أنس ناصري
أ ـ خرافة الاستقراء:
3- زكرياابراهيم: دراسات في الفلسفة المعاصرة، مكتبة مصر، ص ص 281 -284
4- هانس رايشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة فؤاد زكريا، ص 16
5- هانس رايشنباخ: نفس المرجع، ص 227
6 – A. J.Ayer:« Language,Trurh and Logic » 1964,p.p.37-38
7- Ibid , Introduction,p.p 11- 12
8- North White : « The Age of Analysis,20 th century philosophers» p206
9- A.J.Ayer : « Language,Trurh and Logic » p 12
10 – Ibid , p 13
11- يمنى طريف الخولي : فلسفة كارل بوبر ، ط2 ، 2002 ، ص 224
12- Victor Kraft : « Popper and the Vienna circle »p.p 189-190
13- كارل هامبل: فلسفة العلوم الطبيعية، ترجمة جلال محمد موسى، ص 45
14- Bryan Magee: « Modern British Philosophy »p 12
15- Karl Popper « Conjectures and Refutation »p 46
16- Ibid , pp 46 – 47
17- Ibid , p 47
18- Ibid , p 48
19– Peter Msdwar : « Hy Polydesis and Imagination » p 270
20– ج. برونوفسكي: وحدة الانسان، ترجمة فؤاد زكريا، ص 60
21- عبد الرحمان بدوي: مدخل جديد الى الفلسفة، ص 97
22- Karl Popper « Conjectures and Refutation »p 49
23- Ibid , p 261
24- Ibid , p 264
25- Peter Msdwar : « Hy Polydesis and Imagination » p 274
تمهيد:
حظي المنهج الاستقرائي بمكانة خاصّة لدى التصوّر
"التجرباني" التجريبي حيث اعتبر الأساس الفعلي في تمييزه العلم و الفيصل
الحاسم بين العلم و اللاعلم «
فاستخدام المنهج الاستقرائي يعتبر معيارا للتمييز بين العلم و اللاعلم و بذلك
تتعارض العبارات العلمية القائمة على أدلّة ملحوظة تجريبيا ـ أي القائمة باختصار
على حقائق ـ مع أيّة عبارات من نوع آخر، سواء قامت على النفوذ أو العاطفة أو
التقاليد أو التأمّل أو على أي أساس آخر» 1 و
تجدر الإشارة إلى أنّ الاستقراء هو الانتقال من ملاحظة عدد معيّن من
الظواهر أو الوقائع المنفصلة إلى قانون عام يسمح لنا بأنّ ننشئ كثيرا من القضايا العامة و نستخلص منها قضية أخرى أكثر تعميما أي أنّ الاستقراء هو ارتقاء من ملاحظات جزئية إلى ما هو كلّي و عام بحيث يصبح قانونا كلّيا و عاما و هذا ما يفترضه الباحث مسبقا أثناء تكرار الملاحظات في مجال معيّن ما كالفيزياء أو الطبيعيات. لكنّ هذا الارتقاء هو ارتقاء عبر تعميم حيث اعتبر هذا الأخير وسيلة منهجية للوصول إلى حقائق صادقة انطلاقا من فرضيات مصحّحة يتمّ بها الحصول على قوانين عامة أي أنّ الارتقاء كان من العامّ إلى الخاصّ. هكذا أصبح المنهج الاستقرائي الأداة الفعلية لتأسيس معرفة موضوعية تعمل على التمييز بين العلم و اللاعلم « و الالتزام بالمنهج العلمي في أيّة دراسة أي اتّباع الموضوعية و الاستناد إلى الملاحظة الدقيقة و الاعتماد على الاستقراء السليم و إجراء التجربة المنظّمة يجعل الدراسة بحقّ علما» 2 أي أنّ السّمة المميّزة للعلم هو المنهج الاستقرائي رغم تلك التعميمات التي طبعت المنهج إلاّ أنّ الاستقراء أصبح الأداة المنهجية في العلم ممّا جعله يحظى بثقة العلماء أثناء القيام بتجارب و ملاحظات لها علاقة بميدان علمي معيّن و من ثمّة يغتني المنهج عبر الانتقال من ملاحظات جزئية تجريبية وصولا إلى ملاحظات أعمّ يتمّ تقديمها في شكل قانون عام. لكن رغم تميّز القانون بالكلّية و الشمولية إلاّ أنّ هذا القانون في حاجة إلى تنقيح و تعديل. و هذا ما دفع الباحث إلى التساؤل عن مدى مشروعية المنهج الاستقرائي، و من ثمّة أصبحت تطرح مشكلة الاستقراء و خصوصا مع دايفيد هيوم و برتراند راسل حيث قدّما تصوّرهما للمشكل دون تبرير المشكل أو حلّه، الشيء الذي سيدفع بالعلماء إلى البحث عن معايير جديدة تقدّم معرفة موضوعية بالعلم و تميّز العلم عن اللاعلم. إلاّ أنّ ذلك يدفع بنا إلى التساؤل عن طبيعة المعرفة الموضوعية. و بداية نتساءل: كيف تجسّدت موضوعية المعرفة ؟ هل في معيار الوضعية المنطقية ؟ أم في الانتقادات التي وجّهها بوبر للوضعانيين ؟
الظواهر أو الوقائع المنفصلة إلى قانون عام يسمح لنا بأنّ ننشئ كثيرا من القضايا العامة و نستخلص منها قضية أخرى أكثر تعميما أي أنّ الاستقراء هو ارتقاء من ملاحظات جزئية إلى ما هو كلّي و عام بحيث يصبح قانونا كلّيا و عاما و هذا ما يفترضه الباحث مسبقا أثناء تكرار الملاحظات في مجال معيّن ما كالفيزياء أو الطبيعيات. لكنّ هذا الارتقاء هو ارتقاء عبر تعميم حيث اعتبر هذا الأخير وسيلة منهجية للوصول إلى حقائق صادقة انطلاقا من فرضيات مصحّحة يتمّ بها الحصول على قوانين عامة أي أنّ الارتقاء كان من العامّ إلى الخاصّ. هكذا أصبح المنهج الاستقرائي الأداة الفعلية لتأسيس معرفة موضوعية تعمل على التمييز بين العلم و اللاعلم « و الالتزام بالمنهج العلمي في أيّة دراسة أي اتّباع الموضوعية و الاستناد إلى الملاحظة الدقيقة و الاعتماد على الاستقراء السليم و إجراء التجربة المنظّمة يجعل الدراسة بحقّ علما» 2 أي أنّ السّمة المميّزة للعلم هو المنهج الاستقرائي رغم تلك التعميمات التي طبعت المنهج إلاّ أنّ الاستقراء أصبح الأداة المنهجية في العلم ممّا جعله يحظى بثقة العلماء أثناء القيام بتجارب و ملاحظات لها علاقة بميدان علمي معيّن و من ثمّة يغتني المنهج عبر الانتقال من ملاحظات جزئية تجريبية وصولا إلى ملاحظات أعمّ يتمّ تقديمها في شكل قانون عام. لكن رغم تميّز القانون بالكلّية و الشمولية إلاّ أنّ هذا القانون في حاجة إلى تنقيح و تعديل. و هذا ما دفع الباحث إلى التساؤل عن مدى مشروعية المنهج الاستقرائي، و من ثمّة أصبحت تطرح مشكلة الاستقراء و خصوصا مع دايفيد هيوم و برتراند راسل حيث قدّما تصوّرهما للمشكل دون تبرير المشكل أو حلّه، الشيء الذي سيدفع بالعلماء إلى البحث عن معايير جديدة تقدّم معرفة موضوعية بالعلم و تميّز العلم عن اللاعلم. إلاّ أنّ ذلك يدفع بنا إلى التساؤل عن طبيعة المعرفة الموضوعية. و بداية نتساءل: كيف تجسّدت موضوعية المعرفة ؟ هل في معيار الوضعية المنطقية ؟ أم في الانتقادات التي وجّهها بوبر للوضعانيين ؟
1 ـ الوضعية المنطقية و معاييرها:
شكّلت الوضعية المنطقية الأساس
الفعلي في فلسفة العلم حيث اعتبرت إحدى المعايير التقليدية في تمييز العلم عن
اللاعلم، هذا بالإضافة إلى أنّ الوضعانيين المناطقة قدمّوا
مجموعة من المبادئ التي ميّزت فلسفتهم و ذلك بالقول: « إنّ الفلسفة تحليلية حيث
تقتصر على التحليل في خصائصها الأربعة (لغوية، تفتيتية، معرفية، بين ذاتية). كما
أنّ الفلسفة علمية حيث جعل الوضعانيون المناطقة العلم
النشاط العقلي الأوحد و اعتبروا الميتافيزيقا لغوا، لعلّ اعتبار
أنّ الهدف الاستراتيجي لدائرة فيينا هو
إثبات أنّ الميتافيزيقا لغو ما دامت قضاياها لا هي تحليلية ولا هي تركيبية،... أي
ليس لها ما يقابلها في الواقع المحسوس فهي ألفاظ مبهمة ليس لها معنى»3 كما
تجدر الإشارة إلى أنّ ما ميّز دائرة فيينا هو
أنّ فلاسفتها ضاقوا ذرعا بما تصوّروه من عقم المشاهد الميتافيزيقية زاعمين أنّها
بقيت ثلاثة و عشرين قرنا كما خلّفها أرسطو و ذلك
في استخدام ألفاظ غير مفهومة و يعبّر عن هذا الرأي الفيلسوف الألماني هانس
رايشنباخ في كتابه نشأة الفلسفة العلمية في عبارة
مأخوذة لفيلسوف مشهور حيث يقول:« العقل هو الجوهر فضلا عن كونه قوّة
لا متناهية، إذ أنّ مادته اللامتناهية الخاصّة تكمن من وراء الحياة الطبيعية و الروحية
كلّها. فضلا عن الصورة اللامتناهية التي تبعث الحركة عن تلك المادة، فالعقل هو
الجوهر الذي تستمدّ منه كلّ الأشياء وجودها »4 هذا
بالإضافة إلى أنّ الوضعانيين المناطقة
قدّموا مجموعة من المعايير التي هي بمثابة الفيصل الحاسم بين العلم و اللاعلم و الأساس
الفعلي لركائز الوضعانيين
هي:
أ ـ معيار التحقّق:
يعتبر معيار التحقّق من بين المعايير التي
تجسّد مبادئ الوضعانيين،
حيث أنّ كلّ حقيقة تركيبية تستمدّ من الملاحظة و أنّ كلّ ما يسهم به العقل في
المعرفة ذو طبيعة تحليلية كان مضمونه بالجملة ليس بتحليلي « فلكي تكون ذات معنى لا بدّ و أن تعبّر عن واقع حسّي تجريبي و أنّ الجملة التي
لا يمكن تحديد صدقها من ملاحظات حسّية ممكنة هي جملة لا معنى لها »5 حيث
أنّ المعنى هو العلم و اللاعلم هو اللامعنى كما تجدر الإشارة إلى أنّ معيار
التحقّق تجسّد بالأساس مع ج. ألفريد آير حيث
ميّز بين نوعين من التحقّق، تحقّق عملي و تحقّق مبدئي «فالتحقّق العملي يغيب وجوده عند غياب الظروف المواتية له »6 كما
أقام آير تفرقة
بين نوعين من التحقّق: تحقّق قويّ و تحقّق ضعيف و التحقّق الضعيف هو ما حاول آير الدفاع
عنه «لأنّه لا يكفي لكي تكون العبارة ذات معنى أن يكون في
إمكان التجربة إثبات احتمالاتها.»7 لكن
رغم دفاع آير عن
مبدأ التحقّق الضعيف لم ينتبه إلى أنّ هذا المبدأ « يستبعد الكثير من الأحكام الجاهزة و الزائفة، كالحكم القائل مثلا عن عالم
الحسّ لا واقعي. و شتّى الأحكام التي تدور حول الواقع »8 رغم
كلّ هذا اعترف آير في
الطبعة الثانية من كتابه "اللغة، الصدق و المنطق" بأنّ تعريفه السابق
للتحقّق « قد يفتح السبيل أمام أيّة عبارة
ميتافيزيقية أو أيّة جملة فارغة من المعنى لأن تكون مبدئيا قابلة للتحقّق » 9 وذلك
لأنّ ج .أ. آير كان
قد ذهب من قبل إلى أنّه من الممكن لأيّة عبارة أن تكون قابلة للتحقّق إذا كانت
هناك بعض العبارات قائمة على الملاحظة يمكن استخلاصها من تلك العبارة و لو كان ذلك
عن طريق الاستعانة ببعض المقدّمات الإضافية. و لكن، لم يلبث آير أن
تحقّق من عدم كفاية هذا المبدأ من مبادئ التحقّق و سرعان ما قدّم بعض الشروط
لتلافي الاعتراضات التي يمكنها أن تواجه معياره. و من جملة هاته الشروط: 10
أ ـ تكون العبارة قابلة للتحقّق بطريقة
مباشرة إذا كانت هي نفسها قضية قائمة على الملاحظة أو إذا توفّرت قضية أو أكثر
ب ـ تكون العبارة قابلة للتحقّق بطريقة
غير مباشرة إذا توافر فيها شرطان أساسيان:
* إذا ترتّب عليها ـ بالاشتراك مع بعض المقدّمات
الأخرى ـ عبارة أو أكثر قابلة للتحقّق بطريقة مباشرة على شرط ألاّ تكون هذه
العبارة أو العبارات مستخلصة من تلك المقدّمات الأخرى وحدها.
* ينبغي ألاّ تشمل هذه المقدّمات الأخرى على أيّة
عبارة تكون إمّا تحليلية، و إمّا قابلة للتحقّق بطريقة مباشرة، و إمّا قابلة
للإثبات في استقلال تامّ عمّا عداها بوصفها تقبل التحقّق غير المباشر.
فكلّ هذه الشروط التي أضافها آير تهدف
إلى استبعاد العبارات الفارغة من المعنى من دائرة إمكانية التحقّق. لكن، رغم كلّ
هاته المجهودات لقي المعيار مجموعة من الاعتراضات حتّى من داخل الفلسفة نفسها حيث
رفضوا هذا المعيار لكون أنّ القضايا الجزئية و المفاهيم لا يمكن أن نتحقّق منها
تحقّقا كاملا. هذا بالإضافة إلى أنّه لا يستطيع التمييز بين العلم و اللاعلم، ممّا
دفع بالجماعة إلى التفكير في معيار آخر يحاول التمييز بين العلم و اللاعلم.
ب ـ معيار القابلية للتأييد و الاختبار:
ب ـ معيار القابلية للتأييد و الاختبار:
إنّ معيار القابلية للتأييد Confirmability
« يقدّم قضية ذات معنى و تكتسب هذا الشرط إذا أمكن تأييدها و ذلك باشتقاق قضايا
صادقة منها كما ارتبط معيار القابلية للتأييد بالقابلية للاختبار Testability
و تكون الجملة قابلة للاختبار إذا كنّا نعرف « الإجراءات المعينة التي من شأنها أن
تؤيّد الجملة أو تؤيّد نفيها لدرجة ما. بينما تكون الجملة قابلة للتأييد إذا أمكن
منطقيا لأيّ نوع من الأدلّة التجريبية أن يؤيّدها حتّى و لو كنّا نعلم المسار
المعين لإجراءات الحصول على هذه الأدلّة أمّا القابلية للاختبار هي مجرّد صورة
قويّة و فعلية من قابلية التأييد المضاعفة، فالفارق بينهما يطابق الفارق بين
التحقّق بالمعنى أي المباشر أو القوي كما تصوّره ج.ألفريد
آير و التحقّق بالمعنى الضعيف، و هذا ما يدفعنا
إلى التأكيد على أنّ معيار القابلية للتأييد هو الأوسع في مصداقيتها. و الجدير
بالذكر أنّ كارل هامبل رفض
معيار التحقّق لكونه يرفض المنهج الاستقرائي فهو بالضرورة يرفض المعيار. لكن، رفضه
هذا أدّى به على الإعلان أنّه لا يمكن اعتبار النظرية علمية ما لم تكن قابلة
للاختبار التجريبي و التأييد ببيّنات تجريبية. فحسب كارل
هامبل أنّه « إذا تحققّت شروط الاختبار "ح" يحدث الناتج "ه" »13 هذا
بالإضافة إلى أنّ هامبل طرح
خرافة الاستقراء جانبا رغم أنّ فكرة المعنى من الأسس المميّزة للوضعية المنطقية،
لكن رغم هذا التصريح الذي قدّمه هامبل بخصوص
معيار القابلية للتأييد كان معجبا و مؤيّدا لمعيار بوبر في
تمييزه للعلم عن اللاعلم. رغم أنّ معيار القابلية للتكذيب مضادّ لمعيار
الوضعانيين. وهذا ما يؤكّد على أنّ
الوضعانيين أنفسهم لم يتّفقوا على المعايير التي
أسندوها لفلسفتهم، الشيء الذي أدّى بكارل
بوبر إلى مواجهة معاييرها و تقديم الاعتراضات حول
معيارهم من أجل تأسيس معيار يميّز العلم عن غيره. فما هي إذن هذه الاعتراضات ؟ و كيف
تمّت مواجهة هذا المعيار ؟ هل هي اعتراضات منطقية ؟
3 ـ كارل بوبر و انتقاداته:أ ـ خرافة الاستقراء:
اعتبرت فلسفة كارل
بوبر فلسفة ضدّ الاستقراء (اللاستقراء) و هذا ما
يتّضح من كتابته و مقالته، و الدليل على ذلك إحدى المراسلات التي دارت بين بوبر و بريان
ماجي: 14 بريان
ماجي : إنّك ـ أي بوبر
ـ تنادي بمبدأ
مخيف إذ تقول ليس هناك شيء اسمه الاستقراء، و أنّك لا تتصوّر أنّ الاستقراء لا يصف
ما يفعله العلماء في الواقع و لا هو يصف ما يجب أن يفعلوه
كارل بوبر: نعم.. وجهة نظري كانت و
لا تزال مختلفة، و هذا ما يدفعنا إلى التأكيد على أنّ الفيلسوف اتّخذ موقفا مخالفا
لما تمّ اعتياده و الاتّفاق عليه أي أنّ موقف بوبر إزاء
هذا الموضوع كان مخيفا إلى حدّ ما و ذلك بإثبات خرافته رغم تشكّك الفيلسوف في
البداية من موقفه الذي يدعى بالخرافة « فقد تشكّك في أوّل الأمر في أن يكون مخلصا
و صادقا في إنكار ما لا يستطيع أحد البتّة أن يشعر بأدنى شكّ فيه، ما يأخد بمثل
هذا الانتشار الواسع و اليقين الثابت » 15 لكن،
رغم تشكّكه هذا كان مصرّا على موقفه بفضل إثباتاته الحجاجية التي تبرز مدى خرافة
هذا المنهج. و بداية ينطلق الفيلسوف من كون أنّ الملاحظة هي الأساس الفعلي للوصول
إلى فروض، غير أنّ بوبر يعتبر
أنّ البدء بالملاحظة لا يفضي إلى أي شيء و هذا هو سبب الخلاف مع الاستقرائيين. حيث
يؤكّدون على أنّ الملاحظة الحسّية هي نقطة البدء التي توصلنا إلى فروض. أمّا بوبر فيقول
العكس « فالفروض قبل الملاحظة على اعتبار أنّ
الفرضية تتكوّن في ذهن العالم قبل إجراء عملية الملاحظة.» 16 هذا
بالإضافة إلى أنّ البدء بالملاحظة الخالصة فقط و تعميم نتائج الملاحظة للوصول إلى
نظريات علمية من غير أي تصميم ذهني مسبق هو من باب المستحيل. و ما يوضّح استحالة
هذه الفكرة « إحدى الروايات التي تحكي عن رجل كرّس حياته للعلم الطبيعي و أخد
يسجّل كلّ ما استطاع أن يلاحظه ثمّ أوصى بأن تورّث هذه المجموعة من الملاحظات التي
لا تساوي شيئا إلى الجمعية الملكية للعلوم بانجلترا كي تستعمل كدليل استقرائي. و
من الواضح أنّ هذه المجموعة من الملاحظات لا يمكنها أن تبرهن على أيّ شيء أو تفضي
إلى أي شيء آخر» 17 كما أكّد بوبر فكرته
هاته في إحدى محاضراته التي أقامها في فيينا مع
طلبة الفيزياء حيث قال: «أمسك بالقلم و الورقة، لاحظ بعناية و دقّة. و سجّل ما
تلاحظه »18 و بالطبع تساءل
الطلاّب عمّا يريدهم بوبر أن
يلاحظوه. فعبارة لاحظ فحسب لا تعني شيئا وهي من باب المحال. و يقودنا الحديث
السابق إلى القول إنّ العالم لا يلاحظ فحسب بل يبدأ بالحصيلة المعرفية التي تمّ
اكتسابها من الخارج. و من هنا تصبح الفرضية مضاءة بنور الملاحظة، على اعتبار أنّ
الملاحظة هي التي تأوّل الفرضية. و هذا على العكس ممّا تمّ إثباته لدى التجربانيين
حيث تمثّل الاستقراء في فكرة التعميم و تكرار الملاحظات، و على ضوء هاته المقارنة
تمّ إثبات استحالة البدء بالملاحظة و خرافة المنهج الاستقرائي لأنّ الفروض سابقة
على الملاحظة التجريبية و من ثمّ ليس مستقرأ منها على الإطلاق. كما تمّ تأكيد
خرافة المنهج انطلاقا من مواقف معاصرة للفيلسوف حيث يؤكّد سير
بيتر أحد العلماء الحاصلين على جائزة نوبل يقول: " إنّ الاستقراء الذي انشغل به هيوم لا بدّ وأن يكون محض خرافة » 19 كما
نجد أحد العلماء الرياضيين ج. برونفسكي j. Bronoviskt يقول: « ما زالت نظرياتهم ـ أي نظريات فلاسفة العلم ـ الاعتقاد بأنّ العلم جمع
تراكمي للواقع، و أنّ التعميم ينمو بذاته من تكديس أمثلة منفردة في مجال واحد ضيّق
و هم يظنّون أنّ العالم يقتنع بأنّ الضوء يصل إلى العين في كميّات متلاحقة، لأنّ
هذا العالم يجري تجربة و يكرّرها لكي يتأكّد. و لكن، هذا للأسف الشديد ليس على
الإطلاق ما يفعله العالم، إنّه بالفعل قد يكرّر التجربة مرتين أو ثلاثا، إذا كانت
نتيجتها تصدمه بغرابته و مخالفتها لما هو متوقّع أي أنّ هناك توقّع سالف ننتظر على
أساسه نتيجة التجربة » 20 كما
يؤكّد عبد الرحمان بدوي في
كتابه "مدخل جديد إلى الفلسفة" حيث يعتبر أنّ «جوهر المنهج التجريبي هو الفكرة و أنّ الفكرة تكون بالنسبة للمجرّب نوعا من
الاستباق Anticipation و أنّه إذا ما تبيّنت الفكرة يمكن
فقط أن نقرّر كيف ينبغي إخضاعها لتعليمات محدّدة و قواعد منطقية دقيقة ليس في وسع
أي مجرّب أن ينحرف عنها. لكن، ظهورها كان تلقائيا تماما و طبيعتها فردية لا
استقرائية »21 و
بعد ذكر هذه المواقف يمكن القول إنّ خرافة المنهج الاستقرائي كان لها أساس فعلي في
تبنّي هذه الموقف و أنّ خرافة المنهج الاستقرائي كانت نتيجة انطلاق
التجربانيين من ملاحظات للوصول إلى فرضيات تصبح بمثابة
قوانين كلّية. هذا البناء الذي انطلق منه
التجربانيون هو بناء خاطئ لا أساس له من الصحّة، و من
ثمّة يسقط المنهج في دائرة الخرافة لا سبيل للخروج منها. و هذا ما دفع
بالفيلسوف كارل بوبر إلى
القول بخرافة المنهج الاستقرائي و التفكير في معيار يضمن استمرارية العلم.
ب ـ بطلان معيار الوضعانيين:
أسسّ بوبر معيار
القابلية للتكذيب بنقد مبادئ الوضعانيين المناطقة و هذا
ما دفعه إلى القول إنّ « محاربة الوضعية المنطقية كان و بلا جدال
أحد اهتماماتي الأساسية »22 هذا
بالإضافة إلى أنّ الفيلسوف حطّم ركائز و أسس
الوضعانيين ألا وهي محاربة الميتافيزيقا، فكان
تصوّر بوبر على
خلاف ما تصوّره الوضعانيون حيث
اعتبر أنّ الميتافيزيقا يستحيل أن تكون لغوا على اعتبار أنّ هناك أفكار
ميتافيزيقية ساعدت على تقدّم العلم بل و كانت ضرورية له « فكثيرا من نظرياتنا العلمية قد تطوّرت عن أساطير مرحلة ما قبل العلم وعن
نظريات كانت في وقت ما غير قابلة للاختيار( أي لا علمية أو ميتافيزيقية ) فيمكن أن
نتتّبع تاريخ نظرية نيوتن إلى الوراء حتّى أنكسمندر و هيزيود، و النظرية الذرّية كانت غير قابلة للاختبارـ أي أقرب إلى الميتافيزيقا ـ
حتّى سنة 1905 تقريبا. بل و أنّ كثيرا من الأفكار الميتافيزيقية قد أوحت بصورة
مباشرة بنظريات علمية »23 و
هكذا و بعد أن انتقد بوبر إحدى
المبادئ التي أسست للوضعانية ألا
وهي الميتافيزيقا، هذا بالإضافة إلى نقد مَنْحَاهُم اللغوي و منحاهم التحليلي. و الأهمّ
من هذا نقد المعايير التي أقام عليها الوضعانيون بنيانهم
و يتعلّق الأمر بمعيار التحقّق و معيار القابلية
للتأييد. حيث بدأ بوبر انتقاده
بمعيار التحقّق و هذا المعيار في تصوّر الفيلسوف غير قابل للتحقّق وهو أمر مرفوض.
لأنّ هذا المعيار بمثابة ظلّ المنطق الاستقرائي ولا فرق بين التحقّق و الاستقراء.
كما أنّ ضرورة التحقّق من الكلمات كي تكون ذات معنى، تعني أن نحدّد بدقّة الدلالات
الحسّية للكلمة قبل أن نستعملها. و معنى ذلك أنّ الاستعمال الذي أكّده كلّ من آير و موريس شليك خاصّة
سيفضي بحسب الفيلسوف إلى تحصيل حاصل لا وجود لأيّة قضية تركيبية و بالتالي فإنّ
التحقّق من المفاهيم لا يستقيم فيه القول و لا يميّز فيه العلم عن اللاعلم 24 و
على هذا النحو فإنّ ارتباط هذا المعيار بهذا الأخير يجعل منه معيارا مفرغا من
محتواه و بالتالي لا يصلح حسب تصوّر الفيلسوف كارل
بوبر بأن يكون معيارا لتمييز العلم عن اللاعلم و
هكذا جاء تفكير بوبر لتأسيس
معيار القابلية للتكذيب. فما هو إذن هذا المعيار ؟ و على ماذا يتأسّس ؟ هل تمّ
تأسيسه على بنيان منطقي ؟
منقول عن موقع تفلسف
الهوامش:
1- Bryan
Magee, Karl Popper, edited by Frank kermod,Viking press,New york second edition
, 1973,b12
2- ستانلي بيك: بساطة العلم، ترجمة زكريا فهمي، ص 1613- زكرياابراهيم: دراسات في الفلسفة المعاصرة، مكتبة مصر، ص ص 281 -284
4- هانس رايشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة فؤاد زكريا، ص 16
5- هانس رايشنباخ: نفس المرجع، ص 227
6 – A. J.Ayer:« Language,Trurh and Logic » 1964,p.p.37-38
7- Ibid , Introduction,p.p 11- 12
8- North White : « The Age of Analysis,20 th century philosophers» p206
9- A.J.Ayer : « Language,Trurh and Logic » p 12
10 – Ibid , p 13
11- يمنى طريف الخولي : فلسفة كارل بوبر ، ط2 ، 2002 ، ص 224
12- Victor Kraft : « Popper and the Vienna circle »p.p 189-190
13- كارل هامبل: فلسفة العلوم الطبيعية، ترجمة جلال محمد موسى، ص 45
14- Bryan Magee: « Modern British Philosophy »p 12
15- Karl Popper « Conjectures and Refutation »p 46
16- Ibid , pp 46 – 47
17- Ibid , p 47
18- Ibid , p 48
19– Peter Msdwar : « Hy Polydesis and Imagination » p 270
20– ج. برونوفسكي: وحدة الانسان، ترجمة فؤاد زكريا، ص 60
21- عبد الرحمان بدوي: مدخل جديد الى الفلسفة، ص 97
22- Karl Popper « Conjectures and Refutation »p 49
23- Ibid , p 261
24- Ibid , p 264
25- Peter Msdwar : « Hy Polydesis and Imagination » p 274
شكرا لمجهوداتك و الله يجازيك خيرا...
ردحذف