطبقات نفسها،
فمن أجل إعطاء هويّة لفرد ما أو لمجموعة من الأفراد، يبدو لزاماً التمييز بين ما
ليسوا هم، و بالمقابل ينبغي فهم الفرد في خصوصيته، كما يجب أخذ هويّته التاريخية
بعين الاعتبار.12
الواقع أنّنا بصدد التعامل مع إحدى أكثر
القضايا حساسية في نشأة المجتمعات و استمرارها، و لعلّ هذا ما يضع هذه القضية في
عمق كثير من النزاعات المسلّحة أو حتّى السلمية في العالم في إفريقيا كما في آسيا
و أوروبا، بل إنّ هذه الاندفاعات نحو الهويّة ليست حكراً في الواقع على الأماكن
التي تقدّم في التداول الإعلامي باعتبارها مناطق صراع و تعصّب، بقدر ما هي منتشرة
في مختلف بقاع المعمورة شرقها و غربها، و في هذا الإطار لسنا بحاجة للتذكير بالمفاوضات
الشاقّة التي جمعت فرنسا بالولايات المتّحدة الأميركية على هامش معاهدة
"الجات" التي تقضي بحريّة مرور البضائع و الأشخاص و المعلومات بين الدول
بحريّة، فقد كان زعماء فرنسا و مثقّفوها متخوّفون من مدى قدرة الهويّة الفرنسية
على الصمود في وجه الاختراق الثقافي و الإعلامي الأجنبي، على الرغم من الخلفية
الثقافية الفرنسية العريقة التي تجرّ وراءها فكر الأنوار
و أبجديات الحداثة الغربية من إرهاصات الفكر الديكارتي إلى اشتغالات فلاسفة
الاختلاف، كما أنّ كانتونات سويسرا و قوميتي بلجيكا و طائفتي أيرلندا ليست
كلّها أكثر من تعبير عن التشبّث بالهويّة في زمن العولمة، أمّا ألمانيا فإنّ أزيد
من أربعين سنة من الفرقة الإسمنتية لم تلغِ سعي الطرفين نحو هويّة الأمّة
الألمانية في مشهد التوحيد، و لعلّه من قبيل المفارقة الإشارة إلى أنّ الولايات
المتّحدة الأمريكية، متزعّمة أيديولوجيا العولمة في العالم، تعدّ من أكثر البلدان
استشعاراً لهاجس الهويّة، فقد سجّل المفكّر المغربي محمد
عابد الجابري في زيارة له إليها في إطار ما يسمّى بالحوار العربي الأمريكي
أنّ برنامج الرحلة لم يكن يعطي الأولوية لإطلاع الزوّار، وهم نخبة من ألمع المفكّرين
العرب، على تجلّيات الحضارة الأمريكية المعاصرة من قبيل علم التكنولوجيا و المعلوميات
و برامج غزو الفضاء، بقدر ما انصرف إلى أشياء و أماكن لها ارتباط بالتراث و التاريخ
إلى درجة جعلت الدكتور الجابري يخاطب مضيّفيه في
إحدى مداخلاته على هامش الحوار المذكور قائلا: "إنّ وضعنا معكم مقلوب، نحن في
العالم العربي شبعنا من التراث و نبحث عن المعاصرة، أمّا أنتم فيبدو أنّكم شبعتم
من المعاصرة و تبحثون عن التراث. أنتم تبحثون عن الماضي و نحن نبحث عن
المستقبل".13 من جهة أخرى، فقد يتداخل هذا المفهوم مع مفاهيم
أخرى هكذا قد يتمّ التعبير عن الهويّة في كثير من الأحيان بلغة الجنسية، و ليست
الجنسية وضعية سياسية قانونية فحسب، فهي كذلك كلّ ما نعتقد أنّها خصائصنا
الاجتماعية المميّزة، السمات التي نتقاسمها مع المواطنين المماثلين،14 الشيء الذي يحيل على تزاوج غير واضح المعالم بين
الروابط المحسوسة و الخريطة السياسية و القانونية، بل و الجغرافية للعالم، ما
يضعنا أمام أحد أهمّ الأسئلة التي تطرح نفسها بإلحاح على هامش علاقة العولمة
بالهويّة تتعلّق بسؤال المكان، فهذا الأخير الذي ظلّ على امتداد عمر التركيبة
السياسية التقليدية، ممثّلة في الدول الوطنية، مكاناً مغلقاً على مجموعة من
الفاعلين الحاضرين في علاقات تقوم وجهاً لوجه قد أصبح مجالاً كونياً مفتوحاً
لتفاعلات أبعد من نطاقه المحدّد، يدخل فيها أفراد غير موجودين بالمكان، و أحداث لا
تحدث في المكان ذاته.15 بهذا المعنى يكون التعايش بين العولمة و الحدود
السياسية أمراً محدوداً للغاية، ما دامت هذه الأخيرة تركّز على الخصوصية، بينما
تسعى العولمة إلى تجاوز هذه الخصوصية و الانتقال إلى العمومية. الحدود مظهر من مظاهر السيادة، و من أهمّ مقوّماتها
و مرتكزاتها، إنّها تجسيد للسيادة على المكان، سواء أكان ملكاً خاصاً أم ملكاً جماعياً،
أم أقيمت عليه دولة مستقلّة تتمسّك بحقّ سيادتها الكاملة ضمن حدوده المعترف بها
دولياً، أمّا العولمة، فإنّها تسعى إلى إلغاء السيادة على المكان أو إضعافها
مستعينة بوسائلها و آلياتها من تخطّي الحدود و القفز من فوقها و التعدّي على
خصوصيات المكان و سكّانه، و اختراقه، و غزو ثقافة شعبه و حضارته، و فرض ثقافة أخرى
عليه، ما قد يضعف من انتمائه الوطني و القومي و يساهم في تفكيك عناصر هويّته و مكوّناتها،
ليصبح شعباً بلا هويّة تميّزه عن غيره من الأمم و الشعوب.16
إنّه إذن أقرب إلى نظام يعمل على إفراغ الهويّة الجماعية من كلّ محتوى، و يدفع
للتفتيت و التشتيت ليربط الناس بعالم اللاوطن و اللاأمة، و اللادولة، أو يفرقّهم
في أتون الحرب الأهلية.17 اندثار الحدود
السياسية و القانونية و الثقافية أمام العولمة المدعومة بوسائل حديثة كالإنترنت، و
الفضائيات التلفزيونية، من شأنه أن يدمّر آخر قلاع المقاومة للاكتساح الثقافي
الغربي و الأمريكي بالأساس، ما دام السياق الجيوبوليتيكي الدولي يسير باتّجاه
تعزيز هيمنة الولايات المتّحدة الأمريكية على العالم في سياق ما يعرف بالنظام
الدولي الجديد، أو عالم الميغا إمبريالية بتعبير عالم الدراسات المستقبلية المهدي المنجرّة،18
فمع انحسار الاتّحاد السوفييتي و تفكّكه و انشغاله بهمومه الداخلية، كانت الولايات
المتّحدة الأمريكية تحقّق أكبر قدر من الانتشار العالمي و النجاحات و الانتصارات
السياسية و العسكرية، و تستغلّ التحوّلات الدولية لتزيد من حضورها و صعودها الدولي
كدولة وحيدة تتميّز بمواصفات و مقوّمات الدولة العظمى كلّها (super state) ،19 إضافة إلى أنّها تتحكّم في النسبة الأكبر من
وسائل الإعلام المؤثّرة عبر العالم. و لعلّ
أكبر مظاهر السيطرة الأمريكية معلوماتياً تشبّثها بأن تحتكر مؤسّسة (ICANN) الأمريكية مسؤولية تسيير المهامّ الأساسية للإنترنت (internet governance)، التي تشمل إدارة الموارد
الرئيسية للبنية التحتية للشبكة... فقد رفضت الولايات المتّحدة الأمريكية بشكل
قاطع في القمّة العالمية لمجتمع المعلومات، أن تحال هذه المهمّة على منظّمة عالمية
كالاتّحاد العالمي للاتّصالات... وهو ما يثير قلق الاتّحاد الأوروبي من أن تصبح
الإنترنت "ضيعة" أمريكية خاصّة،20
بهذا تتجاوز الهيمنة الأمريكية الجانب الاقتصادي و السياسي إلى الجانب الثقافي،
بما يعنيه ذلك من تعميم للقيم النفسية و السلوكية و العقائدية الأمريكية على
الأذواق و السلوكيات و الأعراف التي تشكّل، بالإضافة إلى الأديان والعقائد،
المنظومة المتكاملة للخصوصية الحضارية لباقي الشعوب في العالم، ما يعني أنّ الأمر
يتعلّق بأيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم و أمركته على حدّ تعبير الدكتور عابد الجابري، فهي تعمل على تعميم نمط حضاري
يخصّ بلداً بعينه هو الولايات المتّحدة الأمريكية، بالذات، على بلدان العالم أجمع
... .21 لذلك، فهي تنحو باتّجاه القضاء على الخصوصية
الثقافية بشكل عام، في الأذواق و أولويات التفكير و مواضيعه و مناهجه، لكلّ هذا
يضع المفكّر الأمريكي نعوم تشومسكي مفهوم العولمة
في عمق التطلّعات الهيمنية للولايات المتّحدة الأمريكية من وحي مصالحها الأمنية
القومية، أو ما يتعارف عليه بالحلم الأمريكي الذي جنّد، ليصبح واقعاً معيشاً،
مجموعة من الحلفاء و الزبناء في إطار تبنّي حريّة مطلقة لقوانين السوق المالية
الواحدة التي تتحدّى سلطة الدولة القومية و دولة الرعاية.22 أمّا المدخل الأساسي للتأثير فيرتبط ـ كما سبقت
الإشارة لذلك ـ بالاختراق الإعلامي الهائل
الذي يتجاوز كلّ الأشكال التقليدية للتواصل، فيجنّد ثقافة جديدة هي ثقافة ما بعد
المكتوب التي ليست سوى ثقافة الصورة،
باعتبارها المفتاح السحري للنظام الثقافي الجديد:
نظام إنتاج وعي الإنسان بالعالم، إنّها المادة الثقافية الأساس التي يجري
تسويقها على أوسع نطاق جماهيري، وهي تلعب الدور نفسه الذي لعبته الكلمة في سائر
التواريخ التي سلفت. إنّ الصورة أكثر إغراء و جذباً و أشدّ تعبيراً و أكثر رسوخاً و
التصاقاً بالعقل؛ لأنّها لغة عالمية تفهمها جميع الأمم و الشعوب والبشر كافّة، سواء أكانوا جهلة أم متعلّمين،
لأنّها قادرة على تحطيم الحاجز اللغوي و على الرغم من هذا فهي لا تعدو أن تكون
ثقافة معلّبات مسلوقة جاهزة للاستهلاك، تتنافس الشركات الإعلامية لتسويقها مستخدمة
جميع ما ابتكره العقل البشري الغربي من وسائل الإغراء و الخداع، و مع تراجع معدّلات
القراءة و الاهتمام بالكتاب، فإنّ نظام القيم معرّض للتفتّت، ما سيكرّس منظومة
جديدة من المعايير ترفع من قيمه النفعية و الفردانية الأنانية، و المنزع المادي ـ
الغرائزي المجرّد من أي محتوى إنساني... الخ.23 و لا تقتصر محاولات الأمركة
على مضامين الرسائل الإعلامية الدائمة التدفّق، بل تتعدّاها إلى التبشير بانتصار
القيم المسمّاة أمريكية، و بأساليب و طراز الحياة الأمريكية، بدءاً بأنماط السلوك
و الملابس و اللغة، وصولاً إلى التبشير بالانتصار النهائي للقيم الليبرالية على
سواها، و الحديث عن نهاية التاريخ،24 بوصفها
النتيجة النهائية التي أعقبت الحرب الباردة بما تحتويه من تفوّق لقدرات
التكنولوجيا الأمريكية، و من أفضلية للنظم و المؤسّسات العالمية على الطراز
الأمريكي، و بما تنطوي عليه من تحديث و ديمقراطية لا بدّ و أن تعمّ، حسب منظرّي
الليبرالية الجديدة، جميع دول العالم من خلال التمسّك بمبادئ الرأسمالية التي تشكّل
غاية التطوّر العالمي و قدر جميع الشعوب و الدول الأخرى.25 و لعلّ أبلغ مثال على هذا الاختراق الأمريكي
لأنماط العيش الجهوية بمختلف أنحاء العالم، يتمثّل في تداول مفاهيم جديدة من قبيل
مفهوم الماكدونالية (macdonaldization)
الذي يحيل بشكل مباشر على ثقافة وجبات الطعام السريع الأمريكي المقدّم في سلسلة مطاعم ماكدونالد الشهيرة عبر العالم.26 و لسنا
بحاجة للتذكير إلى أنّ انتشار هذه المطاعم في كلّ ربوع الوطن العربي لخير دليل على
اكتساح النموذج الثقافي الأمريكي لمختلف مظاهر الحياة الثقافية و الاجتماعية
العربية، الشيء الذي يحيل بشكل مباشر على أنّنا في عمق تأثير العولمة المؤمركة،
فما مدى هذا التأثير؟ و ما هي تداعياته على الفضاء الثقافي العربي ؟ و هل من آليات
للمقاومة ؟
الثقافة العربية: الاكتساح العولمي
و آليات المقاومة
إذا ركّزنا زاوية الرؤية على البلدان العربية،
فإنّنا لا نعتبر وضعها مفارقاً لمجمل البلدان المنتمية تحت لواء العالم الثالث،
فالتبعية السياسية الشاملة للغرب، و ضعف أداء الاقتصادات العربية، و فشل مشاريع
التنمية، و الاندماج السلبي في اقتصاديات الغرب القويّة، لا يمنح فرصاً لتشكيل هويّة
اقتصادية محلّية قد تفسح المجال أمام حماية و تحصين الهويّة الثقافية في شتّى
تمظهراتها، ذلك أنّ ما نستورده من الغرب ليس مجرّد منتوجات أو آلات، بل سلوك و قيم
و معايير،27 لها بالغ الأثر في مجتمعات لا
زالت تعيش إشكالية الصراع بين التقليد الذي يتحدّد من خلال الانتماء إلى نظام
اجتماعي و ثقافي يجد تبريره في الماضي، و يدافع عن مكتسباته ضدّ عمل قوى التغيّر28 و الحداثة التي
تقدّم نماذج للسلوك و التفكير متعارضة مع النماذج التقليدية.29 و إذا
جاز لنا أن نجازف بمحاولة رصد تأثير العولمة الغربية في نسختها الأمريكية بالأساس
على واقع الثقافة العربية، فقد يكون بإمكاننا تسجيل بعض هذه المؤثّرات التي و إن
كانت تعلن عن نفسها بتجلٍّ واضح في حيثيات الحياة اليومية العربية، فإنّ من الصعب
عزلها عن التأثيرات الأخرى السياسية و الاقتصادية بالأساس، هكذا يمكن الحديث عمّا
يلي:
ü تغيير شامل في القيم و السلوكـيات
الاستهلاكية من خلال التركيز على العلامات التجارية العالمية،
و انتشار السلوكيات الاستهلاكية الغربية، الشيء
الذي من شأنه أن يهدّد الموروث الثقافي و الاجتماعي العربي في جملته بالاندثار، مع
توالي انخراط الأجيال اللاحقة في هذه الأنماط المستوردة التي تمسّ مختلف أشكال
الحياة المادية و الفكرية للأفراد و الجماعات من المأكل، و المشرب، و الملبس إلى
طرق التفكير و الحياة.
ü تراجع مستمرّ للغة
العربية في شتّى المجالات أمام اكتساح اللغات الأجنبية، إذ أصبحت اللغات
الأجنبية "الإنجليزية في دول الشرق الأوسط
وا لفرنسية في دول المغرب العربي" أكثر تداولاً من اللغة العربية حتّى في
العلاقات البين عربية، بل و داخل الدولة نفسها.
ü فقدان الثقافة العربية
للقدرة على التجديد المتوازن لذاتها، فتخلّف الآليات و المعايير المنتهجة في هذا
السياق أضحى يهدّد حتّى مستقبل الإنتاج الفنّي و
الأدبي بالبلدان العربية، و لسنا بحاجة للتذكير بتراجع هذا الإنتاج كماً و كيفاً.
ü انكماش وسائل الإعلام
العربية أمام الاكتساح الهائل للإعلام الغربي و قصورها عن حماية و تجديد
الثقافة العربية.
هذه بعض آثار الاختراق الثقافي الغربي
الأمريكي للثقافة العربية، وهي على الرغم من خطورتها لا تمثّل في الواقع سوى
الشجرة التي تحجب الغابة أمّا آليات المقاومة و تحصين الهويّة العربية، فليست
مناقشتها بأقلّ صعوبة من عزل هذه الآثار و توصيفها، هكذا من البديهي أن تتجاوز
الحلول المقترحة من قبل المهتمّين بتتّبع الظاهرة و آثارها، الجانب الثقافي،
لتحاول صياغة منظومة متعدّدة الأوجه من آليات العمل السياسي الرسمي (الحكامة) و السلوكيات
الفردية و الجماعية الرسمية و غير الرسمية الكفيلة، إن لم يكن بدحض آثار العولمة،
فعلى الأقلّ تنشيط آليات المقاومة داخل المجتمعات المستهدفة التي تأتي المجتمعات
العربية في طليعتها لانتمائها للحلقة السياسية الأضعف في العالم من جهة، و وقوعها
في مناطق مصالح الأقوياء من جهة أخرى. في
هذا السياق نتوقّف عند إحدى أهمّ لحظات النقاش العربية حول إشكالية العولمة و آثارها
الثقافية و آليات مواجهتها، و يتعلّق الأمر بالندوة التي نظّمها مركز دراسات
الوحدة العربية في بيروت حول موضوع: (العرب و العولمة) بين 18 و20 كانون الأوّل
1997، و التي تميّزت بمشاركة نخبة من المفكّرين العرب حملت أوراقهم المقدّمة على
هامش الندوة رؤى عميقة تجاه العولمة الثقافية، كما قدّمت مقترحات نظرية و علمية
للحدّ من تداعياتها السلبية.30 فإجابة على سؤال ما العمل إزاء الأخطار التي
تطبع علاقة العرب بالعولمة على مستوى الهويّة الثقافية، يعرض المفكّر محمد عابد الجابري لموقفين يصنّفهما منذ البداية ضمن
المواقف اللاتاريخية؛ يتعلّق الأوّل بالرفض المطلق و سلاحه الانغلاق الكلّي الذي
ينقلب إلى موت بطيء لعدم وجود نسبة معقولة من التكافؤ بين إمكانات العولمة و الثقافة
المنغلقة عليها، فيما يرتبط الثاني بالقبول التامّ للاستتباع الحضاري و الاختراق
الثقافي الذي تمارسه العولمة تحت شعار الانفتاح على العصر و المراهنة على الحداثة،
بما يعنيه هذا من دعوة للاغتراب و اللاهويّة.
أمّا البديل حسب الدكتور الجابري فينطلق
من العمل داخل الثقافة العربية نفسها من أجل تجديدها (بإعادة بنائها و ممارسة الحداثة في معطياتها و تاريخها، و التماس وجوه من الفهم
و التأويل لمسارها تسمح بربط الحاضر بالماضي في اتّجاه المستقبل... فتجديد الثقافة
العربية، و الدفاع عن الخصوصيات، و مقاومة الغزو و الاختراق، كلّها أمور تحتاج إلى
اكتساب الأسس و الأدوات التي لا بدّ منها لدخول عصر العلم و الثقافة، و في مقدمّتها
العقلانية و الديمقراطية... في الاتّجاه نفسه سارت ورقة الباحث السعودي محمد محفوظ مدير تحرير مجلّة الكلمة الذي حثّ على ضرورة
إعادة الاعتبار لعناصر الثقافة الوطنية، و العمل على تنشيطها في النسيج المجتمعي،
لأنّ بقاء عناصر الثقافة الوطنية ساكنة، يعني تحوّل بعضها إلى فلكلور محلّي، نشجّع
به السياحة، و نحنّطه في متاحف و أماكن أثرية لا غير، ذلك أنّ الارتكاز على عناصر
الثقافة الوطنية و مقوّماتها هو الذي يوفّر لنا أسباب الوعي و الإدراك الكافيين
لاستيعاب تطوّرات العالم، و تحديد مستقبلنا. أمّا الدكتور عبد
الإله بلقزيز فلا يرى في إطار الورقة التي قدّمها على هامش الندوة نفسها من
حلّ سوى ما أسماه الممانعة الثقافية، عبر المقاومة الإيجابية لهذه العولمة أو
السيطرة الثقافية الغربية، كما أسماها وهو ما لن يتحقّق إلاّ باستعمال الأدوات
عينها التي تحقّقت بها الجراحة الثقافية للعولمة، ذلك أنّ نظريات علم الاجتماع
الثقافي تؤكّد أن فعل العدوان الثقافي غالباً ما يستنهض نقيضه.31 إنّ قراءة متأنّية في الآليات المقترحة من لدّن
نخبة من المفكّرين و الأكاديميين العرب الذين شكّلت إشكالية الهويّة العربية في
مقابل الاكتساح العولمي إحدى أهمّ ركائز اشتغالاتهم الفكريّة، تدفعنا للإقرار بأنّ
المعركة داخلية أكثر بكثير ممّا هي خارجية، فالتصدّي لآثار العولمة لا يمرّ عبر
المواجهة المكشوفة معها في مختلف ساحاتها الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية، لأنّ
هذا سيكون بمثابة ضرب من الانتحار الهويّاتي على الواجهات كافّة، بقدر ما يمرّ عبر
الاشتغال على الذات. إنّها إشكالية الأنا و النحن أكثر بكثير من كونها
إشكالية الآخر؛ بمعنى أنّ مستقبل الثقافة العربية ليس مرهوناً بالتحدّيات الخارجية
التي تحملها العولمة على أهمّيتها فحسب، بل يتّصل بقدرة هذه الثقافة على إقامة
حوار داخلي بين اتّجاهاتها و تيّاراتها و أفكارها، أي بقدرتنا كعرب على إعادة بناء
وحدة الفضاء الثقافي العربي بما يضمن حريّة تداول الأفكار و المنتجات الفنّية و الأدبية،
إلى جانب تدعيم النشاط الإبداعي و تحريره من الممنوعات و المحرّمات، بحيث يصبح
الحوار الثقافي و الحضاري العربي مقدّمة و شرطاً لأيّ ممانعة ثقافية أو مبادرة
منتجة للتواصل مع الثقافات الأخرى.32 من جهة
أخرى، فإنّ الحديث عن تشكيل و تحصين الهويّة الثقافية الداخلية في مقابل الاختراق
الثقافي الغربي، يحيل بالضرورة على سيرورة بالغة التعقيد، ترتبط بمختلف المؤسّسات
الاجتماعية التي توكل إليها مهمّة إنتاج القيم و الرموز و ضمان استمرارها، و التي
تأتي المؤسّسات الإدماجية التقليدية من قبيل المدرسة و الأسرة على رأس قائمتها،
الشيء الذي يحيل بقوّة الأشياء على التطرّق لموضوعة التربية كفاعلية دينامية من
شأنها توفير مجال جدّ ملائم للمقاومة أو الممانعة بتعبير عبد
الإله بلقزيز،33 فإلى أيّ حدّ يمكن
اعتبار المؤسّسات التربوية التقليدية جبهة ممانعة ثقافية لتحصين الذات العربية ضدّ
آليات العولمة و التنميط الثقافي ؟
التربية: ساحة ممانعة
تجعل
التصوّرات الكلاسيكية من الممارسة التربوية في مختلف تجلّياتها صمّام أمان الضبط و
المحافظة الاجتماعية، باعتبارها موجّهة نحو إنتاج و إعادة إنتاج القيم و الرموز عن
طريق نقلها بشكل أمين للأجيال المتعاقبة، فعالم الاجتماع
الفرنسي ديركهايم (DURKHAIM) يقدّم
التربية باعتبارها العمل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال التي لم تنضج
بعد، من أجل الحياة الاجتماعية. و هدفها
أن تثير لدى المتلقّي و تنمّي عنده طائفة من الأحوال الجسدية و الفكرية و الخلقية
التي يتطلّبها منه المجتمع السياسي في جملته، و تتطلّبها البيئة الخاصّة التي يعدّ
لها بوجه خاصّ، و لعلّ هذا أبلغ تجلٍّ لهذه السيرورة في اصطلاحات العلوم الإنسانية
و الاجتماعية هو ما يمكن اختزاله في مفهوم التنشئة الاجتماعية (socialisation) التي يقدّمها السوسيولوجي الكندي غاي روتشر (Guy Rocher) باعتبارها منظومة الأوّليات التي تمكن الفرد على مدى حياته من
تعلّم و استبطان القيم الاجتماعية الثقافية السائدة في وسطه الاجتماعي.34 بهذا
المعنى يمكن تصوّرها كمنظومة عمليات يعتمدها المجتمع في نقل ثقافته، بما تنطوي
عليه هذه الثقافة من مفاهيم و قيم و عادات و تقاليد إلى أفراده ... إنّها العملية
التي يتمّ من خلالها دمج الفرد في المجتمع و المجتمع في الفرد.35 وفقاً لمختلف هذه التحديدات تتباين التربية من مجتمع لآخر بتباين النماذج
الثقافية و الرموز و القيم التي يستهدف كلّ مجتمع ضمان استمرارها من خلال السّهر
على تمريرها للأجيال اللاحقة، إلاّ أنّها لا تعدو أن تكون انعكاساً لأساليب السلطة
الموظّفة في المجتمع و في مؤسّساته، لهذا السبب يتمّ الرّهان في أجرأة غايات
وأهداف العملية التربوية على المؤسّسات التربوية التقليدية الممتدّة من المدرسة
إلى الأسرة باعتبارهما مؤسّستين اجتماعيتين إدماجيتين تتمحور أهمّيتهما في
المحافظة على الموروث الثقافي و الاجتماعي و إعادة إنتاجه بما يضمن عملية الإدماج
هاته على المستويين سابقي الذكر: إدماج الفرد في المجتمع و إدماج ثقافة المجتمع في
الفرد، غير أنّ حالة الانفلات الهائل للثورة المعلوماتية و تأثيراتها الجمّة على
الأفراد و الجماعات، بل و على الدول نفسها من شأنه أن يطرح أكثر من سؤال حول
الهوامش المتاحة لهذه المؤسّسات التقليدية في القيام بعملية الإنتاج و إعادة
الإنتاج هذه، و بخاصّة إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة خطاب هذه المؤسّسات الأقرب
ميلاً إلى المحافظة و الأكثر ارتباطاً بالقهر و الإكراه، في مقابل الخطاب السمعي
البصري الذي يراهن على آخر تقنيات التأثير، و بخاصّة أنّ المشروع الغربي في عصر العولمة قد أصبح في
عهدة الامبراطوريات السمعية البصرية، بما تملكه من نفوذ و إمكانات و سلطة تمكّنها
من تقديم مادتها الإعلامية للمتلقّي في قالب مشوّق يجلب الانتباه عبر تكنولوجيا
الإثارة و التشويق، و يقارب عتبة المتعة و معها يبلغ خطابه الأيديولوجي و أهدافه
الاستهلاكية، و يسهم في وأد حاسّة النقد لدى المتلقّي الذي يصبح قابلاً لتمرير و تلقّي
جميع القيم و المواقف السلوكية دون اعتراض عقلي أو معاداة نفسية.36 الشيء
الذي يجعل المعركة محسومة سلفاً لصالح الخطاب الإعلامي القادم من ما وراء البحار،
محملاً بأبطال و رموز جديدة تعيد تشكيل مخيّلة المشاهد بدءاً بعارضات الأزياء و نجوم
الكرة، وصولاً إلى رموز الفنّ و السينما و الأعمال و الألبسة و الأطعمة و أنماط
السلوك و المفردات اللغوية،37 فيقلّل من قدرة
المؤسّسات التربوية العربية في صورتها الحالية على المنافسة و مقاومة هذه الصور
المبثوثة عبر القنوات الفضائية التي أضحت في متناول الجميع بأقلّ التكاليف في
نسختها الأصلية المرتبطة بالإعلام الغربي، أو حتّى في امتداداتها الوطنية التي
تعيد إنتاج الخطاب نفسه بالآليات نفسها بانتصارها للمنتوج الغربي على حساب المنتوج
الوطني إن وجد أصلاً.
الواقع أنّ هذه المؤسّسات لا تستطيع تحقيق
اكتفاء ذاتي ثقافي عربي كما لم تستطع الاقتصادات المترّهلة ضمان اكتفاء ذاتي غذائي
عربي مع خطورة زائدة متضمّنة في المقارنة تتمثّل في أن اكتساح الإعلام الغربي
للمجال الثقافي العربي من شأنه أن يحوّل هذا الفضاء الداخلي إلى فضاء للإقصاء،
فهيمنة أدوات الاتّصال السمعي البصري الغربية و اكتساحها لكلّ الفضاءات الممكنة و استئثارها
بحيّز زمني مهمّ من وقت المتلقّين الذي يبلغ ذروته في النمط التلفزيوني، يجعل
الجميع أقرب إلى العيش في عالم افتراضي أثيري يتألّف من الصور و الإشارات و النصوص
المرئية و المقروءة على الشاشات الإلكترونية، بما بات يشكّل تهديداً لمنظومات
القيم و الرموز و تغييراً في المرجعيات الوجودية و أنماط الحياة،38 إذ أنّ العالم المرغوب فيه بالنسبة لزبناء الفضاء
السمعي البصري التلفزيوني خاصّة لم يعد، بالضرورة، هو العالم الحقيقي الذي يتحرّك
في إطاره هؤلاء بقدر ما هو هذا العالم الأثيري الافتراضي الذي تنقله وسائل الإعلام
الغربية و امتداداتها المحلّية أيضاً، فتسهم به في تغيير البنى الذهنية و التشويش،
إن لم نقل التضييق، على الأجهزة التقليدية الوصية على الممارسة التربوية، و هذا من
شأنه أن يحوّل المجتمع الحقيقي إلى مجتمع للاغتراب و الإقصاء، فالرموز و القيم
التي يتشبّع بها المتلقّي يومياً عبر الفضاء السمعي البصري مختلفة كلّياً عن رموز
و قيم المجتمع الأصلي ما دامت تصنع خارج حدوده، كما من شأنه أن يفقد المنتوج
التربوي المحلّي كلّ قدرة على جلب اهتمام متلقّيه ما دام خطاب الأوامر و النواهي
الذي يشكّل عصبه غير ذي إغراء أمام ثقافة الصورة المشوّقة و الممتعة. إنّ هذه
الصورة القاتمة و إن كانت تشكّل توصيفاً لحقيقة وضع المؤسّسات التربوية و الثقافية
في دول العالم الثالث، و من ضمنها الدول العربية لا تعفي هذه المؤسّسات من التمسّك
بأداء الوظائف المنوطة بها، و المتمثّلة ـ كما أسلفنا ـ في صناعة الرموز و القيم التي تشكّل عمق الهويّة
المحلّية، و العمل على ضمان استمرارها، لأنّ مستقبل الثقافة العربية رهين بإعادة
النظر في آليات اشتغال المدرسة و الأسرة، فإذا كان من البديهي أن تسعى الولايات
المتّحدة الأمريكية جاهدة إلى عولمة التربية تحت شعار حماية حقوق الإنسان، ناظرة
إلى نموذجها كشرط أساسي لنجاح عولمتها الاقتصادية، مؤمنة بأنّه عن طريق التربية
التي ترغب في فرضها يمكن تنمية النزعات الاستهلاكية،39
فإنّه من الضروري و الملحّ أن تسعى هذه المؤسّسات إلى حماية الأمن الثقافي العربي
من خلال إعلان القطيعة مع الآليات التقليدية الموظفة في المجال التربوي العربي عبر
صياغة باراديغم تربوي جديد 40 واعٍ بطبيعة
المرحلة التي يجتازها العالم و المنطقة، و بطبيعة المسؤولية الجسيمة المنتظرة منه،
وهو ما لن يتأتّى إلاّ من خلال تجديد آليات اشتغال هذه المؤسّسات عبر تطوير
الأنساق التربوية التقليدية، و إنتاج خطاب تربوي و أسري بديل، أساسه الاشتغال على
ميكانيزمات جديدة تهدف إلى تنمية الحسّ النقدي لدى المتلقّي، بما يضمن تجاوباً
عقلانياً مع المنتوج الإعلامي الغربي الذي أصبحت إمكانية تفاديه ضرباً من الخيال،
وهو ما يسمح بالحديث عن منظومة تربوية تضمن توازناً معقولاً بين ضرورة الحفاظ على
معالم الهويّة المحلّية و حتمية الانفتاح على الثقافات الإنسانية في مختلف
تمظهراتها و امتداداتها، فتجعل الماضي في خدمة المستقبل و ليس المستقبل رهينة
للماضي.41
غير أنّ معركة المؤسّسات التربوية
التقليدية لن تحقّق أهدافها بأيّة حال في غياب دعم حقيقي من الفضاء الإعلامي
العربي، الذي يجب أن يخرج بدوره من موقف اللعب على ثنائية الاندماج اللامشروط في
النموذج الثقافي الغربي تحت يافطة الحداثة و الانفتاح، أو إعادة إنتاج نفس آليات
المؤسّسات الإدماجية التقليدية ممثّلاً في خطاب الأوامر و النواهي تحت يافطة
الإنتاج الإعلامي الأسري الهادف، و الاندماج في مشاريع جديدة أساسها التطلّع إلى
إشباع حاجات المواطن العربي الثقافية و الجمالية من خلال بناء صورة سمعية بصرية
خاصّة بالذات العربية،42 تحقّق بنجاعة ثلاثية
الإخبار و التثقيف و الترفيه، بكثير من الجمالية و قليل من الخطابة، صورة سمعية
بصرية تسير في تناغم مع ضرورة الحفاظ على الخصوصية المحلّية من جهة، و الانفتاح
على تجلّيات الثقافة العالمية من جهة أخرى، بما يعنيه ذلك من انتصار للقيم
العالمية التي ترتقي بالقيم المحلّية إلى مستوى عالمي، دون أن تحرمها من حقّها في
الوجود، و مواجهة لثقافة العولمة كإرادة للهيمنة و اكتساح للخصوصيات الجهوية، و لعلّنا
لا نجد ما ننهي به هذه المقالة أبلغ من هذه العبارة العميقة المنسوبة لأحد رموز
التحرّر في التاريخ الإنساني المهاتما غاندي: “أرغب أن تهبّ رياح جميع الثقافات على نوافذ بيتي، لكنّي أرفض أن
تقتلعني أي منها من جذورى!”.
محمد فاضل رضوان
كاتب صحافي و باحث سوسيولوجي، و أستاذ الفكر الإسلامي و الفلسفة ـ
المغرب
الهوامش:
2 انظر التمييز الذي يقترحه حسام الخطيب في: حسام
الخطيب. “العالمية والعولمة من منظور مقارني”، عالم الفكر، العدد1، المجلد 34،
تموز – أيلول 2005.
3 راجع بهذا الخصوص: بول هيرست و غراهام طومبسون.
“ما العولمة ؟ الاقتصاد العالمي و إمكانات التحكم”، ترجمة فاتح عبد الجبار، عالم
المعرفة، العدد273، الكويت أيلول 2001.
4 انظر: محمد مصطفى القباج. “التربية والثقافة في
زمن العولمة”، المعرفة للجميع، العدد 24، المغرب، آذار نيسان 2002.
5 انظر: رونالد روبرتسون. العولمة، النظرية
الاجتماعية والثقافة الكونية، ترجمة أحمد محمود ونورا أمين، القاهرة: المجلس
الأعلى للثقافة، 1998.
6 سمير أمين. “تحديات العولمة”، شؤون الأوسط،
العدد 71، نيسان 1998.
7 Hubert vedrine. Mondialisation et pensée
unique. In “la méditerranée a l’heur de la mondialisation”, cahiers de la
fondation abderrahim bouabid .N 27. 1997.
8 صادق جلال العظم. “ما هي العولمة؟” الطريق، العدد الرابع، تموز-
آب 1997.
9 عزمي بشارة.
“إسرائيل والعولمة”، فكر ونقد، السنة1، العدد 7، آذار 1998.
10 محمد
مصطفى القباج. “التربية والثقافة في زمن
العولمة”، مرجع سابق.
11 Alfred grosser: les identités abusives: le
monde 28 janvier 1998.
12 راجع
بهذا الخصوص: عزيز مشواط. “إشكالية الهوية
في العلوم الإنسانية، مأزق الإشكال وقلق المفهوم”، جريدة المنعطف، العدد 2377، 28
أيلول 2005.
13 راجع
بهذا الخصوص: محمد عابد الجابري. “العولمة
ومسألة الهوية بين البحث العلمي والخطاب الأيديولوجي2”، فكر ونقد، السنة الثالثة،
العدد 22 تشرين الأول 1999.
14 مايك
كرانغ. “الجغرافيا الثقافية، أهمية
الجغرافيا في تفسير الظواهر الإنسانية”، ترجمة سعيد منتاق، عالم المعرفة، العدد
317، الكويت، تموز 2005.
15 أحمد
زايد. “عولمة الحداثة وتفكيك الثقافات
الوطنية”، عالم الفكر، العدد 1، المجلد 32، الكويت تموز - أيلول 2005.
16 محمد
علي الفرا. “العولمة والحدود”، عالم
الفكر، العدد 4، المجلد 32، الكويت نيسان- تموز 2004.
17 محمد
عابد الجابري. “العولمة والهوية الثقافية:
عشر أطروحات”، ورقة مقدمة في إطار ندوة حول “العرب والعولمة” نظمها مركز دراسات
الوحدة العربية في بيروت بين 18 – 20
كانون الأول 1997.
18 يعتبر
الدكتور المهدي المنجرة أن الفرق بين الإمبريالية التقليدية والميغا إمبريالية هو
أن هذه الأخيرة لا تحتاج للجغرافيا، حيث لديها وسائل جديدة مثل التكنولوجيا
المتطورة للسيطرة على العالم بأسره عبر تقنيات المراقبة، وبالتالي فإن هذه الوسائل
أصبحت تغني عن الوجود في عين المكان ... لقد أصبح للميغا إمبريالية أسلوب جديد
ولغة من تركيب جديد، والميغا حسب مدلولها تقتضي الانفراد بالقرار. فهي لا تقبل إمبريالية أخرى منافسة على عكس ما
كان في السابق.
لمزيد من التفاصيل، يرجي العودة إلى: المهدي
المنجرة. الإهانة في عهد الميغا
إمبريالية، الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الرابعة، 2004.
19 سيد
أبو ضيف أحمد. “الهيمنة الأمريكية: نموذج
القطب الواحد وسيناريوهات النظام الدولي الجديد”، عالم الفكر، العدد 3، المجلد 31،
الكويت كانون الثاني- آذار 2003.
20 نبيل
علي، نادية حجازي. “الفجوة الرقمية، رؤية
عربية لمجتمع المعلومات”، عالم المعرفة، العدد 318، الكويت، آب 2005.
21 محمد
عابد الجابري. “العولمة والهوية
الثقافية”، مرجع سابق.
22 انظر
بهذا الخصوص: محمد مصطفى القباج. “التربية
والثقافة في زمن العولمة”، مرجع سابق.
23 عبد الإله بلقزيز. “العولمة والهوية الثقافية: “عولمة الثقافة أم
ثقافة العولمة”، تقييم نقدي لممارسات العولمة في المجال الثقافي”، ورقة مقدمة في
إطار ندوة حول: (العرب والعولمة) نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بين
18 – 20 كانون الأول 1997.
24 انظر أطروحة نهاية التاريخ للمفكر الأمريكي
فرانسيس فوكوياما.
25 كريم
أبو حلاوة. “الآثار الثقافية للعولمة،
حظوظ الخصوصيات في بناء عولمة بديلة”، عالم الفكر، العدد3، المجلد 29، كانون
الثاني- آذار 2001.
26 سنة
1993 أصدر جورج رتز كتابه الشهير “المكدونالدية والمجتمع” الذي يعرف به
الماكدونالية بأنها العملية التي بمقتضاها تنتشر المبادئ الخاصة بالطعام السريع،
وتصبح سائدة في قطاعات أوسع من المجتمع الأمريكي وبقية أرجاء العالم، وتشمل
المبادئ التي أشار إليها رتز: الكفاءة، والتنبؤ، والمحاسبية، والاهتمام بالجودة
والضبط باستخدام تقنيات غير بشرية، وتشكل هذه المبادئ العقلانية المميزة
للمكدونالية التي تنتشر في العالم في عملية أحادية الجانيب يجري من خلالها تصدير
التجديدات الأمريكية عنوة إلى معظم أرجاء الدنيا.
27 نبيل
علي. “العرب وعصر المعلومات”. عالم المعرفة، العدد 184، الكويت، نيسان 1994.
28 G.balandier. tradition. Conformité
.historicité.
كما وردت في:
عز الدين الخطابي. سوسيولوجيا التقليد والحداثة بالمجتمع المغربي-
دراسة تحليلية لدينامية العلاقة الاجتماعية، الدار البيضاء: منشورات عالم التربية،
2001.
29 guy rocher. Le changement social. Introduction
à la sociologie generale. Coll.point. paris. 1972. tome III.
30 انظر أعمال ندوة “العرب والعولمة” التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية
في بيروت بين 18 – 20 كانون الأول 1997.
31 يتم الحديث عن أن الاكتساح العولمي نفسه من شأنه
أن ينشط آليات المقاومة داخل المجتمعات المستهدفة، فالشعور بالخطر علامة على ضرورة
التحرك الآني، ولعل تنامي الحركات المتطرفة في مختلف بقاع العالم ليست إلا محاولة
يائسة من قبل هؤلاء للتصدي للعولمة الثقافية وإن من خلال الانغلاق على الذات ورفض
الآخر بشكل جذري. إننا بصدد آليات مقاومة
قاسية وآليات اكتساح قاسية أيضاً.
32 حامد خليل. “الثقافة العربية وحوار الحضارات”،
كما وردت في: أحمد زايد، عولمة الحداثة وتفكيك الثقافات الوطنية، مرجع سابق.
33 عبد الإله بلقزيز، “العولمة والهوية الثقافية:
عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة”، تقييم نقدي لممارسات العولمة في المجال الثقافي،
مرجع سابق.
34 Guy rocher. Action sociale: introduction à la
sociologie generale. 1968. M. H. paris 1983.
35 علي وطفة.
“المظاهر الاغترابية في الشخصية العربية”، بحث في إشكالية القمع التربوي،
عالم الفكر، المجلد السابع والعشرون، العدد الثاني، أكتوبر- كانون الأول 1998.
36 عبد الإله بلقزيز. في البدء كانت الثقافة، الدار
البيضاء: دار إفريقيا الشرق، 1998.
37 كريم أبو حلاوة. الآثار الثقافية للعولمة، حظوظ الخصوصيات في بناء
عولمة بديلة، مرجع سابق.
38 المرجع نفسه.
39 نبيل علي.
“الثقافة العربية وعصر المعلومات”، عالم المعرفة، العدد 265، الكويت، كانون
الثاني، 2001.
40 نبيل علي.
نادية حجازي. الفجوة الرقمية، رؤية
عربية لمجتمع المعلومات، مرجع سابق.
41 محمد فاضل. “الإعلام والتربية، بين الحفاظ على
الهوية المحلية والانفتاح على الثقافات الإنسانية”، ملحق تربية وتعليم، الصباح،
العدد 1614، 15 حزيران 2005.
42 راجع بهذا الخصوص: محمد شكري سلام. “ثورة الاتصال والإعلام: من الأيديولوجيا إلى
الميديولوجيا، نحو رؤية نقدية”، عالم الفكر، العدد 1، المجلد 32، تموز- أيلول
2003.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق