إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الأربعاء، 6 مايو 2009

نقد الديموقراطية

محمد الوقيدي
 - 1 -
نريد أن نبدأ هذا الحديث بعقد الصلة بينه و بين مجموعة من الأبحاث السابقة التي تناولنا فيها بالدّرس مسألة الديمقراطية بصفة عامة. و قصدنا من هذه الخطوة المنهجيّة أن يتّخذ بحثنا هذا موقعه الطبيعي ضمن مجموعة الأبحاث التي يتابع مسعاها. ففي هذا الإطار سيفهم معنى دعوتنا في الوقت الحاضر إلى التفكير في الموضوع في إطار ما دعوناه بنقد الديمقراطية. طرحنا الديمقراطية في السابق لا بوصفها تنظيما سياسيّا للمجتمع، بل بوصفها بعدا أساسيّا من أبعاده، و هذا طرح يجعل التنظيم الديمقراطي السياسي للمجتمع، جزءا من تنظيم آخر أشمل منه لا يقتصر على الحياة السياسية و يعمّ، بدلا من ذلك، كلّ مظاهر الحياة المجتمعيّة. و أخذ الديمقراطية على أنّها بعد من أبعاد المجتمع التي تهمّ حياته اليوميّة معناه النظر إليها من حيث هي تعايش بين مكوّنات المجتمع بكلّ مستوياتها، و بين مؤسّسات المجتمع بكلّ وظائفها.
نرى من الملائم أن نعرض بإيجاز لبعض النتائج التي توصّلنا إليها في السابق و التي تسمح في نظرنا بفهم معنى النقد الذي ندعو له الآن، علما منّا بأنّ العنوان الذي وضعناه لبحثنا الحالي قد يوحي بالسير في طرق أخرى غير الطريق الذي نريد السير فيه. لقد نظرنا إلى البعد الديمقراطي بوصفه من أهمّ أبعاد المجتمع مُثبتين أنّ لحضوره و غيابه على السواء تأثيرا واضحا على صيرورة المجتمع. و نظرنا إلى البعد الديمقراطي بوصفه بعدا يضفي صبغة إنسانية على حياة المجتمع و يجعلها ممكنة في إطار من التعايش و التضامن بين الأفراد و الكفاءات، و بين مكوّنات المجتمع المختلفة إثنيّا و لغويا و عقائديا و إيديولوجيا. و اعتبرنا البعد الديمقراطي صيغة لتعاقد مجتمعي دون أن نميل إلى القول بتعاقد تامّ و نهائي، بل بقولنا بعقد مجتمعي متجدّد. دفعنا كلّ ما سبق ذكره إلى اعتبار مظاهر حضور الديمقراطية أو غيابها معيارا على وضع كلّ مجتمع بالنسبة لذاته، من جهة، حيث يكون التوازن بين مكوّناته هو ما ينتج عن الديمقراطية و يدلّ على وجودها و يكون غيابها دلالة على فقدان التوازن؛ ثمّ إنّ حضور الديمقراطية في مجتمع ما يكون كذلك معيارا على سير المجتمع في الطريق الذي يسم عصرنا، علما بأنّ ما وصل إليه المجتمع الإنساني في زمننا هذا جاء تطوّرا لتحوّلات دامت قرونا. صارت الديمقراطية في عصرنا ضروريّة لا غنى عنها، و اختيارا لا مفرّ منه، فهي معيار صلاحية الاختيارات الأخرى على صعيد السياسة و الاجتماع و الاقتصاد. إنّها ما يمنح هذه الاختيارات الأخرى جميعها بعدها الإنساني. رأينا لكي نصل إلى هذا المعنى الأكثر سعة و عمقا في نظرنا أنّ الديمقراطية كانت علامة من علامات العصر لأنّها بدت للمحلّلين لأشكال النظم المجتمعيّة و السياسية أفضل السبل لتحقيق التوازن المطلوب في كلّ مجتمع. وي ظهر الدور الإيجابي للبعد الديمقراطي بصورة أوضح في المجتمعات ذات المكوّنات المختلفة من حيث أصولها الإثنية و جذورها الثقافية، و كذلك في المجتمعات التي تكون مكوّناتها الإنسانية مختلفة من حيث اعتقاداها الدينية و الإيديولوجية. فغياب البعد الديمقراطي في مجتمعات مثل هذه من شأنه أن يجعل الطريق مفتوحا نحو صراعات لا يبدو أنّ لها نهاية. و من شأن الابتعاد عن الاختيار الديمقراطي أن يعوق النموّ الطبيعي الذي يقود نحو أهداف التقدّم و السّلم. فسلام المجتمع داخليّا يكمن في هذا التوازن الذي يضمنه حضور البعد الديمقراطي فيه. وإذا كنا نقول بأنّ البعد الديمقراطي للمجتمع يضمن توازنه، فإنّ هذا لا يعني أبدا أنّ ذلك البعد يلغي في المجتمع كلّ أنواع الصراع، بل إنّ الغاية منه هي عقلنة تلك الصراعات بين المكوّنات المختلفة و جعل التنوّع مصدر تأثير إيجابي بالنسبة لحركيّة الحياة فيه. فالديمقراطية هي الانطلاق من تنوّع و اختلاف مقبولين، وهي كذلك الاتّجاه نحو انسجام يضمن الحرّية و الاختلاف و لا يتأسّس على قمعهما. الديمقراطية هي الوسيلة الفعّالة لكي تتعايش الأصول المختلفة، و تتعايش التصوّرات و العقائد المتباينة، و هذا معناه دفع الاختلاف في الاتّجاه الذي لا يكون فيه متوحّشا، و دفع الصراع لكي لا يكون عرقلة للنموّ المجتمعي المتوازن الذي يشمل كلّ مكوّنات المجتمع. كلّ هذا الذي ذكرناه، في الواقع، هو ما دفعنا إلى اعتبار الديمقراطية بعدا إنسانيّا في كلّ مجتمع يأخذ بتعاليمها و ينتظم حسب مقتضياتها. ذلك أنّ الديمقراطية هي الشرط المجتمعي الذي يفتح الباب أمام تطوّر يستوعب كلّ طاقات المجتمع  وفئاته، كما يستوعب كلّ كفاءاته، و أمّا غياب البعد الديمقراطي للمجتمع، فإنّ ما يؤدّي إليه هو التنافي و تبادل الإقصاء بين مكوّناته، وهو كذلك ضياع الكفاءات و هدر الطاقات، و لهذا رأينا في حضور الديمقراطية شرطا للنموّ الطبيعي الذي يستثمر كلّ إمكانات المجتمع المادية و البشرية، و رأينا في غيابها الشرط المعيق لذلك النموّ. كان البعد الإنساني للديمقراطية يعني، بالنسبة لتوجّه تحليلنا لهذا النظام المجتمعي
و السياسي، أنّ هذا النظام يسمح أكثر من غيره بالسير في الطريق الذي يجعل قيمة الإنسان أعلى ممّا عداها، و يجعل الحياة الإنسانية أكثر وعيا بنضجها الذي تحقّق لها عبر تطوّرات و تناقضات و صراعات، و أكثر إلحاحا على طلب المزيد من هذا النضج الذي تكون به القيمة الإنسانية المتصوّرة معادلة لذاتها وهي متجسّدة في مؤسّسات تعمل على حفاظها و في وقائع يوميّة تدلّ على استمرار اعتبار القيمة الأعلى (1)
- 2 -
كان التذكير بالمعطيات السالفة الذكر محاولة لتأطير فكرة نقد الديمقراطية لكي تأخذ هذه الفكرة مكانها الطبيعي ضمن مجموعة من التصوّرات التي تعبّر عن الديمقراطية بوصفها مطلبا من أجل توازن كلّ مجتمع تسود فيه. فنقد الديمقراطية بالنسبة إلينا تفكير يندمج ضمن طلب الديمقراطية ذاته، و لا يندرج أبدا ضمن رغبة في السير في طريق تجاوز الديمقراطية، لأنّ هذا التجاوز لا يكون إلاّ في طريق رفع تناقضات هذا النظام المجتمعي السياسي ذاته، لأنّه يظلّ رغم تناقضاته التي قد يصل إليها المحلّلون أفضل الممكنات بالنسبة لنظام يمكن أن يضمن توازن المجتمع. لن يؤدّي النقد، الذي نريد لهذه الدراسة أن تكون بداية له و وضعا لبرنامج عمل للسير في طريقه، سوى إلى الديمقراطية ذاتها في صيغة حضور أفضل لها و دينامية أقوى لشروطها في إطار التعايش بين كلّ مكوّنات المجتمع و مؤسّساته و طاقاته و كفاءاته البشريّة. يتعلّق الأمر، إذن، بنقد داخلي، و هذا منهج يسير بموضوعه في نفس اتّجاهه الذي كان فيه لأنّه عامل يؤثّر فيه لكي يحافظ على اتّجاهه. النقد الذي نقصده هنا للديمقراطية يقصد الحفاظ عليها كمكسب عرفه تطوّر المجتمعات الإنسانية، كما يقصد أن يجد المزيد من التطوير للبعد الإنساني للديمقراطية. ليس القصد من النقد الذي ندعو له أن تتراجع إلى الوراء لكي نبحث عن أصول، أو لكي نجد للنظم الديمقراطية الحالية أسلافا في نظم سياسة سابقة، إذ ليس ما يهمّنا هنا هو اللفظ ذاته بل الواقع الذي أصبح هذا اللفظ يشير إليه منذ ماض ليس بالبعيد، إذا ما نظرنا إليه في ضوء التاريخ الطويل للنظم السياسية و المجتمعي و الاقتصادية التي عرفتها الإنسانية. نعتبر أنّ التراجع إلى الوراء للبحث عن أصول جزء من النقد بمعناه العام، من حيث إنّه ينطلق من الواقع الراهن للبحث عن أشكال أوّلية لما هو ماثل في الوقت الحاضر أمام الملاحظ، و من حيث إنّ هذه الأشكال الأوّلية قد تفيد في إلقاء الضوء على الوضع الحاضر للديمقراطية بوصفه تطوّرا عنها. و مع هذا، فإنّنا نقول إنّ معنى النقد الذي نقصده هو الذي ينطلق من الحاضر إلى المستقبل، و ليس من الحاضر إلى الماضي بحثا عن تفسير. و النقد الذي يتّجه إلى المستقبل لا يقصد التفسير بل يقصد التجاوز. فكرة النقد الداخلي التي نقصدها هنا منبثقة، في الواقع، من النتائج التي استخلصناها من جملة الدراسات التي سبقت لنا في الموضوع، والتي اكتفينا حينئذ بالتلميح لها. فدراستنا هذه منطلق جديد لتناول تلك القضايا التي سبق لنا ملاحظتها دون الوقوف عندها بالصورة التي تستحقها. كان هدفنا في السابق هو أن ندلّل على ضرورة الديمقراطية باعتبارها أفضل الممكنات للسير بالمجتمع نحو واقع أكثر إنسانية، فكان تصوّرنا للديمقراطية حينئذ يبدو و كأنّه واقع بدون إشكال أو واقع يقبل الاتّجاه إلى أمام دون أن تظهر فيه تناقضات أو تظهر في صيرورته عوائق. الفكرة المدخل التي انبثقت لدينا في التفكير في الديمقراطية هي النظر إلى هذا النظام المجتمعي و السياسي بوصفه مثالا مطلوبا لكلّ المجتمعات الإنسانية. لا ننظر أبدا إلى الديمقراطية على أنّها واقع متجّسد في جهة ما من العالم، و على أنّه ليس لجهات العالم الأخرى سوى أن تسعى إلى اتّباع هذا النموذج المتحقّق بالسعي إلى اكتساب خصائصه. فالديمقراطية نتاج لتطوّر في تصوّر النظام المجتمعي، و لكنّها هي ذاتها واقع متطوّر قابل لتحوّلات مستمرّة يكون السعي فيها تنظيم العلاقات داخل المجتمع بالكيفية التي تسمح بالتعايش بين مكوّناته الإثنية و الثقافية و المؤسّساتية. حين نقول بأنّ الديمقراطية نتاج لتاريخ، فإنّ هذا الأمر يعني لدينا أنّ هناك خطوات مرّت قبل الوصول إلى المرحلة الحالية، أي قبل الأشكال التي تظهر عليها النظم السياسية و المجتمعية الراهنة الموسومة بكونها ديمقراطية. و يطرح هذا الأمر، بطبيعة الحال، مسألة الصفة النموذجية لتلك الخطوات التي تحقّقت في التاريخ و للواقع الناتج عن التطوّرات السابقة. و يصبح الأمر عندئذ بالصيغة التالية: إنّ إنجاز الديمقراطية هي العودة إلى النموذج الذي تحقّق و البحث في الشروط التي تحقّق بفضلها، ثمّ محاولة القيام بإنجاز جديد لتلك الشروط. لكن، حين نقول بأنّ النقد الذي ندعو إليه للديمقراطية هو توجّه بها إلى المستقبل، فإنّ ذلك يعني لدينا أنّ تاريخ الديمقراطية لن ينحصر في نموذج متحقّق، بل سيشمل أيضا ما سيكون على الجهد الإنساني الساعي إلى إنجاز نظام أفضل وأكثر توازنا أن يحقّقه. و هكذا، فإنّ التاريخ المطلوب من الديمقراطية الآن لا ينحصر في الماضي الذي تشكّلت خصائصها كنظام بفضله، بل إنّه أيضا التاريخ المقبل الذي ستصنعه الإنسانية في ظلّ تطوير الديمقراطية ذاتها. يبدو من خلال ما قلناه سابقا أنّنا نطرح إشكالا بالنسبة للديمقراطية تظهر به لا بوصفها تاريخا منتهيا، بل تاريخا يستأنف باستمرار من جديد. فالديمقراطية حسب هذا التصوّر الذي بلورناه توازن يتّجه باستمرار نحو توازن أفضل. هذا التصوّر الذي ينطلق من اعتبار الديمقراطية مثالا غير مكتمل التحقيق يطرح على من يفكّر في هذا النظام المجتمعي و السياسي عددا من الأسئلة. و أوّل هذه الأسئلة قيمة النموذج بالنسبة للتفكير في هذا النمط من التنظيم المجتمعي و السياسي الذي ندعوه بالديمقراطية. فهل النموذج المتحقّق الموصوف بكونه ديمقراطية ضرورة لا مناص من اتّباعها؟ إذا كان الجواب عن هذا السؤال بالإيجاب، فإنّ هذا سيعني أنّ ما بين البلدان التي يقوم فيها نظام ديمقراطي و البلدان التي لا يوجد بها هذا النظام فرقا لا يتعدّى تأخّرا تاريخيّا، و أنّ البلدان اللاديمقراطية يمكنها أن تسير في نفس خطّ التطوّر الذي سارت فيه البلدان الديمقراطية لكي تصل إلى إقامة هذا النظام المجتمعي و السياسي الذي أصبح مطلوبا في عصرنا بوصفه علامة من علامات الانتماء إلى هذا العصر. لكنّ الأمر في نظرنا أعقد من هذا الوصف الخطّي المستقيم لتطوّر الديمقراطية في أنحاء العالم، و تفاوت حضور هذا النظام المجتمعي و السياسي في مجتمعات متباينة من حيث خلفياتها التاريخية و من حيث التطوّرات التي عرفتها في مستويات مختلفة من حياتها، و بخاصة من تطوّر الحياة السياسية فيها، فالأمر لا يتعلّق بنموذج ينبغي اتّباعه لأنّ هذا النموذج غير قابل للاستعادة بنفس شروطه التي تكوّن بها في البلدان التي نحكم اليوم بأنّ نظام الحكم فيها ديمقراطي. و من جهة أخرى، فإنّ ما نراه اليوم من أشكال متعدّدة في مظاهرها للأنظمة المجتمعية و السياسية الموصوفة بأنّها ديمقراطية جاءت نتيجة لتطوّرات متنوّعة. فالديمقراطية في عالم اليوم تطوّرت عبر أزمنة طويلة وانبثقت من تجارب متنوّعة حسب كلّ بلاد أو منطقة أو جهة، حسب كلّ تقليد سياسي و مجتمعي كانت متابعة له أو كانت، على العكس من ذلك، سيرا في الاتّجاه المضادّ له. و لذلك، فإنّ ما نعنيه بالديمقراطية اليوم هو مزيج من مفاهيم تطوّرت لدى اليونانيين و الرومانيين، ثمّ خلال العصر الوسيط و عصر النهضة (2). هكذا، إذن، فإنّه إن صحّ الحديث عن نموذج بصدد الديمقراطية لم يعنِ ذلك لدينا أنّ النموذج ثابت و أنّ المهمّة في الحاضر بالنسبة للبلاد التي تسعى إلى إقرار النظام الديمقراطي على اتّباعه. فلسنا أمام نموذج جادّ نتيجة لتحوّلات ثمّ أصبح واقعا مستمرّا، بل إنّنا أمام نموذج ما يزال في تحوّلات مستمرّة يتطوّر عبر نقد أضداده كما يتطوّر عبر النقد الذاتي لمكوّناته. إذا كانت الديمقراطية واقعا له تاريخ، فإنّ هذا التاريخ الذي نستطيع أن نفترض له بداية معيّنة منذ وضع الكلمة ذاتها لم ينته بعد، نحن أمام تاريخ مازال يجدّد بداياته بالبحث في أشكال أكثر ضبطا و أكثر استجابة لما يمكن أن ندعوه بالمجتمع الديمقراطي. أكثر من ذلك، فإنّنا حين ننبّه إلى المضمون الذي تعبّر عنه كلمة ديمقراطية و لا نقف عند الكلمة ذاتها فحسب، ننتبه إلى أنّ الديمقراطية واقع ناتج عن أشكال مختلفة من التطوّر. فما دام الأمر يتعلّق بنوع من الحكم يشرك الأغلبية بدل أن يكون قائما على رأي الأقلّية، و يروم التشاور بدل أن يكون قائما على الاستبداد بالرأي، فإنّ البدايات يمكن أن تكون مختلفة لهذا النظام المجتمعي و السياسي، و ذلك تبعا للتاريخ الذي يمكن أن تكون قد مرّت منه كلّ حضارة أو كلّ أمّة أو جماعة بشريّة. هذا التاريخ المختلف هو الذي يوجد نوعا من الالتباس في مفهوم الديمقراطية، بل و في الواقع الذي يدلّ عليه هذا المفهوم ذاته. فإنّ أشكالا مختلفة من النظم المجتمعية و السياسية تنسب ذاتها رغم اختلاف مظاهرها إلى النظام الديمقراطي، بل و إنّها تجعل من نفسها أفضل تجسيد له، فممّا لا شك فيه أنّ الديمقراطية مطلب في المجتمعات المعاصر تقاس به مظاهر ملاءمتها للعصر. غير أنّ هذا الأمر جعل الديمقراطية مفهوما شائعا تنسب لذاتها أنظمة مجتمعيّة و سياسية متباينة، بل و حتّى الذين يعارضون الديمقراطية في مجتمعاتهم و يقيمون بديلا عنها نظما سياسية أخرى معارضة لتعاليمها أو يرضون بمثل هذه النظم قد يصرحون بأنّ النظم التي يقيمونها طريق أفضل للوصول إلى الديمقراطية ذاتها، أو يعتبرونها مرحلة من مراحل بلوغها. فتأجيل الديمقراطية لعدم نضج الشروط الملائمة لها، هو أحد أشكال الاعتراض عليها دون ادّعاء معارضتها، أو هو الشكل الأكثر تعبيرا عن الاعتراض عليها دون ادّعاء رفضها رفضا حاسما (3). هناك جانب آخر قد يربك التفكير في الديمقراطية و يجعل دعاتها أنفسهم يواجهون بالنقد أنظمة تدّعيها صفة لها، و نقصد بذلك أنّ التوسّع الكوني في هذا النظام المجتمعي و السياسي قد جعل صفة الديمقراطية شائعة الاستخدام، وهو ما يؤدّي إلى نتيجة عكسيّة.
 و كما يقول أحد الباحثين في هذا المجال فإنّ العبارة التي تعني أي شيء لا تدلّ على شيء. و هكذا بات الأمر يتعلّق بالديمقراطية التي لا تمثّل في يومنا هذا عبارة ذات معنى خاص و محدّد بقدر ما هي امتداد مبهم لمفهوم شعبي (4). نرى، إذن، هذه النتيجة التي توصّلنا إليها بوصفها منبثقة عن هذا الطريق الذي اتّخذناه و الذي دعوناه بنقد الديمقراطية. فقد كانت الفكرة المدخل بالنسبة إلينا هي اعتبار الديمقراطية مثالا تضعه الإنسانية أمامها، وتجتهد باستمرار لبلوغ درجة أفضل منه باعتباره توازنا للمجتمع، أو الشرط الأسمى الذي يتلازم وجوده مع التوازن المجتمعي، و هذا الاعتبار الذي توصّلنا إليه، و الذي يمكن أن تنبني عليه نتائج أخرى، يجعل تاريخ الديمقراطية منفتحا على مستقبل متجدّد، و ذلك ضدّ كلّ تصوّر يجعل منها نموذجا مطلقا و ثابتا و يجعل من تاريخها تاريخا منتهيا عند هذا النموذج. تظهر لدينا، إذن، فكرة معارضة لتلك التي صرّح بها المفكّر المعاصر فرنسيس فوكوياما حين قال بنهاية التاريخ. نعلم أنّ فوكوياما لا يقصد نهاية فعلية لتاريخ الإنسانية، بل يعني نهاية تاريخ معني. فما كان يهمّه ليس هو التاريخ الذي تتعاقب فيه الأحداث لأنّ هذا التاريخ لن ينتهي عند نقطة بعينها نستطيع تحديدها. فالتاريخ الذي حكم فوكوياما بنهايته هو هذه السيرورة البسيطية و المترابطة التي تأخذ بعين الاعتبار تجربة كلّ الشعوب في الوقت ذاته. و الواقع، فإنّ النهاية التي يتحدّث عنها فوكوياما للتاريخ هي في الوقت ذاته بداية جديدة له. لا بدّ من أن نثبت لفوكوياما أنّ نهاية التاريخ عنده كانت تعني، فضلا عن التوضيع السابق، شكلا وحيدا من الدولة هو الذي سيسود العالم منذ اليوم، وهو الذي سيكون الإطار الموحّد الذي ستتعاقب فيه أحداث التاريخ في جميع الأمم، و ذلك لأنّ تاريخ الصراع بين نظام المجتمع الذي تشكّله هذه الدولة و بين أي نظام يناقضه قد انتهى لصالح هذا النظام الذي هو الدولة الديمقراطية الليبرالية (5). ليس فوكوياما وحده من يقول، مع ذلك، بفكرة نهاية التاريخ عند هذا الشكل من الدولة. فهو نفسه يصرح بأنّه استوحاها من فيلسوفين سابقين هما هيغل وماركس. فقد تصوّر هيغل وماركس بعده أنّ التاريخ الإنساني، منذ البدايات الأولى للمجتمعات الإنسانية إلى اليوم، سلسلة متماسكة من الوقائع و الأحداث و التطوّرات التي أدّت إلى الانتقال من المجتمع العشائري إلى المجتمع الحديث. لكن هيغل وماركس بعده لم يتصوّرا التاريخ مستمرّا في تطوّراته و تناقضاته إلى ما لا نهاية، بل قال كلّ منهما بنهاية التاريخ عندما تقود تطوّراته نحو تشكيل مجتمع يلبّي فيه الإنسان رغباته العميقة و الأساسية. غير أنّ هيغل وماركس اختلفا في تصوّر الشكل الذي يكون بالنسبة إليهما نهاية تاريخ تطوّر أشكال النظام المجتمعي، إذ قال هيغل بأنّه الدولة الليبرالية و قال ماركس بأنّه المجتمع الشيوعي. يستلهم فوكوياما كلا من هيغل وماركس، و لكنّه يختلف عنهما نسبيّا في التصوّر الذي يصل إليه عن نهاية التاريخ. فهو يقول بأنّ نهاية التاريخ تتمثّل في الشكل الذي استطاع أن يفرض ذاته اليوم في عدد كبير من المجتمعات، و بصفة خاصّة في المجتمعات التي لها دور حاسم في التطوّر الحاصل في عالمنا. فالشكل الأخير لتطوّر نظام المجتمع في ما نجده اليوم في أكبر دول العالم، أي الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وهو ما نجده كذلك في الدول الأساسية في أوربا، وهو الذي تسعى كثير من البلدان في أمريكا و أوربا و خارج هاتين القارّتين إلى إقراره كنظام مجتمعي لها، لقد أدّت الأزمات التي عرفتها الأنظمة الأخرى إلى نهايتها ليبقى النظام الوحيد القابل للاستمرار بلا نهاية هو الدولة الليبرالية الديمقراطية. كشفت أشكال الأزمات عن مظاهر ضعف في الأشكال الأخرى من النظام المجتمعي و السياسي، فقادت هذه الأزمات إلى انهيارها. و لكنّ هذا الأمر لا ينطبق على النظام الذي تمثّله الدولة الليبرالية الديمقراطية التي تمثّل نهاية التاريخ الخاصّ بأشكال تنظيم المجتمع، إذ هي الشكل الذي يبدو قادرا باستمرار على مواجهة كلّ أشكال الأزمات التي لم تستطع الأنظمة الأخرى الصمود في طريقها (6)عبّرنا في محاولة سابقة خصّصناها للتعليق على كتاب فوكوياما والفكرة الأساسية التي يتضمّنها عن نهاية التاريخ عن عدم اتّفاقنا التامّ مع هذه الفكرة. و إذا كنّا قد أبرزنا المعنى الخاصّ الذي يؤكّد فيه فوكوياما على فكرته عن نهاية التاريخ، حيث لا يعني ذلك توقّف التاريخ الإنساني و اتّصافه بالسكونيّة، بل يعني فحسب أنّ اتّجاهه لن يكون من الآن فصاعدا إلاّ في إطار الدولة الليبرالية الديمقراطية. فالمسائل الكبرى تمّ حلّها، في نظر فوكوياما، بقيام هذه الدولة. فنهاية التاريخ مرتبطة لديه بالقول باتّجاه الديكتاتورية و الشمولية نحو الأفول، وهي أيضا التطوّرات التي سمحت بألاّ يظلّ أمام الإنسانية إلاّ اختيار واحد هو الدولة الليبرالية الديمقراطية. لقد صار انتصار هذا الشكل من الدولة نهائيا. و لم يعد هناك إمكان للتراجع في مسيرة التاريخ التي لن تعرف تطوّرات إلاّ في إطار هذا الشكل الأخير من النظام المجتمعي، فالسير دائما يكون إلى الأمام. و كلّ مجتمع لا يسير نحو هذا التطوّر سيواجه أكثر فأكثر التناقضات التي تقوده بالضرورة نحو السير في طريق بناء الدولة الليبرالية الديمقراطية، أي أنّ كلّ مجتمع سيسير بالضرورة نحو نهاية التاريخ الخاصّة به بوصوله إلى تنظيم ذاته وفق معيار العصر المتمثّل في التنظيم المجتمعي السالف الذكر. ننطلق في مواجهتنا لهذه الفكرة من تأطيرها المعرفي فنقول إنّ الحكم الذي يطلقه فوكوياما على التاريخ فيحكم بنهايته عند شكل معيّن من الدولة ليس هو التاريخ الواقعي نفسه، بل يتعلّق الأمر، كما نرى، بتأويل لهذا التاريخ الواقعي. فهذا التأطير الذي يساعدنا على الفصل بين الواقع و التأويل، أي بين الموضوعي و الذاتي، يسمح لنا بأن نضع فكرة فوكوياما في إطارها الموضوعي، و يسمح لنا كذلك بإمكان مناقشتها. هكذا، فإنّه مع أخذنا بعين الاعتبار للصفة المجازية لقول فوكوياما، ومع اعتبارنا أنّ ما يقوله لا يهدف إلى الوقوف عند نقطة تعتبر نهاية للوقائع التاريخية، فإنّنا نرى أنّ الموقع الذي حكم منه بنهاية التاريخ عند الدولة الليبرالية الديمقراطية قول قابل للنقاش. الحكم بنهاية التاريخ، كما يقدّمه فوكوياما، لا يخلو من صياغة إيديولوجية، أي أنّه يهمّ هذا الباحث كذات عارفة مؤوّلة لتاريخ، و كذات ترمز إلى الكيان الجماعي الذي تنتمي إليه و تفكّر في الواقع انطلاقا من تصوّرات. و هكذا، فإنّ فهم حدود فكرة فوكوياما يكون بالرجوع إلى تأطيرها بالنظام المرجعي الذي انبثقت من داخله و وفق شروط تفكيره و إنتاجه لتصوّراته (7). ما ندعو إليه، إذن، هو فهم فكرة فوكوياما في سياقها، ثمّ الانطلاق بصدد منقاشتها من مقتضيات سياق آخر هو الشرط الحضاري الراهن الذي تحيا ضمنه مجموعة البدان العربية و الإسلامية، و بصفة عامة كلّ البلدان التي توجد خارج أوربا و شمال أمريكا، و التي يوضع عليها الاختيار الديمقراطي في شروط جديدة و تبعا لمقتضيات ليست مطابقة بالضرورة للمقتضيات التي عرفت التطوّر الذي أشار إليه فوكوياما. ما كان يهمّنا من فكرة فوكوياما عن نهاية التاريخ ليس هو هذه الفكرة في حدّ ذاتها و في صيغتها العامة، بل هو الجانب الذي تهمّ منه موضوعنا المتعلّق بنقد الديمقراطية. فالتاريخ ينتهي عند فوكوياما، كما رأينا ذلك، في المجتمعات التي يكون نظامها السياسي هو الدولة الليبرالية الديمقراطية. و نجد أنفسنا في معارضة هذه الفكرة لأنّ لها بالنسبة إلينا دلالتين تتعارضان مع المنطق الذي بدأنا منه، أي النظر إلى الديمقراطية باعتبارها مثالا تسعى الإنسانية باستمرار إلى إنجازه في صورة أفضل فأفضل. الدلالة الأولى التي نعارضها من هذه الوجهة من النظر هي أنّ الديمقراطية تغدو ضمن التصوّر الذي نناقشه ذات تاريخ يسير في خطّ مستقيم تكون له دائما نفس النهاية، أو تكون له بتعبير آخر نفس الغاية المتمثّلة في شكل واحد من النظام المجتمعي و السياسي. و هذا يعني أنّه مهما يكن تنوّع وقائع تاريخ المجتمعات  و الأمم و الحضارات، فإنّها تبلغ دائما نفس النهاية. و هكذا، فقد يكون التاريخ الذي يبدأ مختلفا، ولكنّه يعود إلى الاتّفاق عند الوصول إلى غايته أو نهايته. فالدولة الليبرالية الديمقراطية هي النهاية التي تنتهي إليها كلّ البدايات المختلفة للتاريخ، و تقود إليها كلّ التطوّرات المتنوّعة للمجتمعات و الحضارات. أمّا ما نراه في معارضة هذه الفكرة فهو أنّ التجارب التي مرّت منها المجتمعات في تنظيمها السياسي مختلفة، و التاريخ الذي عرفته متباين، وهو ما قاد إلى وجود أشكال مختلفة من التنظيم المجتمعي و السياسي التي يرى كلّ واحد منها أنّه يستحقّ أن يُنعت بكونه ديمقراطيا، فتاريخ المجتمعات الإنسانية لم يسر في الخطّ المستقيم الذي رسمه فوكوياما. الدلالة الثانية التي نعارضها تتعلّق بدورها بسير التاريخ في خطّ مستقيم، و لكن عندما يتعلّق الأمر بالمستقبل. و ذلك أنّه بعد الانتهاء إلى شكل الدولة الليبرالية الديمقراطية لن يكون هناك إلاّ تطوّر وحيد داخل هذا النظام المجتمعي نفسه، و لن تكون هناك إلاّ تناقضات داخل هذا النظام. و هذا ما عبّر عنه فوكوياما بالقول إن انتصار النظام الليبرالي الديمقراطي صار نهائيّا و لا مجال فيه للتراجع. و الواقع أنّنا نرى القول بنهاية التاريخ مع شكل الدولة الليبرالية الديمقراطية حكم قيمة لا حكم واقع، كما نرى أنّ التنبّؤ بأنّ المستقبل لن يكون إلاّ طريقا وحيدا حكما تتعلّق قيمته بحكم القيمة الذي يصدر عنه. هكذا، فإذا كنّا ندعو إلى ممارسة تفكير نقدي في الديمقراطية، فإنّ من بين الاتّجاهات التي نرى أنّ على هذا الفكر أن يسير فيها البحث في الأشكال المختلفة للنظم المجتمعيّة و السياسية التي تقدّم نفسها اليوم بكونها نظما ديمقراطية، و ذلك للبحث في التطوّرات التي قادت إلى كلّ واحد منها، و البحث في صلاحية كلّ واحد منها بالنسبة لما يمكن أن نتصوّر أنّه نظام ديمقراطي حقّ. فهذا البحث هو الذي سيمكّننا من الجواب عن السؤال المتعلّق بوحدة النظام الديمقراطي من حيث شكله أو بإمكان تعدّد أشكاله و عدم حصر الصلاحية في نظام واحد منها. هكذا، فإنّنا نرى أنّ هذه الكيفية من النظر يمكن أن تُدمج البحث في الأصول و في التاريخ الخاصّ بكلّ مجتمع أو أمّة أو حضارة في إطار ما دعوناه بنقد الديمقراطية. فلا بدّ من البحث في التطوّرات و المراحل. و الإشكالات التي عرفها كلّ مجتمع ناتجة عن تطوّرات كانت بدورها مختلفة في مراحلها و مظاهرها. فالأمر لا يتعلّق بتطوّر خطّي و مستقيم يتّخذ شكلا واحدا بالنسبة لكلّ المجتمعات. ديمقراطية اليوم ناتجة عن تنوّع، وهي في مظاهرها متنوّعة، و نرى أنّها في المستقبل لن تكون إلاّ كذلك، و النقد يعني في هذه الحالة البحث في هذا النظام السياسي و المجتمعي بالكيفية التي يظهر بها متنوّعا في تاريخه و متنوّعا في واقعه الحاضر.
- 3 -
نعود الآن إلى فكرتنا التي اعتبرناها مدخلا لما دعوناه بنقد الديمقراطية، و ذلك للانطلاق من هذه الفكرة بوصفها برنامج عمل للبحث في هذا النظام المجتمعي و السياسي. و نرى، في هذا المستوى، أن ّما يمكن تناوله بالدراسة في ضوء برنامج العمل هذا جوانب كثيرة، كما أنّ الأسئلة التي تُطرح على البحث في هذا الاتّجاه متعدّدة و متنوعة في الوقت ذاته. يعني اعتبار الديمقراطية مثالا أنّها واقع تسعى الإنسانية إلى بلوغه، و أنّ ما تحقّق منها في واقع فئة من المجتمعات و تصفه بها كنظام مجتمعي و سياسي لا يعني الحضور المكتمل الذي لم يعد أمام الإنسانية سوى أن تسير في طريقه، كما أنّ شكلها الحالي، و ليكن هو الليبرالية الديمقراطية مادامت هي الشكل السائد، ليس الاختيار الوحيد أمام إنسانية المستقبل. و هذا ما دفعنا في محاولتنا السابقة التي ناقشنا فيها فكرة فوكوياما عن نهاية التاريخ إلى القول بأنّ هناك تاريخا لم ينته بعد و هناك تاريخ آخر لم يبدأ بعد. و هذا هو معنى دعوتنا إلى أنّ نفكّر في الموضوع من خلال نظام مرجعي آخر لنتمكّن من فهم دلالة المستويين اللذين أشرنا إليهما أعلاه. فما فكّر فيه فوكوياما هو تاريخ بلغت فيه الإنسانية من التطوّر ما سمح له بأنّ يتصوّر أنّ هذا التاريخ قد انتهى لبلوغه نقطة لن يتطوّر بعد ذلك إلاّ في توجّهها. و لم يكن بإمكانه أن ينطلق من التاريخ الذي لم ينته لأنّه لم يبدأ بعد، وهو تاريخ البلدان التي لم يتّجه تطوّرها بعد نحو الديمقراطية (8). إنّنا ننتمي إلى جهة من العالم تعود فيها الديمقراطية في وضعية المهمّة التي ينبغي أن تقع البداية في إنجازها لا في وضعية قابلة لأن نعتبر بأنّها الدرجة الأقصى لتطوّرات تاريخية سابقة. البُعد الديمقراطي في البلاد العربية ما يزال في حاجة إلى إنجاز، و شروطه ذاتها ما تزال موضع جدال و في سبيل التحقّق. وبما أن الديمقراطية ما تزال مطلبا أكثر منها واقعا في البلدان التي توجد خارج أوربا و أمريكا، و حيث إنّنا جزء من هذه البلدان، فإنّنا نقول إنّ هذه البلدان في حاجة إلى إعادة توجّهها التاريخي لكي تبدأ فيها التطوّرات التي ستقودها نحو شروط النظام المجتمعي و السياسي الذي يمكن أن نصفه بأنّه ديمقراطي. إنّ هذه البلدان توجد الآن، مادام المطلب الديمقراطي قائما فيها، في حالة يمكن أن ندعوها ما قبل الديمقراطية. إنّها فترة تهيُّؤٍ، و لكن دون أن تكون الشروط القائمة فيها قد بلغت بالناس هذا النظام المجتمعي و السياسي المطلوب من أجل توازنها. و أسئلة هذا الوضع كثيرة و متنوّعة قد تصل إلى حدّ طرح السؤال حول طبيعة النظام الديمقراطي ذاته. و حيث إنّ فكرة نقد الديمقراطية التي عبّرنا عنها هنا ليست بالنسبة إلينا إلاّ برنامج عمل، و حيث إنّها ليست إلاّ فكرة نلج بها جملة من الأسئلة، فإنّنا نقول إنّ أسئلتنا قادمة لا حاضرة حضورا كلّيا في دراستنا الحالية. و من هذه الأسئلة: هل النظام الديمقراطي هو حلم الأغلبية، وكيف يتمّ تشكيل هذه الأغلبية منها ؟ هل هناك مساهمات مختلفة للفئات المجتمعية المكوّنة للمجتمع، و ما هو دور كلّ منها ؟ ما دور الشروط السياسية و الاقتصادية في بناء الديمقراطية ؟ ما هو الوضع الحالي لعلاقة الثقافة و الفئات التي تشتغل بها بشروط مجتمع تغيب فيه الديمقراطية أو يكون التطوّر نحوها عسيرا و بطيئا ؟ ما هو دور الفئات الثقافية في بناء الديمقراطية بوصفها مطلبا مجتمعيا ؟ تلك نماذج من الأسئلة القادمة، وهي الأسئلة التي ستؤطّر فكرة نقد الديمقراطية توجّهنا في الإجابة عنها. نرى من الملائم في نهاية هذا البحث أن نشير إلى أنّ نقد الديمقراطية في البلدان التي يكون هذا النظام المجتمعي و السياسي ما يزال مطلبا فيها يكون نقدا ذا مهمّات تختلف عن البلدان التي تكون قد قطعت أشواطا في إنجاز شروط هذا النظام. فهناك، في نظرنا، فرق بين نقد يبحث عن نقائض في رقابة النظام الديمقراطي و يسعى إلى تجاوزها، الشروط الأولويّة لهذا النظام. هناك فرق بالنسبة للذات التي تفكّر في إطار النقد بين الحالة ما قبل الديمقراطية و بين حالة التطوّر في إطار النظام الديمقراطي. و لذلك، فإنّ المجهود النقدي بالنسبة لمفكّري البلدان التي توجد في حالة تأخّر تاريخي بالنسبة لإقرار النظام الديمقراطي يكون مضاعفا. فمن جهة أولى ينبغي الانتباه إلى حالة ما قبل الديمقراطية و مواجهة الاعتراضات القائمة ضدّ التطوّر في سبيل بلوغ هذا النظام ذاته، و لكن الأمر يتعلّق، من جهة أخرى، بالانتباه إلى التحوّلات الناتجة عن تطوّر ذلك النظام ذاته، وهي التحوّلات التي ترتبط بتطوّرات مجتمعيّة و اقتصاديّة و سياسية، و لكنّها ترتبط أيضا بالنقد المستمرّ، فالنقد لا يساهم في تأسيس الديمقراطية فحسب، و لكنّه يساهم في تطويرها. يؤّدي بهذا النقد المضاعف المطلوب إلى بذل مجهود أكبر يفكّر في الديمقراطية في مستويات متعدّدة في الوقت ذاته (9).
هوامش:
(1) قصدنا هنا ما نشرناه من دراسات ضمن كتابنا: البعد الديمقراطي، دار الطليعة، بيروت، 1997.
(2)  راجع روبرت دال، الديمقراطية و نقّادها، ترجمة نمير عبّاس مظفّر، دار الفارس للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، 1995، ص13.
(3) راجع الفصل الأوّل من كتابنا السالف الذكر، البعد الديمقراطي وهو تحت عنوان: البعد الديمقراطي بين الرغبة و الإرجاء، نفس المعطيات السابقة.
(4) راجع روبرت دال، الديمقراطية و نقّادها، نفس المعطيات السابقة، ص12-13.
(5)  (6)  نفس المرجع السابق، نفس المعطيات، ص44.
(7) راجع مقالنا: التاريخ الذي لم ينته بعد و التاريخ الذي لم يبدأ بعد، مجلّة فكر و نقد، الرباط، مارس 1998.
(8) راجع مقالنا: التاريخ الذي لم ينته بعد و التاريخ الذي لم يبدأ بعد، نفس المعطيات السابقة.
(9) راجع كتاب علي أومليل: مواقف الفكر العربي من التغيّرات الدولية، الديمقراطية و العولمة، منتدى الفكر العربي، 1998، و يثير هذا الكتاب قضايا سنعود إليها لاحقا. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق