إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الخميس، 6 مارس 2014

إيتيقا السّعادة: في حوار الثنائيات

الأستاذ: عبدالسلام الدحماني
"إلى عزلتك يا صديقي إلى الأعالي حيث تهّب رصينات الرياح فإنّك لم تخلق لتكون صيّادا للحشرات"   نيتشه ـ  هكذا نكّلم زرادشت   
"إن خطافا أو نهارا مُشمسا واحدا لا يدلّ على قدوم الربيع وهكذا الشأن بالنسبة إلى الغبطة  والسّعادة فهما أيضا لا يكونان من صنيع يوم واحد أو برهة من الزمن" أرسطو ايتيقا إلى بيقوماخوس

۞ ۞ ۞
التخطيط :
مدخل
أوّلا: في الدلالة
ثانيا: إيتيقا التفكير في السّعادة:
 الكفّ عن التفكير: الريبية
2 ـ تجربة التفكير: الفارابي/ كانط
ثالثا: إيتيقا الوجود السّعيد :
1 ـ الإلهام والإشراق والكشف (المتصوّفة)/التعقّل والتدبير (ابن باجة)
2 ـ الألم (أفلاطون)/اللذةّ  (أبيقور)
3 ـ القبول (الكندي)/الرّفض (العبثية)
4 ـ انكسار(شوبنهاور)/إرادة (نيتشه)/تخيّل (روسو)
خاتمة: كسر الثنائيات
۞ ۞ ۞
مدخل
"أيوجد إنسان يوّد أن يكون تعيسا ومنكود الحظّ؟"
ليس في السّؤال غرابة رغم كون السّؤال غريبا: غياب الغرابة في السّؤال يتعلّق بأن لا أحد يوّد أن يكون تعيسا إذ خلق الإنسان طبيعة ليكون سعيدا أو ليبحث عن سعادته .
أمّا غرابة السّؤال فترتبط بأنّه من حيث نشأته لا ينتمي إلى راهننا ولا يتنزّل في يومنا، إنّه السّؤال الذي صاغه سقراط في محاورة مينون ليفتتح به أفقا إشكاليا كان من المفترض أن يغلقه التاريخ (جهدا وطموحا معرفة وممارسة) لكنّه ما أغلق بدليل أنّ السّؤال ظلّ قريبا منّا بعيدا عنهم ـ الإغريق ـ أقرب إلينا أبعد عنهم تفكيرا ووجودا همّا وانشغالا ... فالتّعاسة والشّقاء والألم... حالات للإنسان لم يستطع تاريخ الإنسانية إقصاءها ولأمر كهذا اعتبر هيقل أنّ صفحات السّعادة غائبة في التاريخ مفسّرا ربّما جدارة الانشغال بالسّؤال حول السّعادة وإطلاقيتهفما السّعادة؟ هل أنّ التفكير فيها يبعدها عنّا أم يقرّبنا منها؟ وكيف يمكن التفكير فيها من خارج أفق الثنائيات التي تشحن دلالتها وتحرّك إشكالياتها؟ وأيّ علاقة بين إيتيقا السّعادة والوجود السّعيد؟ هل أنّ السّعادة إشراق أم تعقّل؟ هل أنّها ألم أم لذّة ؟ قبول أم رفض؟ انكسار أم إرادة أم تخيّل ؟
أوّلا: تحديد دلالي:
يجدر التمييز في هذا السياق بين :
·       دلالة الأخلاق :
هي مجموعة القيم والضوابط والمعايير التي تتعلّق بالخير والتي تحكم سلوك الفرد وتوجّهه. إنّها تحّدد ما يجب فعله وما يجب تجنّبه المرغوب فيه والمرغوب عنه الحسن والقبيح.. ارتباط مفهوم الأخلاق بهذه الدّلالة يكشف عن قرابة مع الدين من جهة تصوّر مصدر المراقبة الذي يحددّ من الخارج (الله أو المجتمع...) ومن ثمّة يخلق إلزامات .
·       دلالة الإيتيقا :
إنّها نظرية الفعل التي يجب على الإنسان اتّباعها حتّى يحسن توجيه حياته وبلوغ أهدافه. وتعني وفق الدلالة الإغريقية التقاليد والعادات وطريقة قيادة الحياة.  إنّها تعنى إذن بما ينبغي على الفرد القيام به من جهة ما يتصوّر أنّه طريقة أو مسلك لبلوغ غاية ما. لأجل ذلك كان من المهمّ لمعرفة وفهم تفكير فيلسوف ما معرفة ما هي الإمكانات التي حدّدها في مجال الايتيقا بهدف قيادة الوجود. ولأنّ السّعادة موضوع رئيس للتفكير الإيتيقي يضع  كلّ فيلسوف أساس الايتيقا على أرضية مخالفة.
·       دلالة السّعادة:
السّعادة مصدر من سعد أو سعد ومنه السّعد أي اليمن وهو نقيض النحس والسّعادة خلاف الشّقاوة والسّعيد نقيض الشّقي والسّعد طيب فيه منفعة عجيبة في القروح التي عسر اندمالها وأسعده أعانه وإسعاد النساء في المناحات تقوم المرأة فتقوم معها أخرى من جاراتها فتساعدها على النياحة وسعود النجوم منازلها واستسعد الرّجل برؤية فلان أي عدّه سعدا. تتمحور هذه المعطيات الاشتقاقية في اللسان العربي حول معنيين أساسيين هما المساعدة ورضا النفس والبهجة والشّفاء من جهة ومواتاة الحظّ ويمن الطالع من جهة ثانية. يعتبر الفارابي أنّ السّعادة مطلب كلّ إنسان نظرا لأنّ غيابها علامة نقص وعوز وحضورها يعني الكمال والاغتناء إنّها إحدى الخيرات التي يهدف الإنسان إلى تملّكها أو تحصيلها .إنّ التمعّن في الدلالات اللغوية يكشف عن اقتران السّعادة بالإرضاء والارتواء والإشباع فالذراع يشبع صاحبه والنهر يروي الحقول. وهو ما يعني ارتباط السّعادة بالإحساس بالرضاء التامّ الذي يتحقّق بواسطة الإشباع والتدبير، الإشباع للفرد والتدبير داخل الجماعة، إذا كانت السّعادة في الدلالة اللغوية تتحدّد كمقابل للنحس والشقاوة فإنّها كمفهوم فلسفي تتأسّس على جملة من التقابلات: سعادة / شقاء، فضيلة / رذيلة، خير / شرّ، وينظر فلسفيا إلى السّعادة كحالة إرضاء تامّ يتّسم بالديمومة.
ثانيا: إيتيقا التفكير في السّعادة: التفكير أم عدم التفكير
§       الكّف عن التفكير  :
تعتبر الريبية أنّ التفكير أو التفلسف بما هو جهد تمييزي يبحث في الفروق والفواصل ـ ما يميّز المظاهر عن المفاهيم، الخير عن الشر.  ينتهي إلى الارتياب والشكّ والاضطراب أي عدم القدرة على الترجيح / الشكّ بما هو تعليق مطلق. يفضي فعل الشكّ إلى استمرارية يعسر معها إنهاؤه بحيث يتحوّل إلى فعل كارثي فالشكّ لا يقوى إلاّ بالشكّ  وبقدر ما يقوى يفقد علاقته بالحقيقة بهذه الدلالة كان للشكّ مع الريبية صفتا الإطلاقية واللاحكم يقول ديوجان اللايرسي " ليست أحاسيسنا وأحكامنا حقيقية ولا خاطئة
 ومن ثمّة لا ينبغي أن نمنحها أدنى ثقة بل أن نظلّ بلا حكم ولا نزوع إلى أيّة جهة ولا تأثير" إنّ بيرون يستخدم النفي الشامل الذي جسّده حرف اللام الحاضر باستمرار وبكثافة في بداية الأسماء والنعوت الأساسية المشّكلة لتفكيره وعبّرت عنه العبارة الشهيرة "لا هذا ولا ذاك" التي تعدّ بحقّ مبدأ المنطق البيروني الذي يختلف تماما عن المنطق الصوري القائم على مبدأ عدم التناقض " إمّا هذا أو ذاك" لأجل ذلك يقع تعليق الحكم والكفّ عن التفكير والمعرفة حتّى تبلغ النفس حالة الأتراكسيا أو السكينة. 
"لقد كان الريبيون يطمحون إلى الطمأنينة... فلمّا عجزوا عن ذلك علّقوا الحكم فلازمتهم من ذلك بموجب صدفة حسنة الطمأنينة ملازمة الظّل للجسمتعليق الحكم بالكفّ عن التفكير واللامبالاة تجاه الأحداث والصمت (الأفازيا)هو عنوان السّعادة ريبيا.
§       تجربة التفكير :
منذ نشأتها والفلسفة تدافع عن التفكير وتضع له شروطا بل وتربط بين التفكير والسّعادة:
ü    السّعادة غاية:
يعتبر الفارابي أنّ السّعادة مطلب كلّ إنسان نظرا لأنّ غيابها علامة نقص وعوز وحضورها يعني الكمال  والاغتناء إنّها إحدى الخيرات التي يهدف الإنسان إلى تملّكها أو تحصيلها.
يفصّل الفارابي الخيرات إلى :
ـ خيرات وسائل تنال بها غايات أخرى مثال ذلك شرب الدواء.
ـ خيرات هي غاية في حدّ ذاتها أي ليست من أجل غيرها شأن المعرفة .
يفاضل الفارابي الخيرات التي لا تطلب إلاّ لذاتها عن الخيرات التي تطلب لغيرها نظرا لأنّها أكمل
 وأكثر خيرا ويعتبر أنّ السّعادة إنّما هي من ضمن الخيرات التي لا تطلب إلاّ لذاتها الأمر الذي يجعلها في مرتبة الشرف والكمال إذ أنّها "آثر الخيرات وأعظمها وأكملها" إنّها الاكتفاء الذي لا يطلب سوى ذاته فكيف تتحقق السّعادة ؟
يعتبر الفارابي أنّ السّعادة لا تحصل إلاّ بجودة التمييز بين الصحيح والخطأ بهذا تصبح السّعادة أمرا إنسانيا مكتسبا ما دام الإنسان يملك عقلا يتأمّل بواسطته ويستطيع به الوصول إلى عالم الحكمة والمعرفة  فالحكيم وحده سعيد والجاهل حتما تعيس لأنّ ممارسة فعل التأمّل والتفكير يعني لحظة خاصّة في حياة الفيلسوف، لحظة الخروج من عالم الحسّ، وعدم الثقة في الجسد والابتعاد عن الإحساس، بالتأمّل والتفكير يستطيع الحكيم أن يتّصل بالعقل الفعّال ويرى الصور النقية الخالصة الطاهرة قبل أن تمتزج بالمادة بعد نزولها إلى العالم الأرضي .إذن السّعادة هي الخير المطلق ما دامت معرفة للحقيقة وكلّ ما يعوق الوصول إليها هو شرّ مطلق بالضرورة يكون هذا الوصول إلى الحقيقة عن طريق القوّة الناطقة النظرية بعيدا عن القوى الأخرى مثل القوّة الناطقة العملية أو القوّة النزوعية أو القوّة المتخيّلة أو القوّة الحسّاسة.
يتحدّد سبيل تحصيل السّعادة مع الفارابي من خلال صناعة الفلسفة " لمّا كانت السّعادة إنّما ننالها متى كانت لنا الأشياء الجميلة قنية وكانت الأشياء الجميلة إنّما تصير لنا قنية بصناعة الفلسفة فلازم ضرورة أن تكون الفلسفة هي التي تنال بها السّعادة "لازم ضرورة أن تكون الفلسفة هي التي ننال بها السّعادة، وهذه هي التي تحصل لنا بجودة التميّز وكانت جودة التميّز إنّما تحصل بقوّة الذهن على تحصيل الصّواب وقوّة الذهن تحصل متى كانت لنا قوّة نقف بها على الحقّ فنعتقده ونقف بها على الباطل فنتجنّبه
ü    السّعادة خاصية: من هو الجدير بالسّعادة؟
يعتبر كانط أنّه إذا ما تأسّست مبادئ الأخلاق على طبيعة الإنسان أو على ظروف العالم الذي يعيشه تفقد الأخلاق أخلاقيتها لأنّها ستعبّر عن نسبية أو أنانية أو منفعية. لأجل ذلك يعتبر كانط "إنّ البحث عن أساس الإلزام لا يكون في طبيعة الإنسان ولا في ظروف العالم الذي وضع فيه، إنّما يكون بحثا قبليا فقط في مفاهيم العقل المحض "ارتباط الواجب الأخلاقي بالعقل المحض المتخلّص من كلّ منفعة أو مصلحة يجعل الإرادة الخيّرة تفعل ما هو واجب لمجرّد أنّه واجب. يقول كانط "الإرادة الخيّرة هي  ـ من بين جميع الأشياء التي يمكن تصّورها في هذا العالم، أو حتّى خارجه ـ الشيء الوحيد الذي يمكن أن نعدّه خيرا على الإطلاق، دون أدنى قيد أو شرط."  (أسس ميتافيزيقا الأخلاق) فالخير الذي في الذكاء مثلا خير مشروط لأنّ الذكاء يكون خيرا إذا استعملته إرادة خيّرة،  ويكون شرّا إذا استعملته إرادة شرّيرة. الإرادة الخيّرة إذن لا تستمّد خيريتها من المقاصد التي تحقّقها أو الغايات التي تعمل من أجلها بل من باطن ذاتها باعتبارها الشرط الضروري الكافي لكلّ أخلاقية وقد رفض كانط أن يجعل السّعادة أساس الأخلاق سواء أكان السعي وراءها يهدف إلى إسعاد الذات أم كان يهدف إلى إسعاد الآخرين. وهذا يعني أنّنا نستحقّ أن نكون سعداء طالما أن نيل السّعادة ليس قصدنا، وهمّ الإنسان، إذا أراد أن يكون إنسانا فاضلا، هو أن يقوم بواجبه لمجرّد أنّه واجب ودون أن يولي أي اعتبار لأيّ شأن آخر بما في ذلك السّعادة .
ثالثا: إيتيقا الوجود السّعيد: أو حوار الثنائيات
·       الإلهام والإشراق والكشف:   
"المنزّهون… (الذين) انفكّوا عن الشواغل، فخلصوا إلى عالم القدس والسّعادة، وانتقشوا بالكمال الأعلى، وحصلت لهم اللذّة العليا" (ابن سينا)
 يؤكّد المتصوّفة أنّ طريق السّعادة الحقيقية ليس العقل ولا الجسد وإنّما هو طريق المجاهدة من أجل تحرير النفس، من سجن الجسد وشهواته وتطهيرها للوصول إلى المراتب العليا حيث لحظة المشاهدة القلبية لأنوار الحقيقية، فالمتصوّف ترفع عن قلبه الحجب وتنكشف له أنوار اليقين، بحيث يصل إلي السّعادة الحقيقية سعادة المشاهدة القلبية لأنوار الحقيقية الإلهية، حيث ترفع الستائر عن العابد أمام الحقائق الإلهية وهو ما يسمّيه أهل التصوّف بالإشراق.
تقرّ نظرية التصوّف بوجود سعادة باطنية لا يدركها أصحاب النظر فهي فيض إلهي يملأ القلب، الأمر الذي يشترط  الابتعاد عن الملذّات وطلب الخلوة والانقطاع عن الحياة والمتعة رغبة في الوصول إلى لحظة المشاهدة والكشف وهو إلى ذلك  يقوم برحلة معاكسة حيث الحنين إلى والعودة إلى الأصل والحلول في الذات الإلهية عن طريق تجربة باطنية صوفية تلغي الجسد وتلغي العقل والحواس بحيث تصبح المعرفة نورا يقذف في القلب هذا التصوّر الإشراقي هذه النظرة الحلولية. ولحصول هذا الإشراق والكشف والإلهام والذوق… عن الحضرة الإلهية لا بدّ من تبنّي عدّة سلوكيات وتخطّي عدّة مراقي متراتبة ترمز كلّ منها إلى حالة معيّنة بشكل تصاعدي (المقامات). وهكذا يتمّ الانتقال من حال إلى حال أو من مقام إلى مقام إلى أن ينال المبتغى ومن بين هذه المقامات :
   =التخلية أي التخلّي عن الدنيا والإعراض عن متاعها الغرور، التخلّي عن الرذائل .
   =التحلية وهو التحلّي بسائر الفضائل  .
   =المجاهدة مجاهدة النفس الأمّارة بالسوء لتصبح لوّامة ثم راضية مرضية وذلك بكبح جماح ما تشتهيه الأنفس وما تتلذّذ به الأبدان .
   =المشاهدة هي مشاهدة الله لا بالبصر(العين) بل بالبصيرة (القلب)     
   =الغياب فهو الغيبوبة والغياب عن عالم الشهادة (الفيزيائي) وهو يقابل الحضور والذي يراد به الحضور في عالم الغيب (الميتافيزيقي) وفي نفس هذا السّياق يندرج الفناء والبقاء إذ الفناء فناء عن هذا العالم (الدنيا) والبقاء بقاء في ذات الله (الآخرة)… الخ. وهذا لا يتأتّى إلاّ للمتصوّفة العارفين.
·       التعقّل والتدبير: ابن باجة
 "من ينهض عن شهوته المخالفة لرأيه دائما فهو إنسان سوء البهيمة خير منه"
الفعل الالهي هو الذي يفعل لأجل الرأي والصّواب أي الفعل الذي يتخلّص من غاياته الخارجية هو الفعل الذي لا يلتفت إلى النفس البهيمية التي هي دون النفس الناطقة ودون النفس الإلهية (ثمّة ترتيب للأنفس)
 ويحدّد ابن باجة الفعل الإنساني بأنّه الفعل الفاضل بالفضائل الشكلية والفضائل الشكلية هي الفضائل التي تمتثل بها النفس البهيمية للنفس الناطقة فلا تخالفها ومعنى ذلك أنّ الفعل الإنساني لا يقطع مع النفس البهيمة وإنّما ينتبه إليها دون أن تخالفه .يقوم الفعل الفاضل حسب ابن باجة على تناسب بين مقتضيات النفس البهيمية وغاية النفس الإنسانية بين اللذّات الجسمية وبين الإلهية .
إنّ الذي يحدّد الفعل الأخلاقي الفاضل عند الإنسان هو عدم مخالفة النفس البهيمية لقضاء النفس الناطقة. أي أن لا يترك الإنسان العنان لنفسه البهيمية تقوده وإنّما يجب أن يسلك في فعله عن تدبّر وتفكير تجعله لا يحتكم إلى أهوائه الغريزية .
 لأنّه لو خالفت لكان الفعل لاأخلاقي من جهة أنّه سيكون حينها إمّا فعلا ناقصا (لم يبلغ الكمال) أو فعلا مخروما (مشوّش ـ مضطرب) أو فعلا لم يكن أصلا (غائب) ويكون من حيث الخصائص إمّا فعلا مكرها (تغيّبه الإرادة إذ أنّ ابن باجة يربط بين الإرادة وبين المقاصد أو الغايات معتبرا أنّ ما يميّز الإنسان هو الفكر والاختيار) أي أنّه فعل غير إنساني .وإمّا فعل عسير (يصعب القيام به لأنّه يخالف الطبيعة لأنّ الطبع في الفعل موافقة النفس البهيمية للنفس الناطقة)  أي أنّه يضادّ الطبيعة .يسمّى هذا الفعل بالفعل البهيمي ويطلق عليه ابن باجة لفظ "السبعي الأخلاق" الذي يغلب نوازعه مثال السلوك السبعي: الإفراط في الغضب حيث توظيف النفس البهيمية للنفس الناطقة في خدمة أغراض لا عقلية حيث يكون الإنسان حينها "بهيمة لكن له فكرة إنسان يجيد بها ذلك الفعل".
إنّ السلوك الأخلاقي الحقيقي سلوك لا يتأتّى للجميع وإنّما للفيلسوف المتوحّد لأنّه وحده يصل إلى المرتبة العليا أي إلى الصور العقلية وبهذا المعنى يكون سعيدا.
·       الحرمان أم الإشباع / الألم واللذّة:
الأفلاطونية: "التخلّص من الجسد كلّه لأنّه يعكّر صفو النفس و لا يسمح لها بالوصول إلى الحقيقة
 والتعقّل"  يعتبر أفلاطون أنّ السّعادة بما هي خروج من كهف الظلمة والمحسوس تشترط كسر الأغلال والقيود والسير في طريق صاعد وعر هو طريق التحرّر من الحسّي الجسدي بكثافته التي تمنع النفس  من إدراك  مثال الخير في ذاته ولذاته". هكذا إذن تزدري نفس الفيلسوف الجسد بعمق وتفرّ منه وتحاول أن تنعزل بذاتها عنه " لأجل ذلك نجده في محاورة الفيدون مثلا يقرّ بأنّ على الفيلسوف أن يتحرّر قدر الاستطاعة من ملذّات الأكل والشرب.. حتّى تكون النفس قادرة على معاشرة الصور الأبدية أي أن تتذكّر المعرفة التي كانت لها ونسيتها بحكم انغماسها في العالم الحسّي.
لا يجب أن نفهم ممّا تقدّم أنّ الموقف الأفلاطوني موقف تزهّدي يقتل اللذّة الحسّية ويعدمها وإنّما موقف يدعو إلى تحرير النفس وتخليصها من أدران الجسد نظرا لأنّه عائق معرفي "فالنفس تفكّر أحسن ما يكون التفكير عندما لا يعكّر صفوها لا السّمع... بل فقط لمّا تعتكف.. متخلّصة من الجسد وقاطعة معه بحسب".  
الأبيقورية: "اللذّة هي بداية الحياة السّعيدة وغايتها "
فرَّق أبيقور بين أنواع عدّة من اللذّة والألم، فهو لا ينظر إلى اللذّة باعتبارها لّذة حسّية صرفة يجدها الإنسان في الإحساس المباشر بل يفاضل بين اللذّات بعضها وبعض، وبين الآلام بعضها وبعض، فيجعل بعض الآلام أفضل من بعض اللذّات لأنّ في احتمال هذه الآلام ما يؤدّي إلى لذّة أكبر، ولأنّ في تجنّب هذه اللذّات ما يؤدّي إلى تجنّب آلام أكبر، لأنّ كلّ لذّة وكلّ ألم لا بدّ لهما من أثر مترتِّب، والأثر المترتِّب قد يفضي إلى شيء من نفس النوع، أو إلى شيء مضادّ، وبدرجة قد تكون أقلّ وقد تكون أكثر في كلتا الحالتين. فالأصل في كلّ فعل أخلاقي أن يتّجه إلى تحصيل اللذّة أو تجنّب الألم، ويقسّم أبيقور اللذّة إلى أنواع ثلاثة :
   = من اللذّات ما هو ضروري وخيّر معاً، إنّها اللذّات الناتجة عن إشباع الحاجات الأوّلية للكائن الحيّ، وتنقسم بدورها إلى نوعين رئيسين: لذّات حركية، وأخرى سكونية. أمّا اللذّات الحركية فهي التي تحدث أثناء إشباع الرغبة أو الحاجة، واللذّات السكونية هي التي تترتّب على الحاجة وقد أشبعتْ. فالعطشان الذي يجد ماء فيشربه يشعر بلذّة أثناء شربه، وبعد أن ينتهي من الارتواء يشعر بلذّة سكونية هي الخلوّ من الحاجة، والخلوّ من الحاجة لذّة سكونية لأنّه ليس ثمّة فِعل أو انفعال حقيقي من جانب الشخص الذي يعانيه. وهذه اللذّات الضرورية الخيّرة هي اللذّات بالمعنى الحقيقي، وكلّ ما عداها من لذّة فقيمته أقلّ بكثير جدّا من هذه اللذّات لأنّها ليست ضرورية.
   =من اللذّات ما ليس ضرورياً وإنْ كان خيراً كذلك، والأحرى ألا يتّبعه الإنسان ما دامت الطبيعة لم تهيّئه دائماً. مثلاً التأنّق في الملبس، والتأنّق في المأكل، كلّ هذا ليس بلذّة ضرورية وإنْ كان خيراً لأنّه يحدث اللذّة، ولهذا كان هذا النوع الثاني أقلّ درجة من النوع الأوّل.
   = من اللذّات أخيراً ما ليس بخير ولا ضروري. من شأنه أن يحدِث دائماً شعوراً بالنقص والحاجة، أي أن يحدِث من ناحية الجسم تألّماً، ومن ناحية النفس خلواً من الطمأنينة، فهو شرّ إذن، وبالتالي يجب أن يوضع في المرتبة الأخيرة، إن لم يكن هو والألم سواء. ومن أمثلة هذا النوع الثالث الشهوة البهيمية؛ كما أنّ الآلام التي تلازم دائماً هذا النوع أكبر قدراً بكثير جدّا ممّا يتمّ من إشباع ـ إذا تحقّق هدف نزع إلى هدف آخر، وإذا تحقّقت رغبة معيّنة فسرعان ما تنشأ رغبة أخرى تصبو نفس المرء إلى تحقيقها--
 منتهى القول أنّ أبيقور يعتبر أنّ في وسع المرء أن يحيا حياةً سعيدة جدّا شرط أن يكون حكيما أي أن يتعلَّق بالنوع الأوّل فقط من اللذّات ويحرص حرصاً ضئيلاً على تحقيق النوع الثاني وينكر نهائياً لذّات النوع الثالث..
 إنّ الحكيم وحده يستطيع أن يصل إلى تحقيق السّعادة، ومعنى ذلك أنّ فضيلة الحكمة هي الوسيلة المؤدّية إلى النظر الصحيح التي تحقق تجعل النفس خالية من كلّ شعور بالخوف لأنّه مصدر الاضطراب. كما أنّه يشيد كذلك بفضيلة العفّة وضبط النفس لأنّه عن طريق هذه الفضيلة يستطيع الحكيم الأبيقوري أن ينظّم شهواته.
وعلى الحكيم الأبيقوري أن يقتصر على هذه الحياة التي يحياها وحدها، ولن يحيا غيرها، وأن ينعم فيها بأقصى لذّة ممكنة بأن يكون خالياً من كل تألّم، مطمئنّ النفس كأنقى ما تكون الطمأنينة، وخير طريق لانتظار الغد ـ أبيقوريا ـ ألاّ ينتظر المرء من الغد شيئا. نموذجه في ذلك خنزير أبيقور الشهير le fameux cochon d'Epicure
(كان أبيقور مسافرا في رحلة بحرية في عرض المتوسّط وبعد أيّام هادئة بين السّماء والماء اعترضت السفينة عاصفة بحرية هوجاء وصارت تتقاذفها الأمواج العاتية وتعبث بسلامتها الرياح فتعالى صراخ الركّاب وانتابهم الذعر الشديد وصار الكلّ يبحث عن وسيلة لإنقاذ السفينة ومن فيها من الغرق وقامت مجموعة من الرّجال تواجه هذا الخطر بشجاعة مغامِرة بحياتها من أجل إنقاذ السفينة وركّابها من الموت المحقّق. لكن أبيقور لفت انتباهه خنزيرا كان يلتهم العشب في زاوية غير مبال بما يحدث وغير آبه ولا منتبه للخطر الداهم وكأنّ أمر العاصفة لا يعنيه. تبسّم أبيقور لغرابة المشهد وقال: "لكي يعيش الإنسان مرتاحا لا بدّ وأن يكون مثل هذا" وكان يعني الخنزير)
·       القبول أم الرفض / "نعم " أم "لا":
الكندي: "ينبغي إذا لم يكن ما نريد أن نريد ما يكون "
يعتبر الكندي في رسالته في الحيلة لدفع الأحزان أنّ الألم والشّقاء حالات للنفس متى حدثت فيها كان الحزن وغياب السّعادة خاصيتها على أنّ الحزن ليس من طبيعة النفس وإنّما حالة حادثة أو موضوعة فيها وضعا فكيف يكون الحزن وممّا يتأتّى ؟
الافتقاد والفوت والسّلب أسباب يجعلها الكندي للحزن "إذا وجدنا إنسانا سلب ملكا فحزن... فإذن إنّما وضع ذلك الحزن لنفسه وضعا على ما سلبه أو ما فاته" لأجل ذلك يعرّف الحزن بقوله "إنّ الحزن ألم نفساني يعرض لفقد المحبوبات وفوت المطلوبات "إنّ لطيف الحيل إلى السّعادة إنّما يتمثّل في دفع الأحزان ويلخص الكندي الحيلة في أمر:  
عدم التأسّي على فائتة أو افتقاد محبوب ولن تحصل هذه الحالة إلاّ من خلال"
   × السلوّ إذ ليس الحزن حالة دائمة للنفس وإنّما حالة موقوتة فيها فالنسيان مصير الألم من أجل ذلك يكون الأفضل منذ البدء عدم التألّم أي أن يأخذ الإنسان الأشياء من خواتمها لا من بداياتها فلأنّ خاتمة الألم النسيان فلِمَ لا يعمل الإنسان منذ البدء على عدم التألّم ؟ و لأنّ مصير الألم الغياب فلِم العمل على إدامته إذن ؟
  × اعتبار أنّ الافتقاد والحرمان قدر مشترك بين الجميع دون استثناء وأنّ خاتمة ذلك الاقتناع والتسليم إذ لن يستطيع الإنسان أن يستعيد من جديد ما فاته أو أن يتلذّذ بما حرم منه وبالنتيجة فإنّ الاسترسال في التألّم حالة لا يمكن أن تكون للإنسان قدرة عليها أصلا و من ثمّة فإنّ مآل الافتقاد نسيان وبهج ظاهر يتحرّر الإنسان فيه من أحزانه طالما أنّ الذي يحزن لا يمكن أن يحزن أبدا وأنّ الذي يحزننا لأنّه فاتنا ما أحزن آخرين لم يكن لهم .ولذلك ينتهي الكندي إلى أن يعلن في موقع آخر أنّه "ينبغي إذن أن لا نحزن على الفائتات ولا فقد المحبوبات وأن نجعل أنفسنا بالعادة الجميلة راضية بكلّ حال لنكون مسرورين "
العبثية:  كامي  "إنّني حسود لأنّني أحبّ الحياة حبّا جمّا لا أستطيع معه إلاّ أن أكون أنانيا. ولكن الموت يأتي ليخطف كلّ شيء".
على الإنسان أن يجمع بين العقل والجنون، بين الفوضى والرّتابة، بين التوتّر والاستقرار ويكون سلاحه في ذلك، التمرّد، هذا ما خلص إليه الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو. كلّ هذا في سبيل حقّ الإنسان في حياة حرّة كريمة، وعلى هذا الإنسان أن يتمرّد في وجه الظلم والقسوة ويناضل من أجل التخلّص من كلّ أشكال العبودية في سبيل الحياة التي هي أفضل ما وهب للإنسان على الأرض، فحتّى نحترم الحياة ونليق بها علينا أن نسعى من أجل الحرّية، حرّيتنا وحرّية الآخرين. (إنّنا غير مسؤولين عن أمّنا وأبينا أو اسمنا أو ديننا، فكلّها حصلت قبل وجودنا أمّا المستقبل أو المصير فنحن مسؤولون عنه وعلينا أن نقرّره ونختاره وهذه هي الحرّية المسؤولة) لأجل ذلك يقاوم سيزيف قانونا طبيعيا (الجاذبية) وينتهي دوما إلى السّقوط على أنّ إعادة رفع الصّخرة من جديد بعد سقوطها هو ما يجعل سيزيف سعيدا إنّه يعيد الفعل و يتمّرد على الضرورة وعلى كلّ أشكال الحتميات وهو ما يجعله سعيدا رغم الانكسار والفشل.
يقول كامو: "هناك نوع من التفاؤل ليس بالطبع من سجاياي لقد ترعرعنا أنا وسائر أبناء جيلي على قرع طبول الحرب العالمية الأولى وقد تابع التاريخ منذ ذلك الحين حكاية القتل والجور والعنف إلاّ أنّ التشاؤم الحقيقي كالذي نراه اليوم يكمن في استغلال هذه الوحشية والخزي أمّا فيما يتعلّق بي فقد ناضلت دون هوادة ضدّ هذا الانحطاط، لست أكره إلاّ أولئك المتوحّشين وفي أحلك أعماق عدميتنا لم أكن أنشد غير سبيل لتجاوز العدمية"
·       انكسار؛ إرادة؛ تخيّل:
شوبنهاور  "هذه الحياةُ محزنةٌ جدّا، ولهذا فلقد قرّرت أن أقضّيها بالتأمّل فيها"
بلور شوبنهاور الفيلسوف الألماني  نظريته في كتابه الشهير: العالم إرادة وفكر إذ يعتبر الإرادة هي القوّة المسيطرة المتسلّطة، وليس العقل إلاّ خادما لها، فنحن لا نريد الشيء لأنّ الفكر يبرّر هذه الإرادة، وإنّما نحن نخلق المبرّرات للشيء لأنّنا نريده .
إنّ الإرادة في نظره هي التي تحفر الحفر في الجبين، وتبني الأوردة لدورة الدم، والإرادة هي التي تشكّل المخّ، وإرادة الأكل هي التي تشكّل الفم والأسنان والحلقوم، وإرادة التكاثر هي التي تجذب النبات إلى الشمس، إنّ الحياة هي الإرادة الغريزية في البقاء، لذا كان من ضروراتها التنافس والتنازع والهدم.
ولا يعني هذا أنّه يتناول مفهوم الإرادة من منظور إيجابي، فالإرادة لديه بلا دافع أو غرض، مجرّد جهاد أعمى غير ذي جدوى، يظلّ على المدى، ويتعاقب فيه النصر والهزيمة، والحياة والموت، وإرادة الحياة تدفع كلّ شيء في النهاية إلى الهلاك، فيقع كلّ إنسان آخر الأمر فريسة لإرادة الديدان، الماضي لديه زمن مات، والحياة موت مؤجّل.. كما أنّ المشي وقوع مؤجّل.. وكلّ نفس نتنفّسه ما هو إلاّ محاولة لدفع الموت، ولكنّها لا تجدي، لأنّ الموت يطلبنا من يوم أن نولد! لأجل ذلك اعتبر شوبنهاور أنّ السّعادة لا يمكن أن تبلغ إلاّ بحياة الزهد حيث يقع التطهّر من الإرادة علامة الشّقاء الإنساني طالما أنّها إرادة تطويع الآخر واختراق حياته  وتشويه سكينته إنّها إرادة تأليم وتعذيب إرادة حياة شرّيرة عليها أن تندثر .
الشفقة أساس السّعادة ولا يمكن أن يتحقّق ذلك إلاّ من خلال تجاوز حجب "المايا" (الاختلاف) عبر إذابة الإرادة وقتلها ودفعها إلى الأفول إنّه احتراقها الداخلي وغسلها من الخطايا أو ما يسمّى بالـ"نرفانا" (التطهّر) بحيث يفهم إقرار  شوبنهاور  بأنّ "زهرة القداسة لا تنمو إلاّ في أرض يرويها النضال"
نيتشه: " أنا كاللهيب النّهِم، أحترق، وآكل نفسي، نورٌ: كلُّ ما أُمسكُهُ، ورَمادٌ: كلُّ ما أتركُه أجلْ ! إنّي لهيب حقّاً "
إنّ البحث الجينيالوجي في المسألة الأخلاقية لا يستهدف الأخلاق كواقعة وإنّما يسائل أسس القيم يسأل عن أصلها وفصلها بل يسأل عن الذي يبدع القيم ويبنيها وكيف لا تتحوّل الأخلاق إلى قناع ونفاق
ومرض وسوء تفاهم وسمّ. إنّها مساءلة تضع كامل الإرث الأخلاقي موضع تشكيك وسخرية وإدانة وهذا شأن نيتشه بامتياز. فأعماله هي أشبه بشرارات نقدية تفتح نار الأسئلة على البداهات المحتجبة والأصول المنسية والعقائد المتحجّرة. وهو بذلك يفتتح منطقة خصبة كانت من قبل عصية أو ممتنعة على التفكير منطقة البحث في أصوليات الأخلاق. وهي بالطبع ليست دعوة إلى اتّباع الأصول، وإنّما هي محاولة لتفكيك مؤسّسة الحقيقة لدى الفلاسفة، بقراءة خطاباتهم كشبكات من المجاز والاستعارة، أو كألاعيب من القوّة والرغبة، أو كشفرات من الأعراض والعلامات، أو كأفخاخ من فجوات الكلام وخدع النصوص.
وتفكيك الحقيقة وجهه الآخر هو تفكيك لكلّ أصل متعالٍ أو مطلق أو ثابت، وذلك بتبيان نشأته التاريخية وأرضه المحايثة وتحولاته المتعاقبة. من هنا فالأصل يتكوّن ويكتسب ماهيته الثابتة أو هويته المتعالية بطمس تاريخيته وصيرورته أو بحجب كونه محصّلة فروعه التي هي أطواره أو وجوهه التي ينسخ بعضها بعضا عودة نقدية للفكر على نتاجاته، للكشف عن إشكالاته ومآزقه، أو لتعرية مفارقاته وفضائحه.
ضمن هذا الإطار ينقد نيتشه القيم ويحطّمها لأنّها أخلاق وضيعة تعدم الحياة وتحوّلها إلى كارثة (أخلاق العبيد). يجب إذن تحرير الإنسان من براثن اللاهوت، حتّى ينهض بديلا عن الله، كائنا يخلق معنى وجوده ويتحمّل مسؤوليته في إدارة مصيره وصنع مستقبله بصورة لا تأسره فيها هوية مسبّقة أو تعريف حاسم ونهائي (أخلاق السادة). وهذا معنى من معاني الإنسان المتفوّق أو الأعلى نموذجه زرادشت الذي تطهّر من عفن القيم واحتفل بالحياة وقلب لوح القيم اعتلى إرادته فتحوّل إلى قوّة تسخر من الألم لأنّه لم يعد مؤلما  وينظر من الأعالي لأنّه لم يعد يقطن السّفح والمنحدرات "أمرتهم بقلب منابرهم العتيقة حيث لم يكن يجلس إلاّ هذا الغرور أمرتهم أن يضحكوا سخرية من معلّميهم و من قديسيهم وشعرائهم.. ومن كلّ من كانوا فزّاعات سوداء منذرة فوق شجرة الحياة "
إرادة القوّة عند نيتشه هي إرادة الحياة والأرض إنّها الإرادة التي تبدع وتخلق تشرّع وتقود و هي إلى ذلك ما يحرّر من القطيع والعفن: إنّها الاحتفال بالأرض ونشدانها؛ الالتصاق بالجسد والارتفاع إليه.        "لا تمشي في طريق من طرق الحياة إلاّ ومعك سوط عزيمتك وإرادتك لتلهب به كلّ عقبة تعترض طريقك"
 روسو:  "إنّ بلد الأحلام في هذا العالم لهو الجدير بالسكن "
لمّا كانت السّعادة هي الاستمتاع فإنّ تحقّقها لا يتمّ من خلال إشباعها وإنّما لحظة السعي إليها أي "قبل أن نكون سعداء" أيعني ذلك أن تحقّق السّعادة قضاء عليها ؟
ما من شكّ في أنّ روسو من خلال هذا الموقف إنّما يعبّر عن موقف واقعي من السّعادة لا يرى فيها إشباعا لأنّ إشباعها يعني تأبينا وموتا لها وإنّما يعتبر أنّها إنّما تحتلّ موقعا هو ما قبل نهاية الفعل حتّى تظلّ حيّة لا تنعدم بل إنّه ليعتبر أنّ موقعها ذاك هو الموقع الذي خصّت به السّماء الإنسان إذ أنّه الكائن الذي له من الرغبة الكثير ولا يتحقق له من الإشباع إلاّ القليل. ولكن هل السّعادة في المتعة المتحقّقة واقعا أم أنّها في الخيال المطلق توهّما ؟
يعتبر روسو أنّ المتخيلة هي التي تصنع جمال الأشياء وسحرها إذ الجمال هو ما يضاف إلى الأشياء الواقعية والسعادة تقطن أرض الخيال لا أرض الواقع لأنّه متى تملكنا الأشياء حقيقة غاب جمالها
وسحرها أي افتقدنا كلّ سبل السّعادة التي كانت تجمعنا بها. معنى ذلك أن التّوهم هو المعين الذي ينبع منه الاستمتاع الأمر الذي دفع روسو إلى أن يعلن "إنّ بلد الأحلام في هذا العالم لهو الوحيد الجدير بالسكن" لأنّ السّعادة فيه أبدا والمتعة داخله لا تنقضي لكأنّ العالم غير جدير بأن يعاش دون أن نسكن فيه الوهم المتجدّد. و لكن هل من قيمة للفعل في هذا الإطار أليس الفعل هو الغائب أبدا نظرا لأنّ شرفه في غيبته ؟
المكابدة والعناء أمور تجعل للفعل قيمة، إنّ فعلا دون مجاهدة هو فعل ميّت كذلك الحياة التي لا معاناة فيها بحكم أنّ الرغبة كلّ الرغبة متحقّقة فيها حياة ليست جديرة بأن تعاش إذ أنّها حياة بائسة لا تستثرى بالخيال ولا تطمح إلى السّعادة.
خاتمة: كسر الثنائيات:
بيّن أنّ السّعادة لا يمكن أن تكون في موقع المفارقة غيبة وفي مجال الانتظار الأبدي أملا  إنّها لحظة تشوّق يجب أن تعاش واقعا وتبلغ تجسّدا حتّى لا تكون دوما تلاشيا وافتقادا يقنع بالصدمة ويحلم بتجاوز الكارثة دون أن يتجاوزها إذ أن موقفا كهذا لا يفعل إلاّ أن يسكن السّعادة جزيرة رودس المستعصية على الغزاة أبدا بل إنّه لا يفعل إلاّ أن يستثري الخيال طوباوية تفضّل اللامُتعيّن دوما بحجّة أنّه الخلاص الأبدي، وتدين الواقع بحكم أنّه سقطة وابتذال إذ أنّ الثابت هو أن تفضيل الثمرة المتخيّلة على الثمرة المأكولة إنّما هو علامة على انسداد الشهية أو هو "علامة جوع لا تشبعه أيّة ثمرة" كما يقول مالارمي .
فهل ثمّة ما يقوم شاهدا اليوم على سعادة الإنسان أم أن قدر السّعادة أن تظلّ تاريخ المواعيد المستحيلة للإنسان مع ذاته ؟ ومن وراء هذا السؤال راهنا أي سعادة لإنسان تقولب مشاعره وتصادر أحلامه في فضاء الصورة وإيديولوجيا العولمة؟

هناك تعليق واحد:

  1. غير معرف3/5/16

    merci bien mais fama 7ajat moch mafhouma en tt cas merci

    ردحذف