إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الأربعاء، 6 مايو 2009

الحداثة: توترات الذاتي والرمزي

محمد نور الدين أفاية: (أستاذ الفلسفة كلّية الآداب – الرباط)
1- إفادات الحداثة:
يختزن كل تصور للحداثة في ثناياه خلفية إيديولوجية. فالتقدم التقني المستمر في العلوم، والتقسيم العام للعمل، أدخلا إلى الحياة الاجتماعية أبعادا دائمة للتغيير، وخلخلا العادات والثقافات التقليدية. وبالموازاة نتجت توترات سياسية، وصراعات اجتماعية، مما فرض على الدولة الحديثة، وعلى أجهزتها المختلفة التي تعتمد عليها، ضرورة الحداثة في سياق الصراع الإيديولوجي، من أجل ضبط مفاصل المجتمع، والتحكم في مختلف تعبيراته الاعتراضية.
* إن الصراعات المختلفة التي ولدتها الحداثة، بالإضافة إلى مظاهر النمو الديمغرافي، والتمركز الحضري، والتطور الخارق لوسائل
التواصل والإعلام، كل هذا جعل من الحداثة ممارسة اجتماعية، ونمط حياة متمفصل مع التغير والتجديد، ولكن، أيضا، مع القلق واللاإستقرار، والتعبئة المستمرة، والذاتية المتموجة، والتوتر، والأزمة. كما جعل منها تصورا مثاليا، أو أسطورة. ولهذا الاعتبار فإن تاريخ ظهور كلمة "حداثة" نفسها له دلالة خاصة. إذ يمثل (حوالي 1850) اللحظة التي بدأ فيها المجتمع الحديث يفكر في ذاته، ويتأمل نفسه بلغة الحداثة. وأصبحت هذه الأخيرة، من ثم، عبارة عن قيمة متعالية، وعن نموذج ثقافي؛ عن أسطورة مرجعية حاضرة في كل مكان، مُغْلِّفَة، جزئيا، البنيات والتناقضات التاريخية التي كانت وراء نشأتها(1). وإذا كان بعض المفكرين يعتبرون أن الحداثة ليست نظرية بقدر ما تحوز منطقا، ومعالم تميزها عن باقي التصورات التقليدية، فإنهم يرون أن للحداثة مجموعة من الخصائص والأبعاد منها، أولا؛ البعد التقني-العلمي، ذلك أن الازدهار الخارق، لاسيما منذ بداية القرن العشرين، للعلوم والتقنيات، وللنمو العقلاني والمنهجي لوسائل الإنتاج، ولأساليب تسييرها وتنظيمها، تطبع الحداثة وكأنها عصر الإنتاجية المتمثلة في تقوية العمل الإنساني وتشديد السيطرة على الطبيعة، لدرجة أصبح فيها الإنسان والطبيعة مجرد قوى إنتاجية مرتبطة بخطط الفعالية والمردودية القصوى. فالإنتاجية تؤسس، اليوم، لتحول عميق داخل الحداثة يتجلى في الانتقال من حضارة العلم والتقدم إلى حضارة الاستهلاك والترفيه (2). أما البعد الثاني فيتمثل في المفهوم السياسي للحداثة. ذلك أن الدولة تجسد، بشكل من الأشكال، نوعا من التعالي المجرد، في صيغة دستور، والوضع الصوري للفرد وتحت عنوان الملكية الفردية، وهذه الصيغة، والوضع، والملكية تشكل "البنية السياسية للحداثة"، إضافة إلى العقلانية، والبيروقراطية، والمصلحة المرتبطة بالوعي الفردي الخاص. إن هيمنة الدولة البيروقراطية لم تزدد إلا نموا مع تقدم الحداثة. ولأنها مرتبطة بتوسع مجال الاقتصاد السياسي وانساق التنظيم، فإن الحداثة تتركز في كل قطاعات الحياة، بتعبئتها لصالحها وبعقلنتها على صورتها الخاصة. يتمثل البعد الثالث للحداثة في اعتبارها "مفهوما سيكولوجيا"، ذلك أنه في مواجهة مبدأ الإجماع ذي المضامين السحرية، أو الدينية للمجتمع التقليدي، فإن العصر الحديث يتميز ببروز الفرد، بوصفه كائنا يحوز وعيا مستقلا. ويجد نفسه، مع ذلك، بصراعاته الشخصية، ومصلحته الخاصة بل وبلا وعيه، محاصرا بنسيج وسائط التواصل، وبالتنظيمات، والمؤسسات، وباستلابه الحديث وتجريده، وبفقدان هويته داخل العمل، والترفيه واللاتواصل... إنه يبحث عن تعويض نسق بأكمله للشخصنة من خلال الأشياء والعلامات (3). إلا أنه في الوقت الذي يؤكد فيه الجميع على أن الحداثة تتمثل في الثورة التقنية والعلمية، وفي بنية الدولة الحديثة، وفي أساليب التنظيم والتسيير للمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، وفي التجديد المستمر للقيم الثقافية، فإن هذا لا يعني أن هذه المظاهر والأبعاد هي التي تشكل الحداثة، بقدر ما تتحدد في كونها نفيا لهذه التغييرات، وإعادة تأويل لها في شكل أسلوب ثقافي ونمط حياتي وإيقاع يومي. إن الحداثة ليست هي الثورة التكنولوجية والعلمية، إنها لعبة وتضمين هذه الثورة في مشهد الحياة الخاصة والاجتماعية، وفي البعد اليومي لوسائط التواصل، وفي الرفاه البيتي أو في غزو الفضاء. إن العلم والتقنية ليسا حديثين في ذاتيهما، بل إن حداثتهما تتمثل في مفعولاتهما، كما أن الحداثة ليست هي العقلانية أو الاستقلال الذاتي للوعي الفردي الذي يؤسسها، بل إنها ذلك التجديد المستمر لهذه الذاتية الضائعة داخل نسق "الشخصنة" وفي تأثيرات الموضات والتطلُّعات الموجهة. أنتجت الحداثة نوعا من "ثقافة اليومي"، لدرجة أنه –"اليومي"- أصبح مكونا لمظاهر الحداثة. وإذا كان التقليد يعيش على الاستمرارية وعلى التعالي فإن الحداثة، حين دشنت القطيعة مع القديم والتقليد، وأقامت الاستمرارية، قد انغلقت حول دائرة جديدة، وفقدت تلك الاندفاعة الهائلة للعقل وللتقدم. وأصبحت تختلط، كما يلاحظ البعض، مع اللعبة الصورية للتغيير. وحتى أساطيرها ترتد ضدها (والأسطورة التقنية التي كانت منتصرة سابقا، تختزن في ذاتها كل أشكال التهديد). والمثل والقيم الإنسانية التي راهنت عليها تنفلت منها: إنها تتميز، أكثر فأكثر، بالتعالي المجرد لكل السلطات. معها أصبحت الحرية صورية، وصار الشعب كتلة جماهيرية وغدت الثقافة موضة. وبالإضافة إلى اعتبار الحداثة متعارضة مع القديم، وتختزن في عملياتها إمكانيات الأزمة، وإمكانيات تجاوزها في نفس الآن، وبحكم أنها تنفلا من كل تحديد مفهومي نهائي، فإن الحداثة، كظاهرة حضارية وكمشروع عَمِل الغرب على تأسيس مقوماته منذ ما ينيف على القرنين، ارتبطت بظواهر وموضوعات أساسية، أهمها: المرأة والمدينة والفردانية. فـ"جور سيمل" (فيلسوف وعالم اجتماع ألماني) مثلا، يرى أن الإنسان الحديث يوجد في حالة قلق دائم، وأن ما يربط المدينة الكبيرة بالحداثة هو الفردانية المعاصرة (4). وإذا كانت النهضة قد اكتشفت قيمة الفرد، برفض النظام القديم، فإن القرن الثامن عشر، وبعده حركة الرومانسية، هما اللذان شرَّعا، بشكل من الأشكال، للفردانية الحديثة. على اعتبار أن هذه الفردانية عبارة عن مطالبة بالحرية الشخصية التي أصبحت قيمة عليا، وليس فقط مجرد وسيلة. وعلى الرغم من التأكيد الواضح على الأهمية القصوى للفرد داخل صيرورة الحداثة، وعلى احترام عالمه الداخلي والشخصي، فإن الحداثة نسجت مجالا عموميا، تختلف أطره، وقنواته، ونمط تواصله باختلاف المرحلة التاريخية. يسمح -أي المجال العمومي- بإبراز كل الظواهر والتعبيرات. وهو عمومي بمعنى أن ما يُظهر يمكن أن يكون مسموعا ومنظورا إليه من طرف الجميع، سواء كان هذا الذي يظهر أهواء، أو رغبات، أو أفكارا، أو معان، الخ. وبقدر ما يعمل هذا المجال العمومي على جمع الناس يعمل على تفرقهم، أي أن الحداثة نسجت جدلا خاصا للعلاقة بين الذاتية والاختلاف، بين الأنا والآخر. إلى درجة أن فهم الناس للواقع أصبح يتوقف كليا على وجود ميدان عمومي، حيث يمكن للأشياء أن تظهر بالانفلات من ظلمات الحياة المنتسرة، كما تقول "حانة آرندت". لذلك يتعود الإنسان على التساؤل عن علاقته بالعمل، وبالمال، بالآخر، بالزمن، بالموت، وبالحبس داخل السياق الدلالي والرمزي الذي تنسجه الحداثة. واستناد الحداثة على الحرية والفردية والمساواة، لا يعني تماما أنها خلقت في سياق تطورها ما يناقض ذلك. فالفرد، كقيمة، في علاقاته الإشكالية مع الآخرين، بقدر ما ينكفئ إلى ذاته وينطوي عليها، يفرض عليه نظام الحداثة الخضوع إلى إيقاعه وآلياته. الأمر الذي أدَّى بالكل إلى تحميل مؤسسات الدولة الحديثة مسؤولية قلقهم وعزلتهم وصراعاتهم النفسية واستلابهم، إلخ. كل شيء خاضع للبرمجة وللتخطيط، حتى الرغبات العميقة والحميمة للجسد. وما هو مبرمج هو ما يمكن تقويمه كميا. حتى الزمن يوظف في إطار المردودية والحساب الاقتصادي العام. ومهما يكن من أمر، فالحديث عن مظاهر الحداثة، كما أنتجتها الحضارة الغربية، لا يمكن أن يقتصر على إطار جغرافي بعينه، لأن الحداثة، منذ بداياتها الأولى، برزت في شكل إرادات للقوة تسعى إلى الهيمنة والتوسع والانتشار. وبحكم أن أغلب مناطق وبلدان الجنوب خضعت لسيطرة الدولة الاستعمارية، وبسبب كون هذه البلدان تتميز بثقل هائل للتقليد على أنماط السلوك وطرق التفكير، فإن الحداثة مثلت صدمة حضارية خلخلت كيان الإنسان في هذه البلدان، وفيها عبرت -أي الحداثة- عن أكثر مظاهرها عنفا وشراسة. وذلك من منطلق اعتبار أن الاستعمار كان قوة تحديثية ونموذجا لـ"تحديث" أكثر البلدان تخلفا وانحطاطا. غير أنه في غياب تطور سياسي وصناعي، يغير العقلية التقليدية الموجهة لسلوك إنسان الجنوب، فإن ما برز في الحداثة هو مظاهرها التقنية الأكثر قابلية للتسويق، وليس عملية العقلنة الطويلة الأمد التي يفترضها المشروع العام للحداثة. هذا إذا سلمنا بأن بلدان الجنوب كانت مستعدة لإدماج قيم الحداثة في صيرورة تطورها بعد الاستقلالات. لذلك فإن تحاليل الانتروبولوجيا السياسية بعد الحرب العالمية الثانية، أظهرت أن الأمر ليس بهذه السهولة،وأن النظام التقليدي (القبلي، والعشائري والنسبي) واجه التغيير بمقاومة قوية، حيث عقدت البنيات الحديثة (الإدارية والدينية والأخلاقية) مع التقليد تسويات غريبة من نوعها. بل إن الحداثة تظهر، دوما، وكأنها انبعاث ما للتقليد. يوفر مبحث الأنتروبولوجيا إمكانية خلق المسافة الضرورية للنظر في عمليات الحداثة، سواء كانت تجري في الغرب أو كما تطبق بعض إنتاجاتها في بلدان الجنوب. وإذا كانت الانتروبولوجيا نفسها من إنتاج الحداثة، على اعتبار أن العلوم الاجتماعية والإنسانية نشأت، بشكل متساوق، تقريبا، مع إنجازات الحداثة، فإن هذا العالم يوفر إمكانية القول بأن الموقف الجذري تتخذه الحداثة من القديم ومن التقليد لا يحقق دائما غاياته لأنها لا تستطيع إلغاء ما هو كامن في الذاكرة وساكن في اللاشعور الجمعي. ومن ثم يبقى التقليد حاضرا بالرغم من اجتياح مظاهر الحداثة. ولهذا السبب، برز في تاريخ الأفكار الغربية، لاسيما ابتداء من الستينات، تيارات فلسفية وعملية، تدعو إلى نقد الحداثة وتفكيك عقلانيتها، وإعادة النظر في قدرة العقل، وفي معاني الكلمات والأشياء. وقد نعتت هذه التيارات بأنها تمثل "ما بعد الحداثة. كل شيء أصبح قابلا للتأويل والنقد والتفكيك. وأصبحت المعرفة العلمية نفسها عبارة عن خطاب يتعين استنطاق مكوناته، وطبيعة علاقاته مع السلطة، وتفكيك الأطر المرجعية التي تمنح للسلطة مشروعيتها، وتوفر لها شروط التوازن وضبط النظام. هكذا تتورط الحداثة في لعبة السلطة وتغدو، هي بدورها، عنصرا تنظيميا تحتاجه آليات المجتمع الحديث الذي يبدو أنه، مع صيرورة التحولات، فقد كثيرا من خزانه الرمزي، لاسيما فيما يتعلق بالتعبيرات الثقافية الصميمية التي تنتجها الجماعات والأفراد. فالحداثة، إذن، بالرغم من استبعادها للتصورات التقليدية من ساحة الفعل السياسي والثقافي، في الغرب على وجه الخصوص، قد بقيت، كما يرى هابرماس، مشروعا لم يكتمل بعد(5).
2- المؤلف وانزياحية الذات:
كيف تم ويتم تقديم مفهوم المؤلف في الثقافة الحديثة؟ وما هي التحولات المعرفية والجمالية التي حصلت على نمط –أو أنماط- التمثل في الأنظمة الرمزية التي أنتجها المجتمع الحديث؟ إن مفهوم الذات، بالرغم من الاختراقات النظرية الذي تعرض لها، حافظ على كثير من حضوره في الأنسجة العامة للمجتمع الحديث، فسواء كانت الذات تجليا لتمويه إيديولوجي، أو لتخيل ميتافيزيقي، أو لانشطار وجودي، فإن الذات حين تقترن بفكرة المؤلف تبدو وكأنها تمثل لحظة قوية للفردنة في تاريخ الأفكار الغربية(6). صحيح أن الكتابة خضعت لكل تفجرات أنماط التواصل، وأعادت، في كل مرة، النظر في أشكال علاقاتها بالمعنى والفهم، إلا أنها –أي الكتابة- تحررت، في بعض جوانبها، من مسألة التعبير، كما يقول "ميشال فوكو"، لأنها أصبحت لعبة من الرموز والعلامات، تترتب وتترابط، ليس من أجل تبليغ مضمون بواسطة المدلول،بل إن ترتيبها وترابطها، يكتسبان قيمتهما من طبيعة الدول المستعملة ذاتها. فالكاتب، مهما كانت نواياه ومقاصده، ذات مُظللة، لأنها تعمل على إخفاء كثير من تفاصيل فردانيتها. ولأنها في كل الأحوال،تخضع لآليات الكبت والنسيان، أو تسقط في لعبة الترميز والتحايل. ومع ذلك ما زال للمؤلف وظائف. وتوقيعه إعلان عن هوية، منسجمة، متوازنة أو منشطرة، لا يهم، لأن اسم المؤلف يغدو حاسما في إيجاد خطاب ما داخل تشكيلة خطابية محددة(7). غير أن النظام الرمزي الحديث شرس في رهاناته واختياراته، لأنه يملك من القوة ما يسعفه على إعلاء شأن هذا المؤلف وإقصاء ذاك. وتعرض مفهوم القيمة ذاته لاهتزازات كبرى. إذ أصبح نمط التداول داخل السوق الرمزية هو المتحكم في أشكال الذوق، وفي صيغ الأحكام، وفي التأثير على أسلوب التلقي والاستعمال. لابد إذن من توقيع للنص. حتى ولو لم يرق صاحب التوقيع إلى مستوى المؤلف. السبب في ذلك أن الحضارة الراهنة لا تقبل، في المجتمع الأدبي، نصا غفلا. التوقيع شرط الاعتراف، أي التوقيع المندرج في لعبة التواصل الخاضع لمقاصد الرأسمال الرمزي. من هنا يلاحظ "ميشال فوكو" أن الثقافة الغربية لا تتحمل الغفلية الأدبية، ولا تقبل إلا بصفتها لغزا. أما في المجال السمعي-البصري، وعلى صعيد السينما، فإن مفهوم المؤلف اكتسب خصائص أخرى. ذلك أن الفيلم يخترق، من حيث المبدإ، الأساس التشريعي لوحدانية التأليف.ويفرض اعترافا، بالرغم من كل المقاومات، بتعدد المؤلفين، حتى لو تم التسليم بحقوق إبداع الكاتب والمخرج، قياسا إلى حقوق المنتج والموزع. يتعلق الأمر بهويات متعددة في الإنتاج السمعي-البصري، مع ما يفترضه هذا التعدد من كشف عن الفعل الإبداعي في الإنجاز السينمائي. وهكذا تخلخل مع السينما، والمجال السمعي-البصري، مفهوم المؤلف من أساسه. أولا، بسبب تعدد المؤلفين والفاعلين إبداعيا في العمل السينمائي؛ وثانيا لأن هذا العمل يستمد شرعيته ووجوده من هذا التعدد ذاته. فالتدخلات الجزئية في العمل الفني العام، تمنحه كثافة وتعددا على مستوى الحساسيات، والمهارات، والرؤى، والتخيلات. لاشك أن هناك عينا فاحصة ترتب كل هذه التدخلات، أو عقلا منظِّما يضبط العطاءات الفردية ضمن النسيج الإبداعي للعمل السمعي- البصري.
يختلط مفهوم المؤلف بمسألة التوقيع على هذا الصعيد. وكلاهما يفترضان سؤال الذاتية والهوية. فالحداثة، كما عبَّرت عن تجلياتها في الزمن الراهن - وهو ما يفضل البعض تسميته بما بعد الحداثة - وضعت الذات في موقع تناقضي، تدعوها فيه إلى الانشطار والتوزع. تستمد الذات المبدعة، أو غيرها، في العمل الفني الفردي أو الجماعي، بعض عناصر هويتها من القوى الاجتماعية التي تكيفها، وتؤثر في وجودها. ويسمح الفكر النقدي بملاحظة أن هذه القوى المؤثرة في الذات، سواء كانت قوى يمكن تحديدها أو تنفلت من التحديد، تموضع الذات في مكان ما، تؤطرها اجتماعيا،وتملي عليها هوية كثيرا ما تكون خادعة. بمعنى أن الذات -والأمر هنا يتعلق بالمؤلف- أصبحت في موقع إشكالي، بسبب الاستراتيجيات المختلفة المتحكمة في وجودها. هكذا يغدو الفن خدعة، ويتحول مفهوم المؤلف إلى استعارة مغرية(8). ومع ذلك هناك مؤلفين وكتابا وسينمائيين يتجرأون على التوقيع، وعلى منح الإبداع هويتهم الخاصة، بل وهناك "مراكز وعي" تنتج أعمالا فنية تنفلت من النظام التجاري، خصوصا ضمن الآلة الإنتاجية الأمريكية. إن النظام الهوليودي نظام جبَّار. مفارق وكاسح. لقد تمكن من صنع الذاكرة والتجربة. لأنه نجح في رصد كثير من وقائع القرن العشرين، وأعطى للزمن، والحركة، والصورة كل الصفات الممكنة واللامتوقعة. هيمن المنظور الأمريكي، بشكل طاغ، على أنماط الإنتاج والتداول، بالرغم من استقطاب حساسيات ثقافية مختلفة، إلا أنه في النهاية، جعل من المؤلف -أو المؤلفين- أداة داخل أجهزة إيديولوجية، ورمزية تخترق أطر الفردانية والذاتية، بل ولا تعترف بحدود الوطن والوطنية. مأساة الفنان أو المؤلف، في إطار النمط الإبداعي لما بعد الحداثة تتمثل في مشكلة الاعتراف. فالمؤلف، كمُوقع على عمل فني، يستدعي منا الاعتراف باسم وبهوية صاحبه. ليس فقط باعتبار أن ما يقدمه لنا من عمل يشكل أسلوبا خصوصيا للوعي بالعالم، بل كإسم يمنحه لنا للاعتراف به.
3- الصورة وقلق الفكر:
يبدو أن الصورة اكتسبت، اليوم، صفة اجتياحية. فهي تغري وتقلق. تظهر تارة وكأنها من أكثر الوسائل نجاعة في عملية توسطها بين الفكر والعلم، وتارة أخرى تتقدم بشكل استفزازي، بسبب كونها تسعى إلى الحلول محل الحقول الأخرى. تنتعش الصورة بشكل مذهل ومدهش. لقد أصبحت تخلق "الجمهور"، بل و"سكانا" وقرى وقبائل بفضل التقنيات الجديدة. وبلغت نسبة عالية من الحرية لدرجة تسمح لنفسها بكل شيء. أكثر الناس تفاؤلا يعتبرون أن الصورة أصبحت تمثل الفاعل الرئيسي في ثورة وسائل الإعلام، وفي التغيير الهائل الذي يحصل على الثقافات. أما مستنكري المغامرات فإنهم يتهمونها بكونها تكثر في المظاهر، وتحل محل الوقائع لممارسة ما يسميه "جان بودريار" بـ"الإغراء الجهنمي". وأول المتهمين في كل ذلك هو التلفزيون. التقنية تلوث للحواس وانفصال في العواطف. ومن تم فإن التفجر الهائل للصور يدفع بكثير من مفكري الغرب،وغيرهم، إلى القول بنشوء واقع جديد من طبيعة افتراضية. لم يعد الكلام، على هذا الصعيد، يقتصر على الصور المركبة، أو الصور الرقمية، وإنما عن "الوسائط المتعددة". خف النقاش الجاري حول هذه الوسائط تصورات جديدة للعلاقة مع الفضاء، يمكن تلخيصها في تصورين رئيسيين اثنين: الأول واقعي والثاني افتراضي. والمرء سيجد نفسه، إن لم يكن قد بدأ في ذلك بالفعل، أمام واقع مزدوج ومقسم، بين جماعة لها وجود واقعي، وأخرى ذات حضور افتراضي. كل شيء قابل للانشطار. وكل ذلك أصبحممكنا بفضل ما يسميه "بول فيريليون" بـ"عولمة الزمن"، أو بـ"الحضور المتحكم فيه عن بعد"(9). لا يمكن أن نفهم أي شيء عن الواقع الافتراضي دون الوعي بأن الزمن أصبح عالميا. لاشك أن الزمن ما زال أزمنة مختلفة باختلاف الثقافات والحضارات والجهات. لكن ثقافة الصورة والإدراكات البصرية التي تولدها، خلقت حالات من المباشرية، والحضور الكلي بشكل لا يساعدان الرؤية والممارسة والفعل الموجَّه فقط، وإنما يسعفان على ممارسة افتراضية للمسافات. إننا نسكن عالما يتزايد مضمونه الافتراضي(10). بل إننا، منذ بداية الراديو والتلفزيون ونوجد في قلب الافتراضية. أما التقنيات الجديدة فإنها في الوقت الذي تتصارع من أجل توجيه الزمن العالمي، فإنها ستقصي، عمليا، كل من لم يفهم لغتها الجديدة ومفهومها للواقع وللعالم. أصبح نظام الإعلام المصور ينتصر على الأشياء، وبواسطته أي الأشياء تتقدم إلينا في هيئة تمثلات. وهذا ما يسميه "فيريليو" بـ"هزيمة الوقائع وانتصار الأثر المبهر". يفقد الواقع واقعيته لصالح إعلام منقول. هو نفسه في خدمة البلاغ. يملي هذا التحول تصورا جديدا للزمن الواقعي، وللزمن العالمي. إذ لم يعد الزمن عبارة عن لحظات متعاقبة في سياق تاريخ. إنه زمن يُعرض. ومن ثم فإن شريط الزمن هو الذي ينتصر على الزمن. إذا الزمن فيلما يعرض ذاته. ومن ثم، وبعد أن تعودنا على الزمن التتابعي – ماضي،حاضر ومستقبل- نجد أنفسنا أمام زمن آخر زمن الاستعراض. يتعلق الأمر بثقافة بصرية جديدة. وإذا كان الرسم قد مثل نوعا من التحليل النفسي للقرن السادس عشر، فإن السينما هي بمثابة التحليل النفسي للقرن العشرين، كما يرى "ريجيس دوبري". فكل مرحلة تاريخية لا وعيها البصري، وعلى المفكر أن يُعمل الفكر فيه، أن يستنطقه، أن يبرز ما يكشف عن تعبيرات الوجود أو عن حيل الوهم. لاسيما وأن الشكل يتميز بإيقاع سريع، في حين أن الخطاب غالبا ما يكون بطيئا في تحولاته. بل إن الحداثة التقنية، في تجلياتها الأداتية، حين أنتجت وسائط جعلت من الواقع معطى افتراضيا، وولدت حالات ذهنية وشعورية أقرب إلى الانفعال منها إلى العقلانية. شهدت النظرة الغربية ثلاث مراحل في تطورها التاريخي، حسب "دوبري"، تكثف الأنماط التوسطية الثلاثة التي عرفتها الإنسانية، وهي: الكتابة، المطبعة، والسمعي-البصري. تقابل هذه الأنماط أنظمة رمزية وثقافية، تمثلت في الأوثان، والفن، والمرئي. لكل من هذه الأنظمة قواعده ومعاييره، لكن دون نفي متبادل بينهما(11). وما دمنا نعيش "العهد البصري"،بكل ما يملك من قوة جبارة على التأثير في إدراكنا ونظرتنا لذاتنا وللواقع، فإن الواقعي والبصري يتداخلان إلى درجة الالتباس. حضور طاغ للصورة وللمرئي. وغياب شبه تام للحجاب. إذ تعمل أدوات الثقافة البصرية على التدخل في كل شيء، وغالبا ما يكون ذلك بشيء من الوقاحة. لا شيء يمكن الانفلات من قدرتها اللامحدودة على الكشف والرؤية، لأنها تحول الخاص إلى عام. تنظر إلى كل شيء وتنظم طقوس عرضه. ومعلوم أن القاعدة الأساسية في السينما تتمثل في الامتناع على النظر إلى الكاميرا، لأن ذلك يضمن إمكانية التخييل، والوهم السينمائي. رفع هذا الامتناع مع التلفزيون، حين تقرر القطع مع الوهم المتمثل. فجهاز التلفزيون يفترض -من بين ما يفترض فيه- النظر إلى الكاميرا، لأنه يعرض على الأنظار ما لا تنظر إليه. إن التلفزيون، واقتصاد الصور الذي ينتج، يغدو حضورا في عالم ينسحب منه الحضور. تضخم الصور شوش على النظر. خصوصا وأن التلفزيون لا يشترط انتباها دقيقا بقدر ما يستدعي انتباها متموجا ومنزاحا. هذا الجهاز الذي نشغله ونتركه مشتعلا بدون النظر إليه أحيانا، أصبح يحتل مكانة "وجودية" في فضاء العلاقات الحميمية. تحدد برامجه استعمالات الزمن. وكأن الأمر يتعلق بطقس "ديني". لقد عمل التلفزيون، بذلك، على خلخلة كثير من الأشكال التقليدية للحياة، وذلك بإرجاع كل شيء إلى الحدثي وإلى الراهن. فالاختزال هو مفتاح اللغة التلفزية. وإذا كانت الحداثة قد استجابت للميل الجارف نحو إعادة إنتاج التقنية للحفاظ، ظاهريا، على ما لا يمكن التعبير عنه ضدا على ما يخضع للتمثل، فإن اختزال العالم إلى تمثل يشكل،في عمقه، ادعاءا حداثويا. فإعادة إنتاج التقنية، وحدها، تصبح متطابقة مع الأشياء لأنها تلغي الفكرة، والعلامة، والذاتية. تفرض الهيمنة الثقافية للنظام السمعي-البصري، وعلى رأسها الصور التلفزية، قلقا فعليا على الفكر. فهي كثيرا ما تنفلت لإرادة المعرفة العقلانية. لذلك فإن هذه الامبراطورية المرئية تخضع لقوانين لا يتحكم فيها العقل التحليلي تماما، لأنها توظف آليات انفعالية لا أحد يجرؤ على ادعاء التحكم فيها كليا. هناك لغزا ما في اللغة التلفزية. لا الصحفي، ولا التقني ولا رجل السياسة، ولا المبدعون يعرفون، مسبقا، ماذا يمكن أن يحدث من تأثير على حميمية المتلقي. لأن التلفزيون، من حيث طبيعته، ينتج بلاغات،في الغالب الأعم، لا تستجيب لشروط اللغة، ولا لقواعد التفكير، ولا هي صور خالصة، ولا هي مجرد استنساخ للواقع. إنها خليط معقد من كل هذه المستويات. معقد لدرجة أنه لا أحد يدعي القدرة على التحكم فيه، وعلى تسييره بشكل تام. تتطور الأمور بشكل يؤكد على أن ما تنبأ به كل من "هوركهايمر" و"آدورنو" في الأربعينات أصبح واقعا يوميا في الزمن الراهن. إذ لاحظا أن وسائط الاتصال أصبحت تكون نظاما منسجما ومتناسقا. وبقدر ما يتحقق العالم بوصفه عالما ظاهريا، يخفي هذا الظهور تلك الإيديولوجيات المتحكمة فيه. ومن تم، فإنه بفضل التلفزيون غدت وسائط الاتصال تتقدم وكأنها أساطير "الوجود"، و"الواقع"، و"التواصل". فالخاص لم يعد خاصًّا. والعالم أصبح يصنع بدقة محسوبة. ذلك أن التلفزيون جعل من الجمهور كتلة قابلة للتوجيه، وللتأطير داخل قوالب وأنماط، لا تقبل ما يخرج عن أطرها وتخطيطاتها العامة. لدرجة أن الوجود غدا ملغوما، أو وجودا ظاهريا. ذلك أن الوجود، كما تظهره وسائط الاتصال، هو وجود "يتلاءم" مع هذه الوسائط ذاتها، ويناسب انتظارات "الجمهور" كذلك أحيانا. فالجمهور يعاند كل ما هو مختلف، لأن ما هو مختلف إما أنه لا يتحمَّله وإمَّا أنه يُغبِّر عنا هو محروم منه.
الهوامش:
(1) Jean Baudrillard; La modernité, Encyclopedia Universalis, Volume 11.
(2) أنظر محمد سبيلا مدارات الحداثة، دار عكاظ، الرباط، 1988،ص91 وما بعدها. وكذلك محمد نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، نموذج هابرماس، دار أفريقيا، الشرق، الدار البيضاء-بيروت، الطبعة الثانية، 1998، ص112-113.
(3) Jean Baudrillard, op. cit.
(4) Georg Simmel, Philosophie de la modernité, la femme, la ville, l’individualité ; Ed. Payor, Paris, 1989, p. 282.
(5) J. Habermas, Discours philosophique de la modernité, Ed. Gallimard, Paris, 1988, p.3.
(6) Luc Ferry, Homo Aestheticus, l’invention du goût à l’âge démocratique ; Ed. Grasset, Paris, 1990, p. 42.
(7) Roland Barthes, Essais critiques, Ed. Du Seuil, Paris, 1964, p. 147.
(8) Maurice Blanchot, L’espace Littéraire, Ed. Gallimard, Paris, 1955, p.53.
(9) Paul Virilio, L’horizon négatif, Ed. Gallilée, Paris, 1984, p. 31.
(10) Daniel J. Boorstins, L’image, Ed. U.G.E, Paris, 1971, p. 270.
(11) Régis Debray, Vie et mort de L’image, une histoire du regard en Occident, Ed. Gallimard, Paris, 1992, pp.221-222.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق