إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

السبت، 20 أبريل 2013

الجمال و الحقيقة في الأثر الفنّي

زهير الخويلدي
” الفنّ هو الحفظ الإبداعي للحقيقة في العمل الفنّي” مارتن هايدغر
أعلم أنّ شغف الإنسان في الحياة بالجمال يساوي من حيث الدرجة تعطّشه لمعانقة المطلق و توقه اللامتناهي لمعرفة أسرار الأشياء والوصول إلى الحقيقة، فالجمال ديدنه و كنهه و ما به يتقوّم، فهو ليس فقط نبراسا لذاته و هاديا لغيره و إنّما إكسيرا للخلود و هبة من الدافع الحيوي. لكن أعلم كذلك أنّ الجمع بين الجمال و الحقيقة هو ضرب من القول العجب و الخلف المنطقي طالما أنّ الجمال هو حياة العاطفة و الوجدان نصل إليه عبر الإحساس و التخيّل و الذاكرة و الإلهام و تجاوره مفاهيم المتعة و الذوق و اللذّة و التَامُّ و الكامل و تناقضه مفاهيم القبح و المبتذل و الهابط و المحرّف و الناقص أمّا الحقيقة فهي نتاج التجربة العلمية و العقل نصل إليها عبر منهج يستند إلى جملة من المبادئ و الشروط المنطقية و تناقضها مفاهيم الخطأ و الوهم و الكذب و الغلط و الباطل و تجاورها 
مفاهيم اليقين و البداهة و التصديق و الصّواب و التطابق بين العقل و نفسه في مستوى ما هو صوري و مع الواقع في مستوى ما هو مادّي و تنبع من الفهم و العاقلية و الذهن و الإدراك. علاوة أنّ الحقيقة هي مطلوب الخاصّة من أهل الفطر الفائقة و أصحاب البرهان ينفر منها الجمهور و يفضّل عليها الرأي و الظنّ و الاعتقاد، في حين أنّ الجمال هو مقصد كلّ إنسان و في متناول كلّ العامة مثلما هو في متناول الفلاسفة. فكيف السبيل إذن إلى تجاوز هذه الإمّية المرهقة أو الاحتمالين المربكين: إمّا حقيقة و إمّا جمال؟ و ماذا لو ننطلق من العمل الفنّي ذاته ؟
غير أنّ التفكير الفلسفي الحاذق هو الذي يهتمّ بالخبرة الجمالية لذاتها تصديقا للمبدأ الشهير: ”العودة إلى الأشياء ذاتها قبل الأحكام المسبقة”، وهو الذي يكشف عن كون الفنّ يُعدّ نشاطا إنسانيّا عميقا يعبّر به الفنّان عن قدرته و توقه المستمرّ نحو تجاوز الواقع المباشر يتيح لحقيقة الوجود أن تكشف عن نفسها من خلال جملة من الآثار و المنجزات و لنا في تراث الإنسانية من بناءات و منحوتات و لوحات و جداريات خير شاهد و أحسن مثال. فلنمرّر النظر إذن إلى أحد الآثار الفنّية و لنحدق في إحدى لوحات بيكاسو مثل الموناليزا و لنسترق السّمع للسمفونية التاسعة لبيتهوفن و لنتساءل كيف لتلك الألوان و الخطوط و المناظر و الأصوات و الأنغام والإيقاعات و الأحجار و الأعواد أن تتجاوز تعدّدها و كثرتها و تنصهر في شيء واحد و تتحوّل إلى عمل فنّي بالمعنى الأصيل للكلمة ؟ و إذا بحثنا و تأمّلنا فيه ماذا سنجد ؟ هل سنعثر على الحقيقة مدفونة هناك مثلما يدفن الذهب في الرمل أم أنّنا سنحسّ بالجمال و ذلك بأن نمتّع العيون و نطرب الآذان و نغرف من نهر الحياة الخالد ما يسكّن الجوارح  و يطيّب الخواطر ؟ أليست هذه لحظة معانقة الأثر بوصفه حدث الحقيقة التي تمتلكنا ولا نمتلكها ؟ ألم يقل فرويد أب التحليل النفسي أنّها تعبّر عن الماضي الطفولي للفنّان و أنّ طياّت الثوب الذي ترتديه تلك المرأة التي رسمها ليونارد دي فنشي تخفي مجموعة العقد و المكبوتات الجنسية الخاصّة به ؟ ألا تعكس الآثار الفنّية عند ماركس وجهة نظر طبقية داخل المجتمع الذي ينخره التناقض؟ ألم يعتبر نيتشه موسيقى فاغنار حضورا باردا للروحانيات المسيحية ؟  فأين الحقيقة من كلّ هذا الركام الهائل من التفسيرات ؟  فهل ثمّة مبرّرات لقيام خطاب فلسفي حول القيمة الجمالية ؟ وهل هي مطلقة سرمدية أم نسبية دنيوية ؟ و ما علاقة الفنّ بالحياة ؟ و ما هي أغراض الفنّان ؟ و أين توجد القوى التي تقف وراء إنتاج الأثر الفنّي ؟ هل هي الإحساس و الخيال أم الحدس و الشعور؟ و ما علاقة الفنّان بالتجربة الجمالية ؟ و هل يعكس الفنّ المرحلة التاريخية التي يعاصرها أم يسهم في تغييرها و التأثير في حالتها المستقبلية ؟ ما السبيل إلى قيام فنّ إنساني كوني ؟ و كيف نميّز في الإبداع الفنّي بين ما هو ذاتي و ما هو موضوعي ؟ و هل تتحدّد التجربة الفنّية من جهة المبدع أم من جهة المتلقّي؟ و أي أسلوب ينبغي أن يعتمده حتّى يستطيع أن يقوم بتصنيف فنّي للفنون ؟ و ما هو الفنّ الذي ينبغي أن نضعه في أعلى السلّم و الفنّ الآخر الذي يكون في المرتبة السفلى ؟ و بماذا يتميّز الجميل الفنّي عن كلّ من الجميل الطبيعي و النشاط العلمي و الإنتاج الصناعي ؟  ما الذي يجعل العمل الفنّي عملا فنّيا بحقّ ؟ و هل كلّ جميل هو بديهيا حقيقيا و خيّرا ؟ و ألا يمكن للشرّ و الوهم أن يترافقا مع جمالية معيّنة ؟ و هل أنّ الفنّ رؤية نفعية للإنسان تحقّق التسلية و تملأ أوقات الفراغ أم أنّه نشاط إبداعي لذاته وهو في حدّ ذاته غائية دون غاية ؟
غير أنّ الإشكال الأساسي الذي يجدر بنا معالجته هو: هل نبني حكما في شأن الأثر الفنّي من خلال ما يعكسه من جمال أم بموجب ما يكشفه من حقيقة ؟ فما الذي يبيح الجمع بين الجمال والحقيقة في الأثر الفنّي ؟
إنّ معالجة هكذا إحراج تقتضي مفصلة خطّة البحث إلى لحظة أولى يكون فيها الانطلاق من تحديد مفهوم الفنّ من جهة علاقته بالطبيعة و الصّناعة و العلم و الفلسفة و الدين و الأخلاق، و بعد ذلك الانتقال للتطرّق إلى مسألة الإبداع الجمالي و التساؤل عن دور ذاتية الفنّان في التجربة الفنّية، مع التوقّف عند نقد الوعي الجمالي باعتباره  واقع لا محالة في الاغتراب و التشريع لحقّ جمالية القبح في المواطنة الاستيطيقية، ثمّ لنصل في الأخير إلى حدث الحقيقة كلاتحجّب في الأثر و تراوح هذا الأخير بين الرّمز و اللعب و الاحتفال.
بيد أنّ ما يراهن عليه الإحساس و ما هو في متناول الحكم هو تفادي الفنّ الهابط و الذوق المعلّب و الجمال الصناعي و الشروع في نفي الاغتراب و الإقرار أنّ الحاجة إلى الفنّ الأصيل هي حاجة وجودية متأكّدة و أن الحياة تكاد تكون غير محتملة من دون الاستمتاع بالآثار الفنّية.
“إنّ الفنّ لم يكن ضروريا في الماضي و حسب بل سيبقى كذلك في المستقبل أيضا وعلى الدوام”
لمّا كانت الفلسفة في صميمها تدبّرا  مفهوميا و وصفا دقيقا لمختلف أبعاد التجربة الإنسانية و لمّا كانت الظاهرة الجمالية هي أحدها و كان الكائن الآدمي مغرما بالفنّ من حيث الفطرة و متعطّشا للجمال بغريزته فليس بدعا أن نرى الفلاسفة يولون عناية قصوى بهذا المطلب و نشاهد الناس في حياتهم اليومية يصرّون على الفوز به و الاستمتاع بمحاسنه. غير أنّ دراسة الفنّ قد اتّخذت عدّة أشكال ونَحَتْ نحو عدّة اتّجاهات إذ أراد البعض منها أن تكون مجرّد دراسة تجريبية للأذواق، بينما قام البعض الأخر بدراسة نفسية للإبداع الفنّي والتذوّق الجمالي، في حين ربط غيرهم الفنّ بالنشاط الحضاري و بالأطر الاجتماعية و التقاليد الثقافية، فاتّجه البحث نحو علاقة الفنّان بالجمهور و الصلة بين الباثّ والمتقبّل.
إن كان الفنّ يمثّل رؤية للواقع تتجلّى من خلال ذاتية الفنّان و تعكس الأعمال و الآثار الثقافية التي تنتمي إليها فإنّه من الضروري أن يقوم هذا الجوهر النفيس بعدّة أدوار و يلعب عدّة وظائف ترتبط بالطاقة الإبداعية لدى الفنّان و بالحاجات الاستيطيقية لدى المجتمع و بالتجلّيات الوجودية للحقيقة. و قد عبّر هيجل عن هذه الوظيفة بقوله: ”إنّ هدف الفنّ يتمثّل في أن يظهر للعيان ما يتولّد عن الروح”، و يقصد بذلك أنّ العمل الفنّي يتوسّط الحسّي المحض و الفكري المحض، و كما قال فلوبير:”إنّ مكانة المبدع بالنسبة إلى أثره هي مثل مكانة الإله بالنسبة إلى خلقه”.
لكن أنّ نعتبر الفنّ رؤية للعالم و وسيط رمزي بين الإنسان و غيره و أداة للتعبير عن مكنونات الذات و حركات الفكر نحو العودة إلى ذاته فذلك أمر بديهي ولا يمكن المجادلة بشأنه ولكن أن يتحوّل الأثر الفنّي إلى سلاح نقدي يعمل على إحراج الثقافة السائدة و يقوم بفضح الحضارة الصناعية و يُعرّي أساليبها في الخداع و التمويه و محاصرة إمكانات الحياة فذلك ما يثير الاستغراب و يدعو إلى الدهشة و التدبّر، إذ كيف يا ترى تنهض الفنون بوظيفة إظهار ما يريد أن يختفي و تخفي ما يريد أن يظهر؟ و إلى أي مدى يجوز لنا أن نفسّر الآثار الفنّية بطريقة علمية ؟ ألا يؤدّي ذلك إلى فقدانها لهالتها السحرية و اختفاء قيمتها الجمالية ؟ ألم يقل سارتر: ”إنّ الفنّ هو ذات الإنسان الطموحة إلى استعادة حرّيتها”؟  و ما صحّة ما قاله فرويد عن الفنّ بأنّه “إشباع خيالي لرغبات لاشعورية و محاولة لتفادي الصراع المكشوف مع قوى الكبت” و عن الفنّان بأنّه” إنسان منطوٍ يكاد يصبح عصابيا”؟  و ما قيمة الاعتبار الماركسي للفنّ بأنّه جزء من البنية الفوقية التي تعكس ثقافة الطبقة الاجتماعية المهيمنة و تصريحه بأنّ ”الواقع الاجتماعي هو مصدر الأفكار المحرّكة للعمل الفنّي”؟ هل يعني ذلك أنّ الفنّ مجرّد إيديولوجيا  تُصدّر الأوهام أم أنّه تعبير عن حقيقة الصراع القائم بين الطبقات الاجتماعية ؟  ثمّ ألم يقل هربرت ماركوز هو الآخر: ”أنّ ذاتية الأفراد تنزع من خلال الفنّ إلى الذوبان في الواقع الطبقي” ؟ و ألم يوكل إلى الفنّان مهمّة الكشف عن قمع الحضارة للغرائز و حيلولتها دون إشباع الرغبات الإنسانية ؟
بيد أنّ الإشكال الحاسم الذي يحرج كلّ تفكير فلسفي في الظاهرة الفنّية هو ذاك الذي يثيره مايكل دوفرين بعد قام بالوصف الفنومينولوجي للخبرة الجمالية و اعتمد أسلوب التحليل و قارن الاتّجاه الجمالي بالاتّجاهات غير الجمالية و يتمثّل في مقارنة الاتّجاه الجمالي بالموضوع الحقيقي و بالموضوع المحبوب و يمكن صياغته على هذا النحو: هل أنّ الاتّجاه الجمالي هو الاتّجاه نحو المحبوب أم الاتّجاه نحو الحقيقي ؟
في هذا السياق يقول مايكل دوفرين:” إنّني أنا الذي أمتلك الحقيقي بينما الجميل هو الذي يمتلكني” و يقصد أنّ الاتّجاه نحو الجميل يشبه اتّجاه الإنسان نحو الحقيقي. و لكن التأمّل الفلسفي لا يبحث بطريقة شرعية عندما يهتمّ بحقيقة الجمال و لذلك ينبغي التركيز على المحبوب لأنّ الحقيقة تكون ذاتية في العمل الفنّي و الخصائص التي تشير إلى توجّهنا نحو الحقيقي هي الانبهار الذي يعيشه المرء وهو في حالة حبّ التي هي أحسن تعبير عن الخبرة الجمالية التي يمكن أن يعيشها الإنسان. فكيف يا ترى يكون الاتّجاه نحو المحبوب هو خير ضامن للتأليف بين الاتّجاه نحو الحقيقي و الجمال في الآن نفسه فيكون ما هو حقيقي جميل و ما هو جميل حقيقي؟ وأليس من الأجدى أن يؤلّف الفنّان بين قيمتي الجميل والحقيقي من أجل أن يتّجه نحو الحرّية؟ ألم يقل بول ريكور في هذا الصدد: ”إذا تحرّر الفنّانون من… فلا بدّ أن يجعلوا أنفسهم أحرارا من أجل…” ؟
بيد أنّ التحدي الكبير بالنسبة للعرب والمسلمين هو تجاوز التناقض بين الدين و الفنّ و الإيمان بإمكانية استثمار الاحتفال بالمقدّس من أجل تفعيل آلية الخلق الجمالي و المشاركة في إنتاج الآثار الفنّية، فهل يجوز لنا القول بوجود فنّ عربي إسلامي ؟ و ما هي خصوصية الرؤية الجمالية في الإسلام ؟

هناك تعليق واحد: