أحمد أغبال
تقوم الفلسفة السياسية لدى باروخ
سبينوزا على مصادرة أساسية مفادها أنّ الأنظمة السياسية ليست أنظمة
طبيعية بل هي أنظمة مبتكرة، صنعها الإنسان
من أجل تحقيق بعض الأهداف. و يرتبط عنده الدافع إلى تأسيسها بالطبيعة الإنسانية.
تتحدّد فلسفته السياسية، إذن، بتصوّره للطبيعة الإنسانية، منها استنبط مبادئها و غاياتها،
و عليها أسّس مفهومه لطبيعة النظام السياسي الصالح للبشر. و لذلك لزم البدء
بالتعريف بتصوّر سبينوزا للطبيعة الإنسانية.
1. تصوّر سبينوزا للطبيعة الإنسانية:
سار سبينوزا على نهج هوبز في بناء
فلسفته السياسية. كلاهما انطلق من فكرة أنّ الأهداف و الغايات السياسية تستنبط من
الطبيعة الإنسانية كما هي في الواقع لا كما ينبغي أن تكون. تمثّل الطبيعة
الإنسانية في نظر سبينوزا كيانا لا يختلف عن الكائنات
الطبيعية الأخرى من حيث أنّها تخضع جميعها لقوانين طبيعية. فكما أنّ بنيتنا
العضوية و الفيزيولوجية تخضع لهذه القوانين كذلك تخضع لها بنيتنا النفسية بما
تنطوي عليه من انفعالات و مشاعر و أهواء و رغبات. و لذلك لزم
التعامل مع الطبيعة الإنسانية و دراستها مثلما يدرس أي كائن طبيعي آخر. و أمّا
المبدأ الأساسي الذي يتحكّم في الكائنات الإنسانية فهو مبدأ الكاناتوس canatus principal أو قانون الشهوة الذي يمثّل الدافع
الحيوي و إرادة الحياة، وهو ما عبّر عنه سبينوزا بقوله: "
كلّ شيء يكافح من أجل الحفاظ على البقاء بقدر المستطاع وبقدر ما له من قوّة". يقوم هذا
المبدأ مقام المصادرة الأساسية التي تنبني عليها الفلسفة السياسية لدى باروخ سبينوزا. يقول بهذا
الصدد: "ولمّا كان
العقل لا يرغب في ما ليس موافقا للطبيعة، فإنّه بقضي بأن يحبّ كلّ امرئ نفسه، و أن
يسعى لما فيه مصلحته و إلى ما هو مفيد له بالفعل؛ و لا يرغب إلاّ بما يفضي
بالإنسان إلى مزيد من الكمال؛ و يقضي، بكلّ تأكيد، بأن يكافح كلّ فرد من أجل
الحفاظ على وجوده بقدر المستطاع. و الواقع، أنّ هذا الأمر ضروري و بديهي مثلما هو
بديهي أنّ الكلّ أكبر من الجزء" (1) إنّ قانون
الشهوة هو ما يجعل الإنسان كائنا أنانيّا بامتياز. هذا هو تصوّر سبينوزا للإنسان: إنّه أنانيّ
بطبعه. تلك بديهية لا تحتاج إلى برهان في نظره. إنّها عبارة عن مبدإ قبلي
يفرض نفسه بوصفه حقيقة متعالية عن ظروف الزمان و المكان. و ممّا يلزم عن هذا
المبدإ أنّ يتصرّف كلّ امرئ وفقا لما يرى فيه مصلحته الخاصّة. و بحكم طبيعته و نوازعه
الشهوانية أصبح الإنسان مؤهّلا ـ بالفطرة ـ لأن يكون لغيره عدوّا. و إذا تصوّرناه
وهو في حالة الطبيعة، حيث لا وجود للدولة و القانون، فإنّ وضعه لا بدّ أن يكون
محكوما بالصراع. يصف سبينوزا الإنسان وهو في حالة الطبيعة
بقوله: "..يتحدّد
الحقّ الطبيعي لكلّ إنسان حسب الرغبة و القدرة،
لا حسب العقل السليم. و ليس الجميع مؤهّلا طبيعيّا للتصرّف وفقا لقوانين العقل
السليم و قواعده، بل إنّ جميع الناس ولدوا، على العكس من
ذلك، في حالة من الجهل المطّبق، و قبل أن يتعلّموا أسلوب الحياة الصحيح و يكتسبوا
العادات الفاضلة، يكون الجزء الأكبر من حياتهم قد انقضى، حتّى و إن كانوا على قدر
كبير من التربية. إلاّ أنهّم يكوّنون في غضون ذلك مضطرّين للعيش و الحفاظ
على وجودهم، بقدر المستطاع، بدافع الرغبة الشهوانية التي تكون مستقلّة غير تابعة
لغيرها [متحرّرة من ضوابط العقل]. لم تمنحهم الطبيعة موجّها آخر سواه، فحرمتهم من
القدرة على العيش طبقا للعقل السليم. و لذلك لم يكونوا ملزمين بأن يعيشوا وفقا
لأوامر العقل المتنوّر مثلما أنّ القطّ ليس مضطرّا لأن يعيش طبقا للقوانين
المتحكمّة في طبيعة الأسد. و من ثمّة، فإنّ كلّ ما يعتقد الفرد الواقع تحت سيطرة
الطبيعة بأنّه نافع له، و سواء أكان منقادا في ذلك بالعقل السليم أو مدفوعا بقوّة
انفعالاته، يكون له الحقّ المطلق في طلبه و الاستيلاء عليه بأنجع الطرق، و سواء
أكان ذلك بواسطة القوّة أو التحايل أو التوسّل أو أيّة وسيلة أخرى. و بالتالي،
فإنّه لا بدّ أن ينظر إلى كلّ من يَحُولُ دون تحقيق هدفه على أنّه عدوّ له" (2) في حالة
الطبيعة يعيش الإنسان وفقا لمبدإ الشهوة، و يكون شغله الشاغل هو تحقيق مصلحته بكلّ الوسائل
المتوفّرة و لو على حساب الآخرين. و لم يكن بوسعه أن يتصرّف في ضوء العقل السليم،
لأنّ معظم تصوّراته للرغبة و المنفعة توجّهها الغرائز الشهوانية و الانفعالات التي
لا تهتّم بما وراء اللحظة الراهنة و الموضوع المباشر. و السبب في ذلك أنّ الإنسان
جزء من الطبيعة، واقع تحت قوانينها. و من
قوانينها الأساسية أنّ لكلّ موجود حقّ مطلق على ما يقع في نطا ق قدرته، وأنّ كلّ
شيء يحاول الحفاظ على وجوده و البقاء على وضعه بقدر ما له من قوةّ من غير أن يراعي
في ذلك أي شيء آخر. هذا هو حال الإنسان في الطبيعة، لا يملك سوى أن يسلك وفقا لما
تمليه عليه طبيعته، مثله في ذلك مثل سائر الموجودات الطبيعية، و لا فرق في ذلك بين
الأذكياء و الأغبياء من الناس. و لذلك، فإنّ كلّ من يتصرّف وفقا لقوانين الطبيعة
إنّما يمارس حقهّ الطبيعي المطلق. و إذا كان ذكيا فإنّه يستخدم قدراته العقلية
وفقا للمنطق الطبيعي، و بذلك يظلّ خاضعا لقانون الشهوة دون غيره، يسعى إلى السيطرة
على كلّ ما يقع تحت قدرته، و"تمتدّ حقوق الفرد إلى
الحدّ الأمثل الذي ترسمه القدرة المشروطة [بالمتغيرات الطبيعية]" و لماّ كانت
حالة الطبيعة خالية من السلطة السياسة، و حيث أنّ الدفاع عن النفس حقّ طبيعي، فإنّ
هذا الحقّ مشروط بالقدرة على استعمال القوّة. لا حقّ في الدفاع عن النفس، إذن، إلاّ
لمن له قدرة على ذلك. يمكن القول بعبارة أخرى: إنّه بانتفاء
القدرة ينتفي الحقّ. و بسبب جهل الإنسان بقوانين العقل انعدمت فيه الروح
الخلقية. ليس في حالة الطبيعة، إذن، شيء من قبيل السلطة السياسية و التشريعات
الوضعية أو الإلهية و الأخلاق. يقول سبينوزا: "من
اللازم وصف حالة الطبيعة على أنّها حالة لا وجود فيها لا للدين و لا للقانون، و بالتالي
لا وجود فيها للخطيئة و الذنب" ليس في الطبيعة
معيار للتمييز بين الخير و الشرّ و لا بين العدل و الجور. و بعبارة واحدة، لا وجود
فيها لمعاني الأخلاق. و هذا رأي ينسجم تمام الانسجام مع تعاليم بولس الرسول الذي نسب إليه سبينوزا قوله بأنّه لا
وجود للخطيئة قبل الشريعة، و بهذا المعنى يمكن فهم الآية الكريمة: "وَمَا
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً". يقول سبينوزا: "إنّ
الحقّ و القانون الطبيعيين اللذان ولد الإنسان في أحضانهما و عاش في كنفهما لا
يٌحَرِّمَانِ إلاّ الأشياء التي لا رغبة لأي أحد أو التي لا يستطيع أحد نيلها:
فهما لا يٌحَرِّمَانِ العنف، و لا الحقد، و لا الغضب، و لا الخداع، ولا أيّة وسيلة
من الوسائل التي توحي بها الرغبة الشهوانية" و لذلك كانت
القدرة أو القوّة هي المعيار الوحيد للحقّ. في حالة الطبيعة لا يكون البقاء إلاّ
للأقوى. ولكن القوّة لا تدوم، فالقوي اليوم ضعيف غدا. ومع خوار القوّة تتعطّل
آليات الكاناتوس و تتقلّص حدود الحقّ تدريجيا
إلى أن تصل إلى المستوى الذي يصبح معه الحفاظ على البقاء أمرا مستحيلا. و من هنا
ظهرت الحاجة إلى الاسترشاد بالعقل باعتباره الوسيلة الكفيلة بضمان الأمن و البقاء
للجميع. إنّ الاسترشاد بالعقل يعني الارتقاء فوق الأهواء الشخصية، و تجاوز نزعة التمركز حول الذات. ذلك هو السبيل
الوحيد لإقامة علاقات التعاون بين الناس. يخبرنا العقل بأنّ التعاون المتبادل هو
الكفيل بتوفير الأمن على الحياة و الممتلكات لكلّ فرد. فإذا كان العقل يحثّ
الأفراد على إقامة روابط اجتماعية فيما بينهم على أساس من التعاون المتبادل، فإنّ
الغرائز الشهوانية تدفع كلّ فرد إلى التمركز حول الذات، فيصير أنانيّا. و إذا
تغلّبت الغرائز على العقل، أدّى ذلك إلى نشوب صراعات طاحنة بين الأفراد. نخلص من
ذلك كلّه إلى القضية التالية: الشهوة تفرّق الشّمل و العقل
يجمعه. إنّ للعقل، إذن، دلالة اجتماعية من حيث أنّه يمثّل الشرط الضروري
لتأسيس المجتمع و تقوية الروابط الاجتماعية. و أمّا الرغبة الشهوانية و الانفعالات
فإنّه من شأنها أن تقوّض دعائم الاجتماع و المعاشرة و التآلف. يقول سبينوزا بهذا الصدد: "إنّه
طالما عانى الناس من الغضب و الحسد أو من أي انفعال ينشأ عنه الحقد، يتشتّت شملهم
و يعارض بعضهم بعضا. و بذلك يكون الخوف منهم أعظم، لاسيما و أنّهم أكثر قوّة و احتيالا
و دهاء من الحيوانات الأخرى. و لمّا كان الناس أكثر عرضة لهذه الانفعالات، فإنّه
من الطبيعي أن يكون بعضهم لبعض عدوّا" الانفعالات،
إذن، هي مصدر الصراع المدمّر للوجود البشري. إنّ الصراع، بطبيعته المدمّرة، مناقض
لمبدإ الكاناتوس الذي تكمن وظيفته في الحفاظ
على البقاء. و أمّا ما يجعل الإنسان قادرا على تجنّب الخصومات و النزاع فهو
الاسترشاد بالعقل. يكتسي العقل هنا دلالة أكسيولوجية؛ إنّه القوّة الدافعة للفرد
نحو الآخرين، يدفعه إلى إقامة علاقات إيجابية معهم، ويضفي طابعا أخلاقيا على سلوكه
إزاءهم، و يضمن، بالتالي، الاستقرار و الأمن للمجتمع.
2. أهمّية السلطة السياسية و دورها في حياة
الإنسان:
لا يشكّ سبينوزا في أن الاسترشاد بالعقل هو
السبيل الأمثل للخلاص، ما دام كلّ فرد يرغب في التخلّص من القلق الناتج عن العيش
في مناخ يزخر بمشاعر الحقد و الكراهية و الصراع؛ هذا فضلا عن أنّ انعدام التعاون
بين الناس يجبرهم على العيش في فقر مدقع و خوف رهيب. و اهتدى الناس، من خلال
استرشادهم بالعقل، إلى ضرورة بناء مجتمع على أساس نوع من التعاقد يفوّض فيه كلّ
فرد حقوقه الطبيعية للجماعة. يقول سبينوزا: "يتبيّن
لنا بوضوح تامّ أنّه من اللازم أن يتوّصل الناس إلى اتّفاق للعيش مع بعضهم البعض
في أمان وعلى أفضل نحو ممكن إن هم أرادوا التمتّع جميعهم بالحقوق التي تعود إليهم
بشكل طبيعي بوصفهم أفرادا؛ وينبغي ألاّ تكون حياتهم مشروطة بقوّة ورغبات الأفراد،
بل ينبغي أن تكون مشروطة بقوّة وإرادة الجماعة. ولا يمكنهم بلوغ هذا الهدف إذا
كانت الرغبة الشهوانية هي موجّههم الوحيد (لأنّ قوانين الرغبة تدفع كلّ فرد للسير
في اتّجاه مختلف)؛ و يجب عليهم، بالتالي، أن يتّخذوا قرارا صارما بإصدار تشريع
يقضي بأن يخضعوا لتوجيهات العقل في كلّ شيء (و الذي لا يجرؤ أحد على مخالفته صراحة
حتىّ لا ينظر إليه على أنّه مجنون أخرق)، و أن يعملوا على كبح جموح رغباتهم إذا
كانت ستلحق الأذى بالآخرين، و معاملة الجميع بمثل ما يحبّون أن يعاملوا به، وصيانة
حقوق الجار كما لو كانت حقوقهم الخاصة" و المراد
بالقول هو أنّ الإنسان بحكم وقوعه تحت قانون الكاناتوس، و ميله
الفطري إلى تحقيق ما يرى فيه مصلحته، لا يمكنه أن يعيش في مأمن من المخاطر التي
تهدّد وجوده بدون عقد اجتماعي يتنازل فيه كلّ فرد عن
حقّه الطبيعي على كلّ شيء؛ وهي فكرة نجدها أيضا لدى طوماس هوبز. و للبرهنة
على هذه الأطروحة، ساق سبينوزا تفسيرا
سيكولوجيا لسلوك الإنسان يبيّن من خلاله الآليات أو القوانين الطبيعية التي تحكّمت
في اختيار السلطة السياسية كحلّ لمسألة الحفاظ على البقاء. وانطلق في تفسيره من
المصادرات التالية التي تمثّل القوانين المتضمّنة على نحو أبديّ في الطبيعة
الإنسانية:
* لا أحد يمكنه
أن يفوّت على نفسه فرصة يتوقّع أن يجني منها نفعا عظيما إلاّ أَنْ يَتَرَجَّحَ
عنده أحد أمرين: إمّا الحصول على نفع أعظم إذا لزم أن يختار بين بديلين، و إمّا
الخوف من أن يلحقه منه أذى عظيم و خاصّة إذا كان الأذى أعظم من النفع.
* لا أحد يمكنه
أن يتحمّل أي نوع من الأذى إلاّ أَنْ يَتَرَجَّحَ عنده أحد أمرين: إمّا أنّ تحمّل
هذا الأذى يجنّبه الوقوع في مشكلة يكون أذاها أعظم، و إمّا أن يتوقّع الحصول بعد
ما تعرّض له من الأذى على خير عظيم.
* و عن هاتين
المصادرتين تنشأ مصادرة ثالثة مفادها أنهّ إذا كان على الفرد أن يختار بين أمرين
نافعين، فإنّه سيختار أكثرهما نفعا، و إذا كان عليه أن يختار بين شيئين كلاهما
مضرّ بمصلحته، فإنّه سيختار أهون الضررين.
وإذا نظرنا إلى هذه المصادرات في ضوء مبدإ الكاناتوس أو الشهوة
تبيّن لنا أنّ الإنسان، بحكم كونه عقلانيا، يميل إلى تقدير قيمة الأشياء، بما
تنطوي عليه من خير أو شرّ، في ضوء تقديره للإمكانيات التي توفّرها له للحفاظ على
وجوده. و من هذه المقدّمات (الأكسيومات) استنبط سبينوزا القضية
التالية:
إنّ الإنسان،
بسبب حصول الوعي له بمصلحته العليا، اختار التخلّي عن حالة الطبيعة و التنازل عن
حقّه الطبيعي على كلّ شيء و قبول سلطة الدولة حين رأى فيها خيرا أعظم أو شرّا أقلّ
ممّا وجده في حالة الطبيعة، و خاصّة فيما يتعلّق بقضايا الحفاظ على البقاء و الأمن
و الرقي و الرفاهية. و الحقيقة
أنّه لولا خوف الإنسان من شرّ أعظم أو طمعه في خير أكبر لما قبل التنازل عن حقوقه
الطبيعية و لما التزم بالعقد الذي أبرمه مع بني جنسه. و من هنا يتبّين أنّ قيمة
العقد الاجتماعي تتحدّد بمقدار ما يجلب من المنفعة و يدرأ من الضرر. يقول سبينوزا: "..إنّ
المنفعة وحدها هي التي تجعل العقد صالحا، و إذا انتفت يصبح فارغا و لاغيا. و من
ثمّة، يكون من الغباء أن يُطَالَبَ المرء بالوفاء بالعهد الذي قطعه معنا إلى الأبد
ما لم نُبيّن له أن خرق العهد الذي قطعناه على أنفسنا سيجلب للناكث من الضرر أكثر
ممّا يجلب له من الخير. و سيكون لهذا الاعتبار الوزن الأكبر في تأسيس الدولة" و إذا كان
الإنسان قد فضّل العيش في كنف الدولة بدل العيش في حالة الطبيعة، فليس لأنّ الدولة
خير في ذاتها، بل لأنّها تمثل أهون الضررين. إنهّا شرّ لا بدّ
منه؛ و هذا الشرّ
يمكن التحكّم فيه، لأنّ الدولة من صنع الإنسان وليست قدرا محتوما. و أمّا الشرّ
الملازم لحالة الطبيعة، فلا سيطرة للإنسان عليه. نفهم الآن لماذا فضلّت البشرية
الانتقال من حالة الطبيعة، التي يخضع فيها السلوك البشري لحتمية القوى الفطرية
العمياء و الغرائز الشهوانية، إلى حالة المدنية التي تنظّمها القوانين التي شرّعها
العقل. لننتقل الآن إلى مناقشة تصوّر سبينوزا لكيفيّة الانتقال
من حالة الطبيعة إلى حالة المدنية و الدولة. سبقت الإشارة إلى أنّ مفهوم الحقّ لدى
هذا الفيلسوف مرادف لمفهوم القوّة أو القدرة على دفع المعتدي و الدفاع عن النفس.
فعندما قال بأنّ لكلّ فرد الحقّ في الحياة و الحرّية و الملكية، فإنّما يقصد بذلك
أنّه يمتلك القدرة على الحفاظ على حياته و حريّته و ملكيته و دَفْعِ
المعتدي على حقوقه، و أنّ الدفاع عن النفس و معاقبة المعتدي هو حقّ طبيعي. إذا كان
الأمر كذلك، فإنّه يحقّ لنا أن نتساءل عمّا إذا كان التعاقد يستلزم تجريد الناس من
هذا الحقّ، و عمّا إذا كان من الممكن تفويض الحقّ الطبيعي إلى طرف آخر. المسألة
بالنسبة لـهوبز محسومة. و أمّا فيما يتعلّق بسبينوزا، فإنّ موقفه
منها يشوبه نوع من اللبس و الغموض. فهو يرى، من جهة، أنّه "يجب
على كلّ فرد أنّ يفوّض للمجتمع كلّ ما له من قدرة، بحيث يكون لهذا الأخير الحقّ
الطبيعي المطلق على كلّ شيء" ـ كما ورد في الفصل السادس عشر من رسالته في
اللاهوت و السياسة ـ و يذهب، من جهة أخرى، في الفصل السابع عشر من نفس المؤّلف إلى
أنّه " لا
يستطيع أيّ فرد أن يفوّض قدرته، و بالتالي حقوقه، تفويضا تامّا لغيره، و إلاّ
فإنّه سيكف بعدئذ عن أن يكون إنسانا، كما أنّه لا يمكن أن توجد سلطة لها من
السيطرة ما يجعلها قادرة على تحقيق أيّة رغبة ممكنة". و خلص إلى
القول: "يجب
التسليم، إذن، بأنّ كلّ فرد يحتفظ لنفسه بجزء من حقّه، و يضعه تحت تصرّفه، في منأى
عن [تأثير] أي شخص آخر". و من الحقوق الطبيعية و القدرات
التي لا يمكن لأيّ فرد تفويضها لغيره بأيّ حال من الأحوال، حقّه أو قدرته على
التفكير الحرّ في كلّ شيء، لأنّ عقل الإنسان لا يمكن أن
يقع تحت سيطرة أي إنسان آخر" (الفصل العشرون). و لا
يمكن للدولة أن تخضع العقول لمشيئتها إلاّ بالعنف، و تكون أشدّ عنفا عندما تقف ضدّ
حرّية التفكير، و قد تذهب في ذلك إلى حدّ إصدار أحكام بالإعدام على من يخالفونها
الرأي، و لكنّ هذه الأحكام تظلّ مخالفة للعقل السليم الذي هو مبدأ تأسيس الدولة
ذاتها. و هذا ما جعل سبينوزا ينكر على
الدولة حقّها المطلق في ذلك. و إذا كان الحقّ في التفكير الحرّ لا يُفَوَّضُ، فما
المانع من سحب هذا الحكم على الحقوق الطبيعية الأخرى ؟ و إذا كان الحقّ عند سبينوزا مرادفا لمفهوم
القدرة، فهل يمكن تفويض القدرات للغير؟. و إذا ثبت أنّه من غير الممكن و لا من
الجائز تفويض القدرات للغير، فما الذي يجب تفويضه ؟ يمكن القول في ضوء نتائج
التحليل التي توصّل إليها سبينوزا في الفصل
العشرين من رسالته في اللاهوت و السياسة إنّ ما يمكن للأفراد تفويضه للدولة التي
تمثّل إرادة الجماعة هي سلطة القرار في كلّ ما يتعلّق بكيفية استعمال القدرات و تقييم
نتائجها لتحديد ما يصلح منها للمجتمع و ما لا يصلح له. و أمّا تفويض القدرات فهو
بمثابة سلب مقوّمات الهوّية الإنسانية للأفراد، و تحويلهم
إلى مجرّد آلات أو بهائم. يقول بالحرف الواحد: " لا،
ليس القصد من إقامة الحكومة هو تحويل الناس من كونهم كائنات عاقلة إلى بهائم أو
دمى متحرّكة، بل المقصود منها هو تمكينهم من تنمية قدراتهم العقلية و الجسدية في
أمن" و يتجلّى موقفه
بوضوح على المستوى العملي بخصوص ما يمكن تفويضه في الخطاب الذي توجّه به إلى حكومة
بلاده في ختام الفصل المذكور. يقول: "و هكذا
أكون قد أنجزت المهمّة التي اعتزمت معالجتها في هذه الرسالة. و لم يبق لي سوى
التنبيه إلى أنّني لم أكتب شيئا ممّا لم يكن في نيّتي أن أتقدّم به لمن يتولّون
مقاليد الحكم في بلدي ليقوموا بفحصه و الحكم عليه، و أنّني على استعداد للتّراجع عن كلّ
ما سيثبت لهم أنّه مخالف للقوانين أو ضارّ بالمصلحة العامّة. إنّني أدرك أنّني
بشر، و أنّني معرّض بوصفي إنسانا للخطإ. لقد اتّخذت كلّ الاحتياطات اللازمة لتجنّب
الوقوع في الزلل، و حرصت على البقاء في انسجام تامّ مع قوانين بلدي بروح الولاء
والأخلاق" هذه الفقرة الختامية ترديد لصدى أقوال وردت في مقدّمة الكتاب.
الهوامش:
1)Benedict de Spinoza.
The ethics. Translated from the latin R.H.M. by Elwes.
2)Benedict de Spinoza. A theologico-political treatise. Translated from the latin R.H.M. by Elwes.
2)Benedict de Spinoza. A theologico-political treatise. Translated from the latin R.H.M. by Elwes.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق