أنس
ناصري.
و هذا الأمن ما داموا يعيشون في وضع
تسيطر فيه الرغبة و القدرة و يغيب العقل. لهذا كان من اللازم عليهم التخلّي عن اتّباع
الشهوة و الرغبة الفردية التي تؤدّي إلى الاختلاف و العداوة و اتّباع سنّة العقل. فأساس
الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة التمدّن و الحضارة هو العقل،
و المبدأ العقلي الأساسي الذي سيتحكّم في هذا التحوّل: هو أنّ كلّ إنسان يختار "
ما يبدو له في لحظة الاختيار أعظم الخيرين وأهون الشرّين
(2) " معنى ذلك
أنّ محاولة البشر للانتقال من حالة الطبيعة، لما يسودها من خوف و عدم الاستقرار،
إلى حالة التمدّن و الحضارة هو اختيار إرادي حيث تظهر فكرة هذا الاختيار في مبدأ
اختيار أهون الضررين. و قد يتبادر لنا هذا الاختيار غير إرادي و غير حرّ، و أنّ الدافع من ورائه هو تلك
الظروف المأساوية التي عرفتها حالة الطبيعة. لكن هذا الاعتراض غير وارد لأنّ
فيلسوفنا من دعاة الحرّية القائمة على سنّة العقل و غير المتنافية مع القانون
الوضعي ذلك " أنّه لمن المؤكّد أن الإنسان يتقاسم مع باقي
الكائنات الأخرى ـ في الطور الطبيعي ـ الميل الى المحافظة على البقاء، لكن
الاختلاف الوحيد الذي يتجلّى فيه تميّزه هو: الحرّية (...) فالحرّية لا تلغي ضرورة
الفعل بل تفترضه." (3) إنّ هذا المبدأ في الحقيقة يعبّر عن
ميل طبيعي للبشر في البحث عما يعتقدون أنّه نافع لهم، أو ما سيجلب لهم مكسبا و إمكانية
تخليهم عن خير أقلّ أملا في خير أعظم. و عليه سيظهر التعاون والتعايش بينهم أكثر
نفعا من العداوة و الصراع و على هذا الأساس أي المنفعة سينشأ العقد: " صحّة
أي عقد رهين بمنفعة، فإذا بطلت المنفعة انحلّ العقد في الحال و لم يعد ساريا... و
هذه نقطة مهمّة في تأسيس الدولة" (4) معنى ذلك أنّ ضرورة مشروعية الدولة، تتجلّى فيما
يجلبه من منفعة للأفراد المتعاقدين. و بعبارة أخرى: المنفعة هي المبدأ و الغاية من
الدولة، فالتعاقد الاجتماعي لا ينفي الحقّ الطبيعي للإنسان أو يقضي عليه نهائيّا،
إنّه فقط يكيفه وفق حياة الفرد داخل المجتمع المدني، فيتّخذ صيغة جديدة هي عبارة
عن مبدأ يصوغ وفقه سبينوزا قانونا
عاما، يسمح للفرد بضمان منفعته دائما داخل الدولة، و يمضي محلّلا لما يدعوه قانونا
شاملا للطبيعة " إنّ أحد لا يترك ما يعتقد أنّه
خير إلاّ أملا في خير أعظم أو خوفا من ضرر أكبر أو أملا في خير أكبر." (5) إذن فالحقّ الطبيعي للفرد داخل المجتمع، لا
ينتفي بقدر ما يصبح أكثر مرونة لارتباطه بسنة العقل و اجتنابه للجانب الغرائزي.
فيصبح الفرد أمام استراتيجية من المواقف و المعاملات عليه أن يتقنها ليحسن التخلّص ممّا
هو شرّ ويدرك ما هو خير دون أن يتنازل عن حقّه المطلق من جهة، أو يخرق قانون
التعاقد مع الآخرين من جهة ثانية. فما دام الحقّ الطبيعي لكلّ إنسان يتحدّد وفق
لقدرته فحسب ولا يمتدّ فوق طاقته فإنّه يتحتّم عليه أن يتصرّف باختيار " أهون
الشرّين و أكبر الخيرين " و لن يكون ذلك على حساب القانون العام للمجتمع الذي
يحدّد الخير والشرّ بأحكام العقل و لن يكون ضدّ الحقّ الطبيعي للإنسان الذي يكون
اختياره بطريقة ما تعبيرا عن هذا الحقّ. هكذا
يتحدّد التعاقد بنقل الحقّ الطبيعي من الفرد إلى الجماعة، و بوضع
المصلحة العامة فوق المصلحة الخاصّة "
و الآن سأعرض الشرط الذي يمكن أن يتكوّن به مجتمع إنساني، دون أدنى
تعارض مع الحقّ الطبيعي و يمكن به احترام كلّ عقد احتراما تامّا. هذا الشرط هو أنّه
يجب على كلّ فرد أن يفوّض إلى المجتمع كلّ ما له من قدرة بحيث يكون لهذا المجتمع
الحقّ الطبيعي المطلق على كلّ شيء". (6) و لا
يتمّ التعاقد عن طريق تفويض الحقّ إلاّ بتعيين شخص بعينه، يتمّ له التنازل من طرف
الرعية و يصبح حاكما بتمثيله إرادة الجميع و قوّتهم. و يكون التعاقد بين الطرفين
على مراعاة مصلحة الجماعة السياسية و عدم الاسترسال في نزوع الشهوة و الأغراض
الخاصّة سواء من طرف الأفراد (كـمواطنين) أو الشخص
الحاكم الذي يمثّل السلطة السياسية العليا (السيادة).
فالشرط الأساسي للتعاقد هو تخلّي الفرد كمرء عن حقّه الطبيعي من أجل
الانخراط في فضاء المواطنة التي تعني المشاركة و الفعالية و المساواة
بين جميع المتعاقدين. هذا بالإضافة إلى أنّ اقتران مفهوم التعاقد بالمنفعة و القدرة
يشكّل نقطة هامّة في تحليل شروط قيام الدولة، بل إنّ هذا الاقتران هو مبدأ تأسيسها
الأوّل عند "سبينوزا".
فلا أحد يشكّ في أنّ الحياة طبقا لقانون العقل وحده، و على ضوء معاييره و قيمه
التي تحتضن وحدها الفضيلة. هي الحياة التي يتحقّق فيها أكبر قدر من المنفعة للبشر.
لكن، ميل الفرد إلى إشباع شهوته و نزواته التي تتمثّل في معاملة سلبية للآخر
بدوافع الكراهية و البخل والحسد، وهو نزوع يجعل الإنسان أبعد ما
يكون عن استخدام العقل و اعتماد أحكامه. و هكذا " و
بالرغم من أنّ الناس يقدّمون شواهد مقنعة على صفاء نيّتهم عندما يدعون عن طريق
الكلمة أو الميثاق المكتوب، بالوفاء بعهودهم، فإنّ أحدا لا يستطيع أن يثق بحسن نيّة
الآخر إلاّ إذا أضيف ضمان إيجابي إلى هذا الوعد إذ يستطيع كلّ شخص طبقا للحقّ
الطبيعي الالتجاء إلى الحيلة و لا يلتزم باحترام العقد إلاّ طمعا في خير أعظم
أو خوفا من شرّ أكبر" (7) هذا وإذا كان المجتمع قائما على
تعاقد بين البشر، و على ميثاق يعمل كلّ بموجب ما فيه، من تجاوز المصلحة الخاصّة
إلى العامة التي تعضد الدولة. فإنّ صحّة هذا العقد لا تتأكّد بمجرّد الكلام و إنّما
تتحقّق بالممارسة الاجتماعية للخير. الذي هو الوفاء بالعهد، لأنّ بواعث الشهوة
يمكن أن تسيطر على الإنسان و تجعله ناكثا للعهد. و بالتالي قاصرا عن بلوغ الخير
الأسمى الذي هو المحافظة على الدولة حسب ما هو متّفق عليه و حسب ما يمليه العقل
الذي يجنّب الإنسان الضرر و يرشده إلى المنفعة. و المنفعة هي التي تحدّد فائدة
التعاقد بين الأفراد، إذ لا يمكن للإنسان أن ينتفع من عزلته عن المجتمع، و لا أن
يصيبه ضرر من ممارسة مسؤولياته الاجتماعية " فإذا
بطلت المنفعة انحلّ العقد في الحال و لم يعد ساريا ومن ثمّ يكون من الغباء أن يطلب إنسان من آخر أن يلتزم
بعقد إلى الأبد دون أن يحاول في الوقت نفسه أن يبيّن له أنّ فسخ العقد يضرّ من
يفسخه أكثر ممّا ينفعه. و هذه نقطة مهمّة للغاية في تأسيس الدولة"
(8) فما يجعل التعاقد مرتبطا بسنّة العقل هو غايته المنفعيّة لكلّ المتعاقدين،
بمعنى أنّه يسعى خوفا على مصالحه من الآخر إلى الاتّفاق معه و الاتّحاد به بأن
يتخلّى كلّ منهما عن قوّته للمجتمع الذي أصبح يشكّل قوّة عظمى تضمن لكلّ فرد حياة
عادلة و آمنة وفق سنّة العقل. و مثلما يقترن التعاقد بالمنفعة، يرتبط أيضا بمفهوم
القدرة " و لمّا
كان الحقّ الطبيعي لكلّ فرد محدّد بقدرته الخاصّة إلى فرد آخر فإنّه يتخلّى
بالضرورة عن حقّه لهذا الآخر".(9) هكذا يسمح التعاقد بين البشر بأن
يفوّض الفرد حقّه المطلق و الخاصّ به إلى المجتمع و يصبح بذلك فردا عاقلا، لأنّه
يتنازل عن بعض مقتضيات شهوته بموجب التعاقد و يتحتّم على الذي فوّض حقّه للآخرين
أن يكون قد فوّض أيضا قدرته ـ قوّته ـ الخاصّة. و من هنا، فإنّ الذي فوّض له
الأفراد قدراتهم يصبح متمتّعا بحقّ مطلق على كلّ الأشياء. و سيبقى هذا الحقّ متوّفرا
ما دامت القدرة متوّفرة. و متى دبّ الضعف إلى هذا الشخص فقد قدرته وكذا حقّه
الطبيعي في ممارسة السلطة و وضع حدّا للتعاقد المبرم بينهم. ممّا يسمح بقيام
المجتمع السياسي دون أن يضرّ بالحقّ الطبيعي و بنظرية التعاقد. فاجتماع الأفراد
إذن و اتّحادهم، وانضمام جهودهم في إطار العقد هو قوّة ـ حقّ ـ بالنسبة لهم و ليس
العكس. إنّ الفرد يتنازل عن قوّته ليكون أقوى داخل المجتمع، لأنّ القوّة لا تتحقّق
للفرد إلاّ و هو آمن بعيد عن الخوف و الضرر متمتّعا بحرّيته حسب سنّة العقل. و على
هذا الأساس فإنّ الغاية المتواخاة من المشروع المجتمعي " السبينوزي
" هو تحقيق دولة ديمقراطية يسود فيها النظام العادل.
لكن ماذا نقصد بالديمقراطية ؟ يتأسّس مفهوم الديمقراطية داخل الشبكة المفاهيمية السبينوزية:
الحرّية ـ العقل و هذا الارتباط الهندسي الرياضي هو الذي يؤسّس مفهوم الديمقراطية.
فالديمقراطية تعني: " تغييرا كاملا في قضيّة السلطة و السيادة،
و في علاقة الحاكم بالمحكوم. تتضمّن الديمقراطية في مفهومها العميق و الشامل جملة
عناصر أهمّها: إقرار الحقوق الفرديّة و الجماعية قانونيّا و فعليّا، و إقرار الحرّيات
الفرديّة و الجماعية قانونيا و فعليا كذلك. و تحقيق سيادة القانون و المؤسّسات و إقامة
تمثيلية نزيهة و كذلك إقامة السلطة على أساس جديد من المشروعية و العقلانية.
فالديمقراطية الحقّة، في هذا المعنى هو النظام السياسي الذي يحقّق سيادة الشعب عبر
ضمان و تأطير قانوني للمواطنة الحقّة و التمثيلية الحقّة في إطار المشروعية
العقلانية للسلطة" (10) فالديمقراطية إذن تتأسّس على شبكة
مفاهيمية: الحقّ الطبيعي ـ الحرّية ـ التعاقد ـ العقل ـ النظام ـ القانون. و على
ضوء هاته المفاهيم كان مفهومي الحقّ الطبيعي و التعاقد الاجتماعي في الطرح السبينوزي
دلالة على أنّ حرّية الإنسان هي أهمّ ما يجعل موقعه داخل المجتمع، أي في موقع فاعل
يبوء للفرد مكانته الاجتماعية. و بالتالي فهذه الحرّية لا تسيء إلى نظام الأمن
العام في شيء و إنّما هي تدعيم لأركان الدولة و توطيد سلطتها.
لكن كيف يمكن للفرد أن يعيش في ظلّ دولة ديمقراطية متنازلا عن حّقه و قدرته، دون
أن يحرم منها ؟ أو بصيغة أخرى: ما هو نظام الحكم الأمثل لتحقيق
قيم الديمقراطية ؟ يقدّم الفيلسوف باروخ سبينوزا في
كتابه نوعية السلطة السياسية التي تتحقّق فيها الديمقراطية كقيمة أساسية و يتجسّد
ذلك في ثلاثة أنماط من الحكم:
اتّخذ سبينوزا
مسارا منهجيّا في كتابه " رسالة في اللاهوت والسياسة "
و ذلك أثناء مناولته لوضعية الإنسان في الطور الطبيعي فهو يحدّد مضمون هذا الحقّ
بالرغبة و القدرة المطابقة للنزوع إلى المحافظة على البقاء، بحيث أنّ الرغبة هي
التي تميّز سلوك الفرد في الطور الطبيعي و ليس العقل. فحالة الطبيعة " لا
شأن لها بالدين و القانون، و بالتالي لا شأن لها بالخطيئة و انتهاك القانون."
(1) و الفرد في هذا الطور، لا يهدف سوى
إلى تحقيق رغبته و منفعته الفرديّة أو الخاصّة، أي المحافظة على ذاته دون اعتبار
لأيّ شيء آخر و نتيجة لذلك يتصوّر الفيلسوف هذا الطور الافتراضي، كوضع يسوده الخوف
و غياب الأمن. غير أن البشر بطبيعتهم ينزعون نحو العيش في أمن و سلام، و ينفرون ممّا
يسبّب لهم الضرر والألم، إلاّ أنّهم لا يستطيعون تحقيق هذه المنفعة،
ـ 1ـ الحكم
الملكي:
وهو
حكم الملك الفرد، أبعد ما يكون عن الحرّية و أسباب الأمن لذلك عارضه فيلسوفنا إذ
يرى أنّه تتدخّل فيه أهواء الفرد و أحلامه بالعظمة فيتسبّب في حروب كثيرة لا طائل
من ورائها و تذهب السلطة في هذا النظام إلى استعباد الأفراد، ممّا يجعل ممارستها
للسلطة متعارضة مع التعاقد الصحيح. و يمكن أن نستشّف موقفه هذا في دراسته
اللاهوتية لتاريخ الدولة العبرية التي أدّت إلى موقفه من نظام الحكم الملكي "
و ممّا هو جدير بالملاحظة أيضا أنّه طوال فترة حكم الشعب لم تنشب إلاّ حرب أهليّة
واحدة، و انتهت دون أحقاد... و لكن ما أن استولى الملوك على السلطة حتّى تغيّر
الوضع، إذ لم تعد الحرب تشنّ من أجل إقرار السلام و الدفاع عن الحرّية، بل من أجل
العظمة ... و كان طريق الوصول الى العرش
بالنسبة إلى معظمهم ـ ممّن تمتلكهم شهوة
الحكم ـ مفروشا بالدماء. و أخيرا ففي أثناء حكم الشعب لم تفسد القوانين و كانت تطبّق
بحذافيرها، و كان يندر قبل عصر الملوك أن يحذّر الأنبياء الشعب و ما كاد يتمّ
انتخاب الملك الأوّل حتّى ظهر عند كبير من الأنبياء، رأوا أنّ من واجبهم التدخّل
من أجل التحذير(11)"
ـ 2 ـ الحكم الأرستقراطي:
هذا النمط الثاني من الحكم، هو حكم النخبة حيث
يتحدّث عنه "سبينوزا" في
المقالة السياسية مبيّنا أنّه نمط يستأثر بالرأي، و لا يمنح الأفراد هامشا من الحرّية،
يمكّنهم من المساهمة في بناء مجتمعهم المدني، لأنّ قوّة سلطة هذا النمط من الحكم
تعتمد في وجودها على الاستبداد بالسلطة، لأنّها تتأسّس على مجموعة قليلة من الأفراد
تحاول فرض آرائها بالقوّة " و لن يحدث أبدا أن تملك أيّة سلطة
عليا من القوّة ما يسمح لها بتنفيذ كلّ ما تريد. فمثلا لن تطاع إذا ما أمرت أحد
أفراد الرعيّة بأن يكره من يحسن إليه، أو أن يحبّ من يسيء إليه... و في اعتقادي أنّ
التجربة تقدّم إلينا شهادة واضحة على ذلك. فلم يحدث أبدا أن تخلّى الناس عن حقّهم،
و نقلوا سلطتهم إلى شخص آخر، إلى الحدّ الذي لا يعود معه من حصلوا على الحقّ، وعلى
هذه السلطة أن يخشوهم و لا يظلّ معه تهديد المواطنين للدولة، حتّى بعد سلب حقوقهم
أشدّ من تهديد الأعداء لها. (12)"
ـ 3 ـ الحكم الديمقراطي:
و لكنّ "
إذا كان من الممكن تصوّر عبودية الأذهان في النظام الملكي، فإنّ
هذا الاحتمال مستبعد تماما في نظام الحكم الديمقراطي (13). " هذا
هو نمط الحكم الذي أعجب به " سبينوزا"
واعتبره أهمّ أنواع الحكم و أقربها إلى حالة الطبيعة، و أكثرها استجابة لأحكام
العقل، حيث يستحضر من هذا المفهوم الأخير مفهوما آخر هو القانون الذي يتّصل بدوره
بشبكة مفاهيمية تضمّ: الحقّ الطبيعي ـ التعاقد ـ الدولة... " ففي
الدولة الديمقراطية بيّنا أنّ جميع الناس يتّفقون على العمل بإدارة مشتركة، و لكنّهم
لا يتّفقون على أن يبدوا آرائهم أو يفكّروا بطريقة واحدة. و بعبارة أخرى، فلمّا
كان الناس يعملون أنّهم لا يستطيعون دائما الاجتماع على رأي واحد، فقد اتّفقوا على
العمل بالرأي الذي تجتمع عليه أغلبية، و على إعطائه قوّة القانون مع الاحتفاظ بحقّهم
في إلغاء هذا القرار الأوّل عندما يجدون ما هو أفضل منه (14) "
فالديمقراطية إذن تنبني على مفهومي التعاقد و الحقّ الطبيعي، ذلك أنّ المجتمع الذي
لا يتعارض مع الحقّ الطبيعي، و لا يتمّ فيه الإخلال بالعقد، حيث يفوّض كّل الأفراد
حقّهم و قدرتهم (قوّتهم) للجماعة، التي يصبح لها الحقّ الطبيعي المطلق على كلّ
شيء، هو الذي تحقّق فيه الديمقراطية. حيث يختفي هنا حكم الفرد و تختفي معه الأهواء
الشخصيّة و الشهوة و الحلم، و ينبني النظام على أساس مجموع الحقوق و القدرات التي
فوّضت للسلطة الديمقراطية، و تبرز منظومة الجماعة بدل الفرد كممارسة سياسية للسلطة
العليا أقرب إلى المصلحة العامة و إلى الحرّية، و كذلك إلى العقل "
على أنّه يظلّ من الصحيح دون شكّ، أنّ من الأنفع كثيرا للناس أن يعيشوا طبقا
لقوانين عقولهم و معاييرها اليقينية، لأنّها كما قلنا لا تتّجه إلاّ إلى تحقيق ما
فيه نفع حقيقي للبشر".(15) وعلى هذا
الأساس ترتبط الديمقراطية بالعقل و تهتدي به، فهو الذي يجنّب الإنسان دواعي الشهوة
و يحقّق الفضيلة و يدفع بالرغبة على تنفيذ أوامر السلطة الديمقراطية. هذا التنفيذ
للأوامر أو ما يصطلح عليه بمفهوم الطاعة، يُعدّ إحدى مبادئ الحكم الديمقراطي، التي
تمكّن المواطن كعنصر فاعل في المجتمع من خدمة المصلحة العامة، بالاستجابة لقوانين
السلطة العليا و الخضوع لها، لأنّها تتوافق مع قوانين العقل.
الهوامش:
(1) باروخ سبينوزا: رسالة
في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، الفصل 16، ص 389
(2) نفسه، ص 381
(3) Spinoza: Traite de
l’autorité politique, p:85-88
(4) نفسه، ص381
(5) نفسه، ص 380
(6) نفسه، ص 382
(7) نفسه، ص382
(8) نفسه، ص380
(9) نفسه، ص381
(10) محمد سبيلا : حقوق الإنسان و الديمقراطية،
سلسلة شراع، العدد19، شتنبر 1997، ص 86
(11) سبينوزا: رسالة في اللاهوت و السياسة،
ترجمة حسن حنفي، الفصل 18، ص 424-425
(12) نفسه، ص 393-394
(13) نفسه، ص 445
(14) نفسه، ص 450-451
(15) نفسه، ص452
منقول
عن موقع تفلسف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق