إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الثلاثاء، 4 أغسطس 2009

هوسرل وأزمة الثقافة الأوروبية*

إسماعيل المصدق
هناك سمتان طبعتا المسار الفكري لهوسرل، انعكستا بشكل واضح على إنتاجه الفلسفي الذي امتد حوالي نصف قرن. من جهته، حرصه الشديد على الدفاع عن مواقفه وآرائه، وذلك بتبديد أشكال سوء الفهم التي تعرضت لها، ومواجهة دعاوي نقاده، الذين سبق لبعضهم أن تتلمذ عليه. ومن جهة أخرى، قدرته النموذجية على ممارسة النقد الذاتي، واستعداده الدائم لمراجعة ذاته ولإعادة النظر في آرائه، عندما يبدو أنها غير مؤسسة بكيفية تامة. لهذا السبب لا نجد أنفسنا عند متابعة كتابات هوسرل أمام إنتاجات، ينضاف فيها اللاحق ببساطة إلى السابق، بل أمام حركة حية دائبة للبناء وإعادة البناء. ستبلغ هذه الحركة الدائبة أوجها في مؤلف هوسرل الأخير
"أزمة العلوم الأوربية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية"، الذي صدر قسم منه سنة 1936 ببلغراد، ولم ينشر بكامله إلا سنة 1954. ويتميز هذا المؤلف بأنه يقدم الفينومينولوجيا بصفتها الفلسفة القادرة على إخراج الثقافة الأوربية من أزمة المعنى والتوجه، التي ترجع إلى سيطرة العلوم الحديثة والنزعة الموضوعية المرتبطة بها، وهو بذلك يبرز بوضوح علاقة فينومينولوجيا هوسرل بقضايا العالم الراهن.
I
يتطلب التفكير في أية أزمة العمل أولا على إبراز مظاهرها وأبعادها. هوسرل يتحدث عن "أزمة العلوم الأوربية"، سأعمل على توضيح ما يقصده هوسرل بذلك من خلال التوقف عند الألفاظ التي تتكون منها هذه العبارة.
1 – ينعت هوسرل الوضعية التي ينصب عليها تحليله بأنها وضعية أزمة، أزمة تعاني منها العلوم. عند الحديث عن أزمة للعلم، ينصرف اهتمامنا عادة إلى مفهوم الأزمة كما تم استعماله في حقل الإبستمولوجيا، حيث تشير الأزمة إلى اللحظات الحرجة التي تعرفها العلوم في تطورها، التي يبدو فيها أنها قد أصبحت عاجزة عن الاستمرار في النمو والعطاء. عادة ما يتم إرجاع هذه الأزمة إلى غموض في المفاهيم التي يتأسس عليها العلم والتي يتحدد انطلاقا منها مجال بحثه، أو إلى مفارقات في مبادئه أو ثغرات في مناهجه. وقد كان هوسرل، بحكم تكوينه العلمي في مجالي الرياضيات والمنطق، وبحكم تتبعه لحركة العلوم في عصره، على معرفة دقيقة بوضعية هذه العلوم. كما سبق له أن بين، في مناسبات عديدة، أن العلوم الوضعية ليست قائمة على أسس متينة، وأنها تستعمل مفاهيم غير واضحة بما فيه الكفاية، وتنطلق من مبادئ غير شفافة. ومع ذلك لم يكن هوسرل يرى داعيا للشك غي علمية هذه العلوم. وهذا الموقف سيعبر عنه كذلك في مؤلف "الأزمة". فالنجاحات النظرية والتطبيقية التي حققتها هذه العلوم تعد في نظره مؤشرا على صرامتها وعلميتها. وحتى التحولات الحاسمة التي عرفتها بعض العلوم لا يرى فيها هوسرل مساسا بعلميتها. يقول عن الفيزياء: "سواء أكانت الفيزياء ممثلة من طرف نيوتن أو بلانك أو أينشتاين أو من طرف أي كان في المستقبل، فإنها انت دائما وستبقى علما دقيقا. وأنه لا ينبغي أبدا أن نتوقع بلوغ شكل نهائي مطلقا لأسلوب بناء النظرية في كليتها، ولا حتى أن نطمح إليه"(2). لا معنى إذن للشك في علمية الفيزياء ولا غيرها من علوم الطبيعة والإنسان. هناك استثناء واحد هو السيكولوجيا، التي كان هوسرل ينبه دائما إلى قصورها الناتج عن التوجه الوضعي الذي اتخذته منذ تأسيسها. إن هوسرل رغم تأكيده على المشاكل، بل والمفارقات التي تعرفها العلوم الحديثة، لا يضع علميتها موضع شك، ولا يعتقد أن أفق نموها أصبح مسدودا. ومع ذلك، فإنه لا يكتفي بأن يؤكد على أن العلوم الحديثة تعرف في عصره أزمة عميقة، ب يجعل من هذه الأزمة موضوعا لمؤلفه الأخير. بأي معنى يتحدث هوسرل إذن عن أزمة للعلوم؟ لفهم ما يقصده هوسرل بأزمة العلوم يجب أن نتخلى عن تصور العلم كبناء قائم بذاته ومستقل عن باقي مجالات الحياة البشرية، فهذا التصور يتعارض تماما مع المنظور الفينومينولوجي للعلم، الذي ستتضح بعض ملامحه بكيفية ملموسة في القسم الثاني من هذا العرض. إن الأزمة التي يتحدث عنها هوسرل تتعلق بدلالة العلوم الحديثة بالنسبة للإنسان وللوجود البشري. فنظرة الإنسان الحديث إلى العالم أصبحت، ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر، تتحدد بكيفية شبه تامة من قبل العلوم الوضعية؛ والأسلوب الذي تعالج به هذه العلوم موضوعاتها، أصبح يطبع تفكير الإنسان في مختلف المجالات نتيجة ذلك هي التخلي عن كل الأسئلة الحاسمة بالنسبة للإنسان، واتخاذ موقف اللامبالاة إزاءها. إن العلوم الحديثة ليس لديها ما تقوله في الوضعية الحرجة التي نعيشها (4)، بل وأكثر من ذلك، إنها مسؤولة بكيفية ما عن هذه الوضعية. تتجلى أزمة العلوم، حسب هوسرل، في إقصائها للأسئلة الأساسية والحاسمة بالنسبة للوجود البشري كله، تلك الأسئلة التي تتعلق بمعنى الوجود البشري أو لا معناه، التي تتعلق بالعقل واللاعقل، والتي تتعلق بسلوك الإنسان إزاء المحيط البشري وغير البشري، وبحريته في أن يشكل محيطه حسب معايير العقل(4). إن علوم الطبيعة لا تطرح هذه الأسئلة، لأنها تقوم على استبعاد كل ما هو ذاتي. أما العلوم الإنسانية، التي عليها أن تهتم بالوجود الروحي للإنسان في تاريخيته، فإن علميتها الصارمة تفرض على الباحث أن يتجنب اتخاذ أي موقف، أو إصدار أي حكم قيمة حول القضايا الحاسمة بالنسبة للإنسان(4)؛ فالعلمية تقتضي، حسب المنظور السائد الاقتصار على مراقبة الوقائع وتسجيلها، سواء كانت هذه الوقائع متعلقة بالعالم الفيزيائي أو الروحي. وواضح أن إبعاد الأسئلة الأساسية بالنسبة للوجود البشري من مجال العلم، يجعل العلوم الحديثة عاجزة عن مساعدة الإنسان في إعطاء معنى لوجوده وفعله، وعن توجيه حياته الفكرية والعلمية. لا يتعلق الأمر إذن عند هوسرل بأزمة تهم العلم والعلماء، وينحصر وجودها في المعاهد والمؤسسات العلمية فقط، بل بأزمة شاملة تمس الوضعية العامة وتنتشر في كل مجالات الحياة. واضح أن هوسرل يشير هنا إلى الوضعية التي كانت سائدة في العقود الأولى من هذا القرن، خاصة بعد الحرب العالمية الأولى، تلك الوضعية التي كان تشغل بال كثير من المثقفين الألمان آنذاك، والتي يربطها هوسرل بهيمنة التصور الحديث للعلم.
2 بهذه الملاحظات نكون قد فهمنا، بكيفية أولية، ما يعنيه هوسرل بالأزمة، التي تنتاب العلوم. يجب أن نلاحظ بأن هوسرل يتحدث عن العلوم بصيغة الجمع واستعمال صيغة الجمع في هذا السياق يمكن أن يعتبر هو ذاته، إشارة إلى وضعية الأزمة التي تعرفها العلوم. فهوسرل شديد التشبث بالفكرة التقليدية للفلسفة كعلم كلي تنضوي تحته كل العلوم الجزئية بصفتها فروعا تابعة له. إن الفلسفة والعلم هما، حسب معناهما الأصلي والحقيقي، شيء واحد بالنسبة لهوسرل. العلم الحق هو الفلسفة، أي المعرفة الصارمة التي تؤسس ذاتها من منطلقات راسخة، وتبرر قولها في كل خطوة من خطوات إنجازه (الفلسفة الأولى 13,I). لا يعني ذلك أن هوسرل ضد التخصص في العلم، بل بالعكس، إنه لا يرى مانعا من تقسيم كلية الموجود إلى مجالات يدرس كل منها حسب طرق ومناهج تلائمه. إن ما يفرضه هوسرل هو اعتبار كل فرع من فروع المعرفة البشرية علما مستقلا قائما بذاته، لا تربطه علاقة جوهرية وداخلية ببقية العلوم وبالفلسفة. وهذه هي وضعية العلوم الحديثة التي ينبه هوسرل إلى خطورتها. إن العلوم الحديثة انفصلت عن بعضها البعض، ولم تبق هناك روابط داخلية بينها. إن أزمة العلوم الحديثة تتجلى في تشتتها، الذي يرجع بالأساس إلى استقلالها عن الفلسفة. وهكذا فإن أزمة العلوم الحديثة هي، في نفس الآن، أزمة الفلسفة الحديثة. إن الفلسفة لا يمكن أن تحقق مهمتها ومعناها الأصليين إلا إذا كانت تحتضن كل العلوم الجزئية. هذا هو المعنى الأصلي الذي اتخذته الفلسفة منذ نشأتها الأولى في اليونان القديمة، والذي تم في عصر النهضة إحياؤه من جديد والعمل على تحقيقه. ورغم ما يبدو في ذلك من مفارقة ظاهرية، فإن هوسرل يرجع إحياء الفكرة الأصلية للفلسفة في عصر النهضة الأوربية إلى الرغبة في التجديد الشامل، وفي التخلص من الأشغال والأساليب الحياتية المألوفة التي سادت أوربا طوال القرون الوسطى(5). فالفلسفة حسب هوسرل، ليست مجرد شكل ثقافي مثل بقية الأشكال الأخرى، بل إن الوجود الفلسفي الحقيقي هو ذلك الذي ينفذ بعمق إلى كل أشكال الحياة البشرية ويطبع كل ميادينها. إن الرغبة في التفلسف ليست، حسب هوسرل، سوى الرغبة في أن نوجه حياتنا حسب معايير العقل وباستقلال عن كل المسبقات. أن نعيش فلسفيا، يعني أن نوجه حياتنا كلها حسب مبادئ ومقتضيات مستمدة من التفكير العقلي المتحرر من إسار التقليد والعادة. "إن الفلسفة بوصفها نظرية لا تجعل الباحث وحده حرا، بل تجعل كل من له تكوين فلسفي حدا. وعن الاستقلال النظري يترتب الاستقلال العلمي(5-6). ليس للفلسفة مهمة نظرية فقط، بل كذلك وظيفة علمية. وليس المقصود بالوظيفة العملية للفلسفة أن يوجه الفيلسوف حياته الأخلاقية الفردية فقط، بل أن يشكل كل المحيط البشري، كل الوجود السياسي والاجتماعي للإنسانية، انطلاقا من العقل الحر، وإن يوجهه على ضوء تصورات فلسفية كلية. هذا هو المعنى الأصلي للفلسفة الذي تم إحياؤه في بداية العصر الحديث. إلا أن محاولات تحقيقه باءت بالفشل، لتنتهي أخيرا إلى فقدان الثقة بالفلسفة كعلم كلي، وهو ما يعني فقدان الثقة بالعقل وبقدرته على توجيه الحياة المعرفية والعلمية. إن المنهج الذي تم اعتماده في بداية العصر الحديث لبناء الفلسفة أو العلم الكلي لم يؤت ثماره إلا في مجال علوم الطبيعة. وهذا ما سيساعد على سيادة تأويل موضوعي النزعة للعلم، بقوم على الاعتقاد في إطلاقية المنهج الفيزيائي، ويفهم العلمية والحقيقة بمعنى الموضوعية الميتة التي تسود منهجيا في علوم الطبيعة. ومع سيطرة النزعة الموضوعية وتأويلها الضيق للعلم، يتم وضع علمية الفلسفة وصرامتها موضع شك، وذلك بدعوى أنها لا تحقق مقاييس العلمية كما بلورتها علوم الطبيعة وفي مقدمتها الفيزياء. وخطورة هذا الموقف تكمن، حسب هوسرل، في أن التشكيك في إمكانية بناء فلسفة لها طابع العلمية والصرامة، معناه تخلي العلم عن المشاكل التي تنتمي للفلسفة بمعناها الدقيق، أي عن الأسئلة العليا للوجود البشري، أسئلة الحرية والمعنى والغاية والتاريخ، وبالتالي التخلي عن كل طموح في توجيه الحياة البشرية استنادا إلى العلم والعقل. فالعلوم التي تحقق النموذج الفيزيائي، ويعترف بالتالي بعلميتها، يجب أن تبعد من ميدانها كل ما هو إنساني؛ أما الدراسات التي تنتمي للفلسفة وتعالج القضايا الأساسية للوجود البشري، فيلقى بها خارج دائرة العلم.
3 لنتابع تلمس معالم الأزمة التي يحللها هوسرل موجهين انتباهنا الآن إلى النعت الذي ينعت به هوسرل العلوم التي تعرف وضعية الأزمة. هوسرل ينعت هذه العلوم بأنها أوربية. وهذا النعت له دلالة عميقة، لهذا يجب الوقوف عنده بإمعان. يعتبر هوسرل أن العلوم الحديثة علوم أوربية، وهو لا يعني بذلك أن هذه العلوم نشأت في رقعة جغرافية هي أوربا، بل أنها نشأت في أحضان الثقافة الأوربية، وأن جذورها تمتد في أعماق التاريخ الأوربي. فأوربا هي، حسب هوسرل، كيان ثقافي تاريخي ووحدة حضارية متميزة. إن ميلاد العلم والفلسفة الحديثين في أوربا ليس أمرا عرضيا، ذلك أنهما يتجذران في الواقع الثقافي الأوربي، إن فكرة العلم والفلسفة هي فكرة أوربية نشأت لأول مرة عند الإغريق الذين وضعوا الحجر الأساسي للثقافة والتاريخ الأوربيين. يشير هوسرل في كثير من الأحيان إلى الأهمية الكبرى لبعض الإنجازات الثقافية السابقة على الحضارة اليونانية القديمة. إلا أنه يرى، مع ذلك، أن الفلسفة والعلم، بمعناهما الحقيقي، لم يظهرا إلا في اليونان القديمة. العلم والفلسفة أوربيان في أصلهما، ولم تعرفهما أي من الثقافات السابقة على اليونان القديمة، حتى تلك التي حققت في مجالات أخرى منجزات مهمة. إلا أن العلاقة بين الموقف العلمي-الفلسفي والثقافة الأوربية ليست وحيدة الجانب. يجب، حسب هوسرل، ألا نتوقف عند القول بأن أوربا هي مهد العلم والفلسفة، بل يجب أن نقول كذلك بأنه مع انبثاق العلم والفلسفة تم تأسيس الكيان الثقافي لأوربا وميلاد الروح الأوربية. لا يرى هوسرل أن أوربا كانت قائمة كواقع ثقافي تاريخي، ثم قامت في وقت ما بابتكار هذا الشكل الثقافي الخاص، الذي هو العلم أو الفلسفة. بل على العكس من ذلك، إن ميلاد أوربا قد تم مع نشأة الفلسفة والعلم(1-2-3). وعليه فإن حياة أوربا ومصيرها يرتبطان ارتباطا وثيقا بوضعية العلم والفلسفة. إن فكرة الفلسفة كعلم صارم، يوجه الإنسان بمقتضى مبادئ حياته النظرية والعلمية، هي الفكرة المؤسسة لأوربا، هي المعنى الذي تتجه الثقافة الأوربية نحو تحقيقه، هي القوة الدافعة التي تحرك التاريخ الأوربي. ليست الفلسفة والعلم ظاهرة فكرية معزولة، بل إنها أساس التاريخ الأوربي بأكمله، فالفلسفة تقتضي، حسب هوسرل، العمل على صياغة كل مجالات الحياة وتوجيهها على ضوء العقل الحر ومعاييره وقيمه. إن تأكيد هوسرل للعلاقة الداخلية القائمة بين فكرة العلم والفلسفة من جهة والثقافة الأوربية من جهة أخرى، لا يعني الإدعاء بأن الفلسفة شكل ثقافي خاص بأوربا فقط، أو أنها تحمل سمات نوعية ترتبط بالثقافة الأوربية وحدها. فهوسرل يرى أن الفلسفة إمكانية كامنة ضمنيا في أفق كل ثقافة بشرية كيفما كانت؛ هذه الإمكانية تجد أساسها في ماهية الوعي البشري، وبالضبط في بيئته القصدية. إن الوعي يتجه، تبعا لبنيته القصدية، إلى تحقيق أقصى درجات الحقيقة والعقل. وهذا النزوع إلى الحقيقة والعقل قائم في الوعي، حتى قبل ظهور كل نشاط نظري وكل اهتمام علمي فلسفي. إلا أن الحاجات المباشرة للحياة العملية اليومية والآفاق الضيقة المرتبطة بها، تجعل الوعي يتخلى عادة عن نزوعه نحو الحقيقة والعقل، بمجرد ما يعرف موضوعه بدرجة تسمح بتحقيق الحاجيات العملية المرتبطة به، إن الحاجات العملية للحياة اليومية هي بمثابة قيود تضيق أفق الوعي وتكبح نزوعه نحو الحقيقة والعقل عند حد معين. ولهذا، فإن التحقيق الأقصى لهذا النزوع لا يمكن أن يتم إلا مع نشأة الموقف النظري العلمي-الفلسفي، الذي يحرر الوعي من الآفاق الضيقة للحياة العملية ومن قيود العالم المحيط المباشر، عالم الحرفة أو العائلة أو الثقافة الخاصة. لينفتح على العالم كعالم. بفضل اتخاذ هذا الموقف المتحرر من أسر الحياة اليومية والآفاق الضيقة المشروطة بالحاجات العلمية، يتمكن الوعي من استعادة نزوعه نحو التحقيق الأقصى للحقيقة والعقل. لا تحمل الفلسفة إذن، حسب هوسرل، سمات نوعية خاصة بالثقافة الأوربية، بل إنها إمكانية كامنة ضمنيا في كل ثقافة بشرية، بل إنها الشكل الذي تتجه نحوه كل ثقافة مهما كانت خصوصياتها. ومع ذلك، فإن الثقافة الأوربية تتميز عن كل الثقافات الأخرى، بأنها الثقافة التي جعلت تلك الإمكانية ترى النور وتنتقل إلى السطح. ففي اليونان القديمة تم لأول مرة التعبير عن فكرة الفلسفة كمعرفة تنشد الحقيقة المطلقة، بقطع النظر عن كل الأغراض المنفعية وكل القيود النابعة من الثقافة المطلقة، بقطع النظر عن كل الأغراض المنفعية وكل القيود النابعة من الثقافة البشرية الأخرى كالصين أو الهند (320,14). إن فكرة الثقافة الأوربية كثقافة تنزع إلى توجيه الحياة النظرية والعملية على ضوء العقل ومعاييره، هي الفكرة التي تتجه نحوها كل الثقافات، هي الغاية التي تتجه نحوها كل مجموعة بشرية كيفما كانت. إن النموذج الأوربي لبشرية فلسفية هو، في نظر هوسرل، نموذج كوني يتعالى على كل خصوصية ثقافية أو تاريخية. ورغم أن فكرة الفلسفة التي رأت النور لأول مرة في اليونان القديمة لم تتحقق بالفعل، فإنها بقيت حية في الثقافة والتاريخ الأوربيين. ولهذا فإن البشرية الأوربية عندما أرادت في عصر النهضة تجديد ذاتها والتحكم في مصيرها وأشكال وجودها، التجأت إلى فكرتها المؤسسة، فكرة الفلسفة والعلم كمعرفة حقة يتم الاعتماد عليها لتشكيل كل مجالات الحياة(5). إلا أن هذه الفكرة تتحقق هذه المرة أيضا. فالمسار الذي اتخذته العلوم الحديثة أدى إلى سيادة تأويل موضوعي النزعة، يبعد من مجال العلم كل ما لا يمكن دراسته بواسطة المنهج الفيزيائي-الرياضي، أي كل ما لا يمكن التعبير عنه بكيفية موضوعية رياضية. بناء على هذا التأويل الضيق يلقى بكل الأسئلة المتعلقة بالإنسان خارج مجال العلم مع سيادة هذا التأويل فقدت الثقافة الأوربية ثقتها بالفلسفة وإيمانها بإمكانية الفلسفة كعلم صارم، يؤسس للإنسان وعيا عقليا بوجوده، وبمكانته داخل كلية الموجود، ويلعب دورا موجها بالنسبة لكل مجالات الحياة. هذه هي أزمة الفلسفة في الوقت الحاضر، وهي في نفس الوقت أزمة العلوم الجزئية التي فقدت كل دلالة بالنسبة للإنسان. وحيث أن البشرية الأوربية تم تأسيسها انطلاقا من روح الفلسفة والعلم، فإن أزمة الفلسفة والعلم هي في نفس الوقت أزمة البشرية الأوربية بأكملها. إن "مرض" العلم والفلسفة يعني "مرض" الثقافة الأوربية، والعجز عن تحقيق الفكرة الأصلية للفلسفة، هو في نفس الوقت عجز أوربا عن أن توجد وتحيا حسب الفكرة المؤسسة لها.
4 لنجمع الآن العناصر التي تم تفصيلها حتى نكون فكرة متكاملة عن تصور هوسرل لأزمة العلوم الأوربية. إن الأزمة التي يتحدث عنها هوسرل هي أزمة فقدان المعنى، أزمة التوجه الأخلاقي والاجتماعي والسياسي لدى البشرية الأوربية. وهي في نفس الوقت أزمة العلم والفلسفة باعتبارها المبدأ المؤسس للبشرية الأوربية. إن أوربا التي تأسست انطلاق من روح العلم والفلسفة لا يمكن أن تكون "سليمة" إلا إذا حققت الفكرة التي تملأ كيانها وتعطي معنى لوجودها. وما يدل على أن هذه الفكرة لم تتحقق هو توزع الفلسفة إلى تيارات ونزعات مختلفة. (199) إننا لا نتوفر، كما يلاحظ هوسرل، على فلسفة واحدة، تساهم الأجيال المختلفة في بنائها، وتتقدم تدريجيا نحو التحقق الكامل(6). "بدلا من فلسفة واحدة حية، لدينا أدبيات فلسفية تتزايد بلا حدود، ولكن تفتقد تقريبا كل رابط بينها: وبدل حوار جدي بين نظريات متعارضة تعلن رغم تضاربها ترابطها الداخلي ووحدة اقتناعاتها الأساسية وإيمانها الثابت بفلسفة حقيقية، لدينا توافق مظهري ونقد مظهري، لا تفاعل جدي للفلاسفة فيما بينهم". (تأملات، 7) في مقابل وضعية التراجع والتمزق التي تطبع الفلسفة، تعرف العلوم الجزئية تقدما هائلا يتجلى في تحقيقها لانتصارات باهرة، سواء على المستوى النظري أو التقني-التطبيقي. وإذا كانت العلوم الجزئية تتابع مسيرتها غير مكترثة بالوضعية المزعجة التي تعاني منها الفلسفة، فإن ذلك لا يعني بتاتا أن هذه العلوم لا تعيش الأزمة؛ فوضعية الفلسفة تنعكس على العلوم أيضا، لأنها بدون فلسفة تفقد ما يعطي معنى لوجودها وما يربطها بوضعية الإنسان. بدل أن تحقق البشرية الأوربية الحديثة فكرتها المؤسسة للفلسفة كعلم كلي يوجه حياة الإنسان، اتخذت العلوم مسارا آخر أدى إلى نشأة تصور العلم تحتل فيه الرياضيات المكانة الأساسية، وتلعب فيه دور النموذج، ليس فقط بالنسبة للعلوم الجزئية، بل حتى بالنسبة للفلسفة. وهكذا سقطت الفلسفة ذاتها ضحية التصور الموضوعي النزعة للعلم، الذي يقصي، بدعوى احترام مقاييس العلمية والموضوعية، كل ما هو ذاتي، أي، في نهاية المطاف، كل ما يتعلق بالإنسان وبالأسئلة التي تهمه في حريته ومسؤوليته وتاريخيته. هكذا تجد الثقافة الأوربية ذاتها في وضعية حرجة: من جهة، علوم جزئية تحقق النموذج الموضوعي للعلم، ولكنها عاجزة تماما عن أن تقدم للإنسان أي معنى أو قيمة، بل إن عجزها هذا بالضبط هو ما يمنحها الاعتراف بصفة العلمية؛ ومن جهة أخرى، فلسفة تهتم بالأسئلة الأساسية للإنسان، ولكن في مقابل ذلك، بل وبسبب ذلك، لا يعتقد بإمكانية بلوغها إلى مستوى العلمية، بدعوى أن العلمية تشترط الموضوعية التامة، أي غض النظر عن كل ما هو ذاتي، كل ما يهم الوجود البشري في صميمه. على أن ما يثير في الحقيقة قلق هوسرل إزاء هذه الوضعية، هو أن فقدان الثقة في الفلسفة أصبح شائعا حتى عند الفلاسفة أنفسهم. فإزاء التناقض بين التقدم الذي تحققه العلوم الجزئية والتشتت الذي يطبع الفلسفة، بدأ الفلاسفة أنفسهم يتخلون عن الفكرة الأصلية للفلسفة كعلم كلي، وذلك تحت تبريرات متنوعة وفي ظل توجهات مختلفة. فالبعض يرى أن الفلسفة أصبحت مع تقدم العلوم الجزئية غير ذات موضوع، وهي لكي تحافظ على وجودها مدعوة للتكيف مع المفهوم السائد لعلم، وذلك بأن تتخلى عن مهمتها التقليدية، وأن تلتقي بمهام مرتبطة بالعلوم. هذا التوجه يريد المحافظة على وجود الفلسفة وعلميتها، ولكن ثمن ذلك هو التخلي عن مهمتها الأصلية. والبعض الآخر يدعو إلى المحافظة على المهمة الأصلية للفلسفة، حتى وإن كان ثمن ذلك هو التضحية بعلميتها. هذا التوجه يرى أن العلوم الوضعية غير قادرة على تلبية كل حاجيات الوجود البشري، وانطلاقا من ذلك يبرر ضرورة الفلسفة، إلا أنه يفهمها كشكل خاص للحياة الروحية لا يمكن إخضاعه لمقياس العلمية. وعلى العكس من هؤلاء وأولئك، يتشبث هوسرل بالفكرة الأصلية للفلسفة وبدورها في توجيه الحياة النظرية والعملية للإنسان، ويرفض في نفس الوقت التنازل عن علميتها وصرامتها. "إن أزمة الوجود الأوربي لا يمكن أن تعرف إلا نهايتين: إما أفول أوربا في الاغتراب عن المعنى العقلي الخاص لحياتها، السقوط في عداء الروح وفي البربرية، أو إعادة إحياء أوربا انطلاقا من روح الفلسفة، بواسطة بطولة للعقل تتجاوز نهائيا كل نزعة طبيعية" (347-348) إن المخرج الوحيد من الأزمة التي تهدد كيان البشرية الأوربية يكمن، حسب هوسرل، في تحقيق الفكرة المؤسسة لأوربا، فكرة الفلسفة كعلم كلي صارم. إن التشبث بالفكرة المهمة الأصلية للفلسفة لا يعني إذن التخلي عن علميتها، وذلك بشرط أن نفهم العلمية في معناها الحقيقي، وأن نتحرر من التصور الضيق للعلمية، ذلك التصور الذي تروجه النزعة الموضوعية السائدة. هكذا سيضع هوسرل على عاتقه مهمة القيام بمساءلة نقدية للنزعة الموضوعية، ترمي إلى النفاذ إلى جذورها، والكشف عن تحريفاتها ومزالقها. تقوم النزعة الموضوعية على تأويل للعلم يجعل من الفيزياء الرياضية نموذجا للعلمية، ويجعل من احترام الشروط التي تتوفر في هذا العلم مقياسا للعلمية بوجه عام. لكي يقوض هوسرل هذا التأويل الضيق للعلم ويؤكد إمكانية تحقق الفلسفة كعلم صارم، يعمد إلى إبراز حدود النموذج الفيزيائي استحالة تعميمه على كل المجالات، وذلك من خلال القيام بتحليل فينومينولوجي تكويني يعمل على التذكير بالإنجازات والحوافز الأصلية التي انبثقت عنها الفيزياء الرياضية التي تم نسيانها من قبل هذا العلم.
II1 – إن الأزمة التي تعرفها أوربا هي، حسب هوسرل، أزمة معنى وتوجه ناتجة عن سيادة النزعة الموضوعية وتصورها الضيق للعلم. هذا التصور يقصي من مجال العلم كل الأسئلة التي تتعلق بالإنسان في وجوده الصميمي، والتي تنتمي إلى الفلسفة بالمعنى الدقيق، أي الفلسفة الأولى أو الميتافيزيقا. والعلم هو، حسب هذا التصور، مركب يضم كل العلوم الجزئية التي تغطي في مجموعها كل قطاعات الموجود، وتجعلنا بالتالي في غنى عن الفلسفة. لكي يؤكد هوسرل إمكانية تحقيق الفلسفة كعلم صارم، ولكي يثبت ضرورتها حتى في زمن سيادة العلوم الوضعية، يعمل على الكشف عن جذور النزعة الموضوعية وعلى تعرية افتراضاتها المسبقة. تقوم هذه النزعة على تأويل خاطئ يعتبر أن علم الطبيعة الرياضي الحديث هو النموذج الوحيد للعلمية، وأن هذا النموذج صالح، بل وملزم لكل العلوم الأخرى. يرجع هوسرل الاعتقاد في نموذجية علم الطبيعة الرياضي إلى أن العلوم الوضعية لا تهتم بتأمل الإنجازات الخلاقة والحوافز الأصلية التي انبثقت عنها، ولا تقوم بترسيخ فعل التأسيس الأصلي الذي تدين له بوجودها. لدحض النزعة الموضوعية إذن، يجب إخضاع علم الطبيعة الرياضي لتحليل فينومينولوجي تاريخي يهدف إلى التذكير الأساسي المنسي لهذا العلم. وبعبارة أخرى، إن تشخيص أزمة الثقافة الأوربية يتطلب تذكرا أساسيا لما قبل تاريخ هذه الأزمة. لا يقوم هوسرل في تحليله لعلم الطبيعة الرياضي بعمل مشابه لعلم مؤرخ العلوم، الذي يجمع الوثائق المختلفة ويفحصها من أجل تقديم نظرة دقيقة عن تاريخ إحدى المفاهيم أو النظريات العلمية. إن الأمر لا يتعلق عند هوسرل بتتبع وقائع، بل بتحليل يريد النفاذ إلى الإنجازات الخلاقة والحوافز الأولية والبداهات الأصلية التي انبثق عنها هذا العلم. وهوسرل لم يصبح قادرا على القيام بهذا التحليل التاريخي للعلم إلا بفضل تطوير منهجه الفينومينولوجي وانتقاله، مع بداية العشرينات من هذا القرن، من الفينومينولوجيا الستاتيكية إلى الفينومينولوجيا التكوينية. ينطلق هوسرل في تحليله من أن العلم شكل من الأشكال الثقافية. كل شكل ثقافي يوجد أمامنا كمعطى مكتمل أو جاهز؛ ومع ذلك، فهو نتاج لصيرورة تاريخية حية. كل شكل ثقافي له تاريخيته، وهو مدين بوجوده لأفعال وإنجازات محددة. هذه الأفعال تبقى حاضرة بكيفية في هذا الشكل الثقافي، حتى وإن تم نسيانها. في كل شكل ثقافي أو مؤسسة ثقافية هناك تاريخ مترسب، هدف التحليل الفينومينولوجي التكويني هو أن يكشف عنه، أن يجعله يتكلم ويصفح عن ذاته. تاريخ كل شكل ثقافي إذن ليس سلسلة من الأحداث والوقائع، بل هو تاريخ الحوافز الأصلية والأفعال الخلاقة التي أسست هذا الشكل وانتقلت إليه لتعيش فيه بكيفية ضمنية. لهذا يكفي أن نتأمل حاضر هذا الشكل الثقافي لكي نستخلص الطبقات المترسبة فيه والأفعال التي أسسته. هذا الأمر صحيح بالنسبة للعلوم كذلك. إن حاضر كل علم يضم بكيفية انفعالية تاريخية كله، وذلك إلى حدود مكتسباته وإنجازاته الأولى (381, 373, 367). إن ماضي العلم يعيش في حاضره على شكل رسوبات. وعليه، فسيكون منطلق التحليل الفينومينولوجي للعلم هو الإنتاجات النظرية كما نتوفر عليها، أي كمعطيات جاهزة ومكتملة. هذه الإنتاجات هي وحدات للمعنى تم بناؤها في الوعي، ويجب استنطاقها ومساءلتها عن تكوينها وتاريخها. إن وحدات المعنى التي تم بناؤها، والتي توجد أمامنا مكتملة، تشير إلى تاريخها، تحيل إليه، وهذه الإحالة توصلنا، إذا ما تتبعناها، إلى الإنجازات والحوافز الأصلية التي انبثقت عنها هذه الوحدات، وإلى البداهات الأولى التي استندت إليها. والتحليل التاريخي هو إذن، عند هوسرل، تأويل يريد النفاذ إلى القصدية الحية التي انبثق عنها علم ما، تلك القصدية التي تكمن في أساس هذا العلم والتي كانت تحرك مؤسسيه، حتى وإن بقيت مختفية عن أنظارهم (المنطق، 6). هكذا يكون التحليل التاريخي، في نفس الوقت، كشفا عن المسبقات والافتراضات الخفية، التي تحملها قصدية العالم، والتي تحدد مسار تفكيره دون أن يكون واعيا بها.
2 اعتمادا على هذا المنهج، يريد هوسرل أن يحلل علم الطبيعة كما تم إنشاؤه مع جاليلي. يذكر هوسرل بأننا نتوفر في حياتنا اليومية، وقبل كل علم، على معرفة بالطبيعة وأشيائها، إلا أن هذه المعرفة اليومية لها طابع تقريبي، إنها معرفة ذاتية ونسبية. أما جاليلي فيريد إنشاء معرفة صارمة بالطبيعة، معرفة تتجاوز بدقتها وموضوعيتها نسبية تصوراتنا الذاتية. لكي نفهم المسار الفكري الذي اتبعه جاليلي في إنشاء علم صارم بالطبيعة يجب أن نتوقف عند هذه المعرفة اليومية السابقة على العلم. تتعلق معرفتنا اليومية بالعالم، الذي نعيش فيه قبل المعرفة العلمية وخارج ممارستها، أي عالم التجارب الحسية والبداهات المباشرة والممارسات اليومية. يسمي هوسرل هذا العالم في كتاباته الأخيرة "عالم العيش"، وذلك لتمييزه عن العالم العلمي، أي العالم كما تعبر عنه وتتمثله القوانين والنظريات العلمية. إن معرفتنا بالطبيعة وأشيائها في حياتنا اليومية السابقة على العلم تستند، بكيفية أساسية، إلى تجربة الإدراك الحسي التي يلعب فيها الجسم دور مقر الإدراك ويشكل هو ذاته جهزا كاملا من الأعضاء الحسية المتناسقة فيما بينها (التركيب الانفعالي، 13). كل إدراك يتعلق بموضوع؛ إن هذا الشيء، وبالضبط هذه الطاولة التي أراها الآن مثلا، هي موضوع إدراكي. إلا أن هوسرل يلاحظ أننا في فعل الإدراك لا ندرك هذه الطاولة بأكملها، في كل جوانبها مظاهرها، بمجموع خصائصها. إن ما أراه الآن، بكيفية حقيقية وأصلية، هو جهة واحدة من الطاولة، جهتها الأمامية مثلا. لكن الطاولة التي يقصدها فعل إدراكي ليست هي هذه الجهة فقط، بل هي الطاولة بأكملها التي لها جهات أخرى؛ هذه الجهات معطاة بكيفية ما مع الجهة التي أراها الآن بالفعل، إلا أنها غير معطاة بكيفية أصلية وصريحة، ولا يمكن أن تعطاني بكيفية أصلية وأن أراها بالفعل إلا في إدراكات أخرى. هذه الفكرة هي حسب هوسرل قانون ضروري يعبر عن علاقة قبلية بين فعل الإدراك والموضوع المدرك: رغم أن فعل الإدراك يقصد الموضوع ككل، فإن الموضوع لا يظهر بأكمله في أي إدراك. فالإدراك يتم ضرورة من موقع معين وفي وضعية معينة. وفي كل فعل لا أدرك إلا جهة واحدة من الطاولة مثلا، أو جانبا مظهرا أو مقتطعا منها. إلا أن كل إدراك يتضمن ضرورة إمكانيات أخرى لإدراك نفس الموضوع. وهكذا يمكنني مثلا أن أنتقل إلى موقع آخر فأرى جهة أخرى من الطاولة، ثم جهة ثالثة، وهكذا، يمكنني أن أرى الطاولة في ضوء الشمس أو في الظلام، أو تحت ضوء مصباح خافت أو شديد التوهج؛ وكل إمكانية من هذه الإمكانيات قابلة للتنوع، وهي بذلك تحيل إلى إمكانيات أخرى. يمكنني كذلك أن أقترب أكثر من الطاولة، أن أوجه نظري ليس إلى هذه الجهة بأكملها، ولكن إلى جزء منها، أو إلى إحدى خصائصها اللمسية أو البصرية أو غير ذلك؛ قد أدقق النظر في لونها، فألاحظ أن لون هذه الجهة ليس متماثلا تماما، فهناك مناطق أو بقع لونها أدكن من لون بقية الجهة. والمهم هنا أن كل إمكانية من هذه الإمكانيات تفتح أمامي عندما أحققها إمكانيات جديدة، تدعوني هي كذلك إلى تحقيقها، بحيث يبدو وكما لو أن الطاولة تناديني وتخاطبني: لا زال هناك شيء آخر يمكن رؤيته فِيَّ، أدرني على كل الجهات، طف حولي، اقترب مني أكثر، افتحني، جزئني.. وهكذا استعرنني كما أنا في كل صفاتي الداخلية والخارجية. (التركيب الانفعالي، 5). إن إدراك أي موضوع يحيل إلى إمكانيات أخرى، إلى اتجاهات لمتابعة إدراكه، وبالتالي امتلاكه ومعرفته بكيفية أفضل. يمكنني في كل مرة أن أختار بكل حرية اتجاها لمتابعة معرفة الموضوع، أن أقترب منه مثلا، أو أن أطوف به أو أدركه بحواس أخرى. ولكن مجموع هذه الإمكانيات التي يرتبط بعضها ببعض تنتظم في سياق للإحالة خاضع لقواعد ضرورية. وبعبارة أخرى، إن كل موضوع يعطى في أفق يفتح أمامي إمكانيات أخرى لمعرفته بكيفية أفضل. وهذا يعني، في نهاية التحليل، أن إدراكنا لأي موضوع خارجي كيفما كان، لا يمكن أن يستنفذ كل مضمونه، وأن يحيط بكل خصائصه. فكل إدراك جديد يتم في أفق مفتوح ويحيل إلى إمكانيات أخرى يجعلني تحقيقها أعرف الموضوع بكيفية أفضل. إنني أستطيع باستمرار أن أحسن معرفتي بهذا الموضوع بواسطة إدراكات جديدة، دون أن أصادف إدراكا يختم سلسلة الإدراكات الممكنة وينهي مسلسل معرفتي بهذا الموضوع، وذلك لأن كل إدراك يحيل إلى إمكانيات أخرى لإدراك نفس الموضوع. وهكذا فإنني لا أستطيع، في تجربتي اليومية، أن أصل إلى تحديد الموضوع تحديدا تاما، فذلك يتطلب إنجاز مسلسل لانهائي. وإذا كان الإدراك هو العملية الأساسية التي نعرف بها الموضوع الخارجي في حياتنا اليومية، فإن معرفتنا اليومية بأي موضوع خارجي تبقى دائما تقريبية، عائمة وفضفاضة، وتكون عاجزة عن تحديد الموضوع تحديدا تاما، يجعله يبدو كوحدة مطابقة لذاتها. يبقى هناك دوما أفق مفتوح لتحسين معرفتنا بالشيء، بل ولتصحيح هذه المعرفة كذلك. إن طابع المعرفة اليومية هذا لا يرتبط بظروف عروضية، بل هو، حسب هوسرل، تعبير عن قانون ضروري له عمومية وصلاحية مطلقان. وكما أن كل إدراك يحيل إلى إمكانيات أخرى لإدراك نفس الموضوع وتحديده بكيفية أفضل، فإنه يحيل كذلك إلى الإمكانيات لإدراك موضوعات أخرى؛ كل موضوع يقدم لنا ذاته في أفق مفتوح تنتمي له موضوعات أخرى يمكن معرفتها وتجربتها. وبتعبير هوسرل، كما أن لكل موضوع أفقا داخليا يتضمن إمكانيات لتحديده بكيفية أفضل، فإن له أيضا أفقا خارجيا (165؛ الحكم والتجربة، 28). فالطاولة تحيل إلى القلم والورقة، إلى غرفة المكتب، إلى البيت، الحي إلخ... إن كل موضوع يعطى في أفق تنتمي له موضوعات أخرى يمكن إدراكها ومعرفتها، وهي بدورها تحيل إلى موضوعات أخرى، وهكذا. يمكن إذن أن نوسع معرفتنا بالعالم وموضوعاته وأن نجعلها تمتد إلى موضوعات أخرى بدون نهاية. على أن العلاقة بين الأشياء المدركة ليست مجرد علاقة مكانية، بل إن الأشياء توجد أيضا في علاقات سببية. ليست فكرة السببية، حسب هوسرل، وليدة المعرفة العلمية، بل السببية أسلوب عام يسود عالم تجربتنا اليومية أيضا. والعلاقة السببية ليست خارجية بالنسبة للشيء أو مضافة إليه؛ إ الشيء لا يوجد أولا بمعزل عن آية علاقة سببية، ثم يدخل بعد ذلك في علاقات سببية مع أشياء أخرى، بل إن الشيء لا يوجد إلا في إطار شبكة من العلاقات السببية التي تنتمي إليه وتتجسد في خصائصه. وعليه، فإن معرفة خصائص شيء ما، ومعرفة علاقاته السببية هما أمر واحد. "إن معرفة شيء ما تعني إذن أن نعلم تجريبيا كيف يستجيب عند الضغط والاصطداك، في الثني والكسر، في التسخين والتبريد". (أفكار II، 45؛ السيكولوجيا، 102). إن الأسلوب السببي يسود إذن عالم تجربتنا الحسية، لهذا فنحن نعتقد أن الأشياء والظواهر تسير حسب عادات(28) وأن الأشياء "تتصرف" تحت ظروف متماثلة بكيفية متماثلة. بناء على هذا الأسلوب السببي نقوم في حياتنا اليومية السابقة للعلم بتنبؤات وتوقعات، أو استباقات واستقراءات كما يسميها هوسرل، مثل التوقعات التي يقوم بها الفلاح أو الصانع. هذه الاستقراءات ذات مجال ضيق، وتتميز بأنها غير دقيقة وغير متقنة، ولكنها ذات فائدة كبرى في الحياة العلمية. نخلص إذن إلى أن معرفتنا اليومية بالأشياء وبعلاقاتها السببية لها طابع تقريبي، إنها تتميز بذاتها ونسبيتها، وذلك لأن الأشياء لا تعطانا في عالم العيش إلا من خلال كيفيات ذاتية نسبية لا نهائية. ونحن في حياتنا اليومية ندرك الطابع التقريبي لهذه المعرفة، خاصة عندما ينشأ تباين بين تصورنا وتصور أشخاص آخرين لنفس الشيء أو بين تصورنا لنفس الشيء ونحن في أوضاع مختلفة. إلا أن هذا الطابع التقريبي لا يعوق في العادة ممارستنا اليومية. فالمعرفة اليومية تكون عادة قادرة على تلبية الحاجيات العملية المرتبطة بها؛ والنقص الذي يلازم بالضرورة المعرفة اليومية يعتبر غير ذي أهمية من الناحية العملية (358). أكيد أن معرفتي بالطاولة التي أكتب عليها غير تامة، وأنه يمكنني أن أحسن معرفتي بها، إلا أنه لا شيء يحفزني على ذلك، ما دامت معرفتي بالطاولة كافية لأن أستعملها بشكل جيد. ولكن هذه المعرفة التي تعتبر من الزاوية العلمية كافية ومقبولة، هي معرفة سطحية بالنسبة للفيزيائي أو الكيميائي مثلا. صحيح أنه عندما تصادفنا عوائق عملية نسعى إلى تحسين معرفتنا بالأشياء لتخطي هذه العوائق، ولكننا مع ذلك لا يمكن أن نتوصل إلى تحديد تام الدقة والموضوعية للأشياء وعلاقاتها، لأنها تعطانا في أفق مفتوح لا يمكن تحقيق كل الإمكانيات المتضمنة فيه.
3 إن هذه المعرفة الفضفاضة، وإن كانت مقبولة في حياتنا اليومية، فإنها لا يمكن أن تقنع رجلا مثل جاليلي. فجاليلي ينتمي لعصر النهضة الذي يتميز حسب هوسرل بانبعاث فكرة الفلسفة والعلم كمعرفة صارمة تامة التأسيس بالعالم. انسجاما مع هذه الفكرة، يطمح جاليلي إلى معرفة صارمة بالطبيعة تتجاوز المعرفة اليومية الذاتية-النسبية. لمتابعة المسار الذي قاد جاليلي إلى إنشاء علم الطبيعة الحديث يجب، حسب هوسرل، الانتباه إلى أن هذا العلم يقوم على فكرة مؤسسة، هي فكرة الصياغة الرياضية للطبيعة. هذه الفكرة تبدو بالنسبة لنا بديهية وطبيعية، ولهذا فهي لا تثير لدينا أي استغراب، بل ولا يبدو لنا أي معنى للتساؤل عن شروط إمكانيتها وعن مشروعيتها. أما هوسرل فيرى أن كل ما هو بديهي وطبيعي له بعد تاريخي، إنه يستند إلى أفعال أولى للتأسيس، وبفضل هذه الأفعال الأولى للتأسيس يبدو لنا ما تأسس تاريخيا على أنه بديهي وطبيعي. إن فكرة الصياغة الرياضية للطبيعة لم تكن بديهية بالنسبة لجاليلي، بل أصبحت كذلك بفضل أعماله(35). لهذا فإنه من الضروري التساؤل عن الإنجازات والحوافز الأصلية التي من شأنها أن توجه الوعي إلى فكرة الصياغة الرياضية للطبيعة. إن النموذج الذي سيلهم جاليلي سعيه نحو إقامة معرفة دقيقة وموضوعية بالطبيعة هو نموذج الهندسة، وهذا يرجع إلى أن الهندسة كانت قد تمكنت من تحقيق أمرين. من جهة، تمكنت الهندسة منذ الإغريق من التوصل إلى تحديد دقيق وموضوعي للأشكال المكانية، وإلى بناء معرفة صارمة بخصائص الأشكال وبالعلاقات بينها. إن الأشكال المكانية تعطانا في حياتنا اليومية هي الأخرى بكيفية نسبية-ذاتية. في التجربة اليومية لا وجود لأشكال تامة الدقة، بل كل شكل يعطانا بكيفية فضفاضة. أما الهندسة النظرية فقد تمكنت من تجاوز التصورات الذاتية-النسبية للأشكال الكافية وإقامة معرفة دقيقة بها(30). وهذا بالضبط هو ما يطمح إليه جاليلي، ولكن ليس فقط بالنسبة للأشكال المكانية، بل بالنسبة للأجسام والظواهر الطبيعية في وجودها المشخص. ومن جهة أخرى، تبين أن الهندسة النظرية والمعارف التي صاغتها، تسمح بتحديد الأشكال القائمة في العالم التجربيب الحسي، إن المعارف النظرية الخالصة للهندسة قابلة لأن تطبق في تحديد الأشكال وحساب الأبعاد والمسافات في عالم التجربة الحسية. بل وأكثر من هذا، أدى تطبيق الهندسة النظرية على العالم التجريبي إلى نجاحات عملية تتجاوز نجاحات الفنون التطبيقية. إن الهندسة النظرية أظهرت عند التطبيق فعالية ودقة لا يضاهيان (31-30). إن إعجاب جاليلي بالنجاحات النظرية والتطبيقية للهندسة جعله يعتقد بأنه يمكن الحصول على معرفة دقيقة وموضوعية بالأجسام الطبيعية، إذا طبقنا عليها نفس المنهج الذي تطبقه الهندسة في تحديد الأشكال المكانية(27). هذا الاعتقاد هو الذي سيوجه جاليلي ويقوده نحو فكرة الصياغة الرياضية للطبيعة. ولكن كيف يمكن تطبيق المنهج الهندسي على الأجسام الطبيعية؟ يبدو لنا اليوم هذا السؤال عديم الأهمية، فنحن مقتنعون بأن تطبيق المنهج الهندسي في دراسة ظواهر الطبيعة وأجسامها أمر بديهي، وبأنه لا يثير أية صعوبة. ولكن يجب ألا ننسى أن هذا الاقتناع الراسخ لم ينشأ ولم يتم توارثه إلا بفضل أعمال جاليلي. أما بالنسبة لجاليلي ذاته، فلم يكن تطبيق المنهج الهندسي على الطبيعة أمرا بديهيا. إن للبداهة تاريخا، وعندما نفحص هذا التاريخ، يتبين لنا أن ما هو بديهي بالنسبة لنا، ربما كان يثير الاستغراب في وقت سابق، فالسؤال الذي طرحه جاليلي كان آنذاك سؤالا مشروعا، بل ومحيرا. ويكفي أن نضع تربيتنا العلمية بين قوسين، وأن نعود إلى الأشياء ذاتها، إلى الأشياء كما تبدو في عالم التجربة اليومية السابقة على العلم، لكي يتضح لنا أن سؤال جاليلي كان سؤالا حاسما حقا، وأن الجواب عنه، ذلك الجواب الذي يبدو لنا اليوم بديهيا، تطلب من جاليلي جرأة فكرية فائقة. إن الهندسة لا تهتم بالأجسام الطبيعية في وجودها المشخص، بل فقط بجانب مجرد منها، هو جانب امتدادها المكاني. وقد تمكنت الهندسة بالفعل من تحديد هذا الجانب ودراسته بكيفية موضوعية ودقيقة، ولكن يجب ألا يغرب عن بالنا بأن الامتداد المكاني، أي جانب الشكل، لا يستنفذ وجود الأجسام الطبيعية بكامله. إن الشكل المكاني ليس سوى لحظة مجردة للأجسام، إنه صورة لمادة. فالأشياء لها بجانب الشكل المكاني خصائص حسية: ألوان، أصوات، طعوم، روائح.. تملأ الامتداد المكاني للأجسام(27). والهندسة قد تمكنت من إنشاء معرفة دقيقة بالأشكال المكانية، وبالتالي بالخصائص لمكانية للأجسام الطبيعية، إلا أن الخصائص الحسية لا تندرج تحت الخصائص المكانية، وهذا يعني أن المعارف الهندسية لا تتعلق بالخصائص الحسية للأجسام. بل يبدو، أكثر من ذلك، أن هذه الخصائص، وإن كان من الممكن تقديرها، فإنه لا يمكن التعبير عنها بكيفية دقيقة وموضوعية، ولا يمكن تحديدها إلا بكيفية ذاتية-نسبية، أي تقريبية. هذا إذن هو ما يمكن استخلاصه من تجربة الحياة اليومية، وهو ما كان ماثلا أمام أعين جاليلي. إلا أن جاليلي لن يتخلى عن طموحه إلى إقامة معرفة صارمة بالطبيعة. وحيث إن جاليلي يفترض مسبقا أن كل معرفة صارمة لا يكن إلا أن تتوسل المنهج في تحديد الكيفية الحسية والتعبير عنها هذا التطبيق غير المباشر يفترض وجود علاقة بين التغيرات التي تطرأ على جانب الامتداد المكاني، وتلك التي تطرأ على جانب الخصائص الحسية. ولكن ما الذي يبرر هذا الافتراض؟ مما لاشك فيه أن هناك تلازما ما بين الامتداد المكاني والخصائص الحسية، فالخصائص الحسية لا توجد دون امتداد مكاني، كما أن كل امتداد مكاني لا يمكن إلا أن يكون ممتلئا بخصائص حسية. وفوق ذلك تبين لنا تجربتنا اليومية في عالم العيش وجود علاقات سببية في جانب الامتداد، وكذلك في جانب الخصائص الحسية. بناءً على هذا الأسلوب السببي، نعرف أن التغيرات التي تحدث في كل جانب من هذين الجانبين ليست اعتباطية، بل لها قواعد وعادات(27). كل ذلك لا يعني بتاتا وجود علاقات سببية تربط بين جانب الامتداد المكاني وجانب الخصائص الحسية، أو أن التغيرات التي تطرأ في جانب تستدعي تغيرات موازية في الجانب الآخر(34). وبعبارة أخرى، إن تجربتنا اليومية بعيدة كل البعد عن فكرة سببية شاملة تضم في كليتها التغيرات في جانب الشكل المكاني وفي جانب الكيفيات الحسية. إن الخطورة الحاسمة التي قام بها جاليلي على طريق تأسيس الفيزياء الرياضية هي بالضبط هذا الافتراض الجرئ القاضي بوجود سببية شاملة تضم جانبي العالم معا. وهذا جديد جدة مطلقة. صحيح إن هناك في التجربة السابقة للعلم ما يشير إلى وجود ارتباط سببي بين بعض مظاهر الجانبين(36)، إلا أن الحديث عن سببية قبلية شاملة تضم الجانبين معا لم يكن، حسب هوسرل، قائما قبل جاليلي. إن هذه الفكرة هي اكتشاف مطلق للعصر الحديث. إذا كانت هذه الفكرة، أو بالأحرى هذه الفرضية، صحيحة، فإنه سيكون من الممكن أن نعبر عن الكيفيات الحسية وأن نركبها رياضيا بصفة غير مباشرة، أي أن نحددها بدقة وموضوعية تامتين. ولكن هذه الفرضية لن تكون لها قيمة إلا إذا تم بالفعل اكتشاف علاقات سببية بين جانب الامتداد وجانب الكيفيات الحسية يمكن التعبير عنها رياضيا، وتسمح بالفعل بتركيب رياضي غير مباشر للكيفيات الحسية. لأجل ذلك كان على جاليلي أن يعمل على تحسين وسائل القياس وعلى توسيعه، حتى يشمل كل ما يتعلق بالامتداد المكاني للأشياء والظواهر. لقد كان جليلي ينتظر من توسيع القياس وتدقيقه على مستوى جانب الامتداد المكاني أن يتوصل إلى أن يعبر رياضيا، بكيفية غير مباشرة، عن الخصائص الحسية، وأن يؤكد بالتالي فكرة السببية التي تضم جانب الامتداد المكاني وجانب الكيفيات الحسية. فالتعبير الرياضي عن الكيفيات الحسية يجب أن يكون له مؤشر رياضي في وقائع الجانب المكاني(35). إن شدة الحرارة لها مؤشرها الرياضي في امتدادها المكاني، والألوان والأصوات لها مؤشرها الرياضي في أطوال الموجات الضوئية والهوائية. ونظرا لأن ظواهر الامتداد المكاني يمكن تحديدها بدقة وموضوعية، فإنه يمكن، بكيفية غير مباشرة، تحديد الظواهر الموازية لها في جانب الخصائص الحسية بدقة وموضوعية كذلك، هكذا يبلغ المرء ما لا يمكن بلوغه في التجربة الحسية: التحديد الدقيق والموضوعي للأشياء وللعلاقات بينها. إن الشيء، الذي لا يعطى في التجربة اليومية إلا من خلال كيفيات ذاتية-نسبية لا نهائية، يتم بواسطة المنهج الهندسي تركيبه كموضوع مطابق لذاته يحمل خصائص تامة التجديد. بذلك يتمكن الوعي من تخطي حدود التجربة اليومية للشيء ومن التعبير الدقيق عنه. ونظرا لأن الشيء هو دائما معطى في علاقات سببية، فإنه يصبح بالإمكان أيضا التعبير عن هذه العلاقات بدقة. إن العلاقات السببية الفضفاضة لعالم التجربة الحسية تتحول، بفضل تطبيق المنهج الهندسي، إلى علاقات سببية موضوعية ودقيقة، تصاغ رياضيا في شكل قوانين سببية صارمة. يعتبر هوسرل اكتشاف القانون خطوة حاسمة في تطور علم الطبيعة الرياضي ونشأة المفهوم الحديث للعلمية. فالقوانين لها دلالة كبرى بالنسبة للحياة العلمية، لأنها تمكننا من وضع استقراءات وتوقعات تتخطى في مداها ودقتها الاستقراءات السابقة للعلم. هكذا أصبحت القوانين تمثل، بفضل فائدتها العملية، نواة البحث العلمي. فمهمة العالم سيتم اختزالها في اكتشاف القوانين(43)، وهذا يعني أن الهدف الأساسي للمعرفة العلمية لن يكون هو فهم الطبيعة، بل إنتاج القوانين التي تمكننا من وضع استقراءات وتوقعات دقيقة، وبالتالي من تشديد سيطرتنا على الطبيعة. ومثلها أن الهندسة قد تحولت سابقا إلى منهج، أو بالأحرى إلى فن لتركيب الأشكال الهندسية وقياسها، فإن علم الطبيعة سيصبح فن إنتاج القوانين التي ينبغي أن تغطي بكيفية تدريجية، وفي مسلسل لا نهائي للبحث العلمي، الكلية اللانهائية للكون. بل أكثر من ذلك، سينشأ الاعتقاد بأن القوانين تشكل الوجود الحقيقي للطبيعة(43). إن العالم العلمي، العالم الذي ينشؤه العلم، العالم كما تعبر عنه وتتمثله القوانين والنظريات والعلاقات الرياضية، والذي يتميز بدقته وموضوعيته، سيعتبر هو العالم الحقيقي، رغم أنه في الأصل ليس سوى بناء نظري رياضي، تم إنتاجه بفضل ممارسة خاصة هي الممارسة النظرية العلمية. أما عالم عيشنا اليومي، عالم التجربة المباشرة، فسيعتبر مجرد تعبير تقريبي ذاتي-نسبي يشوه بهذا القدر أو ذاك العالم "الحقيقي". هذه هي الفكرة الأساسية للنزعة الموضوعية الحديثة التي يعتبرها هوسرل مسؤولة عن أزمة المعنى والتوجه في العالم الراهن. إن العالم المعطى بالفعل، عالم عيشنا الحقيقي، لا يستحق، حسب النزعة الموضوعية، أن يدرس علميا بسبب ذاتيته ونسبيته. هكذا سيتم نسيان عالم العيش اليومي الحقيقي وإبعاده من ميدان الدراسة العلمية. وهنا يبدو أن النزعة الموضوعية تضفي طابع الإطلاق على النموذج الفيزيائي-الرياضي، وتعتبر أنه الشكل الوحيد الممكن للعلم، وأنه المقياس الذي يجب أن تحققه أية دراسة تريد أن تكون علمية.
4 يصر هوسرل على أن هذا التأويل للعلم خاطئ، ويرجع نشأته إلى أن جاليلي وعلماء الطبيعة من بعده لم يقوموا بمجهود جدي للتفكير في الافتراضات المسبقة التي انطلقوا منها. ولهذا وقعوا ضحية تحريفات وتقنيعات. وسيكون على هوسرل أن يبرز هذه الافتراضات المسبقة وكذا التحريفات والتقنيعات التي ارتبطت بها. اقتصر عرضنا لحد الآن على تتبع مسار تفكير جاليلي، كما قام هوسرل بإعادة بنائه. وقد تجنبنا عمدا الوقوف عند الافتراضات المسبقة لجاليلي، وأجلنا ذلك إلى أن نصل إلى تحديد أولي للنزعة الموضوعية. والآن سيكون علينا أن نغوص من جديد مع هوسرل. وبكيفية أعمق، في فكر جاليلي، من أجل فهم افتراضاته، وبيان كيف أدت هذه الافتراضات إلى تحريف فكرة العلمية في العصر الحديث. خلال ذلك سنجد أنفسنا أمام مستوى أعمق للتحليل الفينومينولوجي، سيمكننا بدوره من أن ندقق نظرتنا للنزعة الموضوعية ولفهمها، أو كما يقول هوسرل، سوء فهمها للعلم. إذا أردنا أن نفهم تكون أفكار جاليلي يجب علينا إذن ألا نتوقف فقط عندما كان هو واعيا به، بل يجب كذلك أن نوضح ما كان متضمنا في فكرته عن الهندسة، حتى وإن بقي ذلك مختفيا عن نظره، فالافتراضات الحقيقية المتضمنة في فكرته عن الهندسة لابد أن تنتقل إلى فيزيائه، باعتبار أن الهندسة هي الأساس المنهجي لهذه الفيزياء (21-22). ما يأخذ هوسرل على جاليلي هو أنه لم يكلف نفسه عناء مساءلة الهندسة، التي وجدها كمعطى جاهز، عن بداهتها الأصلية في عالم العيش، وعن الحوافز والإنجازات الأولية التي انبثقت عنها. لم يتساءل جاليلي عن أساس الهندسة في العالم الحسي قبل الهندسي وفي الفنون التطبيقية، بل اعتبر وجودها أمرا بديهيا، مقبولا من تلقاء ذاته، ولا يحتاج إلى تساؤل أو تفسير. أما هوسرل فيعتبر أن هذا الشكل العلمي الثنائي يحمل تاريخيته الخاصة، إنه وليد حوافز وأفعال تأسيسية خلقته. ورغم أن هذه الأفعال والحوافز قد تم نسيانها، فإنها لازالت حاضرة بكيفية ضمنية في هذا المنتوج الجاهز، ويكفي أن نسائل الهندسة لنجعلها تنطق وتفصح عن هذه الحوافز والأفعال. يحاول هوسرل أولا أن يبرز الحوافز القائمة في عالم العيش اليومي، والتي يمكن أن تنشأ عنها الهندسة. إن الإنسان يعيش في محيط طبيعي، كل ما يظهر في هذا المحيط له طبيعة جسمية، حتى وإن كان من غير الممكن اختزال الأشياء المحيطة بنا إلى وجودها الجسمي (383). وفوق ذلك، تبين تجربة الحياة اليومية أن الأجسام الطبيعية لها أشكال مكانية (384). ولهذا، فمن الطبيعي أن يتوجه اهتمام الإنسان نحو الأشكال المكانية، خاصة مع ظهور بعض المصالح العلمية المرتبطة بها: في البناء، مسح الأرض، وقياس الطرق والمسافات إلخ... (384) إن الاهتمام بالأشكال المكانية قد تم إيقاظه من قبل التجربة اليومية السابقة للعلم وحاجيات الممارسة العملية. هكذا تم ابتكار فنون تطبيقية تتعلق بالامتداد المكاني للأجسام الطبيعية، وتعمل على تحديد الأشكال المكانية وقياسها، وتسهل تحقيق الحاجيات المرتبطة بها. ولكن بالرغم من هذه الفنون التطبيقية والمعرفة المرتبطة بها يبقى تحديد الأشكال المكانية وعلاقتها في التجربة السابقة للعلم فضفاضا. صحيح أن هذه الفنون تتقدم تدريجيا، وتمكن من تحديد هذه الأشكال بدقة تتزاير شيئا فشيئا، إلا أن التحديد التام الدقة والموضوعية للأشكال المكانية لا يمكن بلوغه في التجربة السابقة على العلم. إن الأشكال المحددة بدقة تامة هي أقطاب أو حدود قائمة في اللانهاية، ولا يمكن بلوغها في عالم التجربة اليومية إلا بقطع مسلسل لا نهائي لتدقيق هذه الأشكال. وحتى ولو التجأنا إلى التخيل، فلن نتمكن، حسب هوسرل، من تمثل أشكال تامة الدقة ومطابقة لذاتها تماما. إن بلوغ التحديد التام الدقة للأشكال المكانية يتوقف على إنجاز خاص يسميه هوسرل الأمثلة (361). في الأمثلة نتصور أنه قد تم قطع كل تلك السلسلة اللانهائية لإمكانيات تدقيق الأشكال (359)، وبهذا تتم موضعة تلك الأشكال الحدود وبناء الأشكال المثلى التامة الدقة والموضوعية، والتي يفترض بلوغها في عالم التجربة اليومية قطع مسلسل لا نهائي للتدقيق، وهو أمر غير ممكن (359). وهكذا يحقق الوعي، بفضل فعل الأمثلة، ما بعجز عن تحقيقه في عالم التجربة الحسية، ويتمكن من بناء أشكال تامة الدقة ومطابقة لذاتها. هنا يسجل هوسرل أن الأشكال المثلى ليست موجودة من تلقاء ذاتها، بل إنها نتيجة لتأسيس أول فعال، لإنجاز قام به الوعي هو الأمثلة. بواسطة الأمثلة تم تحويل موضوعات التجربة اليومية، التي تتميز بأنها معطاة بكيفية ذاتية-نسبية، إلى موضوعات مثلى محددة بكيفية تامة الدقة والموضوعية. إن بداهات التجربة اليومية، أي معطياتها المباشرة هي إذن المادة الأولية التي تشتغل عليها الأمثلة. إن منهج الأمثلة يسمح بإنتاج أشكال مثلى انطلاقا من الأشكال الناقصة التحديد المعطاة في التجربة اليومية لعالم العيش. هذا لا يعني بتاتا أن الهندسة النظرية يمكن، حسب هوسرل، أن تنشأ في إطار التجربة اليومية لعالم العيش. بعبارة أخرى، إن المعارف العلمية الدقيقة للهندسة ليست وليدة معارف تحسين تدريجي لمعارفنا اليومية. فالمعارف اليومية ولو تحسنت لا يمكن أن تصبح معارف علمية، موضوعية ودقيقة، ذلك أن هذه الأخيرة تتعلق بموضوعات مثلى، والموضوعات المثلى لا يمكن أن تعطي في الحياة اليومية، لأن كل معطيات الحياة اليومية لها بالضرورة طابع ذاتي-نسبي. إن الموضوعات المثلى هي نتاج فعل الأمثلة الذي يفصل الموضوعات عن أفق انعطائها الذاتي-النسبي في عالم العيش، ليحددها بدقة وموضوعية. أما في الحياة اليومية، فليس هناك ما يحفز الوعي إلى الطموح نحو معارف تامة الدقة، لأنها معارف الحياة اليومية تسعى إلى تحقيق مصالح عملية. إن الطموح نحو معرفة علمية تامة الدقة، لا يمكن أن ينشأ إلا مع التحرر من آفاق الحياة اليومية المشروطة بالمصلحة، ومع نشأة اهتمام نظري محض (289-290). يمكن القول إذن إن معطيات التجربة اليومية هي أساس الموضوعات المثلى للعلم، ولكن مع ذلك، لا يمكن تحويل المعطيات الذاتية-النسبية للتجربة اليومية إلى موضوعات مثلى، إلا إذا تم التحرر من الآفاق الضيقة للتجربة اليومية، إلا إذا نشأ الموقف النظري المحض. عندما ينتج الوعي موضوعات مثلى يتبين له أنه يمكن أن يعود إليها وأن يشتغل عليها، دون حاجة إلى استحضار المسلسل الذي أدى إلى تكوينها، والفعل الخلاق الذي أنتج معناها. إن الوعي يتوفر الآن عليها ويتصرف فيها كمعطيات جاهزة(23). هكذا يتم نسيان الفعل الخلاق الذي أنتج تلك الموضوعات المثلى، في حين هي قائمة أمام الوعي. وفي مسلسل تقدم المعرفة العلمية تصبح تلك الموضوعات التي تم إنتاجها بفضل فعل الأمثلة، هي ذاتها مادة أولية لإنتاج موضوعات جديدة. هكذا يتم تركيب أشكال جديدة انطلاقا من أشكال أساسية وتحديدها قبليا بدقة تامة، دون حاجة للرجوع إلى معطيات التجربة الحسية. بذلك ينشأ عالم من الموضوعات المثلى، يمكن الاشتغال داخله، دون الرجوع إلى العالم الحسي. إن ذلك يساهم، بدون شك، في التحرر من القيود التي تفرضها التجربة الحسية على الوعي، وفي فتح آفاق واسعة للمعرفة. ولكن هوسرل يسجل مع ذلك أن أسلوب تركيب أشكال هندسية انطلاقا من أشكال هندسية أولية، هو نفسه الأسلوب المتبع في الفنون التطبيقية لمسح الأرض، حيث يتم إرجاع الأشكال المعقدة إلى أشكال بسيطة يمكن قياسها بسهولة. وبذلك يؤكد هوسرل أن الفنون التطبيقية لمسح الأرض هي: أصل الهندسة، وأن هذه الأخيرة ليست سوى أمثلة لتلك الفنون (24، 25). ولهذا السبب فإن الهندسة النظرية، التي تتعامل مع أشكال مثلى لا وجود لها في تجربتنا اليومية، ستعرف طريقها نحو التطبيق العملي. إن المعارف النظرية الخالصة للهندسة، تلك المعارف التي تتعلق بأشكال مثلى، ستصبح وسيلة لتحديد الأشكال المكانية الواقعية(31). إذا كانت "التقنية" في البداية حافزا للهندسة، فإن الهندسة ستصبح أداة "للتقنية" في تحقيق مهمتها: إنشاء طريقة للتحديد الموضوعي للأشكال الواقعية بتقريبها من الأشكال المثلى. إن الهندسة ستصبح أداة لفن مسح الأرض، وسينتج عن ذلك ارتفاع كبير جدا في دفة القياسات. إن النجاحات التطبيقية للهندسة النظرية ستفوق بكيفية كبيرة جدا إنجازات الفن التطبيقي لمسح الأرض. على أن الإنجازات الهائلة لمنهج الأمثلة لا ينبغي أن تحجب عنا التحريفات التي نشأت معه. إن عالم الهندسة عندما يبني عالمه الخاص، الذي يفكر ويشتغل داخله، دون حاجة لاستحضار الفعل المؤسس له وللرجوع إلى عالم التجربة اليومية، بل وأكثر من هذا عندما يتمكن من تطبيق معارفه النظرية على أرض الواقع، ينتهي إلى نسيان عالم العيش بصفته أساس الموضوعات والنظريات الهندسية. هكذا ينشأ لدى العالم الاعتقاد بأن تلك الموضوعات موجودة في ذاتها باستقلال عن الوعي، إنه يعتبرها قائمة بذاتها، بغض النظر عن كل إنجاز منهجي فعال للوعي. بذلك يحصل اغتراب الهندسة عن عالمها الأصلي. إن عالم النظريات الهندسية والموضوعات المثلى، الذي ليس في الأصل سوى بناء نظري أنتجه الوعي استنادا على المعطيات اليومية لعالم العيش بفضل فعل خلاق هو الأمثلة، يصبح، في نظر الهندسة، هو العالم الحقيقي الموجود باستقلال عن الوعي. أما لأشكال والكيفيات الحسية المعطاة في تجربة الحياة اليومية فليست سوى تعبير ذاتي، مشوه بهذه الدرجة أو تلك، عن الأشكال الهندسية المثلى. هذا هو الفهم السائد للهندسة الذي وقع جاليلي ضحية له. إن الإنجازات الخلاقة التي انبثقت عنها الهندسة لم تبق حية، وفي نفس الوقت، لم يكلف جاليلي نفسه عناء التساؤل عن معنى الهندسة وأصلها. إنه كان مبهورا بنجاحاتها النظرية والتطبيقية، فاعتقد أن تطبيق منهجها سيمكنه من إنشاء معرفة موضوعية بالطبيعة، ولهذا ظل مشغولا بسؤال واحد هو: كيف يمكن تطبيق منهج الهندسة في دراسة الأجسام الطبيعية؟ إن جاليلي طرح هذا السؤال دون أن يهتم بالكيفية التي نشأت بها الهندسة في الأصل انطلاقا من العالم الحسي قبل الهندسي وفنونه التطبيقية(26-49). ولهذا ظل يعتقد أن الهندسة لها حقيقتها المستقلة المطلقة القابلة للتطبيق من تلقاء ذاتها. لقي بقي خفيا عليه، وعلى من بعده، أن تطبيق الهندسة على الواقع، له معناه وأسسه ومصادره المعقدة (49-50). هذا الفهم السائد للهندسة سينتقل مع جاليلي إلى مجال علم الطبيعة كذلك. وهكذا سيبتدئ مع جاليلي ذاته نسيان الطبيعة الحسية الماقبل علمية، وتعويضها بالطبيعة الرياضية. لقد سبق أن رأينا كيف أعاد هوسرل بناء المسار الفكري لجاليلي مبينا، من خلال ذلك، إن فكرة الصياغة الرياضية للطبيعة، أو أمثلة الطبيعة، التي هي بالنسبة لنا أمر بديهي، لم تكن كذلك بالنسبة لجاليلي. إن هذه الفكرة هي نتاج لإنجازات جزئية لجاليلي، وقد واجهته في تحقيقها صعوبات جدية، خاصة فيما يتعلق بالأمثلة غير المباشرة للكيفيات الحسية. إن الطبيعة التي انطلق منها جاليلي لم تكن قد خضعت بعد للأمثلة، إنها ليست الطبيعة الرياضية، بل الطبيعة الماقبل علمية كما تظهر في عالم عيشنا اليومي، كما تقدم ذاتها في كيفيات لا نهائية للعطاء الذاتي-النسبي. أما الطبيعة الرياضية، أي الطبيعة كما تقدمها القوانين والنظريات الفيزيائية، فهي نتاج منهجي لأمثلة الطبيعة الماقبل علمية بأسلوبها السببي التقريبي واستقراءاتها الفضفاضة. إلا أن هوسرل سيلاحظ هنا أن الانحرافات والتقنيعات التي لحقت الهندسة، ستظهر كذلك مع علم الطبيعة، ولا عجب في ذلك، فجاليلي اتخذ الهندسة أساسا لعلم الطبيعة، دون أن يتساءل عما يمنحها، في الأصل، معنى وقيمة. وهكذا، كلما تم سابقا نسيان الحوافز والإنجازات الخلاقة التي انبثقت عنها الهندسة، ونسيان البداهات الأصلية والفنون التطبيقية التي كانت أساسا لنشأتها، يتم هنا أيضا نسيان الحوافز والإنجازات التي انبثقت عنها فكرة الطبيعة الرياضية، وبالتالي نسيان أن هذه الطبيعة الرياضية المحددة بدقة وموضوعية، ليست سوى بناء نظري يستند، في نهاية الأمر، إلى الطبيعة كما هي معطاة في عالم العيش اليومي. هذا النسيان هو أساس الاعتقاد الموضوعي النزعة الذي ينسب للطبيعة في ذاتها وجودا رياضيا قائما بغض النظر عن كل إنجاز للوعي وعن كل إجراء منهجي(54). فالنزعة الموضوعية تعتقد أن الطبيعة الرياضية، التي ليست في الأصل سوى بناء نظري منهجي، هي الطبيعة الحقيقية، في حين أن الطبيعة كما تمثل لنا في عالم عيشنا اليومي، ينظر إليها كمجرد تعبير ذاتي-نسبي عن تلك الطبيعة الرياضية الموضوعية القائمة خلفها.
5 إن خطورة هذا التأويل تكمن، حسب هوسرل، في أن العلم، إذ ينسى عالم العيش، فهو ينسى أساسه. فكل العلوم انبثقت انطلاقا من عالم العيش، الذي هو الأساس الأصلي لكل ممارساتنا وسواء أكانت نظرية أو عملية. إلا أن العلاقة بين العلوم وعالم العيش لا تهم النشأة الأولى للعلم فحسب، بل إن العلم مهما تقدم ومهما كانت دقة تركيباته وأنساقه النظرية المنطقية، فإنه لابد أن يسند في نهاية المطاف إلى بداهات حسية تنتمي لعالم العيش. فالفيزيائي يعتمد في مختبره على الرؤية والسمع، والكيميائي يعتمد فوق ذلك على الذوق والشم (452, 129, 124, 123). وهذه المعطيات ليست مجرد مناسبة أو مدخل لبلوغ النظريات العلمية، بل إنها الأساس الأولي الذي تستقي منه النظريات العلمية معناها، والتي بدونها ستكون فارغة من كل مضمون. مما لاشك فيه أن موضوعات المعرفة العلمية تتخطى أفق العطاء الذاتي-النسبي لعالم العيش، وأن العلم يتخطى ما هو معطي مباشرة في معرفتنا اليومية. إلا أن جذور هذا التخطي وحوافزه متضمنة هي كذلك، حسب هوسرل، في عالم العيش ذاته. إننا قبل كل معرفة علمية نضع استقراءات تتخطى حدود ما هو معطى مباشرة نحو الماضي أو المستقبل. بل أكثر من ذلك، إننا لا نتخطى ما هو مباشر وأصلي في الاستقراءات التي نضعها بكيفية صريحة فقط، بل إن كل حياتنا اليومية تستند إلى نوع من الاستباق، ففعل إدراكي مثلا يتعلق بالطاولة بأكملها، رغم أنني لا أرى إلا مظهرا منها. "على التوقع، يمكن أن نقول كذلك، على الاستقراء، تتوقف الحياة كلها"(51). إن تخطي ما هو معطى مباشرة وبكيفية أصلية هو طابع عالم الحياة الوعي، هذا الطابع يسميه هوسرل "القصدية الأفقية" (المنطق، 177) أو "البنية الأفقية للتجربة" (الحكم والتجربة، 26)، وهو يعني بذلك أن كل تجربة لها أفق يتخطى ما هو معطى بكيفية أصلية. فكل تجربة تشير إلى تجارب أخرى، وتحمل معرفة استباقية تتجاوز حدودها. والعلوم القائمة على الأمثلة تتميز بأنها تدفع هذا الاتجاه نحو تخطي ما هو معطى فعليا إلى حده الأقصى، وذلك بأن تفصل الموضوعات فصلا تاما عن أفق عطائها الذاتي-النسبي، إلا أنها مع ذلك لا تمس بالبنية الأساسية لعالم العيش وبأسوبها السيببي الذي يسمح بالاستباق والاستقراء (51-142). إن نسيان العلوم الحديثة لعالم العيش لا يغير، حسب هوسرل، من ارتباطها به، فهو يبقى رغم هذا النسيان أفقا لنشاطها. ولتأكيد هذه الحقيقة يكفي أن نتساءل: ماذا تنجز هذه العلوم، وما هي غايتها الآخيرة؟ إن هذه العلوم لا تسغى في نهاية الـمر، إلا إلى إنشاء استقراءات. صحيح أن هذه الاستقراءات دقيقة ومتقنة، وأنها تختلف بذلك جذريا عن استقراءات الحياة اليومية، إلا أنها تعود من جديد لتطبق في عالم العيش. وهكذا يمكن أن نقول إن النظريات العلمية الدقيقة والموضوعية تنشأ، بواسطة منهج الأمثلة، انطلاقا من البداهات الذاتية النسبية لعالم العيش، وتتوفر على "صلاحية راجعة داخل الممارسة التي تجري في عالم التجربة الواقعية" (224). كما أن تطبيق الهندسة على عالم التجربة اليومية ليس أمرا تلقائيا، بل له أصله ومعناه، وهو يعود إلى أن الهندسة انبثقت من هذا العالم ذاته، وبالتالي فإن تطبيق النظريات الفيزيائية في عالم العيش، لا يجب أن يقبل هكذا كأمر بديهي، بل إن له أيضا أصله ومعناه، ويعود هو أيضا إلى أن النظريات الفيزيائية تستند، في نهاية المطاف، إلى بداهات التجربة المباشرة وتندرج في أفق عالم العيش.
6 بهذه الملاحظات الأخيرة يبرز هوسرل العلاقة العميقة والمعقدة بين العلوم الحديثة وعالم العيش، وهذا ما يؤكد خطورة نسيان هذه العلوم لعالم العيش. إن هذه العلوم، بنسيانها لعالم العيش، تنسى أساسها الحقيقي وتغترب عنه، مما سيترتب عنه عواقب حاسمة بالنسبة للعلوم والفلسفة، بل والثقافة الأوربية بأكملها. هذا النسيان سيتعمق أكثر مع إضفاء الطابع الصوري الرمزي على الهندسة، ومن خلال ذلك، على علوم الطبيعة. سبق أن رأينا أن القوانين تحتل، بسبب فائدتها العملية، مركزا أساسيا في علم الطبيعة، بحيث أن مهمة عالم الطبيعة أصبحت تتلخص في إنتاج قوانين جديدة. ومع تطور علم الجبر والرياضيات عموما ستحول هذا العمل إلى عمل تقني يشتغل على رموز ويستعمل قواعد صورية للتفكير. إن المعاني والدلالات الأصلية للأشياء تختفي وراء رموز فارغة يمكن أن نشتغل عليها وأن نجري عليها عمليات متعددة، دون أن نتساءل عن مضمونها. بذلك يتحول التنكير العلمي إلى نوع من الحسابات يتم إجراؤه بكيفية صورية على رموز وقضايا فارغة من أي مضمون بذكر بعلاقتها بالعالم اليومي(46)، وبذلك يصبح التفكير العلمي شبيها بالنشاط التقني-الحرفي الذي يقوم على العادة والتمرن أكثر مما يقوم على التأمل والابتكار (46، مقالات، 209). هكذا يبين هوسرل أن العلاقة بين العلم والتقنية هي أعمق مما يعتقد عادة، فالتقنية ليست مجرد تطبيق للعلم، بل إن الروح التقنية تسود العلم ذاته كمعرفة نظرية، بهذا تكون العلوم الحديثة في عمقها علوما تقنية. يرتبط الطابع التقني لهذه العلوم بطغيان الجانب المنهجي عليها. ويفهم المنهج هنا كمجموعة من القواعد والإجراءات التي يمكننا تطبيقها بمهارة من إحراز نجاحات واكتشافات مهمة، ولكن دون أن نعرف بالضرورة معناها وأسسها الأصلية، ودون أن نفهم المبدأ النظري الذي يؤسس هذه النجاحات والاكتشافات. يقول هوسرل: "ألا يشبه العلم ومنهجه آلة يبدو بجلاء أن لها إنجازات جد مفيدة، ويمكن أن نثق بها في ذلك. إنه لا يمكن لأي كان أن يتعلم استعمالها استعمالا سليما، دون أن يفهم إطلاقا الإمكانية والضرورة الداخلية لنوع إنجازاتها"(52). إن العلم تحول إلى تفكير قائم على العادة والمران، فهو بالحساب، يستطيع أن ينتج، بكل مهارة وفعالية، قضايا وقوانين ونظريات، دون أن يفهم مصدر إنجازه ومعناه. والمنهج العلمي أصبح إرثا مفصولا عن أساسه، وهو مثل كل إرث، ينسى معناه الأصلي والإنجازات الأصلية التي أسسته(57). إن إنجازات الوعي القصدي التي انبثق عنها التفكير العلمي، بطابعه الرياضي والحرفي-التقني، تبقى مختفية عن أنظار العلماء، ولا تكون هي ذاتها مجالا للتأمل والتفكير. إن أمثلة الطبيعة تمكن، حسب هوسرل، من تخطي حدود معرفتنا بالأشياء في التجربة اليومية، وتساعد على تدقيق استقراءاتنا وتوسيع مجالها، إلا أنها تؤدي في نفس الوقت إلى إخفاء عالم العيش ونسيانه. وخطورة الأمر لا تكمن في النسيان ذاته. إنه من المشروع، بل ومن الضروري نسيان آفاق عالم العيش لكي تتمكن العلوم من التقدم(46)، ولكن الخطورة تكمن في أن ننسى هذا النسيان ذاته، وأن نعتقد أن عالم القوانين والعلاقات الرياضية، الذي تم بناؤه انطلاقا من معطيات عالم العيش، عالم قائم من تلقاء ذاته، وأنه هو العالم الحقيقي. كما أنه من المشروع تماما، حسب هوسرل، أن تعمل العلوم على ابتكار أساليب منهجية-تقنية تساعدها على إنجاز مهامها المعقدة، ولكن يجب عليها ألا تنسى أن هذه الأساليب لها أصل ومعنى، وألا تعتبر وجودها أمرا بديهيا (57، مقالات، 209). فالرموز ليست لها قيمة في ذاتها، بل إنها لم تبتكر إلا لتعوض مضامين، بداهات أولية، يصعب على التفكير العلمي أن يشتغل عليها؛ كما أن قواعد التفكير الصورية ليست لها قيمة في ذاتها، ولا تتأسس على حقيقة خاصة، بل إنها تستمد حقيقتها ومعناها من بداهات أصلية تتأسس عليها. لا لشيء يمنع من أن نفكر صوريا، رمزيا، أو تقنيا-منهجيا، ولكن على أساس أن يكون لدينا الوعي الكامل بأننا نمارس أساليب ليست لها أية قيمة في حد ذاتها، وأنها تسهل البحث وتوسع مجاله وتساعدنا، 37 قيمتها الوحيدة تكمن في بالتالي، على اكتشاف قوانين، هي ذاتها ليس لها من قيمة، إلا من حيث أنها تمكننا من وضع توقعات واستقراءات مفيدة في عالم عيشنا اليومي. يقدم الفهم الحديث للطبيعة على اعتبارها كلية جسيمة مغلقة واقعيا، رغم أنها لا نهائية(61). هذه الكلية خاضعة لسببيتها الخاصة، وتتميز بأنها رياضية في ذاتها. ومع النجاحات النظرية والعملية للفيزياء، وما تبع ذلك من اعتقاد في نموذجيتها، سيتم تصور كل قطاع من قطاعات الموجود بنفس الكيفية. إن كل قطاع للوجود يجب أن يكون في ذاته معقولا، بمعنى المعقولية المستمدة من الرياضيات وعلم الطبيعة الرياضي(63)، ويجب أن يدرس اعتمادا على المنهج الرياضي-الفيزيائي. هكذا نشأت فكرة جديدة عن كلية الموجود، أي ما اعتادت الفلسفة تسميته بالعالم، تعتبر أن العالم هو مجموع هذه القطاعات كما هي في ذاتها. وبموازاة ذلك، اتخذت فكرة العلم الكلي، أي الفلسفة، معنى جديدا. أن العلم الكلي ليس سوى حاصل مجموع العلوم الجزئية التي تقسم "العالم" فيما بينها، ويهتم كل منها بمتابعة قطاع من قطاعاته ودراسته اعتمادا على المنهج الرياضي-الفيزيائي. إن فهم النزعة الموضوعية للعالم باعتباره عالما قائما بذاته، بغض النظر عن كل إنجاز للذات، وفهمها للعلم الكلي باعتباره حصيلة العلوم الجزئية التي تغطي كل منها قطاعا من العالم، يعني أن الفلسفة بمعناها الدقيق، لم تبق لها أية مكانة في الحالة الراهنة للمعرفة العلمية. هذا الفهم وما نشأ عنه من إهمال للفلسفة وأسئلتها الأساسية، هو المسؤول عن أزمة المعنى والتوجه التي تطبع العالم الراهن. وسيكون على هوسرل، بعد أن قام بتشخيص الأزمة، أن يقترح طريقا لعلاجها.
III1 تنطلق تأملات هوسرل في مؤلفه الأخير من أزمة الثقافة الأوربية، تلك الأزمة التي يرجعها إلى نسيان عالم العيش وسيادة التأويل الموضوعي النزعة للعلم. هذا التأويل يضع خلف عالم التجربة اليومية عالما رياضيا لا نهائيا يعتقد أنه مستقل تماما عن آفاق العيش، ويحدد مهمة البحث العلمي في ملاحقة مختلف قطاعات "العالم" في إطار علوم جزئية متخصصة، يسعى كل منها، في مسلسل لا نهائي، إلى السيطرة على موضوعه بواسطة منهج الأمثلة. ونظرا لأن العلم الحديث لا يهتم بالآفاق المعطاة سلفا، فإنه لا يمكن أن تجد قانونيته وغائيته إلا في ذاته. إن العلوم قبل العصر الحديث ظلت مرتبطة إلى حد ما بآفاق التجربة البشرية، ولهذا لم تكن تطرح على ذاتها سوى مهام معرفية نهائية. أما العلوم الحديثة فإنها، بسبب انفلاتها من آفاق الممارسة البشرية، تفهم مهمتها كمسلسل لا نهائي للاكتشاف المتواصل للعالم الموضوعي الرياضي في لا نهائيته المتعالية على كل الآفاق الجزئية. إن محاولة العلم الحديث فصل وجود العالم بكيفية جذرية عن آفاق ظهوره الذاتي-النسبي، يجعل هذا العلم يفقد كل دلالة بالنسبة للإنسان. فعالم العيش هو العالم الحقيقي الذي تدور فيه حياتنا الفعلية، هو العالم الذي نتعامل فيه مع الآخرين ونعالج قضايا الشأن العام، هو العالم الذي نتخذ فيه قراراتنا ونحقق فيه حريتنا. ولذلك فنسيان هذا العالم هو أصل أزمة المعنى والتوجه التي تطبع العصر الحاضر. وبجانب ذلك، فإن تخلي العلم عن آفاق عالم العيش يؤدي إلى انفلات البحث العلمي من مسؤولية الإنسان. فالبحث العلمي يصبح عملية لا نهائية، تتجسد في إجراءات تقنية منهجية للسيطرة على العالم الرياضي اللانهائي، مختلف قطاعاته. هكذا يصبح دور العالم مقتصرا على متابعة قطاع أو مجال من العالم، دون أن يكون مضطرا للتساؤل عن علاقة البحث الذي يمارسه بآفاق الحياة اليومية وعن غاياته. إن النقد الذي يوجهه هوسرل للعلوم الحديثة لا يتضمن موقفا عدائيا إزاءها. إنه يعبر في كثير من المناسبات عن إعجابه لمنجزاتها واكتشافاتها الهائلة (390, 349, 193, 68). إن فائدة هذه العلوم الكبرى تكمن في أنها أداة ضرورية من أجل إحكام سيطرتنا على العالم، وأو بتعبير هوسرل، من أجل إنشاء استقراءات تفيدنا في حياتنا اليومية، ولكنها غير قادرة على تقديم تفسيرات تعود بالأشياء إلى أسسها الأولى. يقول هوسرل: "يجب أن ندرك أخيرا بأنه ليس هناك علم موضوعي، مهما كانت دقته، يفسر بجدية شيئا ما، أو يستطيع أن يفسره. فالاستنباط ليس تفسيرا. كما أن التنبؤ، أو معرفة البنيات الموضوعية للأجسام الفيزيائية أو الكيميائية والتنبؤ على ضوئها، كل ذلك لا يفسر شيئا، بل يحتاج إلى تفسير" (193). إن العلوم الحديثة لا تقدم تفسيرا أخيرا للأشياء، لأن ذلك يتطلب الرجوع إلى عالم العيش وآفاقه الذاتية-النسبية، أي إلى الأساس المنسي لهذه العلوم. يرتبط نسيان العلوم لأساسها في عالم العيش بطابعها التقني، ولا يعني ذلك، حسب هوسرل، فقط أن معارف هذه العلوم موجهة نحو التحكم التقني في الأشياء والعالم، بل كذلك أن هذه العلوم هي ذاتها، كمعرفة نظرية، لها طابع تقني. فالتفكير العلمي تحول إلى حساب قائم على العادة والمران، وإنتاج المعرفة النظرية في العلم أصبح شبيها بالإنتاج التقني-الحرفي الذي يستطيع أن يحدث نتائج فعالة ومفيدة دون أن يتمكن من تأسيسها. إن الروح التقنية، روح النجاح وفعالية المنهج، تسود هذه العلوم قبل كل استعمال تقني. إن العالم يصبح شبيها بالصانع، حيث يكون عليه أن يتحايل على موضوعه وأن يتدبر إمكانية تطبيق المنهج بمهارة وحذق، لكي يتمكن من اكتشاف قوانين ونظريات جديدة. من الجدير بالانتباه أن هوسرل لا يربط نقده للطابع التقني للعلم بأي نقد للتقنية. فلا يعرف ضمن النصوص الأساسية المنشورة لهوسرل لحد الآن أي نص ينتقد فيه التقنية، أو على الأقل يشير إلى سلبياتها. ويبدو أن هوسرل كان يعتبر السيطرة التقنية على العالم أمرا ضروريا. وعلى العكس من ذلك، فإنه يشير في كثير من المناسبات إلى خطورة الطابع التقني الذي يسود العلوم الحديثة كنظرية، وذلك حتى قبل صدور كتاب الأزمة، بل وقبل بداية اشتغاله حول إشكالية الأزمة (أفكار، 188، III). إن الطابع التقني للتفكير العلمي ازداد منذ وقت هوسرل إلى الآن حدة ورضوخا. فالفرق بين العالم النظري والمجرب يتضاءل تدريجيا، كما أن الفرق بين العالم والمهندس يتجه نحو الزوال. وليس معنى ذلك أن النظرية العلمية أصبحت مرتبطة ارتباطا مباشرا بالتطبيقات التقنية، بل أكثر من ذلك، إن التفكير النظري العلمي ذاته أصبح يتطلب مهارات وكفاءات تقنية، مثل تصميم شروط التجربة، معالجة المعلومات والتحاليل عليها. إن كل دراسة علمية أصبحت تتوقف بشكل أساسي على الإجراءات التقنية التي تمكن من رصد الظواهر وملاحقتها. هذا الأسلوب التقني، أو العقلانية التقنية (الفلسفة الأولى II، 249)، الذي يطبع العلوم الحديثة، والذي يرتبط بتعميق نسيان عالم العيش، قد تحول إلى أسلوب عام في التفكير والفعل يطبع، إلى حد كبير، كل مجالات الحياة في الوقت الراهن. وهذا أمر مفهوم من منظور هوسرل، إذ ما دامت الثقافة الأوربية تقوم أساسا على فكرة العلم، فإن الشكل الذي يتخذه العلم، لابد أن يطبع كل مظاهر هذه الثقافة. وسأحاول الآن أن أورد، مستوحيا منظور هوسرل، بعض الإشارات التي توضح بكيفية مشخصة الأسلوب التقني وما يرتبط به من نسيان عالم العيش في مجالات مختلفة للحياة المعاصرة.
2 – لنبتدئ بمجال الطب، إن مهمة الطبيب ترتبط في أصلها بأفق عالم العيش، فهي تكمن في إعادة المريض إلى حالة الصحة، أو البحث عن علاج للمرض. وأكيد أن مهمة الطبيب لم تتغير بعد نشأة العلوم الحديثة. فالطبيب اليوم، بمعارفه النظرية الدقيقة وأجهزته التقنية المتطورة، لا يسعى سوى إلى علاج المريض. ومع ذلك، فهناك فرق واضح في العلاقة بين الطبيب وآفاق عالم العيش قبل العلم الحديث وبعده. فالطبيب قبل العصر الحديث كان يربط ممارسته ربطا واضحا ومباشرا بأفق عالم العيش البشري، ويعي تمام الوعي أنه لن يحقق مهمته إلا عندما يرى المريض وقد عاد إلى حالة الصحة، وذلك دون أن يستند إلى مؤشرات وسيطة. أما اليوم فقد أصبح الطبيب يتعامل مع المرض والصحة بأسلوب علمي-تقني. وليس المقصود بذلك أساسا أنه يعتمد على معارف نظرية وأجهزة تقنية متطورة، بل إن كيفية تفكيره في المرض والصحة وتعامله معها تتخذ طابعا تقنيا، فالطبيب لا يفكر في ظواهر المرض والصحة كمعطيات لتجربة المباشرة، إن هذه المعطيات تختفي خلف رموز ومؤشرات تتجه لأن تصبح هي المجال الذي يدور فيه تفكير الطبيب وممارسته، إلى حد أن علاقة هذه المؤشرات بالمعطيات الأصلية التي تعبر عنها تصبح مهددة بالنسيان. فالطبيب يشخص المرض ويصف العلاج، ثم يراقب تطور حالة المريض. وهو في كل ذلك يعتمد على مؤشرات كمية يرى أنها تعبر عن الوضعية الصحية للمريض، فيعتبر مثلا أن المريض قد استعاد صحته، ليس اعتمادا على معاينة المريض وملاحظة قدرته على استئناف أنشطته المعتادة، بل اعتمادا على مؤشرات كمية، مثل حدوث توازنات في تركيب بعض المواد أو استقرار بعض الإفرازات والوظائف. صحيح أن هذه المؤشرات تعبر بالفعل عن وضعية المريض، إلا أن الخطورة تكمن في أن ممارسة الطبيب تتحول تدريجيا إلى ممارسة تقنية تتعامل مع مؤشرات كمية وتتجه إلى أن تنسى الوضعيات البشرية التي تعبر عنها هذه المؤشرات في الأصل. وحتى الابتكارات والاجتهادات في ميدان الطب تتجه إلى نسيان الوضعيات البشرية، وإلى التركيز على تطوير هذه المؤشرات وتحسين الأجهزة التي تستعمل لالتقاطها. إن هذه المؤشرات التي ليس لها من قيمة في الأصل، إلا من حيث أنها تعبر عن معطيات قائمة في التجربة المباشرة، تصبح هي محط اهتمام الطبيب العالم والممارس، هي المجال الموضوعي والدقيق الذي يتم الاشتغال عليه. هكذا تتجه مهمة الطب إلى أن تتحول إلى ممارسة قائمة على العادة والتمرن وضعيفة الصلة بأفق عالم العيش. وبذلك يبرز خطر الانفلات التدريجي لمهمة الطب من مسؤولية الإنسان. فالطبيب يتعامل بكيفية مباشرة مع مؤشرات كمية، أما الوضعية المشخصة للمريض فلا تهمه إلا بكيفية غير مباشرة. لا يمكننا أن نقول، من منظور هوسرل، إن هذا التطور الذي عرفته مهنة الطب له طابع سلبي وإنه يجب أن نرفضه وأن نعود إلى مهنة الطب كما كانت تمارس في الماضي. إن هوسرل لن يكون ضد استعمال التقنيات المتطورة في الطب وضد اعتماد مؤشرات كمية تسهل مراقبة حالة المريض وتعبر عنها بأكثر ما يمكن من الدقة والموضوعية وبكيفية أفضل من التجربة المباشرة. ولكن مع ذلك فإن هذه الوضعية قد تؤدي إلى نتائج خطيرة. إذا لم تتم إعادة ربط الطب، نظرية وممارسة، ربطا وثيقا بآفاق الوجود البشري. تتجلى خطورة الوضعية الحالية لمهنة الطب بكيفية أوضح، إذا ما انتبهنا إلى أن نزعة التخصص في الطب بلغت درجة كبيرة جدا، إلى حد أن معالجة بعض الحالات المرضية أصبحت تتطلب مساهمة عدد كبير من الأطباء الذين يشتغلون كاختصاصيين أو خبراء بكيفية محضة. في مثل هذه الحالات توزع المهام بين مجموعة من الاختصاصيين يقدم كل واحد منهم مساهمة محدودة في معالجة الحالة. والمشكل هنا لا يتعلق فقط بتوزع التخصصات وتعارض متطلباتها أحيانا، أو بصعوبات التنسيق بينها، إن المشكل يكمن بالدرجة الأولى في أنه لا أحد من هؤلاء الاختصاصيين يكون مسؤولا عن صحة المريض وسلامته مباشرة، إن دور كل واحد منهم يقتصر على إنجاز مهام محددة بدقة، ولا يمكن لأي منهم أن يحدد مدى مساهمته في معالجة الحالة إلا من خلال مؤشرات كمية، لا من خلال معرفة مباشرة بوضعية المريض. وهذا يعني في نهاية الأمر أن لا أحد من الاختصاصيين يعي أنه مسؤول، ليس إزاء مؤشرات كمية، ولكن إزاء المريض ووضعيته المشخصة. وهكذا فإن اتخاذ الطب للطابع التقني، وما يستتبعه ذلك من تعدد التخصصات، قد تكون له فوائد كبيرة، وقد ساهم بكيفية حاسمة في تحسين الوضعية الصحية للإنسان، ولكن رغم كل ذلك، وقد تترتب عنه نتائج خطيرة، لأنه يؤدي إلى تعميق انفصال ممارسة الطبيب عن آفاق عالم العيش وبالتالي إلى إلغاء مسؤوليته. يمكننا أن نصادف نفس الشكل إذا انتقلنا إلى مجال آخر هو مجال الاقتصاد والتسيير الاقتصادي. لاشك في أن الاهتمام العلمي بهذا المجال نابع من الوضعية الشخصية للناس في عالم عيشهم اليومي. مع الانتقال من الاقتصاد المنزلي إلى اقتصاد متمركز أساسا على السوق، ظهرت ضرورة تنظيم النشاط الاقتصادي وتوجيهه بناء على معارف علمية. والمهمة الأصلية لهذه المعارف هي اقتراح الطرق والوسائل التي تسمح للناس بأن يشبعوا حاجاتهم بأفضل كيفية ممكنة. ومع توسع الأنشطة الاقتصادية وتشبعها أصبح من الضروري أن يساهم خبراء اقتصاديون في توجيه هذه الأنشطة، إلا أن ثمن ذلك سيكون هو نشأة تعامل تقني مع الوضعيات والمشاكل الاقتصادية، يتجه إلى نسيان المهمة الأساسية التي وجد من أجلها هذا العلم. فعلماء الاقتصاد يدرسون حالات ووضعيات معينة بأكثر ما يمكن من الدقة والموضوعية، ويصوغون جداول ومعادلات ورسوما بيانية، يفترض أنها تعبر عن هذه الوضعيات، ثم يضعون على ضوئها اقتراحات لمعالجة أشكال الخلل الحاصلة في سير الاقتصاد مثلا وتحقيق بعض التوازنات. وشيئا فشيئا يبدأ الاقتصاد، سواء على مستوى النظرية أو التطبيق، في التعامل بكيفية تقنية مع المؤشرات والمعايير التي وضعها، ويصبح نظره مشدودا إليها هط فقط. وهذا ما يعني أن ممارسته النظرية والعلمية تنفصل تدريجيا عن عالم العيش، وتنسى الوضعية المشخصة للناس في حياتهم اليومية وكذا الحوافز الأصلية التي انبثقت عنها ممارسته. إن الاقتصاد ينسى أن تلك المؤشرات والمعادلات والجداول ليست سوى بناءات نظرية هدفها النهائي والأخير هو، بلغة هوسرل، وضع تنبؤات واستقراءات تمكن الناس من تحسين ظروف حياتهم اليومية. هكذا يصبح تفكير الاقتصادي مسجونا في تلك الشبكة من المؤشرات والمعايير التي يفترض أنها موضوعية ودقيقة، كما يصبح نشاطه موجها فقط نحو تحقيق علاقات وتوازنات معينة بين هذه المؤشرات والمعايير، وبذلك يصبح تدريجيا عاجزا عن رؤية الوضعيات اليومية التي يعيشها الناس. وبموازاة ذلك، يضفي الاقتصادي على بناءاته النظرية طابع الإطلاق، فيعتقد أنها تتمتع بوجود موضوعي مستقل عن إنجازات الإنسان وحوافز عالم العيش، وينتهي إلى رفض كل موقف يضعها موضع سؤال أو يدعو إلى نقدها ومراجعتها. إذا استوحينا منظور هوسرل، وجب أن نقول بأن كل البناءات النظرية الاقتصادية مشروعة وضرورية. فالخطورة لا تكمن في أن ينشئ الاقتصاديون خطاطات وشبكات لدراسة الوضعيات الاقتصادية والتحكم فيها، ولا تكمن كذلك في استعمال هذه الخطاطات والشبكات بأسلوب تقني، بل في الاعتقاد بأن هذه البناءات تحمل حقيقة منبثقة منها هي ذاتها، أي في نسيان أنها مجرد "رموز" تستمد حقيقتها من عالم التجربة اليومية المباشرة وأنها ليست سوى أدوات لتحقيق غايات تتجاوزها، وأنها قابلة بالتالي للنقد والمراجعة على ضوء معطيات التجربة اليومية. إننا، إذ نضفي طابع الإطلاق على البناءات النظرية، وإذ نعتبر أن تحقيق مؤشرات وتوازنات معينة غاية في حد ذاته، نسقط مسؤولية العلماء والاقتصاديين إزاء الناس وظروفهم مشاكلهم اليومية. قد يكون من المفيد في هذا السياق الوقوف عند مجال آخر هو مجال الفعل السياسي. يظهر في البداية أنه من الصعب الحديث عن أسلوب تقني في معالجة القضايا السياسية، فمجال السياسة هو مجال القضايا المتجددة باستمرار، في حين أن الأسلوب التقني يرتبط عادة بمجالات يفترض أن الحالات والوضعيات التي تنتمي إليها قابلة للتكرار. ومع ذلك، فإننا لا نحتاج إلى نظر طويل لندرك أن الأسلوب التقني وم يرتبط به من اتجاه التفكير والفعل البشريين للاتصال عن آفاق عالم العيش، أصبح واضحا في هذا المجال أيضا. فالأمور السياسية تتجه لأن تصبح في يد خبراء واختصاصيين في الميادين الأخرى. فهم يستفيدون في تفكيرهم وممارستهم إلى ملفات وتقارير يفترض أنها تعبر عن الواقع اليومي للناس. ولكنهم يصبحون تدريجيا سجناء لهذه الملفات والتقارير التي يشتغلون عليها وللأساليب والاقتراحات التي يرسمونها انطلاقا منها. وهكذا يبتعدون عن المشاكل اليومية لعالم العيش، ناسين أن تلك الملفات والتقارير لا تحمل في ذاتها أي معنى وحقيقة، وأن قيمتها الوحيدة تكمن في أنها تعبر عن وضعية قائمة في عالم التجربة اليومية. إن القرارات السياسية تكون في يد خبراء تتجه صلتهم مع بقية الناس ومشاكلهم اليومية إلى الانقطاع، وهذا ما ينتج عنه أن قراراتهم ومواقفهم لا تراعي دائما الوضعيات المشخصة فقط، بل كثيرا ما تتدخل فيها حسابات أخرى. صحيح أن الكلمة الأخيرة في البلدان الديمقراطية تبقى للمواطن. إلا أنه يجب أن نلاحظ أن مشاركة أغلبية المواطنين في الأمور السياسية لا تتجاوز، في الظروف العادية، ممارسة التصويت. ومعنى ذلك أن دور المواطن يقتصر غالبا على تزكية حزب من الأحزاب، دون أن يمتد إلى المشاركة في صنع قرارات هذه الأحزاب وبرامجها. ويرتبط بذلك انتشار ظاهرة العزوف عن السياسة عند المواطنين، فالمواطن أصبح يبتعد أكثر فأكثر من المجادلات السياسية، ويترك اتخاذ القرارات السياسية للخبراء والاختصاصيين في هذا المجال. فبرامج الأحزاب أصبحت تصنع داخل "مختبرات" يشرف عليها اختصاصيون، ولا يمكن لعموم المواطنين، بل وحتى للأعضاء العاديين في الأحزاب المشاركة فيها أو التأثير على اتجاهها. إن خطورة هذه الوضعية تكمن في أن الانفصال المتزايد للمجال السياسي عن عالم العيش اليومي يؤدي إلى أن يصبح هذا المجال خاضعا لقانونيته الخاصة، بدل أن يكون خاضعا مباشرة لمتطلبات عالم العيش. وهذا ما يفسر أن القرارات السياسية كثيرا ما تأخذ بعين الاعتبار أساسا ميزان القوى والحسابات الانتخابية. لم يعد سرا أنه كثيرا ما يتخذ حزي سياسي ما قرارا، فقط من أجل كسب أصوات فئة انتخابية معينة؛ كما لم يعد من النادر أن تضطر الأحزاب السياسية إلى تغيير بعض مواقفها المبدئية، حتى لا تفقد قاعدتها الانتخابية وحتى تتلاءم مع التوجه الانتخابي العام. هكذا ينشأ لدى المرء الانطباع بأن هدف الحزب الأساسي لا يبقى هو تحقيق برنامج سياسي، أو مشروع مجتمعي معين، بل يصبح هو المحافظة على وجوده واستمراريته على مستوى تمثيليته الانتخابية في مختلف المؤسسات. وفي نفس السياق يمكن أن نشير إلى أن إسناد المناصب السياسية أصبح يخضع في كثير من الأحيان لاعتبارات ضيقة، مثل ميزان القوى داخل الأحزاب وفيما بينها، أو وضعية التحالفات والتكتلات. كما أن الحملات الانتخابية لا تعتمد بالدرجة الأولى على شرح البرنامج السياسي للحزب ومشروعه المجتمعي، بل على أساليب تقنية، على وسائل التعبئة والدعاية الجماهيرية التي تسعى إلى صنع الرأي العام وتوجيه المواطنين. كل هذه العناصر تبين أن التعامل مع المشاكل المطروحة في المجال السياسي أصبح هو الآخر يتخذ طابعا تقنيا، يرتبط بهذا الطابع انفصال المجال السياسي وخبرائه عن عالم العيش، حيث تصبح الحسابات السياسية أكثر تأثيرا في توجيه العمل السياسي من مشاكل الناس اليومية. نتوقف أخيرا عند مجال التعليم والتكوين، وهنا يمكن أن نلاحظ بأن التعليم بشتى أشكاله يتجه إلى أن يتخذ طابعا تقنيا، حيث يتم إعداد الفرد للقيام بمهام محددةـ حسب آليات يتم تلقينها بكيفية تقنية. فمهمة التعليم تصبح هي إكساب الفرد مجموعة من الآليات أو المهارات، وتعويده على القيام ببعض السلوكات التي يفترض أنها قابلة للتطبيق بكيفية تلقائية، دون حاجة إلى التفكير. يتم نقل هذه الآليات والمهارات إلى الفرد كأساليب جاهزة دون أن يعرف الكيفية التي تم بها الوصول إلى هذه الآليات وضبط تلك المهارات، أي دون أن يعرف الإنجازات التي أسستها والحوافز الأصلية التي انبثقت عنها، تلك الحوافز التي لا يمكن أن يكون مصدرها إلا عالم العيش وتجاربه اليومية، وحيث أن هذه الآليات والقواعد تقدم مفصولة عن أساسها الأول وحوافزها الأصلية، فإنه يكون على المتعلم أن يطبقها بكيفية تقنية، فتلقينها لا يقوم على التفكير في أصلها ومعناها، بل على التمرن والعادة. قد يتمكن المتعلم من استعمال تلك الآليات بحذق ومهارة كبيرين، كما قد يتمكن بواسطتها من حل كثير من المشاكل، إلا أنه يصير شيئا فشيئا أسيرا لها، غير قادر على أن يتخطى في تفكيره وممارسته الحدود التي ترسمها. وبذلك يتجه شعوره بحرية فعله وبمسؤوليته عنه شيئا فشيئا إلى الاندثار. قد يولد هذا الكلام الانطباع بأن الأمر يتعلق هنا فقط بمساعدات التكوين التي تعد الأفراد الممارسة مهن يدوية. وهذا غير صحيح، ذلك أن التكوين في مختلف الدراسات النظرية أصبح يتخذ هو الآخر طابعا تقنيا، إنه أصبح أشبه ما يكون بالتكوين المهني فالعقلية التقنية تشتغل بكيفية واحدة، سواء في معالجة مشاكل عملية تطبيقية أو في معالجة القوانين والمعادلات والعلاقات الرياضية. وأكثر من ذلك، إن الطابع التقني للمعرفة العلمية لا يمس علوم الرياضيات والطبيعة فقط وبل حتى العلوم الإنسانية. إن الجامعات والمعاهد التي شأنها أن تنقل المعرفة العلمية وأن تهيء للبحث العلمي يطبعها الميل نحو المبالغة في التخصص، وهو ميل يرتبط ارتباطا وثيقا بالعلم الحديث وطابعه التقني. لا شيء يربط اليوم تقريبا بين مختلف الشعب والكليات سوى انتماؤها الرسمي إلى مؤسسة واحدة. فالحواجز تزداد وتقوى، ليس بين مختلف العلوم فقط، بل حتى بين الشعب والتخصصات التي تنتمي إلى نفس العلم. وداخل كل تخصص جزئي ينصب التكوين والإعداد لممارسة البحث العلمي على نقل مهارات وأساليب تقنية تتعلق بهذا التخصص الجزئي فقط. هكذا يتعمق اغتراب العلماء والباحثين عن بعضهم البعض، واغترابهم عالم العيش. ولهذا فليس من النادر أن نجد علماء بارزين في مجال تخصصهم، وفي نفس الوقت عاجزين عن إبداء رأي شخصي في قضايا تخرج عن نطاق تخصصهم. وليس من النادر كذلك أن نجد أشخاصا، تلقوا تكريمهم في تخصصات دقيقة جدا، وأبانوا عن مقدرة كبيرة جدا في مجال تخصصهم، يرتمون في أحضان تصورات ظلامية، عندما يعالجون المشاكل المشخصة التي يعيشها الناس. ولا عجب في ذلك، فإن المهارات الآليات التي أصبحت بالنسبة لهم مرادفة للعلم والعقل، تستطيع أن تعالج تلك المشاكل. إن آفاق العلماء والباحثين ضيق شيئا فشيئا، بحيث يبدو في نهاية الأمر كما لو كانوا مجرد أجزاء أو قطع داخل آلة كبرى، تعطي نتائج مفيدة، ولكن دون أن يعرفوا كيف تشتغل هذه الآلة، وما هي علاقتها الأصلية بعالم العيش. إن البحث العلمي يتجه، إلى أن يتحول إلى شغل مقسم بكيفية دقيقة، إلى مهام جزئية يقوم كل عالم بإحداها، ويكون مسؤولا عنها هي فقط. يسير هذا الشغل بكيفية أوتوماتيكية مستقلة، وذلك دون أن يشعر العلماء بأية ضرورة حية للتساؤل عن سياق المعنى الشامل، أو عن الأفق الذي يندرج فيه كل مشروع جزئي. معنى ذلك أن المسؤولية الشاملة عن سير البحث تخرج من يد العلماء والعلم عموما. وهذا أمر له جذوره التي ترجع إلى هيمنة النزعة الموضوعية على العلم الحديث، تلك النزعة التي تضع أسئلة المعنى والغاية والحرية والمسؤولية خارج مجال العلم.
3 – هذه الإشارات تبين سيادة الأسلوب العلمي-التقني في توجيه الحياة وتنظيمها وفي معالجة مشاكل العالم الراهن، وتبرز بالتالي عمق تحليلات هوسرل وقيمتها. إن القلق إزاء الحياة في عالم مصوغ على أساس تأويل علمي-تقني للأشياء يتجه إلى الانفلات من كل علاقة بالتجربة اليومية وآفاقها، أصبح شائعا. إلا أن هوسرل يعتقد أن الفينومينولوجيا الترنسندنتالية وحدها، بكشفها عن جذور العلم الحديث والنزعة الموضوعية المرتبطة به، تفتح الطريق أمام تجاوز هذه الوضعية. والمشكل لا يمكن بالضبط في توزع التخصصات العلمية أو في الطابع التقني الذي يهيمن على المعرفة العلمية في حد ذاته، بل في انفصال العلوم عن الفلسفة. "إن التخصص الذي كثيرا ما نشتكي منه ليس في حد ذاته عيبا، لأنه ضروري في إطار الفلسفة الكلية، كما أنه من الضروري إنشاء منهج فني في كل تخصص. ولكن الخطير هو فصل الفن النظري عن الفلسفة" (198). إن التخلي عن القيام بتأملات فلسفية تبرز الإنجازات المؤسسة للعلوم الحديثة، أدى إلى نشأة فكرة موضوعية النزعة عن العالم، فكرة العالم الموضوعي في ذاته والذي يحمل معقوليته الرياضية الخاصة، التي يقوم البحث العلمي إلا بكشفها والتعبير عنها. وهكذا اتخذت العلوم صيغة المتابعة التقنية-المنهجية للعالم القائم في ذاته، الذي يتجزأ إلى قطاعات تقابلها علوم جزئية، بحيث يسعى كل علم إلى السيطرة على قطاعه في مسلسل لا نهائي من البحث. ومعنى ذلك أن البحث العلمي ينفصل عن آفاق عالم العيش ويصبح خاضعا لغائيته الخاصة. أما عالم العيش فهو لا يستحق، حسب النزعة الموضوعية السائدة، أية دراسة علمية، لأنه لا يحمل أية حقيقة، إنه مجرد تعبير ذاتي عن العالم الموضوعي الرياضي الموجود في ذاته. وحيث أن مجموع القطاعات الجزئية تغطي، حسب النزعة الموضوعية، كلية العالم الموضوعي، فإنه ينتج عن ذلك أن مجموع العلوم الجزئية تغطي العالم بأكمله، وتحل بالتالي محل الفلسفة. إن هذا الفهم للعلم والفلسفة يؤدي إلى إبعاد كل الأسئلة الحاسمة بالنسبة للإنسان من مجال العلم، وإلى أزمة المعنى والتوجه التي تعرفها الثقافة الأوربية. وهوسرل لا يرى مخرجا من هذه الأزمة إلا بالرجوع إلى الفلسفة وتجديد معناها الأصلي كعلم صارم بكلية الموجود، أي العالم. وهو لا يريد بذلك للفلسفة أن تنافس العلوم الوضعية أو أن تعوضها. فهوسرل بفهم العالم بشكل مخالف للنزعة الموضوعية التي تسود العلوم. هذه النزعة تتصور العالم "كموضوع كبير" يضم كل الموضوعات والأحداث الجزئية. أما هوسرل فيفهم العالم كعالم للعيش، أي بصفته الأفق الذي يسمح بالظهور الذاتي-النسبي لكل الموضوعات والذي تنتظم فيه كل إمكانيات تجربتنا وفعلنا. هذا العالم اليومي، عالم التجربة المباشرة، الذي يتميز بأسلوبه الفضفاض وطابعه الذاتي-النسبي، هو الذي يشكل الأرضية المسبقة لكل ممارستنا النظرية والعملية، وكل أسئلتنا وأنشطتنا، وهو وحدها لعالم الحقيقي. أما العالم الموضوعي الدقيق الذي تهتم به العلوم فهو مجرد بناء نظري منهجي، تم إنشاؤه انطلاقا من البداهات الذاتية-النسبية لعالم العيش اعتمادا على منهج الأمثلة. مع سيطرة العلم الحديث نشأ الاعتقاد بأن العالم هو موضوع الأبحاث العلمية الجزئية، وهذا ما يقود إلى القول بأن الفلسفة أصبحت، مع تشعب التخصصات الجزئية وتغطيتها لكلية العالم، أمرا زائدا. على خلاف ذلك، يبين هوسرل أن العالم بمعناه الحقيقي كعالم للعيش هو منسي الممارسة العلمية. ولهذا فالفلسفة لازالت ضرورية، لأننا يمكن أن نثبت انطلاقا من تحليل تكويني توقف العلم الموضوعي على التجارب اليومية لعالم العيش. فموضوعات العلم هي أشكال للمعنى مدينة بوجودها لإنجازات ذاتية، لممارسة نظرية منهجية تنتمي هي ذاتها إلى العيش في عالم العيش. كما أن العالم العلمي الذي تعتقد النزعة الموضوعية في لا نسبيته إزاء الذات، ليس سوى نتاج لموقف معرفي نوعي نشأ تاريخيا. إن تمييز هوسرل بين العالم كما تفهمه النزعة الموضوعية وبين عالم العيش يبين أن العلوم مهم تقدمت وتشعبت لا يمكن أن تغني عن الفلسفة. والفينومينولوجيا التي يتصورها هوسرل كإحياء وتجديد للمعنى الأصلي للفلسفة ينبغي أن تهتم بعالم العيش الذي هو منسي العلوم الحديثة. يعتبر هوسرل في كتاباته الأخيرة أن المهمة الأساسية للفينومينولوجيا هي إنشاء علم بعالم العيش في ذاتيته ونسبيته. وهذا العلم يختلف عن العلوم الوضعية الحديثة لأنه يتعلق بما هو ذاتي ونسبي، ولكنه لا يسعى إلى إنشاء كوسمولوجيا أو أنطولوجيا بالمعنى التقليدي، لأنه مهمته تكمن في دراسة عالم العيش في علاقته مع الذات الترنسندنتالية، وفي بيان كيف يتأسس هذا العالم بناء على إنجازات هذه الذات. هذا العلم سيمكن من إعادة ربط العلوم بعالم العيش وآفاقه، وبالتالي بمسؤولية الإنسان، وسيفتح المجال للقيام بمعالجة علمية لأسئلة المعنى والغاية التي تنتمي إلى الفلسفة بمعناها الدقيق. لا شك أن تصور هوسرل للعلم الفينومينولوجي بعالم العيش ظل مجرد مشروع صحيح أنه يمكن قراءة كثير من دراسات هوسرل كأجزاء لهذا العلم، إلا أن هوسرل، رغم بعض الإشارات الأساسية، لم يتمكن من أن يبرز بكيفية نسقية ومشخصة البنيات الأساسية لعالم العيش. بل أكثر من ذلك، إن هذا العلم يطرح عدة مشاكل. إنه يجب أن يكون علما صارما دون أن يكون متعلقا بما هو موضوعي، فكيف يمكن بلوغ قضايا وحقائق لها صلاحية عامة ومتعلقة في نفس الوقت بما هو ذاتي ونسبي؟ يرى هوسرل أن هذا السؤال ينطلق من الفهم الضيق الموضوعي النزعة للعلم الذي يعتبر أن هناك نمطا واحدا للعملية والنمط الذي بلورته العلوم الفيزيائية-الرياضية الحديثة، أما هوسرل فيرفض القول بإطلاقية هذا النمط، ويرى أن العلم الفينومينولوجي بعالم العيش يتطلب نمطا جديدا من العلمية يسمح بدراسة ما هو ذاتي ونسبي دراسة علمية. إلا أن هوسرل مع ذلك لم يبين ملامح هذا النمط من العملية، بل وأكثر من هذا، إن المفارقات والصعوبات المرتبطة بمفهوم علم عالم العيش والتي عرضها هوسرل في مؤلفه الأخير تؤكد أنه لم يتوصل إلى حل مرض لهذا المشكل. هذه الملاحظة لا تقلل من قيمة تحليلات هوسرل وقدرتها على إضاءة أزمة المعنى والتوجه التي تطبع العلم الراهن، كما أنها لا تقلل من أهمية الدروس التي لا زال بإمكاننا استخلاصها من أعمال هوسرل. وسأكتفي هنا بالإشارة إلى نقطتين. تتعلق النقطة الأولى بتأويل هوسرل للعلوم الحديثة والنزعة الموضوعية المرتبطة بها. لقد تمكن هوسرل بفضل تطوير المستمر للمنهج الفينومينولوجي، وخاصة بعد انتقاله إلى الفينومينولوجيا التكوينية، من إنجاز تحليل تاريخي للعلم يعود به إلى أسسه وحوافزه الأصلية في عالم العيش. وهو يؤكد في نفس الوقت مشروعية العلوم الحديثة وحدودها، كما يبين الانحرافات والتقنيعات التي واكبتها، والتي جعلتها تتحول إلى فنون تقنية للإنتاج النظري مفصولة ومغتربة عن أساسها في عالم العيش اليومي. إن ما نستفيده الآن من هذا التحليل هو ضرورة الحذر إزاء الأسلوب العلمي-التقني الذي هو في الطريق إلى أن يصبح كونيا، هذا الأسلوب الذي أصبح يطبع تفكيرنا وممارستنا، والذي صرنا نعتبر وجوده وسيادته أمرا بديهيا ومقبولا من تلقاء ذاته، لا حدثا تاريخيا تم بفعل سلسلة من الإنجازات والتأسيسات. وهكذا أصبح هذا الأسلوب العلمي-التقني سائدا في كل المجالات ومقبولا دون تساؤل، إلى حد أننا أصبحنا عاجزين عن تصور إمكانيات لوجودنا وفعلنا خارج الحدود التي يرسمها لنا، وأصبح كل همنا مختزلا في البحث عن أفضل الطرق لتشغيل الآلة العلمية-التقنية، معتقدين أننا سنحل بذلك المشاكل المطروحة على الوجود البشري. أما النقطة الثانية فهي تشبث هوسرل الصارم بالفلسفة وبمهمتها الأصلية في زمن سيادة التوجه العلمي-التقني. إن هوسرل لا يتجاهل الحدث التاريخي للعلم الحديث، ولا يدعي أن الفلسفة يمكن أن تقوم بمهمة العلوم الوضعية، ولكنه يتساءل عن كيفية المحافظة على المهمة الأصلية للفلسفة مع وجود العلم الحديث. إن مهمة الفلسفة لا تكمن في التعبير عن مختلف قطاعات الوجود، بل في الرجوع إلى عالم العيش، الذي هو أرضية كل ممارسات الإنسان وإنجازاته، بما فيها العلوم الحديثة. إن هوسرل بعيد جدا عن تجاهل الوضعية الجديدة التي تتميز لظهور العلوم الوضعية، ولكنه يتشبث دون هوادة بضرورة الفلسفة وقضاياها وأسئلتها، حتى في زمن سيادة العلم والتقنية. لاشك أن هذا الموقف يتعارض مع الرأي السائد حول الفلسفة في الوقت الراهن، الذي يرى في تقدم العلم والتقنية مفتاح لحل كل مشاكل الوجود البشري، ويدعو إلى اعتبار الفلسفة أمرا ينتمي إلى ماضي الإنسان أو إلى إعطائها دورا محدودا تابعا للعلم. وعلى العكس من ذلك، فإن ما نتعلمه من هوسرل هو أن العلم والتقنية لا يغنيان عن الفلسفة، بل يجعلان وجودها أكثر ضرورة لتجاوز أزمة المعنى والتوجه التي تطبع العالم الراهن ولتجنب السقوط في "البربرية وعداء الروح". لاشك أن دعاة العلم والتقنية، بعدائهم للفلسفة، لا يعبرون سوى عن انزعاجهم منها، باعتبارها ما يسائلب قناعاتهم الهشة ويزعزع طمأنينتهم الساذجة وينبههم إلى انسياقهم في مسلسل لا يعرفون له معنى أو غاية. إلا أن الخطير هو أن تسقط الفلسفة ذاتها ضحية الأسلوب العلمي-التقني السائد، وأن توجه كل جهدها للتكيف معه والخضوع لمقاييسه. إن الفلسفة عندما تتخذ هذا الموقف تتخلى عن معناها الأصلي، الذي يقتضي وضع المسبقات والبداهات موضوع سؤال. إن الفلسفة لا يحق لها أن تتجاهل الوضعية الجديدة التي خلفتها العلوم، ولكن لا يحق لها كذلك أن تستسلم لها، وأن تضعها فوق كل نقد، وأن تعتبرها أمرا بديهيا يجب قبوله دون تساؤل. يجب على الفلسفة أن تبقى وفية لمعناها الأصلي، الذي يفرض عليها أن تضع الأسلوب العلمي-التقني السائد ذاته موضع سؤال. الحذر الفلسفي إزاء التوجه العلمي التقني السائد والمتمسك بالمهمة الأصلية وبالمعنى الأصلي للفلسفة: لا يتعلق الأمر هنا بإجابات، بل بعنوان لأسئلة ومهام مطروحة على الفلسفة في ظروف العالم الراهن.
لائحة المراجع:
- Die krisis der europeischen Wissenschaften und die transzendentale Phenomenologie. Eine Einleitung in die phenomenologische Philosophie, Husserliana Bd. VI, hrsg. von W. Biemel, 2. Auflage, Den Haag 1976.
- أزمة العلوم الاوربية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية. مدخل إلى الفلسفة الفينومينولوجيا.

- Ideen zu einer reinen Phنnomenologie und phنnomenologischen Philosophie. Zweites Buch. Phenomenologische Untersuchungen zur constitution, Husserliana Bd. IV, hesg. ven M. Biemel, Den Haag 1952.

- أفكار من أجل فينومينولوجيا خالصة وفلسفة فينومينولوجية. الكتاب الثاني، أبحاث فينومينولوجية في التأسيس.

- Ideen zu einer reinen Phenomenologie und phنnomenologischen Philosophie. Drittes Buch. Die Phenomelogie und die Fundamente der Wissenschaften, Husserliana Bd. V, hrsg. von M. Biemel, Den Haag 1952.

- أفكار من أجل فينومينولوجيا خالصة وفلسفة فينومينولوجية. الكتاب الثالث، الفينومينولوجية وأسس العلوم.

- Erste Philosophie (1923/24). Erster Teil. Kritische Ideengeschichte, Husserliana Bd. VII, hrsg. von R. Boehm, Den Haag 1956.

- الفلسفة الأولى (1923/24). القسم الأول. تاريخ نقدي للأفكار.
- Erste Philosophie (1923/24). Zweiter Teil. Theorie der Phenomenologischen Reduktion, Husserliana Bd. VIII, hrsg. von R. Boehl, Den Haag 1959.

- الفلسفة الأولى (1923/24). القسم الثاني. نظرية الإرجاع الفينومينولوجي.

- Phenomelogische Psychologie. Vorlesungen Sommersemester 1925, Husserliana Bd. IX, hrsg. von W.Biemel, Den Haag 1962.

- السيكولوجية الفينومينولوجية، درس دورة الصيف 1925.

- Analysden zue passiven Synthesis, Husserliana Bd. XI, hrsg. von M. Fleischer, Den Haag 1966.

- تحليلات للتركيب الانفعالي.

- Aufsetze und Vortrege (1922-1937), Husserliana Bd. XXVII, hrsg. von T. Nenon und H.R. Sepp, Dordrecht/Boston/London 1989.

- مقالات ومحاضرات (1922-1937).

- Formale und transzendentale Logik. Versuch einer Kritik der logischen Vernunft, 2, Auflage, Tübingen 1981.

- المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي. محاولة لنقد العقل المنطقي.

- Erfahrung und Urteil. Untersuchungen zur Genealogie der Logik, redigiert und hrsg. von L. Landgrebe, 6, Auflage, Hamburg 1985.


- الحكم والتجربة. أبحاث في جينيالوجيا المنطق، حرره وأصدره ل.لاند جريبه.

++ لائحـــــة المصطلحـــــات ++
الترجمة العربية المقترحة
الترجمة الفرنسية
المصطلح باللغة الألمانية
أمثل
Ideal
ideal
أمثلة
Idealization
idealisierung
موضوع أمثل
Idéalité
ideslitet
قصد
Intention
intention
قصدي
Intentionnel
intentional
قصدية
Intentionalité
intentionnalitet
عالم العيش
monde-de-la-vie
lebenswelt
إنجاز
Prestation
leistung
حافز
Motivation
motivation
نزعة موضوعية
Objectivisme
objektivismus
انفعالي / فعال
passif/actif
passiv/aktiv
تأسيس أصلي
foundation originelle
urrstiftung
----------------------------------------------------
* ) تشير الأرقام الواردة في النص بين قوسين إلى صفحات كتاب "الأزمة". بالنسبة لباقي الإحالات سأثبت بكيفية مختزلة عنوان الكتاب بالغة العربية وبجانبه رقم الصفحة، على أن أثبت في نهاية النص باللغة العربية والألمانية العناوين الكاملة لمؤلفات هوسرل التي تمت الإحالة إليها. كل الإحالات تعتمد النص الألماني. راجع كذلك ثبتا بأهم المصطلحات في نهاية هذا النص.
الجمعية الفلسفية المغربية- جميع الحقوق محفوظة - 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق