د.
محمّد سبيلا
و حول سماته العامة. هناك، على وجه العموم ثلاثة
أنماط من الخطاب حول حقوق الإنسان، أوّلها
الخطاب العلمي وهو
خطاب وصفي أكاديمي نموذجه العلوم السياسية التي جرى فيها وصف منظومة حقوق الإنسان، و أنواعها و أجيالها و فئاتها، و المؤسّسات
الوطنية و الدولية المكلّفة بحمايتها، و النصوص القانونية و الإعلانات و المعاهدات
و الاتّفاقيات الدولية المعقودة بصددها. و في مقابل هذا الخطاب العلمي المحايد
يزدهر نوع آخر هو الخطاب
الإيديولوجي، أي
خطاب المناضل السياسي و الحقوقي الذي يتّخذ من منظومة حقوق الإنسان أداة نضال
سياسي ضدّ هذه السلطة أو تلك. و هذا الخطاب يتّسم بنزعته الدعويّة و التعبوية و النضالية
الواضحة. لكن هناك
نمطا ثالثا، و هو الخطاب
الفلسفي حول
حقوق الإنسان. وهو بالتأكيد غير الخطابين، العلمي و الإيديولوجي، فسمته الأساسية
هي أنّه خطاب تساؤلي أكثر ممّا هو خطاب تقريري وهو، على العموم، يتّخذ ثلاثة أنماط:
يكتسي موضوع حقوق الإنسان أهمّية
متزايدة نظرا إلى أنّه أصبح أداة نضال سياسي ضدّ مظاهر الاستبداد، و من أجل الدفاع
عن الحقوق الفردية ضدّ تعسّف الدولة و السلطات المركزية، و من أجل إنشاء دولة
القانون و الحقوق. و في الوقت نفسه يتزايد اهتمام الفلسفة بموضوع حقوق الإنسان بسبب
ذلك التنافس المحتدم بين الفلاسفة و الحقوقيين بعامة حول مشروعية حقوق الإنسان و أحقيّة
الحديث عنها. إضافة إلى ذلك فإنّ قرار إدخال ثقافة حقوق الإنسان ضمن برامج التعليم
فجّر تنافسا قويّا بين المواد الحاملة أو المفترض أن تكون كذلك. و هذه الوضعية
تطرح التساؤل حول علاقة
الفلسفة بحقوق الإنسان، و
حول مشروعية الحديث الفلسفي في هذا الموضوع،
الخطاب
الكاشف للأوهام و الاسثمارات:
تتّسم الفلسفة المعاصرة باتّخاذها
موقفا توجسّيا و تشككيّا تجاه المُثُل العامة، إذ تكشف عمّا يكمن خلفها من رغبات و
إرادات قوّة أو استثمارات اقتصادية و إيديولوجية و سيكولوجية. فمُثُل كالوحدة و الحرّية و الحقّ و الديمقراطية و الاشتراكية
قيم نبيلة في حدّ ذاتها، لكنّها معرضّة للاستثمار أو الاستغلال من طرف أفراد أو
فئات أو نخب اجتماعية تتّخذ منها أقنعة تخفي بها استراتيجيتها في الهيمنة. و خطاب
حقوق الإنسان نفسه لم يسلم من هذه الاستثمارات إمّا على الصعيد الداخلي لكلّ بلد،
حيث يتمّ توظيفها من قبل الدولة أو الأحزاب أو بعض الفئات المهنيّة كالحقوقيين و المحامين و الأساتذة، كلّ بطرق الخاصّة. كما
أنّ هذه المنظومة الحقوقية تمّ استغلالها من طرف الغرب و"العالم الحرّ"
كقوّة ضاربة ضدّ المعسكر الاشتراكي سابقا، أو بانتزاع "حقّ التدخّل" ضدّ
بعض الدول باسم حماية حقوق الإنسان فيها. و تقدّم الاتّجاهات الفلسفية الحديثة
السند و الأساس الفكري الذي ساعد على تطوير موقف الشكّ و التوجّس تجاه المثل
العامة. فالتحليل النفسي ينظر إلى المُثُل في علاقتها بالأنا
الأعلى، و ينظر إليها من زاوية أنّها بنيّة فكريّة تعويضية أو تهويميّة على الذات. و سواء تعلّق الأمر بالمُثُل
الجماعية، التي هي جزء من المتخيّل الجمعي الذي يؤدّي وظيفة تعويضيّة أو تحقيق نوع
من التوازن في النفسيّة الجماعية، أو تعلّق الأمر بالمثل الفردية فإنّ التحليل
النفسي ينظر إليها من زاوية وظائفها السيكولوجية الجماعية أو الفردية. و مثل
هذا الموقف المتشكّك نجده عند نيتشه ( 1840 ـ
1900 ) الذي يعتبر المثل بنيات أخلاقية تحمل أقنعة ماكرة من حيث أنّها تعبير
مقنَّع عن إرادة القوّة. و قد سبق لنيتشه
في كتابه إرادة القوة أن عرّف الحقّ من خلال القانون الذي يصوغه و يعبّر عنه على
أنّه يعبّر عن "الرغبة في تخليد ميزان (أو علاقات) القوّة الحالي للطرف الذي
هو في صالحه". و في منظور مقارب يعتبر
ماركس ( 1818 ـ 1880 ) المثل أوهاما و تضليلات طبقيّة، ناظرا إلى القانون و
إلى وجهه الآخر المتمثّل في الحقّ، على أنّهما انعكاس لعلاقات القوّة الاقتصادية و
السياسية و المهيمنة و السائدة في المجتمع. كما يعتبر ألتوسير
( 1918 ـ 1990) القانون جهازا إيديولوجيا تتمثّل وظيفته في شرعنة
السيادة و السيطرة و تخليدهما بالتمويه عليهما بإخفاء علاقات السيطرة تحت غلالة من
الأخلاق و المثل السامية. و الفلسفة المعاصرة لم تخرج عن هذا المنظور ذي النفحة النيتشوية
الواضحة. فميشيل فوكو ( 1920 ـ 1984 ) ينظر إلى المثال
على أنّه يخفي مجموعة من القوى، و يعتبر القانون بمثابة حرب مشنونة بوسائل أخرى. و
القاعدة الأساسية التي تحكم (فكرة) فوكو
كما صاغها دولوز ( 1925 ـ 1995 ) هي "الشكل
عبارة عن علاقات قوى". و يشير هذا الأخير في دراسة له عن
فوكو إلى أنّ فيلسوف السلطة لم ينخدع يوما بمقولة "دولة الحقّ و القانون"
و لم يتبتّل يوما في محرابها لأنّه يفترض أنّ وراء الحقّ و القانون دوما إرادات
سيطرة. روح
الفلسفة المعاصرة مشحونة بالتوجّس و التشكك تجاه الحقوق و القوانين و المثل لأنّها
ترى أنّ وراء الحقوق مصالح و رغبات، و وراء لائحة القيم لائحة مصالح خفيّة. إنّ
القانون أو الحقّ في هذا المنظور، تعبير عن إرادة قوّة تقدّم نفسها على شكل حقّ و على شكل إرادة جماعية للخير.
خطاب
التفكيك و التفكير في شروط الإمكان:
هناك اتّجاهات في الفلسفة المعاصرة
تمارس نوعا من الحفريات الفلسفية حيث تفكّك المفاهيم و النظريات باحثة عن الجذور الفكرية
و الاجتماعية البعيدة التي تجعلها ممكنة. فالشروط الاجتماعية لإمكان قيام حقوق
الإنسان هي قيام المجتمع الحديث، و نشوء ضرب جديد من الشرعية يدعي الشرعية
الموضوعية أو المؤسّسية، و تحوّل الفرد من مجرّد كونه رقما مجهولا في المعادلة
الاجتماعية إلى كونه مواطنا ذا حقوق، و مشاركا فاعلا في المجال السياسي. أمّا
الشروط الفكرية للإمكان بالنسبة لمنظومة حقوق الإنسان فهي النزعة الإنسانية في
مدلولها الفلسفي لا الأخلاقي، وهي نزعة ترتكز على تصوّر جديد للإنسان قوامه أنّ
الإنسان كائن واع و حرّ مريد و فاعل و مسؤول، و من ثمّ فإنّه بمثابة مركز و مرجع
في الكثير من العمليات التاريخية. و النزعة الإنسانية التي هي الخلفية الفكرية و المصدرية
الفلسفية الأساسية لحقوق الإنسان هي نوع من الميتافيزيقا في نظر هيدغر
( 1889 ـ 1975 )، أي رؤية فلسفية تتبنّى تصوّرا فكريّا معيّنا للكائن
و تصوّرا معيّنا لحقيقة. هكذا تشكّل النزعة الإنسانية السند الأساسي للنزعة
الإنسانية الحقوقية أو القانونية، و مثل هذا الحفر في الجذور الفلسفية لمنظومة
حقوق الإنسان، بل للنزعة الإنسانية ذاتها، نجد أسسه في فلسفة هيدغر
و الاتّجاهات الفلسفية المتأثّرة بها فديريدا
(1930 ـ 2004) يشير إلى العلاقة الباروكية (Baroq ) المعقدّة بين النزعة الإنسانية
الحديثة و خطاب حقوق الإنسان، كما يشير إلى المفارقة المتمثّلة في أنّه من الضروري
فلسفيا تفكيك النزعة الإنسانية التي هي الأساس الفلسفي لحقوق الإنسان، و التي يكون
من الضروري نقدها، لكّنه يرى أيضا أنّ خطاب حقوق الإنسان هو خطاب ضروري سياسيا لأنّه
أداة لمناهضة النزعة الكليانية (الشمولية). الأساس الثاني الذي يشكّل سندا لمنظومة
حقوق الإنسان هو النزعة الإنسانية الحقوقية. و هذه الأخيرة تتضمّن و تؤسّس لتصوّر
الإنسان كفاعل قانوني (أي كصاحب حقّ) و كفاعل أساسي كمواطن تشريعي سواء تعلّق
الأمر بالذات الفردية أو بالذات الجماعية (الشعب). المدلول الملموس للنزعة
الإنسانية التشريعية هو تحقّق المواطن كمشارك و فاعل سياسي و الشعب كفاعل سياسي،
على المستويين النظري و العملي. فحقّ الفرد في حرّية الرأي و الفكر هو حقّه في أن
يكون سيّد أفعاله و ممارساته مثلما أنّ حقّ الشعب يتمثّل في أن يكون سيّد مصيره و سيّد
أفعاله و قراراته.
خطاب
التأصيل الفلسفي:
إذا كان الخطاب الأوّل توجسّيا و كاشفا،
و الخطاب الثاني بحثا عن شروط الإمكان و عن المصادرات و الخلفيات الفلسفية، فإنّ
النمط الثالث ذو سمة تأسيسيّة وتأصيليّة، فهو تنقيب عن الجذور و الأفكار المؤسّسة
لحقوق الإنسان، وهي في الوقت نفسه المحاضن و السلالات الفكريّة التي نشأ و ترعرع فيها هذا الخطاب و المرتكزات الفكريّة
الأساسية التي استند عليها، وهي على وجه العموم ثلاث أنوية و شبكات من الأفكار: الحرّية،
و العقد الاجتماعي، و الحق الطبيعي. و من المؤكّد أنّ خطاب حقوق الإنسان ارتبط
بالتحوّلات الفكريّة و الفلسفية الكبرى في الفكر الغربي الحديث، تلك التحوّلات
التي طالت تصوّر الإنسان و الطبيعة و التاريخ كما طالت طبيعة المعرفة نفسها. لكن
الروافد الفلسفية لمفهوم حقوق الإنسان ارتبطت بالأفكار المحوريّة الثلاث التي شكّلت
العمود الفقري للمنظومة برمّتها.
فكرة
الحرّية:
تنقسم حقوق الإنسان بعامة إلى حقوق /
حرّيات و حقوق / ديون، أي إلى حقوق ليبرالية و حقوق اجتماعية ما يعني أنّ جلّ
الحقوق المنصوص عليها في المنظومة هي في العمق حرّيات. فحقّ التملّك ليس إلاّ حرّية
التملّك، و حقّ الأمن ليس إلاّ حرّية الحركة، و حقّ التعبير هو في النهاية حرّية
الكلمة و هكذا. و فكرة الحرّية هاته، التي تشكّل صلب منظومة الحقوق الإنسانية و قوامها،
هي التعريف الذي نسبته الفلسفة الحديثة للإنسان. فالإنسان عند ديكارت
(1596 ـ 1650) هو كائن الاختيار الحرّ، و هو مملكة الحرّية عند كانط،
كما أنّ هيغل ( 1770 ـ 1830 ) يعتبر أنّ حرّية التفكير و القرار هي السمة الأساسية المميّزة للإنسان في
العصور الحديثة. فهيغل يرى أنّ "الحقّ
في الحرّية الذاتية يشكّل النقطة الحاسمة و المركزية التي تجسّد اختلاف الأزمنة
الحديثة عن العصور القديمة" (فلسفة الحقّ). كما اعتبر روسو
( 1712 ـ 1778 ) الحرّية صفة أساسية للإنسان و حقّا غير قابل للسلب و غير قابل
للتصرّف (العقد الاجتماعي). و على وجه الإجمال فإنّ الاتّجاهات الفلسفية الحديثة
تعتبر أنّ الحقّ هو الوجه الخارجي، أو التحقّق الخارجي للحرّية، فالحرّية هي جوهر
الحقّ و الحقّ هو صيغة الحرّية. و فكرة الحرّية هاته التي تبلّورت حولها الفلسفة
الحديثة تعتبر أنّ الحقّ هو الوجه الخارجي، أو التحقّق الخارجي للحرّية، فالحرّية
هي جوهر الحقّ و الحقّ هو صيغة الحرّية. و فكرة الحرّية هاته التي تبلورت حولها
الفلسفة الحديثة و اعتبرتها بمثابة تعريف للإنسان الحديث، و جوهرا له، هي جزء
أساسي من النزعة الفلسفية الإنسانية الحديثة التي تتمحور حول تصوّر للإنسان قوامه:
العقل و الإرادة و الحرّية.
فكرة
العقد الاجتماعي:
تشكّل فكرة العقد الاجتماعي، على
الرغم من طابعها الفرضي من الزاوية التاريخية، الفكرة المحورية للفلسفة السياسية
الحديثة، و عنوان ثورة فكرية في تصوّر المجتمع و السلطة و السياسة. و قد تبلورت
هذه الفكرة في جذورها البعيدة في مدرسة الحقّ الطبيعي حيث أشار غروتيس
(ت 1645 )، أحد رواد هذه المدرسة، إلى أنّه "يجب
إقامة الدولة على الميل الطبيعي محو العيش المأمون و المأمول عن طريق البحث عن
قواعد قائمة على العقل". و قد شكّلت هذه الفكرة مطيّة
تحوّل أساسي في فكرة الشرعية حيث أصبحت السلطة، من خلال المنظور التعاقدي، مؤسّسة
إنسانية تستمدّ شرعيتها من التعاقد بين الناس، وهو التعاقد المنظّم للحرّيات و الحقوق.
و بذلك أصبحت المشروعية السياسية و الاجتماعية مرتبطة بالذاتية الإنسانية كذاتية
مسؤولة و فاعلة من حيث أنّها حرّة.
فكرة الحق
الطبيعي:
شهدت هذه الفكرة نفسها صراعا و تطوّرا
كبيرين، فقد ظلّت محطّ تنازع بين تأويل يرجع الحقّ إلى الخلق و تأويل يرجع الحقّ
إلى الطبيعة. كما شهدت هذه الفكرة الأخيرة تحوّلا من الطبيعة الخارجية، وهي المسلّمة
الأساسية في الفلسفة اليونانية القديمة، حيث يقوم الحقّ الطبيعي بمفهومه القديم
على اللامساواة و التراتب الطبيعي الذي تؤسّس له فيزياء أرسطو،
إلى مفهوم الطبيعة بمعناه الحديث، وهو الطبيعة البشرية القائمة على العقل و المستندة
إلى أساس أنطولوجي قوامه مبدأ المساواة كما سلّمت به علوم الطبيعة الحديثة ابتداء
من غاليليو. نعثر لدى هوبز
( 1588 ـ 1679 ) على تعريف للحقّ الطبيعي يلمّ شتات العناصر المؤسّسة لحقوق
الإنسان بمفهومها الحديث حيث يقول: "الحقّ
الطبيعي هو الحرّية التي يملكها كلّ إنسان في أن يستعمل كما يشاء قدراته الخاصّة".
و كلمة ما يشاء لا تخلو من دلالة تعاقدية تصرّح بها و تنصّ عليها
فلسفة هوبز التي هي فلسفة الحداثة بامتياز. و بذلك تندغم
فكرة الحقّ بفكرة الحرّية و بفكرة الذاتية و التعاقد لتشكّل الأساس الفلسفي
لمنظومة حقوق الإنسان في مفهومها الغربي الحديث.
د.
محمد سبيلا:
أستاذ كرسي الفلسفة، كلّية الآداب الرباط
/ و مدير مجلّة "مدارات فلسفية" و رئيس الجمعية الفلسفية المغربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق