إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الأربعاء، 6 مايو 2009

الأفكار الأساسية لفلسفة القرن العشرين

بقلم جان ميشيل بيسنييه
ترجمة: عادل خدجامي
(المقالة صدرت بمجلة Sciences Humaines، العدد 1998-21 عدد ممتاز،الكلمات الموضوعة بين معقوفتين إضافات للتفسير (المترجم).)
تميزت الخمس والعشرون سنة الأخيرة بأزمة لحقت بفلسفات التاريخ، وبإعادة نظر [جذرية] في العقل الحديث. وهكذا أصبح البحث عن حكمة وعن فلسفة إنسانية مندمجة في الطبيعة تيمات مركزية في الفكر المعاصر. ولئن ظهر أن هذه القضايا ذات أهمية، فإنها ليست بالضرورة متوافقة: فليست كل حكمة تنتهي إلى النزعة الإنسانية، كما قد تكون الطبيعة حاملة لفكر ميتافيزيقي. ساد الاعتقاد، ولفترة طويلة في كون الأفكار الفلسفية تمثل تاريخا منسجما. وقد نظمت الفلسفة الهيجيلية هذا الاعتقاد الذي ما يزال يشكل إلى اليوم القاعدة الأساسية للثقافة الجامعية. فحسب هيجل، تندرج الأفكار في مسلسل واحد يسير نحو كشف المنطق نفسه الذي يحرك هذه الأفكار
ويجمعها. وهكذا، يظهر وكأن الإنسانية لم تفكر قط في شيء ولم يكن ذلك التفكير سببا في تحررها، بما أن التفكير يعني، قبل كل شيء، التحرر من حتميات الطبيعة والوصول إلى تحقيق الوعي بالذات. سترفض النظرية الماركسية خاصية الاستقلال هاته المضفاة على تاريخ الأفكار، وذلك بردّها النشاط الفكري إلى مجرد انعكاس لشروط وجود الناس المادية. لكن رغم هذا الرفض، ظل الاعتقاد في حركة الروح وتقدمها سائدا. لم تعد، ربما، الأفكار بعد ماركس محركا للعالم. لكنها ظلت مع ذلك نورا تستدل به على طريقها نحو الفعل. إذ أن النظرية الماركسية ظلت مدينة لتلك الأفكار بكشفها للبروليتاريا جوهر مهمتها التاريخية. لكن الإحباط الذي نتج عن الكوارث التاريخية للقرن العشرين أصاب في مقتل ثقة الفلاسفة في قوة الأفكار. وهو الأمر الذي وجدت الفلسفة نفسها معه مجبرة على تبرير ماضيها المثالي وبالتالي إعادة النظر في أسسها. وهكذا توجهت أهم الاعتراضات والمساءلات في السنوات التي تلت الحرب العالمية، صوب هيجل. فمن ألكسندر كوجيف* مرورا ببول ريكور* إلى ميشيل فوكو*، كانت مسألة الانفصال عنه(1) هي مركز الاهتمام. وتظل أزمة المعنى (La crise du sens)، التي يسعى الفلاسفة اليوم جاهدين لتدبيرها، مرتبطة بالتعليق على أعماله، وهو التعليق الذي يتخذ أشكالا مختلفة: فهذا ألكسندر كوجيف يدعو إلى العودة إلى هيجل، وميشيل فوكو يدعو، كنيتشه*، إلى رفضه، أما بول ريكور فيدعو بكل بساطة إلى نسيانه. وهؤلاء أتباع كانط* وهوسرل* ينادون بضرورة العودة إلى الوعي المشترك وبيان طاقته في معرفة الأشياء. وهؤلاء أتباع هيدجر* يجتهدون في الكشف عن شكل جديد لإدراك الوجود والعيش في العالم. وآخرون غيرهم ملتفون حول موريس بلانشو* أو فيليب سولير* يطمحون إلى تجاوز الفلسفة بالكتابة الأدبية أو بالالتزام الثوري. وأخيرا جاك دريدا* والتجريبية المنطقية يعلنون عن حلول الموعد "لتفكيك" الخطاب الميتافيزيقي أو إخضاعه للتحليل المنطقي ولمستلزمات العلم. وقد مثلت هذه التوجهات أهم تيارات الفلسفة المعاصرة.
نقد العقل
تحددت الفلسفة المذكورة (2) أولا في موقع نقد العقل. فقد انتهت فلسفة هيجل التي سعت إلى أن تكون تأليها للعقل (Apothéose de la raison) إلى تحمل التبعات الشاذة للعقلانية. ووجد عدد من المفكرين المتشبعين بنسق المغرفة المطلقة عند هيجل أنفسهم في مواجهة هذه الحقيقة المفارقة: إن شمول العقل هو في نفس الآن انتصار للاعقل. ولم نكن نحن لنعدم خلال هذا القرن(3) بعض المتخصصين لتبيان ذلك. فمثلا أوضح بعض علماء الاجتماع، كميشيل كروزييه* الآثار السيئة للتنظيمات الإدارية المتشددة، وبين آخرون كريمون بودون* الأضرار التي تسبب فيها بعض علماء النفس المنادين بنظام تربوي مبالغ في الضبط. وخلاصة القول هنا، هي أن الأطروحة التي عارضت الهيجيلية وادّعت بأن أرقى درجات العقلانية يمكن أن تؤدي إلى أكبر الآفات، قد تم إثباتها فعليا وبأشكال مختلفة. وبهذا، يجد العديد من الفلاسفة أنفسهم اليوم في حاجة إلى تبرير أسباب استمرار إيمانهم بالعقل، فما مبرر الاستمرار في اعتماد العقل وقيمه معيارا لتقويم الأفعال؟ وما مبرر الاستمرار في اعتماد العقل بوصفه اختيارا؟ بالموازاة مع ذلك، ظهر نهج سلكه عدد ليس بالقليل من المفكرين المعاصرين دعووا إلى مناهضة الكليانية (L’universalisme). ونذكر هنا قولة تيودور أدورنو*، أحد ألمع مفكري مدرسة فرانكفوت: "الكل هو اللاحقيقة Le tout est le non-vrai" التي ظلت حاضرة بقوة عند المعاصرين. إن ما تعنيه هذه الفكرة هو أنه من المتعذر تحقيق تمثل كلياني لا يسحق الفرد. فما تثبته المثالية الهيجيلية التي تزعم القدرة على احتواء الواقع بأتمه في نسق واحد، هو في الحقيقة نوع من "الرغبة الجامحة" Rage في تدمير "الآخر"، وذلك باحتوائه في الذات من خلال طيّه في نطاق مفهوم؛ رغبة جامحة في تذويب كل اختلاف وذلك بإعطاء الأولوية، وبكل الوسائل المتاحة، للمطلق. ويبدو اليوم من اليسير علينا، بعد الحرب العالمية الثانية وفظاعات مراكز الإبادة النازية وما اقترفته الأنظمة الكليانية، قبول النقد القوي الذي يتعرض له عقل الفلاسفة، ولعل هذا النقد يكون السمة الأبرز التي وسمت الفترة التي نودعها. ونورد هنا قولا لأحد المفكرين، الذين لم يحصل للفلاسفة الفرنسيين أن قبلوه ضمنهم، نقصد جورج باطاي* الذي قال تعبيرا عن ما سبق بأن المعرفة المطلقة التي تطلعت إليها أعمال هيجل تصب في نهاية المطاف في الجهل المطلق (Le non savoir absolu)، فادعاء الكشف عن كلية المعنى وادعاء التكلم في كل شيء هو في الواقع، وحسب باطاي دائما غرق في الصمت وفي ليل لا يُتبين فيه الخيط الأبيض من الأسود، أي الغرق في مكان يرتفع فيه الاختلاف بما أن الكل يذوب في الوحدة. ويبدو واضحا، من خلال ما سبق، السبب الذي دفع ببعض المفكرين مع مطلع الستينيات من أمثال ربمون آرون* وأندري كلوكسمان* وألكسي فيلوننكو* إلى نعت هيجل بكونه (penseur de la vialence) ووصف نسقه بكونه التعبير الفكري السابق عن الأنظمة الكليانية اللاحقة. ورغم ما يبدو في هذا الربط من تبسيط مبالغ فيه، فإن من الأمور المثيرة هنا تلك الكيفية التي أصبح فلاسفة هذا القرن ينظرون بها إلى مسؤوليتهم في تاريخ العالم. ففي نظرهم يمثل النسق الفلسفي (Le système philosophique) تكريسا لهيمنة الواحد (l’un) تماما كما يكرس النظام الكلياني بالقوة اختزال الفوارق لصالح نظام متشدد إلى حد التسلط، وأحيانا إلى حد الإرهاب. وهذا ما دفع بعض من سُمّوا خلال أواسط السبعينيات "بالفلاسفة الجدد" إلى تقديم النزعة الكليانية (سواء كانت حمراء أو سمراء أو سوداء) بوصفها "مستقبل العالم" اللاحقة عن الأنظمة الفلسفية التي كانت الهمّ الأوحد لهيجل وللمثالية الألمانية. غير نه قد حصل في الفترة الأخيرة نوع من إعادة الاعتبار لهيجل من خلال الاعتراف له بكونه لم يكن يقصد أبدا محو الفرد في إطار دولة عقلية مفترضة وأنه كان يدافع، وعلى العكس من ذلك، عن ضرورة إنشاء مجتمع مدني متحرر. ويمكن قول الشيء نفسه بالنسبة لماركس الذي يقرأ من جديد، وظهر نزوع إلى رفض ربطه مباشرة بستالين أو بماو تسيتونغ، ونتيجة لذلك خفّت حدة عدد من السجالات الفلسفية التي أثثت الحياة الثقافية إبان الحرب الباردة، من مثل التي جمعت ريمون آرون وموريس مرلوبونتي* وجون بول سارتر* بخصوص مفهوم جدل التاريخ وما يحتويه من تحريض على العنف؛ أو ذلك النقاش الذي قام بين كلود لوفور* وكورنيليوس كاستوريادس* في إطار حركة ومجلة إشتراكية أو بربرية، socialisme ou barbarisme والتي كان مشروعها يرفض تهمة الشر التي ألحقت بالعقل الهيجلي. ورغم كون هيجل وماركس لم يبرءا كليا في هذه القراءة الجديدة لتاريخ القرن العشرين، فإن جزءا من الحيف وعدم الفهم الذي تعرضا له في خضم الصراع الإيديولوجي قد أعيد النظر فيه.
من أجل حكمة لا حدود لها:
أصبحت مناهضة المركزية العرقية الغربية، التي ابتدأت مع انتهاء فترة الاستعمار تتخذ أشكالا قوية تبين بجلاء الإقصاء الذي تعرضت له القيم العالمية. وفي هذا السياق خضعت قيمة الفلسفة نفسها للنقد ولنوع من التنسيب وذلك بإشراطها بحدودها التاريخية والثقافية. والدليل على ذلك هو ما لقيته أعمال فرانسو جوليان* عن الفكر الصيني أو أعمال لويس غاردي* عن الفكر الإسلامي من تشجيع وترحيب. وينبغي هنا تذكر الكيفية التي حدد بها هيجل أصل الفلسفة حيث اعتبرها ذات أصول غربية خالصة: فالفلسفة، حسب هيجل دائما، وُلدت في أرض اليونان خلال القرن الخامس قبل ميلاد المسيح مع سقراط، حيث تم اكتشاف مبدأي الذاتية والحرية اللذين لم يكن بمقدور الصينيين أو الهنود أو الفرس أو المصريين إدراكهما، لماذا؟ لأنه يعتقد بأنهم كانوا مفتونين بالوحدة إلى حد يجعلهم جاهلين تماما بمفهوم عن الفرد يكون فيه حرا ومالكا لحقوق، أو لأنهم كانوا، وعلى العكس من ذلك، غارقين في عبادة تامة للاختلافات، منغمسين في تأليه الطبيعة، وهو ما جعلهم عاجزين عن ممارسة النشاط المفاهيمي الذي يستدعي فصلا بين الكلي والجزئي. كل ذلك من دون الحديث عن الأفارقة الذين كان هيجل يشك حتى في كونهم أناسا. لقد اختصت النقاشات الفلسفية المعاصرة بإعادة النظر في هذه البداهة. فصحيح أن الفلسفة التي نعرفها قد ولدت مع الديمقراطية الأثينية، وقد يكون من الصحيح أيضا بأن اكتمالها قد حصل في ألمانيا خلال القرن التاسع عشر، لكن ما لا يمكن التسليم به هو ادعاء اختصاص الفلسفة المطلقة بحياة العقل (La vie de l’esprit): فالحكمة التي نهل منها أسلاف سقراط لا يمكن اعتبارها ملكية خاصة بالغرب. ولعل هذا هو ما يفسر الكيفية غير المعهودة التي تنفذ بها البودية إلينا(4) اليوم، في الوقت نفسه الذي يزداد فيه الاهتمام بالفكر الصيني أكثر فأكثر، ليمون بذلك البحث عن حكمة لا حدود لها إحدى الصفات الخاصة بعصرنا الراهن. وبتخلص الفلسفة من فكرة التقدم(5)، تبدو اليوم معاصرة لأصولها، أي موصولة بسؤالها الأول: كيف ينبغي لنا أن نحيا؟ ففي الوقت الذي كان الاعتقاد بقدرة التاريخ على تحقيق المثل الإنسانية سائدا، كانت للفيلسوف دوافع تجعله يمد العلوم والتقنيات المعاصرة له باجتهاداته الفكرية. فكوندورسي* مثلا كان يعتقد بأن الإنسانية تتحرر تدريجيا من الظلام بفضل العقل، لكن مع نهاية هذا القرن بدأ يتراجع عن تلك الأوهام في مقابل دعوته للتصالح مع العالم الآن وهنا. ليس، طبعا، بالتخلي الكلي عن التقدم وطاقاته، ولكن بالعودة مجددا إلى أسئلة وانفتاحات المعلمين القدماء (Maîtres de la tradition)، وهي الأسئلة التي تعجز العلوم عن الإجابة عنها. وقد مس التغير أيضا طبيعة النظر إلى الأعمال الكلاسيكية: فالنزعة الإنسانية المنحدرة عن ديكارت* وجاليلي* تظهر اليوم ساذجة بالمقارنة مع تلك التي رسخها مونتينيي* وماكيافيل* اللذان لم يكونا يدعوان إلى الهيمنة على الطبيعة. فضدا على الاستعلاء البروميتي* المؤسس على تصور آلي للعالم، تترسخ اليوم بشكل متزايد دعوة إلى تأسيس ميثاق مع الطبيعة أو على الأقل إلى إعادة الاعتبار لها. دعوة من المؤكد أنه هناك اختيارات عدة في كيفية الاستجابة لها، نجد بعضها معلنا من طرف عدد من المفكرين المعاصرين. فمثلا يكون رفض التعارض بين الإنسان والطبيعة، وبالتالي الدعوة إلى إنسية ملؤها التواضع والخضوع لنظام الأشياء، صورة الإنسية التي دافع عنها كلود ليفي ستروس* الذي كان يعتبر نفسه، وعن طيب خاطر، مريد للبودية التبيتية (Bouddhisme tibetain). وتكون مواجهة مأساوية الموقف الإنسان ومرافقة الوضع الذي يحكم فيه على الإنسان في وجوده الطبيعي، وإلى الأبد، بأن يصارع الطبيعة ويواجه حتمياتها هي الدعوة التي يتبناها جون بول سارتر، وألبير كامو*. وأخيرا، يكون الاجتهاد لتوضيح طابع الصراع العميق الذي يسم العلاقات الإنسانية وكذا الاجتهاد لكشف لغز تكوّن التاريخ الذي يشكل الفضاء المشترك لحصول تلك العلاقات هو الطموح الذي حمل مرلوبونتي على عاتقه مهمة تحقيقه، مرلوبونتي الذي قدم ماكيافيل بوصفه ذلك المفكر الذي تظهر عنده خصائص هذه الإنسية المتحررة من الأوهام. إن ما تحاول الإنسية القيام به هو الدعوة إلى شكل "إعادة الإدماج للإنسان في الطبيعة" حسب تعبير نيتشه. وبحسب ذلك، يكون الفيلسوف ملزما بحقيقة الشر الأصلي (le mal radicale)، الحاجة (Nécessité) والتناهي (La finitude) [بوصفها شرطا في الوجود الإنساني]، ويصير الفيلسوف، بعد بيان تعذر توصله إلى الوضوح التام والحقيقة ونصرة الخير، منتصرا بالحرية في معارضة الحتميات إلى حد يظهر فيه وكأنه يراهن على مشاريع تقارب معارك الشرف*. وباختصار، فإننا أصبحنا ملزمين بالاختيار بين أمرين: إما أن نقبل بكون النزعة الإنسية [الديكارتية] قد مزقت أو أنها لا توجد أصلا I.
ويمكن "لإعادة إدماج الإنسان في الطبيعة" التي ترتضيها هذه النزعة الإنسانية أن تُلخص الوجهة التي اختارتها أقوى البحوث الفلسفية في عصرنا هذا. وعلى هذا الأساس، ناهضت [فكرة الإدماج] هاته كل نظر يميز الإنسان ووعيه، وبالتالي ناهضت كلا من التأويلية والشخصانية في الوقت الذي مثلت الأساس الذي قام عليه البرنامج البنيوي. والغاية المتوخاة هنا هي مساندة مسعى العلوم الإنسانية والاجتماعية ضدا على الفلسفة المنشغلة، تقليديا، بمعارضة التفسيرات السببية المستوحاة من علوم الطبيعة. [وفي هذا السياق] ظهر في الفترة الأخيرة مجموعة من الفلاسفة أعادوا التأكيد على الرغبة في إقامة مشروع يفسر الظواهر الإنسانية بأدوات مشتقة من تلك العلوم(6). ورغم كون غالبيتهم من ذووي التكوين الأنجلوساكسوني التقليدي، فإن من الممكن أن نجد رابطا يصلهم بحكمة سبينوزا* (Sagesse)، مادمنا نعثر عندهم على معارضة للمركزية الإنسية. ولنأخذ هنا، كمثال على ذلك بعض الأعمال التي بدأت تشتهر شيئا فشيئا في فرنسا خصوصا منها أعمال دانييل دينيت* ودونالد دافيدسون* وكذا توماس ناجيل* والتي تدخل في إطار "فلسفة الروح". ويظهر، بدءا، أن فلسفة الروح هاته تهدف إلى تفكيك موضوعها. فما يحرك تحليلاتها للعمليات الذهنية هو الرغبة في القطع مع الطرح الثنائي (dualiste) الديكارتي القائل بوجود جوهر خالص يتكفل بقيادة جسم الإنسان، ويبدو أن هناك قرابة بين هذا المشروع ومشروع ماديي القرن الثامن عشر الذين سعوا إلى البرهنة على عدم وجود الروح. [ولأجل تحقيق ذلك]، تسخر هاته الجماعة مجموعة من المعارف العلمية والتقنية في أبحاثها عن الأصول والوسائل الملموسة في المعرفة. وهي الأبحاث التي كانت في السابق حكرا على الفلسفة. غير أنه يمكننا القول بأن الحذر النقدي يخونها أحيانا، وذلك ما سنتبينه في ما سيتقدم.
شراك النزعة الاختزالية: يبدو، في الواقع، أن هناك غموضا يظل ملازما لهذا المسلك الساعي إلى تحديد الإواليات المسؤولة عن القدرات المعرفية المختلفة، بدءا بالمدركات الحسية الأولى، إلى العمليات الرياضية الأكثر تعقيدا. ومن المؤكد أن هذه العلوم المعرفية قوية، وتأتي قوتها هاته من قدرتها على استثمار المكتشفات العلمية الثابتة في مجالات البيولوجيا الجزئية (moléculaire) والفيزيولوجيا العصبية (neurophysiologie) وكذا علم النفس الحيواني (psychologie animale) وعلم الإناسة المقارنة (ethnologie comparée). غير أنها، مع ذلك، ظلت تحتوي عنصر ضعف أساسي: إنها لا تضع لطموحاتها [العلمية المذكورة] حدودا: ففي سعيها إلى تحقيق كلية المعرفة الممكنة، تعرض نفسها إلى أن تصير مجرد إستيهامات وأوهام من جنس تلك التي شخصها كانط عندما حدد تناقضات العقل.
والمثال المعبر أكثر من غيره عن ذلك، هو نموذج أولئك الباحثين اللذين حددوا، الإواليات العصبية، باعتبارها المبدأ المسؤول عن كل نشاط معرفي. ويقيمون على هذا نظريات تفسيرية لكيفيات عمل العقل، قبل أن ينتقلوا مباشرة إلى ربط النشاطات الأخلاقية والفنية بالقدرات المعرفية [المشخصة]، زاعمين بذلك التوصل إلى كشف الأسباب البيولوجية لتلك النشاطات. في نفس الوقت، تعمل مجموعة أخرى، من خلال العمل على القريب بين مظاهر الذكاء الفردي والجمعي إلى إضفاء صفة الطبيعية (naturalisation) على النشاطات الاجتماعية والأعمال الفردية. وفي هذا الإطار اكتسبت أبحاث بعض المهتمين بعلم اجتماع الحياة (Sociobiologistes) مثل إدوارد أو* وويلسون داوكين* وريتشارد داوكين* شهرة واسعة؛ بل وقد كانت الأساس الذي اعتمده عالم إناسة مثل دان سبربر* للتوصل إلى بعض العناصر القاعدية لـ"علم أوبئة خاص بالتمثلات" (epidemoiologie des représentations). إن ما تسعى إليه هذه النظريات، بردها النشاط الفكري إلى المشيجات العصبية، هو تفكيك الثنائية التقليدية المزعجة، التي تربط الجسم بالروح. وباختصار: تتعاون البيولوجيا العصبية والنظريات التطورية والسيكولوجيا واللسانيات والمنطق في إطار مشترك من أجل تقديم تصور عام عن العالم، شبيه بذلك التصور الذي طالما راود الميتافيزيقيين في أحلامهم، وشبيه بتلك التعاليم التي ما يزال الزعماء الروحيون في الشرق يلقنونها [لأتباعهم] إلى أيامنا هذه. وهكذا انقادت فلسفة العقل من دون شعور منها، إلى نفس ما انتهت إليه الوضعية المنطقية، في تحديدها للنشاط العلمي، أي [انتهت] إلى ما يتعذر التحقق منه، وفي انعدام الدقة والدوغمائية. وفي نظرنا، فإن علينا العودة إلى عقلانية كانط النقدية، لتقوم بدورها هنا، والمتمثل في تقويم حمولة هذا المنهج الاختزالي الموظف في علوم الإدراك، ليس فقط للحد من آثارها، ولكن أيضا لتجنب التعميمات الإديولوجية غير المبررة التي تنتج عنها. ويظهر من المجال الذي تعمل هذه العلوم، التي هي في طور الاكتمال، على استكشافه، أن مفهومها للمعرفة بعيد كل البعد عن ذلك المفهوم الذي عمل فلاسفة الأنوار للدفاع عنه. فلم تعد المعرفة نتاجا لذات ديكارتية واعية بنفسها وسائدة على محيطها، بل إنها، وعلى العكس من ذلك، أصبحت مسالمة وملغزة، دينية ومتصوفة، متشبعة لعناصر اللاعقلانية. بشكل يشابه تلك المعرفة التي عمل رجالات النهضة على مناهضتها. إنها تعد بالمصالحة مع الطبيعة وبالاندماج في الكلية الكبرى (grand tout) ويمكن أن نقدم كمثال يجسد ذلك، إعادة الاهتمام بأعمال عالم الأحياء فرانسيسكو فريلا حول (autopoeise) أو أعمال إدغار موران* حول التعقد (II) (Complexité). ولعل ذلك بين الكيفية التي تلتقي بها أهداف الحكمة مع عمل الفلاسفة الذين يبدو بأن أبحاثهم متحررة، مبدئيا، من الهم الأخلاقي. ولن يبدو وهذا الاتفاق الذي حصل، من دون تخطيط مسبق، بين أسئلة مختلفة هي: كيف ينبغي لنا أن نحيا؟ إلى أي حد يمكننا أن نثق في العقل؟ ما معنى أن نعرف؟ وأي نموذج للإنسان ينبغي إقامته؟ مفارقة ضئيلة الشأن.
هوامش:
* Alexandre Kojève
* Paul Ricoeur
* Michel Faucault
(1) بوصف هيجل ممثلا للماضي المثالي للفلسفة (المترجم).
Nietzsche, Kant, Husserl, Heidegger, Maurice Blanchot, Philippe Sollers, Jaques Derrida.
(2) المقصود الفلسفة المعاصرة. (المترجم)
(3) المقصود القرن العشرين. (المترجم)
* Michel Grosier.
* Raymond Boudon.
* Théodore Adorno.
* George Bataille.
* Raymond Aron.
* André Glucksmann.
* Alexis Philonenko.
* Maurice Merleau-Ponty.
* Jean-Paul Sartre.
* Claude Le fort.
* Cornélius Castoriadis.
* François Jullien.
* Louis Gardet.
(4) يتحدث الكاتب عن الوسط الثقافي العربي تحديدا (المترجم).
(5) التقدم الذي قصده هيجل (المترجم).
* Condorcet.
* Descartes, Gallilée, Monteigne, Macchiavel, Prométhée, Claude Levy-Strauss, Albert Camus
* Barreau d’honneur.
I- voir J-M. Besnier, L’humanisme déchiré, Descartes est cie, 1993.
(6) العلوم الطبيعية.
* Daniel Demmentt, Donald Davidson, Thomas Najel.
* Edwand o.
* Wilson Dawkin.
* Richard Dawkin.
* Dan Sperber.
* Francisco Varela.
* Edgar Morin.
II- voir J-M. Besnier, les theories de lq connqissqn

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق