إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الأحد، 9 مارس 2014

التواصل والأنظمة الرمزية

إعداد الأستاذ: الفيتوري الرابطي
 العيش المشترك حقيقة تعلو على كلّ نقاش فالإنسان مدني بطبعه ليس وحشا أو إلها يقدر على العيش في العزلة. والوجود مع الآخرين هو بعد لا يمكن إسقاطه من معادلة البحث عن إنّية الإنسان وما هو إنساني فيه. وبغضّ النظر عمّا يمكن أن تتّخذه العلاقة 

مع الغير أكان فردا أو جماعة من أشكال تتراوح بين الصداقة والعداوة بين مقتضيات العقل وبين إملاءات الغرائز والانفعالات فإنّه لا بدّ في كلّ الأحوال من التواصل والتفاعل المتبادل إن على صعيد الحياة الروحية: فكرا وقيما وعقائد وتقاليد... أو على صعيد الحياة المادية: مصالحا وخدمات وخبرات وسلعا... والتواصل لا يقتصر على المستوى الأفقي أي على مستوى الأفراد والجماعات المتواجدين في مكان واحد وعصر واحد بل يمكن أن يكون أيضا تواصلا عموديا بين الأجيال المتعاقبة بين الماضي والحاضر.
والحقيقة الأخرى التي لا تقلّ بداهة عن الأولى هي أنّ للإنسان وجودا قصديا. فهو في العالم بين الأشياء لكنّه بما يسكن وعيه وجسده من مقاصد ومشاريع يواجه العالم عن طريق المعرفة وعن طريق الفعل ليغيّره ويكوّنه ويعطي لوجوده فيه معنى.
إذن التفاعل مع الآخرين تعاونا وتبادلا وتضامنا أو حتّى صراعا ومنافسة والتفاعل مع الأشياء بمعرفتها والفعل فيها هما البعدان الأساسيان لوجود الإنسان في العالم كوجود قصدي ينعكس في وعيه وجسده على حدّ السّواء. ومن البديهي أنّ التواصل والمعرفة يشترطان أجهزة وأدوات تستخدم كوسائط. وأهمّ هذه الوسائط التي يصنعها الإنسان هي الأنظمة الرمزية من لغة وفنّ ودين وصور وأسطورة وعلم وغيرها. لكن هل هذه الأنظمة الرمزية هي سلاح الإنسان لتحقيق ذاته أم أنّه من الممكن أن تتحوّل إلى سلطة على الإنسان تكرّس الوعي الزائف وتعمّق الاغتراب؟ هل تطوّر الأنظمة  الرمزية والتقنية للتواصل  شرط لمزيد التقارب بين الأفراد والشعوب أم تحوّل إلى مصدر لتكريس الفردانية والعزلة ولتبرير الصراع والهيمنة ؟ ألا يتحوّل الإنسان صانع الرموز ومستخدمها إلى أوّل ضحايا رموزه ؟
إنّ التصدّي الفلسفي  لهذه المشكل  يقتضي منهجيا الاضطلاع بالأسئلة:
هل التواصل واستخدام الرموز تعبير عن الوجود النوعي للإنسان وتحقيق لكيانه الفردي والجماعي أم أنّ الأنظمة الرمزية والتواصلية يمكن أن تتحوّل إلى أدوات قمع و سيطرة وإلى إنتاج الوعي الزائف؟ 
۞۞۞۞
1 – في الحاجة إلى الرّمز: 
                                 نصّ: الإنسان حيوان رامز: كاسيرير
موضوع النصّ: الخاصية المميّزة للإنسان
الأطروحة: القدرة على الترميز هي الميزة النوعية للإنسان
المستبعدة: التصوّر الفلسفي السائد للإنسان كحيوان عاقل
المشكل: هل يتميّز الإنسان عن الحيوان بالفكر أم بالقدرة على الترميز ؟
العناصر: ما أوجه الشبه بين الإنسان والحيوان ؟
فيم تمثّل القدرة على الترميز ميزة نوعية للإنسان؟
ما هي النتائج المترتّبة عن قدرة الإنسان على الترميز على منزلته في العالم ؟
التحليل:
1 – أوجه الشبه بين الإنسان والحيوان:
يشترك الإنسان مع الحيوان حسب كاسيرير في العديد من الخصائص منها:
ü    الحياة: الانتساب إلى نفس النوع من الكائنات هي الكائنات الحيّة = الكائنات العضوية التي تملك
القدرة على التغذّي والنموّ والتكاثر في مقابل الكائنات الفيزيائية (المادية)
ü    انتظام الحياة سواء في مستوى التركيبة العضوية للكائن أو في مستوى علاقته بمحيطه وفق قوانين
مختلفة عن القوانين الفيزيائية والكيماوية بحيث لا يمكن ردّ الحياة إلى المادة فقط ولا الجسم الحيّ إلى الامتداد كما فعل أنصار الاتّجاه الميكانيكي (الآلي) ولا ردّ البيولوجيا كعلم للحياة إلى الفيزياء والكيمياء كعلمين للمادة الجامدة رغم استفادتها منهما.
ü    امتلاك جهاز استقبال وجهاز تأثير: بما أنّ الحياة تفاعل دائم مع المحيط فإنّ لكلّ كائن حيّ أعضاء
يستقبل بها تأثيرات المحيط الخارجي مثل الحواس وأعضاء للتأثير فيه وتغييره
استخلاص: صفة الحياة والانتظام وفق قواعد مغايرة للقواعد الميكانيكية الناظمة للظواهر المادية الصرفة هي القاسم المشترك بين الإنسان والحيوان فبم يتميّز الإنسان ؟
2 – القدرة على الترميز صفة نوعية للإنسان:
يؤكّد كاسرير أنّ الفارق النوعي بين الإنسان والحيوان هي الوظيفة الرمزية فإذا كان الإنسان يشترك مع الحيوان في وظائف التغذّي والنموّ والتناسل والتكيّف مع المحيط هي الوظائف الحيوية الأساسية  فإنّ القدرة على الترميز هي خاصية نوعية ينفرد بها الإنسان ما يبرّر تعريفه على أنّه "حيوان رامز". فما المقصود بذلك؟
أ ـ تعريف الوظيفة الرمزية: تتمثّل الوظيفة الرمزية في قدرة الإنسان على إنشاء الرموز أي على تمثيل الأشياء والعواطف والأفكار بعلامات حسّية أو حركية أو بصرية أو صوتية (طبيعية أو اصطلاحية) دالّة عليها ومعبّرة عنها، واستخدامها في علاقته بذاته وبالآخرين وبالأشياء.  الرمز هو ما دلّ على غيره. ويمكن تفكيك كلّ رمز إلى:
 دالّ: الصورة البصرية أوالصوتية أو الحركية ما يقع تحت الحواس
مدلول: الصورة الذهنية = المعنى المجرّد المدرك بالعقل
·       في التمييز بين الرمز والعلامة:
 على الرغم من التقارب بين العلامة والرمز فكلاهما يستخدم لتمثيل الأشياء والدلالة عليها، يوجد فرق بينهما، بين الرمز والمرجع الذي يدلّ عليه علاقة ضرورية بحيث لا يمكن مثلا استبدال الميزان بشيء آخر للدلّ على العدالة بينما تقوم بين العلامة والمرجع علاقة اعتباطية
·       في التمييز بين الرمز والوسيط:
الوسيط médiateur   هو ما يقوم بالوساطة ويصلح لتحقيقها، ما به يتمّ الاتّصال بين طرفين وتتحقّق الوساطة médiation . يجمع على "الوسائط". يكون الوسيط ماديا مثل كافّة الوسائل /الوسائط التقنية التي يستخدمها الإنسان لتحقيق أهدافه في العيش أو التفاعل مع الغير شأن الراديو /التلفاز / الهاتف... ويكون أيضا رمزيا وتبعا لذلك كلّ رمز وسيط وليس كلّ وسيط رمزي.
إذن: إذا كان للحيوان علاقات مباشرة حسّية غريزية بمحيطه  فإنّ الإنسان ينشأ  الرموز ويستخدمها كوسائط بينه وبين محيطه.
استخلاص: الوظيفة الرمزية التي تتجلّى في قدرة الإنسان على إنشاء شبكة من العلامات و الرموز
يستخدمها كوسائط في علاقته بذاته والآخرين والأشياء هي ما  تجعل من حياته مختلفة نوعيا عن الحياة الحيوانية.  فإلام تمتدّ هذه الشبكة الرمزية ؟
ب – أصناف الرموز:
يشير كاسرير إلى أنّ منظومة الرموز التي يستخدمها الإنسان تشمل جميع أبعاد حياته المادية والروحية و تتجسّد في: اللغة، الفنّ، الأسطورة،  الدين، العلم، الصورة. وهي قابلة للاتّساع والتنوّع  باستمرار بحسب تطوّر الواقع الإنساني وتعقّد احتياجاته، فأيّ غنم يجنيه الإنسان من هذه المنظومات الرمزية ؟
3 – مزايا المنظومات الرمزية:
يؤكّد كاسيرير أنّ إنشاء المنظومات الرمزية يؤمّن للإنسان تحقيق الوظائف التالية:
وظيفة أنطولوجية: ما يحقّق الوجود النوعي للإنسان: فإذا كان الحيوان يتفاعل مع محيطه تأثّرا وتأثيرا بصفة غريزية مباشرة  فإنّ المنظومات الرمزية التي يتّخذها الإنسان تجعله "يعيش في بعد جديد من أبعاد الواقع" وتحوّل حياته "بصفة نوعية" وتجعله منفردا ومتميّزا عن باقي الموجودات
 وظيفة معرفية: فالمنظومات الرمزية
·       تجعل ردود الإنسان  أفعال أرجاع: تحوّلها من استجابات غريزية عفوية ونمطية عن مثيرات داخلية أو خارجية كما هو شأن
 الحيوان إلى " أرجاع " أي  أفعال يسبقها تأمّل وتدبّر وتفكير وتعبّر عن إرادة واعية بذاتها
·       تؤسّس قدرته على التفكير والمعرفة: فالتفكير يشترط الرموز اللغوية / الأسماء والألفاظ والجمل التي من خلالها يتمثّل الأشياء
 ويصنّفها ويميّز بينها ويبن الواقع  الخام ويصوغ استدلالاته حوله.
·       تكرّس سلطته على الأشياء والأشخاص:  فإذا كانت الرموز شرط المعرفة فإنّ المعرفة هي شرطالفعل الناجع في الأشياء
 والتأثير في الأشخاص عن طريق إقناعهم واستمالتهم وحتّى تغليطهم وخداعهم
 وظيفة تواصلية / اجتماعية: فالرموز:
·       تسمح له بتحقيق التواصل مع ذاته ومع غيره فهي أداة تعبير وبيان وتبادل للعواطف والخبرات والمعاني وشرط  تحقّق الحياة 
الجماعية واستمراريتها. فالرموز هي شرط التواصل وأدوات تحقيقه. وهي سبيل الفرد للاندماج في المجتمع.
وظيفة أنتروبولوجية: فالأنظمة الرمزية تؤصّل الهوّية الثقافية للأفراد وتكرّس خصوصية الشعوب في نظم عيشها وتفكيرها. فلكلّ شعب رموزه الخاصة التي من خلالها ينظّم عيش المنتسبين إليه ويميّزهم عن غيرهم من الشعوب
استخلاص عام: الإنسان مدين لما ينشئه من رموز بكلّ مقوّمات إنسانيته التفكير والتعبير والمعرفة والتواصل والتأثير على محيطه  ما يجعل من الإنسانية لا امتدادا للحيوانية بل تحوّلا نوعيا عنها وإذا كان روسو يعتبر هذا التحوّل النوعي ضربا من الانحطاط انتصارا لأطروحته القائلة بأنّ المجتمع أصل الشرّ والطبيعة أصل الخير وأنّه كلّما ابتعد الإنسان عن الحياة الطبيعية ازداد فسادا فإنّ كاسيرير يستبدل المقاربة التقييمية / المعيارية للتحوّل من الحيوانية إلى الإنسانية بإقرار مفاده أنّ الإنسان لا يمكنه الإفلات من كماله الخاصّ وكمال الكائن الإنساني في قدرته على الترميز والعيش في عالم رمزي من إنشائه.   
المناقشة: المكاسب
ü     اعتبار الترميز خاصية نوعية للإنسان تنبع من تكوينه ككائن متعدّد الوظائف الاستقبال / التأثير والترميز
ü     تعريف الرمز على أنّه أحد الوسائط التي يستخدمها الإنسان بينه وبين العالم الموضوعي من دين ولغة وأسطورة وصور
ü     التأكيد على أنّ الإنسان مدين للرموز بكلّ شيء: المعرفة التأثير في الأشياء التواصل مع الآخرين
الحدود: ألا يمكن أن تتحوّل الرموز التي ينشئها الإنسان إلى سلطة على الإنسان ؟
 هل الإنسان هو في كلّ الأحوال سيّد رموزه ؟ أليست الرموز سلاحا ذا حدّين بقدر ما تكون سبيلا لتحرير الإنسان من الحيوانية يمكن أن تكون سلاحا للسيطرة عليه وإخضاعه ؟
استخلاص عام: تنبع حاجة الإنسان إلى الرموز من كونه كائنا متعدّد الأبعاد والوظائف يتميّز نوعيا عن بقية الكائنات بقدرته على إنشاء شبكة من الرموز يوظّفها كوسائط بينه وبين ذاته وبينه وبين العالم الموضوعي. فالقدرة على الترميز وتمثيل الأشياء والأفكار والمعاني بعلامات حسّية أو مجرّدة دالّة عليها هي الميزة النوعية للإنسان. فما هي أهمّ أصناف الرموز التي أنشأها ؟ وما هي الأدوار التي لعبتها لتضفي معنى على وجوده  في العالم ؟
۞۞۞۞
2 – المنظومات الرمزية:
أ – الرمز اللغوي:
                                    نصّ: الإنسان واللغة ـ بنفينيست
موضوع النصّ: منزلة اللغة لدى الإنسان
الأطروحة: الإنسان مدين للغة بما هي أرقى أنظمته الرمزية بكلّ أبعاد إنسانيته
المستبعدة: التعريف السائد للغة على أنّها مجرّد أداة للتفكير والتعبير والتواصل
المشكل: هل اللغة مجرّد أداة رمزية يتسلّح بها الإنسان للتعبير والتواصل أم هي شرط إنسانيته في كلّ أبعادها ؟
تفريع المشكل: فيم تمثّل اللغة ميزة إنسانية ؟ وما الذي يؤهّلها لتكون أساس إنسانية الإنسان ؟ وما هي وظائفها ؟
التحليل:
1 – اللغة ميزة إنسانية:
يؤكّد بنفينيست أنّ الإنسان وجد بوجود اللغة فهو وإن كانت له ولادة بيولوجية كسائر الأحياء فإنّ ولادته الحقيقية كإنسان تتزامن مع اكتسابه اللغة. وينطبق هذا الرأي على النوع كما على الفرد:
·      على مستوى النوع: فما كان النوع البشري ليتميّز عن النوع الحيواني لو لم يملك اللغة. فميزاته البيولوجية مثل انتصاب الوقفة 
ونضج بنيته الدماغية وتحرّر يديه تجعل منه حيوانا راقيا ينتسب إلى الرئيسيات أمّا اللغة فهي ما ينتقل به إلى المنزلة الإنسانية
·       على مستوى الفرد: بعد الولادة مباشرة لا يختلف الطفل كثيرا عن الحيوان بسبب استغراقه التامّ في الوجود الحسّي لكنّه بتعلّم 
اللغة ينشأ لديه الوعي بالذات وبالمحيط الاجتماعي وتنمو قدرته على المعرفة والتواصل ويكتسب كلّ المؤهّلات التي تجعل منه
إنسانا
استخلاص: اللغة هي فيصل التفرقة بين الحيوانية والإنسانية. فما الذي يؤهّلها لذلك؟
2 – تعريف اللغة:
اللغة هي القدرة على تمثيل(تعويض) الأشياء والأفكار والمشاعر برموز صوتية دالّة عليها. هي القدرة على التعبير اللفظي عن طريق الأسماء والألفاظ والجمل. وهي تتضمّن جانبا شخصيا هو الكلام عينه الذي يشترط  استعدادات نفسية وفيزيولوجية  وجانبا موضوعيا / اجتماعيا هو اللّسان = نظام من القواعد الصوتية والمعجمية والتركيبية يتعلّمه الفرد إلزاميا من المجتمع
وهي نتاج ملكة الترميز لدى الإنسان بل هي النظام الرمزي الذي تصل فيه ملكة الترميز أقصى تحقّقها  فما الذي يمنحها أحقّية تصدر الأنظمة الرمزية لدى الإنسان ؟
خصائص اللغة:
يشترك الفلاسفة والألسنيون في التأكيد على تميّز اللغة عن بقية الوسائط الرمزية بجملة من الخصائص:
ü    اعتباطية العلاقة بين الرمز اللغوي (اللفظ) والمرجع: فاللغة  تقيم علاقة غير مبرّرة، غير ضرورية بين الرمز والمرجع إذ لا
 شيء يلزم بأن نعبّر عن شيء معيّن برمز لفظي معيّن بل التواضع والاتّفاق هو أصل اقتران الدليل بالمرجع. وأهمّ الحجج على 
اعتباطية الدليل (الرّمز) اللغوي
·       تعدّد اللغات
·       وجود المترادفات في اللغة الواحدة
و خاصّية الاعتباطية النابعة من الأصل التواضعي للغة هي ما يبرّر تعدّد اللغات و تساوي قيمتها
ü    الطبيعة الحوارية: فاللغة  تفترض التخاطب، الكلام و الردّ على الكلام  أي تبادل الأدوار بين الباثّ (المرسل)  والمتقبّل 
(المرسل إليه) "نحن نكلّم أشخاصا هم بدورهم يتكلّمون"
ü    التمفصل: اللغة ذات تمفصل مزدوج: فأي ملفوظ لغوي يقبل التحليل والتفكيك  إلى نوعين من الوحدات:
·       وحدات دنيا دالّة هي اللفاظم monéme = التمفصل الأوّل
·       وحدات دنيا غير دالّة هي الصواتم phonéme = التمفصل الثاني
مثال: لي ألم في رأسي
تقسم إلى 6 وحدات دالّة (لفاظم) monéme التمفصل الأوّل:
 << ل>> – << ي >>–<< ألم>> – << في>> – << رأس>> – << ي >> و يمكن إقحام أي وحدة منها في جملة أخرى لتدلّ على معنى مغاير مثل:  تقابلت مع الرأس: القائد /  رأس الصفحة: أعلاها /  رأس السنة: بدايتها
 و هذه الوحدات تقبل القسمة إلى وحدات أدنى وحدات دنيا غير دالّة phonéme = التمفصل الثاني
 مثلا رأس تقسم إلى 3 وحدات صوتية / ر/ ، / أ / ، / س /
ويمكن بهذه الأصوات تكوين عدد كبير من وحدات التمفصل الأوّل مثل: << سر >>، << أسر>> ، << سرّ >>، << أس >> ، << ر >> ....
إنّ التمفصل  هو ما يجعل اللغة النظام الرمزي الأكثر اقتصادا فعن طريق بعض العشرات من الرموز الصوتية يمكن الحصول على الآلاف من الألفاظ التي عن طريق تنويع وتغيير تركيبها يمكن التدليل على عدد لا متناه من المعاني.
استخلاص: تتميّز اللغة كمنظومة رمزية بطابعها الحواري والاقتصادي وبالتمفصل الذي يعطيها قدرة على فعل الكثير بالقليل وعلى تمثيل عدد لا متناه من الوقائع والدلالة عليها. وذلك ما يجعل من اللغة أرقى درجات تحقّق القدرة على الترميز لدى الإنسان. فما هي وظائف اللغة ؟ ما الذي يجنيه الإنسان منها ؟
3 – وظائف اللغة
تسمح اللغة للإنسان بما هي أعلى وأرقى مظاهر قدرته على الترميز ب:
التفكير: لأنّ التفكير ليس شيئا آخر غير تنظيم الواقع وتمييز مكوّناته وروابطه عن طريق الأسماء والألفاظ  والجمل فنحن إذ نفكّر نبني موضوع تفكيرنا عن طريق اللغة وإذ نستخدم اللغة نحوّل الفكر من مجرّد استعداد نفسي إلى ممارسة موضوعية إلى معرفة تسعى للسيطرة على الواقع هذا إلى جانب أنّنا نتعلّم التفكير عن طريق تعلم اللغة. فاللغة شرط لتكوّن الفكر ولتحقّقه موضوعيا فـ "ما يمكننا قوله هو ما يحدّد ما يمكننا تعقّله"
·       التعبير: اللغة تسمح للإنسان بالتعبير عن مشاعره وأفكاره بطريقة أكثر وضوحا وفصاحة  
·       التواصل: فهي أرقى وأنجع أدوات التواصل مع الغير. فاللغة بطبيعتها الحوارية تضع الإنسان وجها لوجه مع الآخرين وتسمح لهم بتبادل المعلومات والخبرات والمشاعر كما تنتج التأثير المتبادل مثلا هي تستخدم  للإقناع  والاستمالة والخداع كما تستخدم  للتنوير والإبانة وإزالة سوء التفاهم
·       الاندماج في المجتمع: في كلّ لغة جانب اجتماعي هو اللسان وهو على علاقة متينة بمكوّنات المجتمع الثقافية عاداته وتقاليده ورؤيته للعالم "إنّ رؤيتنا للعالم مقرّرة سلفا باللغة التي نتكلّمها" لذا فإنّ تعلّم اللغة هو شرط الاندماج في المجتمع واكتساب الوعي بالمحيط  الاجتماعي
§       التعرّف على ثقافة الشعوب الأخرى: عن طريق تعلّم اللغات المختلفة يستطيع الإنسان التعرّف على ثقافات الشعوب وقيمها وأنماط عيشها وصولا إلى الوعي بوحدة الإنسانية رغم تعدّد اللغات والثقافات
استخلاص: اللغة هي الوسيط الأساسي بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والأشياء فهي مصدر وعيه بذاته وبالآخرين وأصل سلطته على الأشياء
المناقشة: المكاسب تتلخّص في:
ü    اعتبار اللغة أرقى  درجات تحقّق ملكة الترميز لدى الإنسان فهي النظام الرمزي المثالي الذي تبنى عليه منزلة الإنسان في العالم
ü     تأسيس المكانة المميّزة للغة ضمن بقية الأنظمة الرمزية الخطّية والحركية والبصرية التي ينشئها الإنسان على ما يتميّز به الرمز اللغوي من طابع حواري وقدرة على تمثيل كلّ شيء واقتصاد  وتمفصل
ü     الاعتراف بأنّ اللغة هي أساس ما يملكه الإنسان من سلطة على الأشياء وعلى الإنسان نفسه
الحدود:
ü    إذا كانت اللغة  هي شرط التواصل الرئيسي  بين الناس فإنّ ذلك لا يعني عدم توسّل الإنسان بالإشارات والحركات وغيرها من الرموز الأخرى للقيام بالتواصل. فأنظمة التواصل لدى الناس أشمل من أن تختزل في التواصل اللغوي  بل حتّى خلال التواصل اللغوي يضطرّ الإنسان للقيام ببعض الحركات بأعضائه الجسدية المختلفة (الوجه واليدين والعينين ...) تكون أحيانا أبلغ من لغة الكلام.
ü    ليست اللغة وسيطا  شفّافا في مطلق الأحوال بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والأشياء فهي كثيرا ما تتحوّل في مستوى العلاقة بالإنسان  إلى أداة للتضليل والمغالطة  والإخفاء حتّى قيل "جعل الكلام لنخفي ما نريد" وإنتاج الوعي الزائف وسوء التفاهم. أمّا في مستوى العلاقة بالأشياء يمكن للغة أن تكون مصدر الأخطاء.
ü    اللغة بقدر ما هي شرط سلطة الإنسان بقدر ما تكون سلطة عليه فعن طريقها يُخدع مثل في لغة الإشهار والدعاية وعن طريقها يخضع الفرد للمجتمع فالفرد ملزم باحترام قواعد اللسان بما هو مؤسّسة اجتماعية مستقلّة عنه 
استخلاص عام:
اللغة هي أرقى منظومة رمزية يستخدمها الإنسان في علاقته بذاته وبمحيطه. وهي على الرغم من مزاياها العديدة يمكن أن تكون سبيلا للسيطرة على الإنسان. فماذا عن الصورة ؟ وأيّ خدمة تسديها للإنسان ؟ وهل ننتظر منها تجاوزا لحدود اللغة ؟
۞۞۞۞
 ب  ـ الصورة : نصّ حدود الصورة ـ ديبراي
موضوع النصّ: قيمة الصورة
الأطروحة: على الرغم من فضائل الصورة المعروضة على الشاشة فهي تمارس سلطة على الإنسان إذ تختزل فعاليته في المشاهدة
المستبعدة: الاعتقاد السائد اليوم في أنّ الصورة هي الوسيط المثالي الذي حقّق تقدّما في اتّجاه تحرّر الإنسان  من التعتيم والتضليل  
المشكل: هل الصورة البصرية سبيل لتحرّر الإنسان من التعتيم والتضليل أم أنّها على الرغم من فضائلها لا تخلو من ممارسة السلطة على الإنسان ؟
العناصر: ما الصورة ؟
ما الذي يبرّر اعتبار العصر الراهن عصر الفيديوسفار ؟ وفيم تتجلّى سلطة الصورة البصرية ؟
التحليل:
1 – تعريف الصورة:
كلمة الصورة تحمل على الأقلّ على معنيين
§       معنى ذهني: التمثيل المجرّد والذهني لشيء وحدث حسّي ما. الانطباع الذي يبقى في ذهن الإنسان عن شيء ما حتّى بعد غياب هذا الشيء عن الحواس. وبهذا المعنى تتقاطع كلمة الصورة  مع كلمات التصوّر وهو استحضار صورة شيء ما في الذهن  والتخيّل.
§       معني عيني: التمثيل البصري الحسّي للأشياء والأحداث عن طريق الرسوم والأشكال و الألوان والأضواء وهي أصناف: الصورة  المرسومة والمحفورة والمنحوتة والمعروضة على الشاشة
 يفترض إنتاج الصورة بما هي تمثيل بصري لشيء ما إلى جانب العقل والخيال والمهارة الفنّية، وسائل تقنية بدءا من الوسائل اليدوية التقليدية وصولا إلى أحدثها وهي الخاصة بالصورة المعروضة على الشاشة
ü    تقنيات الكاميرا للالتقاط الصور وتركيبها والتحكّم فيها.
ü     تقنيات الشاشة الفيديو لعرض الصورة وتوظيفها.
استخلاص: الصورة هي إحدى الوسائط العريقة التي استخدمها الإنسان إلى جانب اللغة المحكية والمكتوبة وبقّية الأنظمة الرمزية.
 فما الذي يبرّر اعتبار عصرنا عصر الصورة المعروضة على الشاشة ؟
2 – مبرّرات اعتبار الصورة المرئية على الشاشة ميزة العصر الرّاهن
يشير ديبراي مبدئيا  إلى أنّ حضور الصورة ملازم لتاريخ الحضارة الإنسانيّة. فقد عرفت كلّ العصور أشكالا مختلفة من الصور المرسومة والمنحوتة والمحفورة التي كان لها الدور البارز في أنظمة الوسائط والرموز التي تستخدمها الشعوب. فالحضارة بشكل عام نسيج من الرموز والصور معبّرة عن الأفكار والقيم والأنظمة السائدة في كلّ عصر. وتبعا لذلك يميّز مؤلّف "حياة الصورة وموتها " بين 3 حقبات أو عصور مرّت بها الحضارة الإنسانية:
 + اللوقوسفار: حقبة الخطاب والأصنام
 + الغرافوسفار: حقبة الأشكال والفنّ
  + الفيديوسفار: العصر الرّاهن: عصر الشاشة أي عصر الصور المعروضة على الشاشة مثل الصورة السينمائية والتلفزية والرقمية فما الذي يبرّر هيمنة الصورة المرئية على الشاشة اليوم ؟
من البديهي أنّ هيمنة الصورة المرئية على الشاشة هي نتاج تاريخي:
ü    لتطوّر  تقنيات الكاميراء والفيديو  فالثورة التقنية لم يقتصر تأثيرها على الحياة المادية للمجتمعات المعاصرة بل شملت أدوات وأجهزة الاتّصال والإعلام
ü    ظهور السينما والتلفاز والحاسوب وانتشارها الجماهيري وتعميمها وهي أجهزة تعتمد بالأساس على الصورة البصرية لتحقيق خدماتها الإعلامية والإعلانية والتثقيفية والترفيهية والإشهارية والدعائية  
ü     التحوّلات الحضارية التي تمسّ الحياة المادية والروحية للإنسان خصوصا من جهة انتشار التعليم والمعرفة  والتقارب بين الشعوب وتزايد الحاجة إلى الاتّصال والتدفّق الحرّ للمعلومات والأخبار والمصالح
استخلاص: ظهور الشاشة وانتشارها الجماهيري والتحوّلات الحضارية التي تعيشها المجتمعات المعاصرة هو شرط الإمكان التقني والحضاري لهيمنة الصورة البصرية المعروضة على الشاشة على نظام الوسائط في العصر الراهن. 
فماذا تعني هيمنة الصورة البصرية ؟ هل هي خطوة أخرى على طريق التحرّر أم ردّة على التحرّر؟
3 – فضائل الصورة المعروضة على الشاشة:
يسود الاعتقاد في عصر الفيديوسفار في أنّ الصورة هي:
§       الوسيط الأكثر قابلية للتوظيف للإيصال وللإقناع والتأثير
§       الناقل الأكثر كفاءة وأمانة للأحداث والوقائع. فالصورة "طفولة العلامة" بمعنى أنّها العلامة الأكثر براءة ووفاء  في نقل الوقائع وإيصالها دون تحريف أو تشويه فإذا كانت اللغة تجعلنا في موقف المتكلّم عن الأشياء فإنّ الصورة تجعل الأشياء تتكلّم عن نفسها
§       الوسيط الأكثر إثارة وقدرة على التأثير على قناعات الناس واهتماماتهم فهي لا تقتصرعلى نقل الفكرة أو المضمون الإعلامي بل تركّز خصوصا على الشكل واللون والحركة وهي العناصر الأقرب إلى عقل الإنسان  وعاطفته. اللغة تخاطب العقل بينما الصورة تخاطب العين والعين هي بوّابة القلب كما يقال.
§       الأكثر ملاءمة للإيقاع السريع للحياة المعاصرة فمشاهدة صورة في ثواني تغني عن قراءة كتاب أو صحيفة في ساعات
§       هي عنصر توحيد بين الناس فإذا كانت اللغة وبقية الرموز تفرّق الشعوب بسبب تعدّد الألسن والثقافات فإنّ الصورة البصرية توحّدهم. فهي في متناول الجميع ولا تحتاج إلى تعليم خاصّ كي تستوعب. لا يحتاج البصري إلى أيّ شيء آخر غير المشاهدة ليستوعب ويصدّق.
§       هي وسيلة بشر لا وسائل لهم ويصحّ ذلك على العصور القديمة حيث لم يكن للشعوب غير آلية التصوير حفرا أو نحتا أو رسما للتعبير عن مقدّساتهم وحفظ تراثهم كما يصحّ على العصر الرّاهن فهي سلاح من لا سلاح له لمجابهة القوّة المادية الغاشمة
استخلاص: فضيلة الصورة البصرية تكمن في قدرتها على مخاطبة الجميع على اختلاف ثقافاتهم
 ولغاتهم وعلى التعبير الوفيّ عن الأحداث والوقائع وعلى تأسيس ردود فعل المتلقي على المشاهدة فحسب. لكن على الرغم من هذه الفضائل ألا تنقلب الصورة إلى أداة للسيطرة على الإنسان ؟
4 – سلطة الصورة:
يؤكّد ديبراي أنّه على الرغم من هيمنة الصورة البصرية في عصر الشاشة ومن الاعتراف لها بدور متقدّم في مجالات الإيصال والتعبير والإعلام والتعريف وإحداث التقارب بين الشعوب فإنّ ذلك لا يعني استحالة تحوّلها إلى أداة للسيطرة والهيمنة على الإنسان: فالصورة البصرية:
§       أحدثت انقلابا جذريّا في المعايير المرجعية للتمييز بين الحقيقة والخطأ بين الصدق والكذب أحدثت قلبا جوهريا لأسس الثقة. فإذا كان عصر اللوقوسفار يبني الثقة في رأي ما أو خطاب ما على معقوليته
   وصفائه من شوائب الإحساس و الظنّ، وإذا كان عصر القرافوسفار  يؤسّس الصدق على السلامة المنطقية والهندسية للبناء / الشكل فإنّ عصر الشاشة يؤسّس الصدق والثقة على البصري على المرئي. فلا صدقية لشيء إلاّ ما يرى على الشاشة. إذن تتجلّى سلطة الصورة في نقل أساس التصديق والثقة من العقل إلى العين.
§       تعلّق قدرة الإنسان على التفسير والفهم وتختزل نشاطه في المشاهدة: التفسير أو الفهم كلاهما يفترض حجاجا حركة استدلال من المقدّمات إلى النتائج، انتقالا من المحسوس إلى المعقول صعودا من المرئي إلى اللامرئي بينما سلطة الصورة تتركّز في المطابقة بين المعقول والمحسوس / المرئي " مشاهدة صورة ما تفسير لها ". فالصورة  تعلّق قدرة الإنسان الفكرية على التحليل والشرح والتأويل وتختزل فعاليته في المشاهدة
§       تكرّس سلبية المتلقّي وتسلبه حسّه النقدي فالصورة تولّد الانبهار والاستسلام لتأثيرها السحري
§       تضطلع بوظيفة إديولوجية فهي عادة ما  تعبّر عن إرادة ومصالح الطرف (طبقة شعب ثقافة فئة) الذي يملك القدرة على صنعها وعرضها وفرضها على حساب الآخرين. فهي إذن سلاح إديولوجي غير محايد يستخدم للسيطرة على عقول الناس وتوجيه مواقفهم  والتحكّم في آرائهم بسبب انحيازها الدائم إلى مصالح وأهداف سياسية أو اقتصادية  لجهة أو طرف بعينه
§       تخدع وتضلّل إذ تفرض لبسا وتداخلا بين الواقعي والافتراضي بين الحقيقي والخيالي بالنظر إلى إمكانية التحكّم الالكتروني في تركيبها وعرضها  " فهي بقدر ما ترينا العالم تعمينا عن النظر إليه" فلأنّها ترينا أشياء وتخفي عنّا أخرى فهي مصدر للوعي الزائف والأخطاء والمغالطات
§       تفقّر عالم الإنسان إذ تقصي اللامرئي المؤثّر على حياته من معاني ومقدّسات وقيم مجرّدة لتختزل الحياة في المشهد والبصري ولتحوّل الإنسان إلى كائن شبيه بقنديل البحر ميدوز كائن مضيء يستشعر الضوء ويعدّل عليه حركته وردود أفعاله.
استخلاص: الصورة كغيرها من الوسائط بقدر ما هي سبيل لتنظيم علاقة الإنسان بمحيطه هي أيضا سلاح يمكن أن ينقلب ضدّ الإنسان يعميه عن واقعه ويحدّ من  تطلّعه نحو التحرّر.
المناقشة:
المكاسب:
ü    التنبيه إلى المنزلة العريقة للصورة البصرية ضمن أنظمة الوسائط التي يستخدمها الإنسان إذ لم تخلو الحضارة الإنسانية عبر التاريخ من الصور البصرية المرسومة والمحفورة والمنحوتة  التي استخدمتها الشعوب لحفظ تراثها وثقافتها والتعبير عن مقدّساتها ومقاومة الموت والنسيان
ü    التأكيد على أنّ ميزة العصر الرّاهن هي هيمنة الصورة البصرية المعروضة على الشاشة التي انتزعت مرتبة الصدارة من اللغة والخطاب وحتّى الصور البصرية التقليدية 
ü    على الرغم من فضائل الصورة البصرية المعروضة على الشاشة وخدماتها الاتّصالية والإعلامية والترفيهية وغيرها فهي سلاح قابل للتوظيف للسيطرة على الإنسان عن طريق جعل المشاهدة النشاط المرجعي الذي تبنى عليه مواقف الإنسان وأفعاله وأفكاره وتحويل الحياة إلى مشهد
الحدود: هل يبرّر اتّهام الصورة البصرية المعروضة على الشاشة الزهد فيها واحتقارها ؟
 الحقيقة إذا كانت الصورة البصرية قابلة للتوظيف السلبي من أجل السيطرة الإديولوجية على الإنسان  فإنّ مقاومة تأثيرها لا تعني الخروج من العصر عبر إقفال الشاشات بل تفترض التسلّح بالقدرة على إنتاج الصورة المضادة  والتحلّي بالحسّ النقدي لقراءتها وتفكيك مغالطاتها فإذا كان المنطقيون القدامي قد نبّهوا إلى مغالطات اللغة وإلى كيفية التصدّي لتأثيرها فما أحوجنا اليوم إلى خطاب نقدي يكشف مغالطات الصورة. 
۞۞۞۞
 ج – الرمز الديني   نصّ: الدين اليوم ـ  قرانجي
الموضوع: منزلة الدين
الأطروحة: الدين من حيث هو تعبير عن تعلّق الإنسان بالمقدّس لا يتعارض مع العقل ولا يمكن الاستغناء عنه.
المستبعدة: التصوّرات المعاصرة المعادية للدين على أنّه "أفيون الشعوب" أو "عصاب جماعي" لا بدّ من التحرّر منه لتأسيس موقف عقلاني.
المشكل: هل الدين هو أفيون الشعوب يجب التحرّر منه لتأسيس موقف عقلاني ملائم لحضارة العلم والتكنولوجيا الراهنة أم لأنّه تعبير عن تعلّق الإنسان بالمقدّس لا يتعارض مع العقل ولا يمكن الاستغناء عنه ؟
العناصر: ما هي ملامح المجتمعات المعاصرة ؟ وما مكانة الدين فيها ؟
بم يمكن أن نفسّر استمرار الدين كقوّة مؤثّرة في التاريخ لا كقوّة على هامش التاريخ ؟
وماذا تبعا لذلك عن علاقة الدين بالعقل ؟
التحليل:
1 ملامح المجتمعات المعاصرة:
ينطلق قرانجي من تشخيص لواقع المجتمعات المعاصرة فهي مجتمعات:
·       منتظمة وفق مبادئ عقلانية:  أي أنّها تتحرّك طبقا لمبادئ  ومفاهيم عقلانية / لا دينية من وضع الإنسان  للمعرفة  والقيم قيم العدالة والحرّية والحقّ الناظمة للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية
·       تتوسّل بالعلم والتكنولوجيا بصفتها القوى الفاعلة والناجعة للتأثير على الأشياء والأشخاص  وتحقيق الغايات السياسية والاقتصادية. فهي ليست مجتمعات دين وسحر.
·       تسودها ثقافة مادية لا دينية سواء:
+ من جهة المراهنة على تحقيق أهداف عامة مادية دنيوية شأن الرّفاه / التنمية / التقدّم / التحرّر ...
+ ومن جهة شيوع العلمانية فصل الدين عن الدولة وإبعاد الدين عن الشؤون العامة وحصره في الحياة الخاصة
+ وأيضا من جهة ظهور فلسفات لا دينية إلحادية تجهر بمعادتها للدين:
مثل الفلسفة النيتشوية التي أعلنت موت الربّ، أو الفلسفة الماركسية التي تعتبر الدين أفيونا للشعوب ولا خلاص اجتماعي وسياسي للإنسان بغير خلاصه من الدين ومن الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي أنتجته "فنقد الدين هو بداية نقد وادي الدموع الذي يمثّل الدين هالته العليا" أو التحليل النفسي الفرويدي الذي يعتبر الدين منظومة أوهام يجب التخلّص منها عن طريق التربية العقلانية.
لكن هل جعل واقع المجتمعات المعاصرة  من الدين قوّة على هامش التاريخ أم ما زال الدين اليوم قوّة مؤثّرة بصفة حاسمة على مجريات الحياة ؟
لا شكّ أنّ حلّ هذه المعضلة يستوجب إعادة طرح المسألة الدينية بصفة جذرية بعيدا عن الآراء التبسيطية حول الدين التي بدلا من ادّعائها إزالة الوهم الديني أنتجت مزيدا من الأوهام حوله. فما الدين؟ وما أصله؟ وما هي مظاهر استمراريته كقوّة مؤثّرة في التاريخ لا على هامش التاريخ ؟
2 – تعريف الدين وأصله
أ – تعريف الدين
الدين حسب قرانجي هو منظومة عقائد وطقوس ورموز تعكس تعلّق الإنسان بالمقدّس تفترض:
ü    الإيمان بقوّة مطلقة وغيبية (فوق طبيعي + مفارق) مميّزة عن الدنيوي هو أصل وجود الكون والإنسان ومصدر كافة النعم والمحن
ü    عبادة المقدّس: فالمؤمن ملزم بالطاعة المطلقة لكافة الشرائع التي سنّها الدين أملا في الثواب وخوفا من العقاب.
وللتدليل على أهمّية الإيمان بالمقدّس والطاعة المطلقة لأوامره يقدّم قرانجي قصّة إبراهيم واستعداده للتضحية بابنه كمثال نموذجي على التديّن.
استخلاص: الدين منظومة من العقائد حول المقدّس الذي يميّزه المؤمن عن الدنيوي وينسب له وجود الكون ووجوده الذاتي  ويعتبره مصدر النعم والمحن التي تلحقه، ومن العبادات والرموز الناظمة لطاعة المؤمن له أملا في ثوابه وخوفا من عقابه. يجدر التأكيد على أنّ المقدّس يختلف من ديانة إلى أخرى: 
من جهة العدد: واحد أو متعدّد
 من جهة الموقع: مفارق للكون أو محايث له
 من جهة الطبيعة: روحي أو مادي أو روحي ومادي معا
من جهة الشرائع الناظمة لطريقة عبادته. 
يمتدّ التقديس أي الاحترام والتخصيص والإجلال من موضوع العبادة الأصلي(الله) إلى سائر الأحداث والمواقع والأوقات والأشخاص والرموز التي يفرضها الإيمان به وتقتضيها عبادته.
 فماذا عن أصل الدين ؟
ب – أصل الدين
يشير قرانجي أنّ مسألة أصل الدين أي مبرّر الإيمان بوجود المقدّس وتأثيره القوي على الإنسان مسألة لا تزال مطروحة ولم تحسم بعد رغم تعدّد الأطروحات الفلسفية حولها:
لوكراس – مثلا – يرجع نشأة الإيمان الديني إلى الخوف والجهل. فجهل القدامى بالظواهر الكونية وخوفهم منها جعلهم يتخيّلون وجود آلهة غيبية تحكمها. فالخوف أصل التديّن.
ماركس يرجع أصل الدين إلى "الانعكاس الواهم في أدمغة البشر للقوى الطبيعية والاجتماعية التي تسيطر على وجودهم" ففقدان الإنسان للقدرة على مواجهة قوى الطبيعة الغاشمة وقوى المجتمع القامعة جعله يتوهّم آلهة يوكل لها أمر حياته ويحتمي بها من بطش هذه القوى 
فرويد يرجع أصل الدين إلى الضائقة الطفلية  أي إلى ضعف الإنسان في مرحلة الطفولة وطول تبعيته لوالديه في هذه المرحلة ما يجعل من التبعية للربّ امتدادا للتبعية للأب وما يجعل الربّ عند المتدّين امتدادا نفسيا للأب عند الطفل.
فماذا عن أصل الدين حسب قرانجي ؟
يؤكّد قرانجي أنّ الدين ينبع من نفس الأصل الذي ينبع منه السحر والعلم والتقنية وهو الرغبة في اكتشاف نظام للكون وضمان النفوذ عليه. رغبة الإنسان الجذرية في الظفر برؤية للعالم وبتفسير للكون ولمنزلته فيه تفسيرا يضمن له إشباع فضوله المعرفي وتحقيق حاجاته العملية، هي الأصل الجذري المشترك للدين والعلم والأسطورة. فهل أفضى تحقيق هذه الرغبة عن طريق العلم والتكنولوجيا اليوم إلى الاستغناء عن الدين ؟ أيّهما وهم الدين أوالدعوة إلى الاستغناء عنه ؟
3 – مظاهر استمرارية الدين في العصر الرّاهن:
يشير قرانجي إلى أنّ عصر العلم والتكنولوجيا الرّاهن عصر السيطرة العقلانية عن طريق الآلات على الظواهر والتنظيم العقلاني  للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لم يقض على الدين ولم يفض إلى زواله مثلما زعمت بعض الفلسفات بل ما زال الدين قوّة مؤثّرة على مجريات التاريخ  وليس قوّة على هامش التاريخ. فما هي مظاهر حضور الدين كإيمان بالمقدّس؟
يتجلّى حضور الدين في المجتمعات المعاصرة  من خلال:
1 – اندماج الديانات الفعلية (المسيحية واليهودية والإسلام والبوذية) ضمن نسيج المؤسّسات السياسية والإديولوجية للمجتمع وتوظيفها كقوى مؤثّرة على الأفراد والجماعات لخدمة أغراض دنيوية: اقتصادية واجتماعيـة وسياسية مثل توظيف الدين للدّفاع عن حقوق الإنسان التي تسلبها أنظمة الاستبداد أو توظيف الدين لمقاومة الاستعمار والهيمنة أو على العكس توظيف الدين لرفض ثقافة الآخرين ولفرض الهيمنة. اعتبار الدين جزء من الهوّية الثقافية للشعوب.
2 – ظهور  ديانات دنيوية موازية للدين الفعلي: تطوّر الحياة فرض الإيمان بمقدّسات دنيوية أي جعل الإنسان يعبد مثلا عليا دنيوية لا غيبية مثل الرّفاه المادي أو التقدّم أو حقوق الإنسان أو غيرها من الأهداف المطلقة والمثل العليا التاريخية التي يكرّس الأفراد والمجموعات من أجلها  حياتهم.
استخلاص: المجتمعات المعاصرة لم تقضي على الدين  بل إنّها استثمرت الديانات الفعلية كقوّة تاريخية لتحقيق أهداف سياسية واجتماعية وأنتجت ديانات "دنيوية" موازية شأن "دين التقدّم" "دين الرفاه"...
 فما السرّ في دوام الدين رغم التغيرات الكبرى المعرفية والسياسية والاقتصادية والاديولوجية التي شهدتها المجتمعات المعاصرة ؟ هل أنّ الدين نقيض العقل كما تزعم الفلسفات المناهضة للدين أم أن هذه الأخيرة هي التي تشكو ضعفا في تقديرها للدين ؟
4 – في علاقة الدين بالعقل:
إذا كان ماركس – مثلا – يعتبر الدين "أفيون الشعوب" "شمسا وهمية تدور حول الإنسان" بحيث لا يستطيع أن يتحرّر سياسيا واجتماعيا إلاّ إذا تحرّر منه" فنقد الدين هو بداية نقض وادي الدموع الذي يمثّل الدين هالته العليا" فإنّ قرانجي يؤكّد أنّ الدين في حدّ ذاته من جهة ما هو منظومة اعتقادات وطقوس ورموز دالّة على المقدّس لا يتناقض مع العقل لأنّه تعبير عن حاجة الإنسان إلى المطلق التي لا يستطيع أن يعلّقها ظهور العلم والتكنولوجيا ولا أي إجراء تاريخي آخر. فالدين بصفته ايمان بالمقدّس والتزام عملي بذلك هو تحقيق لحاجة عقلية راسخة لا يمكن الاستغناء عنها هي الحاجة إلى المطلق التي تنعكس في المطالب الروحية للإنسان شأن:
- إعطاء هدف للحياة
- إقامة نظام ثابت من القيم يضمن الاستقرار الاجتماعي والأخلاقي والنفسي للإنسان
- وضع مبادئ عامة يكرّس الإنسان من أجلها حياته (الفوز بالجنّة)
- التخفيف من مشاعر الخوف والضياع والعبثية واللامعنى
وتبعا لذلك فإنّ الآراء التي تقيم تناقضا جوهريا بين الدين والعقل هي آراء تبسيطية فقيرة عاجزة عن تقدير القيمة الحقيقية للدين.
لكن هل يعني إشباع الدين للاحتياجات الروحية للإنسان عدم التصادم المطلق بين الدين والعقل؟ أليس في التاريخ شواهد عديدة على قمع العقل باسم الدين؟
يشير قرانجي أنّ الدين أمكنه تاريخيا أن يكون:
§       دافعا للمنجزات الحضارية الأكثر خصوبة وروعة:  أي عامل استقرار نفسي ومصدرا للسلام والحرية والصداقة بين الشعوب وهي كلّها مطالب يمليها العقل ويفرضها
§       دافعا لارتكاب أكثر الجرائم إيلاما وفضاعة: مثل استخدام الدين لإنتاج التعصّب والعنف والتحريض على الحرب والإرهاب ولتبرير انتهاك حقوق الإنسان ومصادرة الحرية وقمع العقل والعقلانية.
فبم نفسّر تردّد الدور التاريخي للدين بين موافقة العقل مرّة وقمعه مرّة أخرى ؟ ألا يوجد تناقض بين القول أنّ الدين لا يناقض العقل والقول أنّه يمكن تاريخيا أن يكون قمعا للعقل ؟
يرجع قرانجي تحول الدين إلى قمع للعقل لا إلى الدين ذاته بل إلى التوظيف الإديولوجي للدين. فاستغلال الدين سياسيا وإقحامه في صراعات إديولوجية وحزبية وقومية وحضارية هو ما يحوّله أداة قمع وينحرف به من التعبير عن المقدّس المطلق والكوني إلى الدفاع عن النسبي والمتغيّر والدنيوي ويتّجه به من قوّة عقلانية / روحية لإنتاج الاستقرار والسلام والعدالة إلى سلاح ظلامي لترسيخ التعصّب وتبرير الهيمنة والعنف والاستبداد.
استخلاص: ليس الدين في حدّ ذاته نقيضا للعقل ما دام يعبّر عن طريق منظومة من العقائد والطقوس والرموز على تعلّق الإنسان بالمطلق ويعكس البعد الروحي في الوجود الإنساني  بل إنّ التوظيف الاديولوجي، من طرف البشر، للدين هو ما يحوّله إلى سلاح لقمع العقل وإشاعة الظلامية.
المناقشة:
الإضافات:
ü    التأكيد على أنّ الدين منظومة عقائد وأفعال ورموز تفترض الإيمان بالمقدّس بما هو مبدأ غيبي ومطلق وتمييزه عن الدنيوي
ü    نقض التصوّرات الفلسفية التي بشّرت بزوال الدين في العصر الرّاهن بسبب تطوّر المجتمعات عقلانيا وتقنيا وقيميا والتأكيد بدل ذلك على الحضور الفعّال للدين اليوم كقوّة مؤثّرة على مجريات الواقع أكان عن طريق الديانات الفعلية التي اندمجت في مؤسّسات المجتمعات المعاصرة أو عن طريق قيام ديانات
"دنيوية" موازية للدين الفعلي مثل دين الرّفاه دين التقدّم دين التنمية.
ü    تفسير استمرارية الدين وتأثيره الحاسم على الواقع المعاصر بردّ الدين إلى كونه تحقيقا لاحتياجات إنسانية أصيلة ودائمة هي الاحتياجات الروحية. فالدين تعبير عن المطالب الروحية وتحقيق لها. ما يؤكّد على عدم التناقض الجوهري بين الدين والعقل. على الرغم من إمكانية التوظيف التاريخي  للدين كسلاح  لقمع العقل وإشاعة الظلامية.
الحدود:
يقول فروم "الحقّ أنّ المشكلة ليست هل ثمّة دين أم لا وإنّما هي أيّ نوع من الدين" فإذا سلّمنا بأنّ الدين تحقيق لتعلّق الإنسان بالمطلق أو هو إيمان مرجعي يحدّد من خلاله الإنسان أكان فردا أو جماعة، المبادئ والأهداف التي "يكرّس من أجلها حياته"، فإنّه موجود في الماضي والحاضر ولا يتصوّر أن توجد في المستقبل حضارة بلا دين. غير أنّ المشكل الأساسي يطرح على مستوى وعي الإنسان بالدين: أوّلا هل الدين بالنسبة للمؤمن به هو دين من بين ديانات أخرى عديدة أم هو الدين الحقّ الذي يعدّ كلّ ما عداه كفرا ؟ لا شكّ أنّ ادّعاء فرد ما أو مجتمع ما بأنه هو وحده من يعتنق الدين الحقّ يفضي إلى تكريس التعصّب والتكفير والإقصاء على المستوى الفردي وإلى تبرير المركزية الثقافية والعنف وحرب الأديان على المستوى الحضاري.
وثانيا هل الدين بالنسبة للمؤمن به هو عقيدة تشبع حاجاته الروحية فحسب وتترك لفعالياته الأخرى العقلية والعملية (السياسية والاقتصادية)  مجالات تبلورها الحرّ أم هو تصوّر شمولي للحياة بحيث لا يفلت قول أو فكر أو فعل من سلطته؟ لا شكّ أنّ اعتبار الدين العامل المحدّد الوحيد لكلّ جوانب الحياة الروحية والمادية (السياسية والاجتماعية والمعرفية والاقتصادية)  للإنسان  يفضي إلى جعل الدين قوّة قمعية وعائقا للابتكار والتطوّر بجعل كلّ فكر أو فعل لا يتوافق مع العقيدة زندقة وكفرا ولعلّ نكبة ابن رشد ومحاكمة غاليلي وموت سقراط  هي أحداث دالّة على تحوّل الدين منظورا إليه كمنظومة جامدة من العقائد  إلى سلاح لقمع العقل ومقاومة التطوّر الحضاري وشدّ التاريخ إلى الماضي.
استخلاص عام: الدين بما هو منظومة عقائد وممارسات ترمز إلى المقدّس وتعكس تعلّق الإنسان في كلّ العصور بالمطلق لا يتعارض في جوهره مع العقل إلاّ أنّ سوء الوعي والتوظيف التاريخيين للدين من طرف البشر يحولّه إلى قوّة قمعية ومصدر للظلامية والتعصّب ومبرّر للاضطهاد. 
۞۞۞۞
 3 - حدود التواصل:
نصّ: أزمة التواصل  اليوم  ـ هوركيمر و أدرنو
الموضوع: قيمة وسائل الاتّصال
الأطروحة: الثورة الاتّصالية الرّاهنة هي مصدر للعزلة  
المستبعدة: الدعاية الاديولوجية السائدة القائلة، اليوم، بأنّ تطوّر وسائل الاتّصال جعل العالم قرية كونية وأنتج مزيدا من التفاهم والتقارب بين الأفراد والشعوب
المشكل: هل يمثّل تطوّر وسائل الاتّصال، اليوم، مصدرا لتحقيق التقارب والتفاهم بين الأفراد والشعوب أم أنّه على العكس من ذلك أفرز مزيدا من للعزلة ؟
العناصر:
1 – ما هي ملامح واقع الاتّصالات اليوم ؟
2 – بأي معنى تحوّل تطوّر وسائل الاتّصال إلى مصدر للعزلة ؟
التحليل:
1 – ملامح واقع الاتّصالات اليوم:
يشهد واقع الاتّصالات في المجتمعات المعاصرة تطوّرا منقطع النظير بسبب الثورات العلمية والتكنولوجية. يظهر هذا التطوّر اللافت في:
§       تعدّد وتنوّع وسائل الاتّصال: الهاتف، الراديو، التلفزة، الصحافة، الطائرة، شبكة الانترنات، الأقمار الاصطناعية... وهي تؤمّن أنواعا مختلفة من الاتّصال السمعي والبصري والرقمي والمكتوب والشفوي
§       تزايد نجاعة أداء وسائل الاتّصال سواء ـ وفق مقياس السرعة إذ يكفي الضغط على بعض الأزرار في هاتفك الجوّال أو على لوحة مفاتيح الحاسوب حتّى تتّصل بمن تشاء في طرفة عين. أو وفق امتداد الاتّصال: إذ لم يبق تقريبا ركنا من العالم لم تغطِّه الهواتف والأقمار الاصطناعية وفضائيات البثّ التلفزي ووسائل النقل الأخرى ما جعل من العالم على اتّساع أرجائه "قرية كونية"
§       توظيف وسيط رمزي جديد أسرع هضما وأقدر على التسلّل إلى فكر الإنسان ووجدانه "الصورة " فقد احتلّت هذه الأخيرة الحيّز الأكبر على أنظمة الاتّصال مقارنة بالكلمة الشفوية أو المكتوبة ما جعل غي ديبور يصف المجتمع الرّاهن بأنّه "مجتمع الفرجة" تأكيدا على الدور المبالغ فيه للصورة  في تأمين اتّصال الناس ببعضهم وفي تشكيل وعي الإنسان بذاته ومحيطه
استخلاص: تعدّد وسائل الاتّصال وتنوّعها، نجاعة أدائها، الحضور الكثيف لنمط التواصل المرئي هذه بعض ملامح الثورة الاتّصالية المعاصرة  ما يبرّر اعتبار العصر الرّاهن عصر الإفراط في الاتّصال، عصر الميلتيميديا. فهل نتيجة هذا التطوّر هي تحقيق مزيد من التقارب والتفاهم  بين الناس ؟ هل اقترن تطوّر الاتّصالات بتطوّر التواصل بما هو تفاعل إنساني من أجل التعاون والتعارف وتحقيق الذات ؟ هل أفضى تطوّر وسائل الاتّصال إلى تعميق التواصل أم إلى تعليقه ؟
2 – أزمة التواصل
 يؤكّد هوركيمر وأدرنو على وجود مفارقة في الواقع المعاصر يعبّر عنها التناقض بين تطوّر وسائل الاتّصال من جهة وتزايد العزلة من جهة أخرى. إنّ "وسائل الاتّصال تمثّل مصدر انعزال" فتطوّر وسائل الاتّصال بدل أن يقرّب بين الأفراد والشعوب، بدل أن يزيد من تفاهم الناس ويحوّل العالم "قرية كونية"  أصبح مصدرا للعزلة والانكفاء على الذات والفردانية ومبرّرا للهيمنة "إنّ التقدّم يفرّق". فما هي مظاهر العزلة التي أفرزها تطوّر وسائل الاتّصال؟ وما هي آليات العزل والتفريق التي استخدمتها ؟
وسائل الاتّصال أنتجت ضربين من العزلة:  
أ – عزلة روحية تتعلّق بأفكار الناس وقيمهم الناظمة لحياتهم: تتجلّى في حلول المنفعة محلّ المودّة والفردانية محلّ التضامن والتزام الجميع بقاعدة "كلّ من أجل نفسه" chacun pour soi: لكن كيف تسهم وسائل الاتّصال في تغذية هذا الضرب من العزلة ؟
تنتج وسائل الاتّصال العزلة الروحية:
1 – عن طريق آلية اشتغالها: فالطريقة المتّبعة في وسائل الاتّصال المرئية والمسموعة هي آلية البثّ والإرسال من جهة واحدة. فهي تختزل دور المرسل إليه في التلقّي دون الإجابة الأمر الذي يفضي إلى تعليق الحوار والتبادل والتفاعل وهي المقوّمات الأساسية للتواصل. فآلية الإرسال التلفزي والإذاعي شبيهة جدّا بآلية صيد الجرذان بالأضواء الكاشفة فهي تجمّد الإنسان و" تمنعه من التحدّث" "أمام منضدة المشاهدة نصمت" وهي  تغرق المشاهد / السامع  بوابل من البرامج دون تمكينه من ردّ الفعل والإجابة يقول جان بودريار "إنّ ما يميّز وسائل الاتّصال الجماهيري هو أنّها لا توسطّية وأحادية الاتّجاه وصانعة لللاتواصل لأنّها تمنع نهائيا الإجابة وتجعل كلّ عملية تبادل مستحيلة"
 2 – عن طريق نوعية البرامج التي تبثّها: فقد أفرطت وسائل الاتّصال السمعي والبصري في بثّ البرامج الإشهارية والدعائية ذات الطابع النفعي على حساب البرامج التثقيفية والتوثيقية والإخبارية والفنّية ذات الطابع الإنساني. وتحوّلت تبعا لذلك  إلى منابر للترويج والتسويق للسّلع والأراء السياسية الحكومية. ومن الطبيعي أن تتوسّل للغرض بإجراءات الكذب والتلاعب بالعقول وإثارة الغرائز والمطرقة وغسل المخّ  قصد الحثّ على الاستهلاك وتحقيق الاستمالة. فهي بمقتضى برامجها الإشهارية والدعائية تنتج العزلة الفكرية إذ تقضى على الحسّ النقدي  وتفقّر الحياة الروحية  للناس إذ تحوّلهم إلى حشود من المستهلكين والمستعبدين طوعيا.   
3 – عن طريق الأهداف التي تنشدها: فوسائل الاتّصال خصوصا السمعية البصرية ترمي إلى إنتاج التماثل بين الناس  بتنميط أفكارهم وأفعالهم وأذواقهم. تنميط الناس وجعلهم متشابهين / متماثلين هو أنجع طريقة لتفريق الناس وجعلهم يعيشون العزلة وهم في جوار بعضهم. فوعي الفرد أنّه يشبه الجميع في فكره وسلوكه يقتل فيه الرغبة في التواصل مع الآخرين لأنّ التواصل تفاعل وحوار بين طرفين متباينين يثري كلّ منهما الآخر بما فيه من اختلاف وطرافة وخصوصية.  بينما تفضي مراهنة وسائل الاتّصال على  التنميط وإنتاج التماثل بين الناس والغاء الاختلاف إلى تبرير العزلة والفردانية والانكفاء على الذات.
ب – عزلة مادية تتعلّق بنُظم عيش الناس وحياتهم الواقعية العامة والخاصة: فوسائل الاتّصال تفرّق الناس وتبعدهم عن بعضهم ماديا بغرض إحكام السيطرة عليهم. فهي أنجع الأسلحة بيد الحكومات والقوى المتنفّذة لتطبيق القاعدة الذهبية للسلطة  "فرّق تسد".
تسهم وسائل الاتّصال في إنتاج العزلة المادية وتفريق الناس
 1 – في مجال الحياة العامة: أي في مجال العمل والفضاءات العمومية مثل الإدارات والمكاتب ومحطّات السفر وغيرها. فقد غيّرت مجتمعات الثورة الاتّصالية الرّاهنة هيكلية الفضاءات العمومية ونظم إسداء الخدمات عن طريق:
ü    إحلال برودة الاتّصال بالآلة محلّ حرارة التواصل مع الإنسان وحتّى في حالة الاتّصال بشخص طلبا لخدمة فإنّك تجده جامدا باردا "ربوطيا" كأنّه حاسوب في صورة آدمي.
ü    فصل العمّال والموظّفين عن بعضهم وتوزيعهم في مكاتب حديدية وقاعات فسيحة منعا لإضاعة الوقت وإمعانا في تكريس التخصّص في ساحات الإنتاج المادي أو الرمزي
ü    تطوير آليات مراقبة العمّال والموظفين عن طريق شبكات الاتّصال بينهم وبين الأعراف وأنظمة المراقبة والتحكّم الالكترونيين في دخولهم وخروجهم وفي الوقت المخصّص للمهامّ التي يقومون بها 
– في مجال الحياة الخاصّة: تتخطّى العزلة المادية التي تنتجها مجتمعات الثورة الاتّصالية مستوى الحياة العامة لتشمل الحياة الخاصّة للأفراد عن طريق:
§       الإقبال على السيّارة الخاصّة: فالسيّارة الخاصّة وإن بدت في الظاهر امتيازا اجتماعيا إلاّ أنّها تحرم الناس من فرص الالتقاء والتواصل والتعارف في وسائل النقل العمومي إذ تفرض عليهم التنقّل والسفر معزولين في غرف مغلقة متحرّكة.
§       فرض نمط موحّد من التصرّف في الدخل الأسري وفق مقتضيات العيش الاستهلاكي (السكن / الترفيه / الاحتياجات المادية) ما يعمّق الحاجة إلى الزيادة في الدخل وما يفرض على كلّ أفراد الأسرة المشاركة في تنمية الدخل عن طريق  العمل وهو ما يقضي في النهاية على فرص اللقاء الأسري الحميمي ويحوّل البيت من فضاء للتواصل العاطفي والإنساني بين أفراد الأسرة إلى مجرّد إقامة يؤوب إليها الجميع مرهقين لالتقاط الأنفاس واستعادة الطاقة للخروج مجدّدا للعمل.    
§       هيمنة نظام عيش مادي استهلاكي يضعف من فرص الحوار والتفاعل الروحي حتّى بين أفراد العائلة الواحدة
استخلاص: إنّ تطوّر وسائل الاتّصال في العصر الرّاهن بدل القضاء على العزلة وإحلال التواصل أنتج نمطا جديدا من العزلة هي العزلة بين الناس. كما كرّس مزيدا من الهيمنة على الحياة الروحية والمادية للإنسان.
المناقشة: المكاسب تتلخّص مكاسب أطروحة الكاتبين في:
ü    نقض الادّعاءات الاديولوجية بأنّ العصر الرّاهن هو عصر التواصل بامتياز والكشف عمّا يشقّ هذا العصر من مفارقة بين تطوّر كمّي ونوعي في وسائل الاتّصال وتحوّل هذه الأخيرة إلى مصدر عزلة.
ü    التنبيه إلى مظهر جديد من العزلة فإذا كانت العزلة في مجتمعات ما قبل الثورة الاتّصالية "عزلة عن الناس" بسبب غياب أدوات الاتّصال فإنّها أصبحت في مجتمعات الثورة الاتّصالية الراهنة "عزلة بين الناس"
ü    اعتبار نقد واقع الاتّصال والكشف عن المفارقة التي تشقّه من جهة التناقض الصارخ بين التراكم الكمّي والنوعي لوسائل الاتّصال وشيوع العزلة وفقدان التواصل، جزءا من نقد واقع المجتمعات الاستهلاكية الراهنة. فهوركيمر وأدرنو هما أقطاب النظرية النقدية مثل هابرماس وماركوز (مدرسة فرانكفورت) وهي فلسفة معاصرة انتدبت نفسها لفضح المجتمعات الاستهلاكية والكشف عن زيف ما تروّجه أبواقها الاديولوجية من شعارات التقدّم والرّفاه والحرّية وحقوق الإنسان. وبيان أنّها مجتمعات الاستعباد الليّن والقمع المنظّم والعقلاني  للإنسان.
الحدود: هل وسائل الاتّصال هي المسؤولة عن إنتاج العزلة وتعليق التواصل؟
الحقيقة إنّ الإجابة عن هذا السؤال تستوجب تشريحا كاملا للمجتمع لنتبيّن ما إذا لم يكن انحراف وسائل الاتّصال عن تحقيق التواصل الحقيقي مجرّد نتاج لأنظمة الإنتاج وتنظيم السلطة داخل هذه المجتمعات. فوسائل الاتّصال تبقى وسائل قابلة للتوظيف سلبا وإيجابا ولذا فإنّ ردّ أزمة التواصل إلى وسائل الاتّصال يتغاضى عن القوى الاجتماعية والسياسية الحقيقية الواضعة للأهداف والغايات والقيم الناظمة لحياة الناس ويتحامل على وسائل الاتّصال وهي مجرّد أدوات بيد هذه القوى.
أيضا لا يخلو اختزال اشتغال وسائل الاتّصال السمعي والبصري في آلية الإرسال الأحادي دون فسح المجال لإجابة المتلقّي هو الآخر من التعسّف فالبرامج الحوارية المباشرة حيث يتدخّل المتلقّي ويبدي رأيه تأخذ حيّزا هامّا من الاتّصال المرئي والمسموع. وشبكة الانترنات لا تخلو من الحضور الكثيف للمواقع التفاعلية الحوارية.
استخلاص عام: لئن عرفت المجتمعات المعاصرة ثورة اتّصالية منقطعة النظير تجلّت بالخصوص في التطوّر المذهل لوسائل وتقنيات الاتّصال وفي تحوّل النشاط الاتّصالي إلى محور الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وشرط إمكان نجاحها فإنّ ذلك لا يمنع من القول بأنّ مجتمعات الثورة الاتّصالية هي نفسها مجتمعات أزمة تواصلية تنعكس في ضعف تأثير قيم التضامن والحوار على المستويين البينذاتي والبينثقافي وظهور نمط "العزلة بين الناس"

هناك 4 تعليقات: