بول
ريكور
الخطاب
الديني مزدوج: قبل مفهومي و مفهومي:
ترجمة:
عبد المجيد خليفي.
إنّ التجربة
الدينية لا يمكن اختزالها بالضرورة في اللغة الدينية. لكن مع ذلك كلّما شدّدنا على
الشعور بالارتباط المطلق و على الثقة اللامحدودة و على الأمل بدون ضمانة و على
الوعي بالانتماء إلى تراث حيّ، و على الالتزام الكلّي في المستوى الأخلاقي و السياسي،
نجد أنّ كلّ لحظات التجربة الدينية تجد في اللغة وساطة ضرورية ليس فقط للتعبير
عنها، بل لجعلها تتمفصل في المستوى نفسه الذي تظهر فيه و تنمو. فالتجربة غير
الموصولة باللغة تظلّ عمياء مبهمة و لا تواصلية، و إجمالا فالأمر لا يتعلّق بلغة
في تجربة دينية، بل لا وجود لتجربة دينية بدون لغة.
بيد أنّ هذه
اللغة، لكي تمارس وظيفتها التمفصليّة و التعبيريّة و التواصليّة، فهي لا تتطلّب
نظمها في لغة تأمّلية، و لنقل في لغة مرتبطة بالمفهوم. و تشهد على ذلك الأجناس
الأدبية التي تحفل بها التوراة و العهد الجديد، ففيها نصادف قصصا و قوانين و نبوءات و حكما
و تراتيل و رموزا و أمثالا. و الحال أنّ هذه الأجناس الأدبية في مستواها القبل ـ مفهومي،
تتكوّن فيها اللغة الدينة الأوّلية. فمن المؤكّد أنّ هذه اللغة عندما تخضع
لتأويلات متباينة و جدالات خارجية و كذا لتمزقّات داخلية خاصّة بالجماعة المؤمنة،
فإنّها تكون مجبرة على التعبير عن نفسها في أفكار موثوقة، و على المجاهرة بالإيمان
حيث يتميّز أوّلا عمل المفهوم. هذا بالإضافة إلى أنّ "عقيدة" الكنيسة
المسيحية ـ عندما تكون في مواجهة مع اللغة الفلسفية ـ تستعمل وسائل غير ملحوظة أو
غير مستعملة للمفهومية سواء باللجوء إلى استعارة خارجية أو إلى توضيح داخلي من أجل
أن توضع في نفس مستوى الفلسفة. و بذلك تدخل اللغة الدينية على نحو ملائم في
القانون التيولوجي. فمن هذا التغيير للقانون و الجدل بين المستوى القبل ـ مفهومي و
المستوى المفهومي نشأ جنس مختلط للغة يمكن نعته من الآن فصاعدا بلفظ الخطاب الديني.
السمة
الرمزية للخطاب الديني:
هناك سمات خاصّة
للمستوى القبل ـ مفهومي لهذا الخطاب الذي نقترحه هنا للاستكشاف، إذ يمكن تسمية هذا
المستوى من الخطاب "بالرمزي" لأسباب سنشرحها فيما بعد. و يمكن القول منذ
الآن إنّ اللفظ سيؤخذ في معنى أقلّ انتشارا بالنسبة للمناطقة و العلميين الذين لا
يستعملونه أثناء حديثهم عن المنطق الرمزي أو الرمز الرياضي أو الرمز الكيميائي.
فالمدلول الواسع الذي نعطيه للفظ رمز هو الذي منحه
إليه "كاسيرر" في "فلسفته عن
الأشكال الرمزية"، يعني بنيات التجربة الإنسانية المتوفّرة على قانون ثقافي و
القادرة على ربط أعضاء الجماعة فيما بينهم و الذين يعترفون بهذه الرموز كقواعد
لسلوكهم. و بالمقابل فاللفظ سيؤخذ في معنى أكثر انتشارا لا يريده له الكتّاب الذين
يربطون فكرة المعنى "الخفي" ـ الذي هو فقط في متناول المطّلعين على
المذهب "الباطني" ـ بفكرة الرمز· و في هذا الصدد فإنّ المدلول الجزئي
الذي نعطيه للفظ رمز هو الذي اعترف به "بيرس" في سيميوطيقاه،
يعني العلاقة بين مستويين من الدليل مؤسّسة على التشابه. فالتحليل اللاحق سيتمّ
بين هذين المعلمين الأقصيين: مستوى المعيار الثقافي و مستوى نزعة التشابه السيمانطيقية.
الرمزية
المحايثة للثقافة:
ففي مرحلة أولى
سنأخذ بعين الاعتبار وظيفة الرمزية في مستواها القبل ـ أدبي"، يعني قبل أن
تسمح لنا بإنتاج مثبت في نصوص بالمعنى الدقيق للمؤلّفات المكتوبة. فالحضارات التي
لم تعرف الكتابة كما تصفها الإتنولوجيا (المسّماة أنتربولوجيا في التقليد
الأنكلوسكسوني) لا تعرف سوى هذه الوظيفة للرمزية. فرمزية التقليد الشفوي باعتبارها
تفتقد إلى قانون واضح و وجود متميّز، تكشف عن نفس البعد الثقافي، يعني كونها
"واسطة رمزية". فإذا كان بإمكان التجربة الإنسانية أن تصوّر كلاميا و تحكى
و تؤطّر في رموز ظاهرة و في رسوم و قصص و أساطير، فذلك لأنّها كانت دائما مرتبطة
من الداخل برمزية محايثة، ضمنية و أساسية، و التي يعطيها الأدب، القانون الواضح
للرمزية المستقلة و الصريحة و ذات التمثيلية.
السمات
الخمس للرمزية :
يمكن تحديد هذه
الرمزية في بعض السمات التالية:
* يجب أوّلا التركيز على الطابع "العمومي" للتفمصلات الدالّة
للفعل. فـحـسـب عـبارة "كليفـورد جيرتـز"
أحد أساتذة الأنتروبولوجيا الثقافية الأمريكية فـي:
"The Interpretation of cultures": فالثقافة هي عمومية لأنّ الدليل عمومي". و "كلود ليفي ستراوس" لن يفنّد بدون شكّ هذا القول.
فهو الذي أكّد بعد "مارسيل موس" ـ أن ليس المجتمع هو الذي ينتج الرمزية، بل الرمزية هي التي
تنتج المجتمع. من هنا تأكيد الطابع التأسيسي للوسائط الرمزية التي تضمن
دلالة الفعل. فهذا الطابع يتمفصل مع سمة الفعل المشار إليه أعلاه، يعني أنّه يؤول
إلى التفاعل بين عدّة عوامل. لكن فكرة التأسيس تضيف لفكرة التفاعل هذه، السمة التي
يؤلّف بها التأسيس كلّيات Totalités غير قابلة للاختزال إلى
أجزائها (أسر، جماعات متساوية في السنّ، طبقات اجتماعية، مجتمعات، دول و حضارات) و
التي تنسب أدوارا للأفراد الذين يشكّلونها، حيث ترتكز فيها أولى وظائف الرمزية
المحايثة.
* لنركز أيضا على الطابع
"البنيوي" للتركيبات الرمزية. فالرموز تشكّل
نسقا في حدود أنّها تحافظ على علاقات التعاون أو التفاعل أو كما قيل أعلاه
عن علاقات بين الأدلّة. فقبل تأليف نصّ على المستوى الأدبي، تقدّم الرموز تركيبا
دالاّ. و هكذا لفهم طقس ما، يتعيّن التمكّن من إعادة وضعه في نسيج الطقوس التي من
أجل فهمها يجب موضعتها بدورها في عبارة خاصّة، و بصورة تدريجية في مجموع المعتقدات
و التواطؤات التي تشكّل شبكة الثقافة من أجل تثمين الدور الاجتماعي للطقوس
الممارسة و تأثيرها على البنيات الاجتماعية الأخرى. فهنا سيبدو إحلال البنيوية
اللسانية محلّ الأنتروبولوجيا مبرّرا.
* يرتبط أيضا مفهوم
"القاعدة" أو "المعيار" بمفهوم النظام. و يمكن الحديث بهذا
المعنى عن تنظيم رمزي و تحديد للفعل الإنساني كسلوك محكوم بقواعد و ذلك حسب peter winch في the idea of social
science،
كما يمكن أيضا التركيز مع "كليفورد جيرتز"
على التشابهات و الاختلافات بين الشفرات الوراثية و الشفرات الثقافية. فالواحدة و الأخرى
يمكن أن توصف "كبرامج" تشفّر encodent الفعل.
لكن على خلافات الشفرات الوراثية، تستقرّ الشفرات الثقافية في مناطق ضعف التنظيمات
الوراثية. و لهذا السبب يمكنها إذن أن تقلب مجراها
subvertir و ذلك
بإحلال قصديتها و غايتها محلّ الإكراهات التنظيمية للشفرات الوراثية.
* كما أن فكرة القاعدة تميل
بدورها نحو فكرة "التبادل". "فكلود ليفي
ستراوس" في أعماله الأولى قد بيّن كيف أنّ تبادل الممتلكات و الرموز و
النساء يشكّل أنساقا متجانسة داخل نفس الثقافة. فبإدخال معيار التبادل نبعث واحدا
من الأدلّة الأكثر قدما للفظة رمز كعلامة اعتراف بين فريقين، كلّ واحد منهما حارس
لجزء مقطوع من الرمز الكلّي، و أن تقارب هذين الجزأين يعطي للرمز قيمته الدالّة
التي تفعل فعلها و ذلك بإعادة ربطه (هكذا بالمجاهرة بالإيمان الكنسي المسيحي
البدائي التي تسمّى أحيانا رموزا، لأنّ أعضاء الجماعة المؤمنة بوسائلها الخاصّة
يراقبون انتماءهم المشترك لهذه الجماعة). فهذا المعيار الجديد يؤكّد المعيار
السابق و يصحّحه في نفس الوقت، فبقدر ما تبرّر قاعدة التبادل التحويل إلى
السوسيولوجيا الثقافية للإجراءات المطبقّة أوّلا على النظام السيميولوجي بامتياز،
أي اللغة، بقدر ما يحذّر الطابع الملموس للتبادل الأنتربولوجيا ضدّ فصل الرمزية عن
الفعل الذي يحكمها. ففي الفعل الاجتماعي تفعل قاعدة التبادل فعلها، حيث تنتمي إلى
ما أسماه "كليفورد جيرتز" "المنطق غير الصوري للحياة الواقعية". و بهذا
المعنى فترابط النسق الرمزي المغلق ليس هو المعيار الرئيس لوصفه، بل هو فعاليته
الاجتماعية.
* يمكن القول ـ لكي نوقف التحليل
هنا ـ إنّ الأنساق الرمزية تقدّم سياقا وصفيّا
للأفعال الفرديّة. فمثل هذه القاعدة الرمزية "كعبارة من قبيل..."
"و تبعا لـ..." تسمح لسلوك معزول أن ينظر إليه "كدالّ" لهذا
الشيء أو ذاك. ففهم إشارة رفع اليد يعني حسب هذه الحالة أو تلك "تأويلها
كـ" تحيّة، كتهديد، كتعيين، كتوسّل... أو كتصويت. و بهذا المعنى فالرمز في حدّ ذاته هو قاعدة للتأويل. فالرموز قبل
أن تكون إذن موضوعات للتأويل هي مؤوّلات داخلية للظواهر الثقافية: فبموجب هذه
العلامات المحايثة للتأويل، فإنّ مثل هذا الفعل الخاصّ كـ يصلح لـ...و يعدّ كـ...
و باختصار "يؤوّل" كـ.. .يسمح للتحليلات الصورية البنيويّة، بفضل هذه
الوظيفة أن يعاد توجيهها نحو التأويل الواقعي. و في المحصّلة، فإنّ الرموز
المحايثة للجماعة و لثقافتها تمنح "وضوحا أساسيا" للفعل و تشكّل معه شبه
نصّ. فليس المؤوّلون للأعمال الثقافية في نصّ الأنتربولوجي أو السوسيولوجي هم
الذين يصبحون موضوعات للتأويل، بل التبادلات وحدها بين شبه النصّ الثقافي و النصّ
العلمي هي التي تسمح للعلم الاجتماعي بأن يبقى حديثا مع أجانب، و الذي بفضله تصبح
تأويلاتهم في وضع حواري مع تأويلاتنا. فهذا الهاجس هو الذي يبقي الأنتروبولوجيا
الثقافية في وضع تبعية للشعرية.
الرمزية
الصريحة و الأسطورة التنظيم الرمزي في الكتابة:
لقد وقفنا في
التحليل السابق عند أحد طرفي الدائرة الرمزية الذي هو السمة الثقافية للرمز المشار
إليه إذن. و سننتقل من الآن فصاعدا إلى القطب الآخر المتمثّل في البنية
"التشابهيّة" للرمز من وجهة نظر نزعته السيمانطيقية. و الحال أنّ هذه
البنية لا تتكّشف إلاّ عندما تنفصل الرمزية في المستوى الأخير عن البنيات
الاجتماعية الأخرى لكي تصبح طبقة couche متميّزة داخل الحقل الثقافي،
و أنّ هذا الانفصال قد تمّ مع الأدب المكتوب. غير أنّه منذ المرحلة الشفوية،
أمكننا رؤية الرمزية تتكثّف في الأنشطة الشفوية المستقلّة و القابلة للتحديد على
الوجه الأكمل. فالرموز التي سنتحدّث عنها الآن، تستجيب لهذا الاعتبار المزدوج:
فالنزعة السيمانطيقية التشابهيّة من جهة هي متكشفة بشكل واضح فيها، وهي من جهة
أخرى تتجسّد في أفعال Actes اللغة المحدّدة بشكل دقيق،
حيث أنّ الكتابة لا تجد صعوبة في تثبيتها حتّى و إن كان لها وجود شفوي قديم قبل أن
ينقشها الكتّاب المحترفون على لوحة صلبة، و يعطوها وجودا نصيّا. فهذه الرمزية
الصريحة و المتميّزة هي الرمزية بمعناها الحقيقي.
حصول
معنى ثان بواسطة معنى أوّل:
نقصد مؤقّتا
بالبنية التشابهية Analogique، بنية العبارات "بمعناها المزدوج"
حيث يحيل فيها المعنى الأوّل إلى معنى ثان. و هذا الأخير هو الذي يقصده الفهم فقط،
دون أن يتمكّن مع ذلك من الوصول إليه مباشرة. يعني بوجه آخر أنّه بواسطة المعنى
الأوّل سنوظّف فيما بعد المجاز كالذي يميّز لحظة التجديد السيمانطيقية بشكل خاصّ.
و في هذه اللحظة نعتبر أنّ الوظيفة الإجمالية للرمز و بالخصوص امتداده، هي أكثر
شمولية من تلك المتعلّقة بالمجاز، مادامت تشبه وظيفة الأساطير المأخوذة بمعنى
حكايات الأصول. كنت قد نقّبت فيما مضى في "رمزية" الشرّ في منطقة
التعابير الرمزية المبنينة ( من البنية) جيّدا بصفة خاصّة، مثل تعابير الإقرار
بالشرّ، و على وجه الخصوص تعابير الإقرار بالذنوب في لغة التقليد الكنسي المسيحي.
فرمزية الإقرار قد تبوّأت إذن مكانة في النشاط اللغوي المحدّد بكيفيّة مضبوطة، و الذي
له قوّته الخاصّة الغير معبّرة Illocutionnaire و المتمثّلة في الإقرار. و كنت قد أشرت
في تلك المرحلة إلى سِمتين كبيرتين لهذه الرمزية التي أنوي إعادة وضعها اليوم في
قالب أكثر اتّساعا.
رمزية
مبنينة:
فالسمة الأولى
لهذه الرمزية هي بالتأكيد طابعها "المُبَنْيَن". و يمكن فعلا الكشف عن
طبقات عديدة من بين رموز الشرّ الأولى المقرّ به Confessé، إذ نصادف في أدنى درجته، رمزية الطاهر و النجس
المرتبطة بطقس التطهّر الذي لا تختلط فيه الطهارة و الوضوء أبدا بأدران الجسد.
فالقذارة هي مثل الوسخ دون أن تكونه، و أن رمزية طقوس الطهارة هي التي تـكشف ـ على
الصعيد العملي ـ المهمّة الرمزية المتضمّنة في تمثّل التعفّن، قبل أن تعيّن
القوانين الدينية أو المدنية حدود الطاهر و النجس، و أنّ النصوص الأدبية سواء كانت
إغريقية أو عبريّة، تضفي قوّة لغة قابلة للنقل
Transmissible على
الإحساس القاتم. فجناس أفلاطون في "كراتيل" هو مفيد في هذا الصدد:
أبولون هو الإله الذي ينظّف Apolouôn، و لكنّه أيضا الإله الذي يفوه بالحقيقة
الأنطولوجية Haploun. فإذا كان
الصدق و الحالة هذه يمكن أن يكون طهارة رمزية، فإنّ كلّ شرّ هو لوثة Tache
رمزية. فالشرّ في درجته القصوى يتميّز بشكل ترابطي بكونه ذنبا
"أمام الله" و خطيئة. و هذا مناقض لروح المسيحيّة ذات المصادر الرمزية
العظيمة. و لهذا السبب فهو يعبّر عن نفسه في أكبر عدد من الصور: خطأ الهدف، و اتّباع
الطريق الملتوية و التمرّد و صيرورة الزنا و الانحناء للريح و للعاصفة و لتفاهة
الفراغ و لكلّ الرموز التي لها مقابلها في رمزية الغفران كالهداية و التكفير عن
الإثم و الطاعة و الإخلاص بشكل موثّق وهو ما عبّرت عنه Jeremie بقولها:
" إِئْذَن لي بالتوبة و سأتوب". و أخيرا يتميّز الشرّ أيضا في مرحلة
أكثر تهذيبا بجوّانية الإثم. إنّه الذنب في صورته الجنائية. و هكذا رأت رموز جديدة
النور: كعبء الخطيئة و استبداد الحيرة و قرار الإدانة من لدّن قاض يحكم بشكل تعسّفي.
و يمكن القول صراحة إنّ هذا الصرح الرمزي ينحو نحو المستوى المفهومي لحرّية العبد Serf-libre التي
تأخذ كلّ دلالتها من الرمزية نفسها بموجب العمل الدؤوب لإعادة التأويل الذي به يصبّ
مستوى رمزي في آخر. فالمفهوم ليس سوى "النواة" "Telos" القصديّة
لهذه السيرورة الشاملة لإعادة التأويل.
رمزية
من طبيعة سردية:
أمّا السمة
الثانية للرمزية فليست أقلّ أهمّية في تحليلنا اللاحق، و لن نتناولها ثانية إلاّ
في خانة: الرمز و السرد، إذ من الملاحظ في الواقع أنّ هذه الرمزية الأولى لن تكون
هي نفسها مستساغة لنا إلاّ عبر رمزية من درجة ثانية و من طبيعة سرديّة أساسا هي
رمزية "أساطير" البداية و النهاية. و أنا آخذ هنا لفظة أسطورة بالمعنى
الذي نجده عند "مرسيا إلياد" مثل حكاية
الأحداث المؤسِّسة (بكسر السين) الطارئة In Illo Tempore، وهو ما أسميته قبلا بحكاية الأصول. إذ من
المؤكّد أنّ الأسطورة ليست أسطورة إلاّ بالنسبة إلينا نحن المحدثين الذين كَوَنَّا
فكرة عن زمن تاريخي، به زمن الأصول ليس أكثر تنسيقا ممّا ليس مشهد الأحداث المؤسسة
مع الفضاء الفيزيائي و الجغرافي المُحصى تجريبيّا. غير أنّ فقدان الوظيفة التفسيريّة
السببية Etiologique للأساطير يعرّي بالضبط وظيفتها الرمزية
التي لا يستسيغها في عُريِها التامّ إلاّ وعي ما بعد نقدي post-critique. فلفهم
الأسطورة كأسطورة يتعيّن فهم ما أضافته إلى وظيفة الأساطير الأولى التبشيريّة بفضل
بنيتها السرديّة الأصلية. و هكذا تتمثّل الوظيفة الأولى لأساطير الفناء و الخراب و
الضلال الإلهي و العصيان و الردّ عليها في أساطير الإعلاء و الإلهام و المغفرة كما
هي مرتبة، في إضفاء وحدة العالم المادي على الإنسانية. بالإضافة إلى ذلك فالسرد
يولّد حركة و دينامية و توجيها من البداية إلى النهاية: تاريخ نموذجي يَعْبُر
(بتسكين العين) تواريخنا. و بشكل جوهري فالأسطورة تعطي تأويلا سرديّا للغز الوجود،
يعني التنافر بين الخير الأصلي للخلق و الشرّ التاريخي الذي ينعيه الحكماء.
فالأسطورة تحكي، كحدث طارئ على أصل الأزمان، الصدع
la faille الذي تكشف عنه الحكمة.
الأسطورة
و الأليغوريا: (Allegorie)
و الحال أنّ هذه
الرموز المنقولة بواسطة الأسطورة ليست أكثر قابليّة للترجمة إلى لغة مباشرة و أدبية،
من الرموز الأولى، و هذا ما يميّز الأسطورة عن الأليغوريا، إذ من الممكن مبدئيا
تعويض الأليغوريا Allegorie
بخطاب مباشر مفهوم من طرفه هو نفسه. و بمجرّد
وضع هذا النصّ الأوّل تصبح الأليغوريا غير ضرورية. إنّه السلّم الذي نزيحه بالرجل
بعد أن نتسلّقه. فبوظيفتها الثلاثية المتمثّلة في الشموليّة الصلبة و التوجيه
المؤقّت و الاستكشاف الوجودي Existentielle و الأنطولوجي Ontologique، تبرز الأسطورة سمات الشرط الإنساني الذي لن
يستطيع أي تراث يعبّر بوضوح مضاهاته أو أن يسدّ مسدّه. فالأسطورة حسب عبارة "شيللينج" في "فلسفة الميتولوجيا" تدلّ
على ما تقوله: فهي ذات دلالة حقيقية و ليس أليغورية (مجازية)
Le mythe signifie ce qu’il dit : il est tautégorique et
non allégorique.
فاستبعاد
التأويل الأليغوري Allégoriques لا يقتضي استبعادا لكلّ
تأويل، سواء أحدثت الأسطورة عمليات سرديّة جديدة لها نفسها قيمة تأويلية كمـا أظهر
ذلك Frank Kermode في "Genesis of secrecy"، أم
أنّ مثل هذه الأسطورة تثير Susciter مواجهة مع أساطير عصر آخر مثل
ما بيـن الحكاية التوراتيّة المتعلّقة بالعصيان و حكايات الخـراب من نمط أورفي ـ أفلاطوني
Orphico_Platonicien و أنّ عمل التأويل يقتضي Suscite
خطابا في
المستوى شبه مفهومي كما مع معتقد Dogme الذنب الأصلي عند القديس أوغسطين، أم أخيرا أنّ التأويل يقتضي استكشاف
حقل التجربة المفتوح من طرف الأسطورة، مانحا هذه الأخيرة تحقيقا وجوديّا قابلا
للمقارنة بالاستنتاج الترنسندنتالي لمقولات الفهم عند كانط.
لكن هناك شيئا لا ننتظره من التأويل هو أنّه يجدّد كمال التجربة التي تحدّدها Designer الأسطورة
في صورة لغز. و يمكن القول صراحة إنّ الأسطورة تشهد على اتّفاق حميمي بين الإنسان
و مطلق الوجود، بين الطبيعي و الخارق للطبيعة. و باختصار فهي تشهد على وجود سابق
على الانفصال. لكن و بالضبط لأنّ هذه الوحدة ليست معطاة في أي حدس، حيث لا تكون
إلاّ دالّة و مرويّة و ربما لنفس السبب فإنّ الأسطورة هي نفسها مقسّمة Scindé
إلى عصور عديدة، و تركيزات سرديّة متميّزة، التي ولا واحد منها مساو
لقصد Visée الأسطورة.
الجمعية
الفلسفية المغربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق