دلالات المفهوم و إشكاليات العلاقة.
المجتمع المدني وثيق الصلة بالثقافة الغربية و يضرب بجذوره في أصولها القديمة و تنعكس على مدلولاته، خبراتها الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و برز ذلك من خلال المدارس الفكرية التي تبلورت على أساس هذه الخبرات. و مع أنّ المدارس التي استخدمت هذا المفهوم لا تتّفق على توصيف معيّن للمجتمع المدني إلاّ أنّ هناك قواسم مشتركة بين التفسيرات المتعدّدة التي أعطتها، ممّا يبرّر استمرار استخدام المفهوم نفسه للإشارة إلى الجوانب المتعدّدة التي أكّدتها هذه المدارس . من أهمّ هذه المدارس التي ساهمت في صياغة مفهوم المجتمع المدني مدرسة العقد الاجتماعي و هيغل و المدرسة الماركسية، و خصوصاً المفكّر الإيطالي غرامشي. و على الرغم من صعوبة الإحاطة بمساهمات كلّ هذه المدارس في هذا الإطار إلاّ أنّه من الضروري الإشارة إلى تعدّد المساهمات حتّى لا يتكوّن الانطباع بأنّ المضمون الوحيد لهذا المفهوم هو كونه سلاحاً في يد الحركات الليبرالية الهادفة إلى الحدّ من سلطة الدولة الإقطاعية. فالمفكّر الألماني هيغل استخدم هذا المفهوم لتأكيد أهمّية الدولة في تحقيق الوحدة داخل المجتمع، و نفي أن يكون للمجتمع المدني أيّة قدرة على تحقيق تماسكه دون أن تكسبه الدولة هذا التماسك و الانضباط. و تحدّث المفكّر الإيطالي غرامشي عن دور النقابات و الأحزاب التي تعبّر عن الطّبقات الخاضعة في توليد الهيمنة المضادّة التي تفتح الطريق أمام تغيير ثوري للمجتمع في اتّجاه الاشتراكية .
د. محمد زاهي المغربي
يثير موضوع المجتمع المدني العديد من القضايا و التساؤلات على صعيد المجتمع بقوّاه و تكويناته و مؤسّساته و أنماط ثقافته، كما يثير أيضاً العديد من الإشكاليات على صعيد الدولة بأجهزتها و قوانينها و سياستها في المجالات المختلفة. ذلك أنّ طبيعة الحركة و حدودها و مساحتها أمام المجتمع المدني تتحدّد ملامحها و سماتها من خلال تحديد أنماط العلاقة بين الدولة من ناحية و منظّمات المجتمع المدني من ناحية أخرى .
أوّلاً: المجتمع المدني.. المفهوم و دلالاته:
1 ـ نظرية العقد الاجتماعي: تجاوز المنظور الديني للدولة :
تبلور مفهوم المجتمع المدني في صيغته الاصطلاحية السياسية في سياق نظرية العقد الاجتماعي. وفقاً لهذه النظرية كان مفهوم المجتمع المدني مرادفاً لمفهوم المجتمع السياسي أي المجتمع المؤسّس بناء على العقد الاجتماعي فيقول جون لوك "و هكذا فحيث يؤلّف عدد من الناس جماعة واحدة، و يتخلّى كلّ منهم عن سلطة تنفيذ السنّة الطبيعية التي تخصّه، و يتنازل عنها للمجتمع، ينشأ عندنا حينذاك فقط مجتمع سياسي أو مدني". و تبرز رسالة جون لوك في الحكم المدني أنّ الغاية من اتّحاد الناس في المجتمع المدني ـ إضافة تحقيق الأمن والسّلام، وهي المفاهيم الواضحة في فلسفة هوبز ـ هي المحافظة على أملاك الأفراد ( سعيد بنسعيد و آخرون ، ص 74) . إنّ الخلفية السياسية المؤطّرة للمفهوم في هذا الإطار تميل إلى الأبعاد الفلسفية التي بلورتها نظرية العقد الاجتماعي كنظرية معادية لنظرية الحقّ الإلهي للملوك في مجال الحكم . من هنا يأتي اقتران المجتمع المدني بالمجال الدنيوي حيث يتخلّص المجال السياسي من إرث العصور الوسطى المسيحي الكنيسي أي من هيمنة المقدّس، و تصبح الدولة و القوانين و المؤسّسات نتاج التجربة التاريخية المستقلّة عن المجال الروحي في صورته الدينية .لقد كان جون لوك من أكثر مفكّري مدرسة العقد الاجتماعي اهتماماً بمفهوم المجتمع المدني، و الذي قصد به وصف ذلك المجتمع الذي دخله الأفراد لضمان حقوقهم المتساوية التي تمتّعوا بها في ظلّ القانون الطبيعي، لكن غياب السلطة القادرة على الضبط في المجتمع الطبيعي كان يهدّد ممارستهم لهذه الحقوق. لذلك اتّفق هؤلاء الأفراد على تكوين ذلك المجتمع المدني ضماناً لهذه الحقوق، ثمّ تخلّوا عن حقّهم في إدارة شؤونهم العامة لسلطة جديدة قامت برضائهم و التزمت بصيانة حقوقهم الأساسية في الحياة و الحرّية و التملّك. و التزم أفراد ذلك المجتمع المدني بطاعة تلك السلطة طالما التزمت بعناصر ذلك الاتّفاق معهم، أمّا إذا خرجت عليه، فإنّها تفقد كلّ أسس طاعتهم لها، و يصبح من حقّهم أن يثوروا عليها و يحلّوا محلّها سلطة أخرى أكثر اتّساقاً في احترامها لحقوقهم (بنسعيد و آخرون، ص: 644) .
إذن عندما ظهر مفهوم المجتمع المدني في القرن السابع عشر، و في إطار المنظومة الفكرية السياسية الحديثة، كان يرادف مفهوم الدولة باعتبارها "آلة اصطناعية، ساعة كبيرة تتّجه نحو ضبط سلوك الأفراد و حماية أمنهم و سلامتهم و ما يملكون"، حسب تعبير هوبز .في هذا السياق، كانت نظرية العقد الاجتماعي في الدولة تجسّم مستوى التنظير السياسي، التحوّلات التاريخية و الاجتماعية في أوروبا، تواكبها و تبرّرها و تعمل على عقلنتها و تبرير وجودها و استمراريتها بصياغة مفاهيمها و مبادئها .
2 ـ هيغل: المجتمع المدني كمجال للتنافس بين المصالح المتعارضة ...
أعطى الفيلسوف الألماني جورج فريدريك هيغل صورة مخالفة للمجتمع المدني في غياب الدولة. فهو مجتمع تسوده الفرقة و الصراع و التمزّق. و لا يتحقّق لهذا المجتمع استقراره و وحدته إلاّ في وجود الدولة التي تخلع عليه طابعاً أخلاقياً، و توجّهه نحو غاية أخلاقية محدّدة. فالدولة في رأيه هي المثل العقلاني في التطوّر، وهي العنصر الروحي حقًّا في الثقافة. ( سعيد بنسعيد و آخرون، ص: 644) . ينكر هيغل الانسجام الذي تفترضه نظرية العقد الاجتماعي بين الدولة و المجتمع المدني مؤكّداً عجز هذا الأخير عن إقامة و تحقيق العقل و الحرّية من تلقاء ذاته، و يقترح أن تكون الدولة هي الإطار القوي القادر على تحقيق هذه الغاية .يرى هيغل أنّ المجتمع المدني هو مجال تقسيم العمل و إشباع الحاجات المادية، وهو في الوقت نفسه مجال تنافس المصالح الخاصّة و المتعارضة. هكذا يصاغ مفهوم المجتمع المدني في منظور هيغل، لا ليطابق المجتمع السياسي أو الدولة كما هو الحال في نظرية العقد الاجتماعي، بل يستخدمه ليشير إلى مجال إنتاج و تبادل الخبرات المادية، مجال المبادرة الخاصّة و المصلحة الخاصّة. و تشكّل الدولة في إطار هذا الفهم المجال الجوهري المجسّد للمصلحة العامة (سعيد بنسعيد و آخرون ، ص: 75 ـ 76) . و يعتمد المجال المدني على الدولة حتّى في القيام بوظائفه الأساسية الاقتصادية و الاجتماعية و التعليمية، التي لا يستقيم أداؤها من دون التنظيمات التي تضعها الدولة. و وسيلة الدولة في توجيه أفراد المجتمع نحو غايتها الأخلاقية هي العمل من خلال الطوائف و الاتّحادات المهنية، و من خلال الطبقات و المجتمعات المحلّية التي من دونها يتحوّل المواطنون إلى مجرّد تجمّع بدون هوّية . و لقد أشار كثيرون ممّن درسوا فلسفة هيغل إلى أنّ رؤيته الخاصّة للمجتمع المدني عكست تقييمه لأحوال المجتمع الألماني في بداية القرن التاسع عشر قبل أن تتحقّق وحدته. و قد اعتبر هيغل أنّ خروج المجتمع الألماني من أزمته يرتبط بظهور الدولة الواحدة التي ترشد تطوّره و تقوده علي سلّم التطوّر (سعيد بنسعيد و آخرون ، ص: 644) .
3 ـ ماركس: المجتمع المدني باعتباره القاعدة المادية المؤسّسة للدولة ...
إذا كانت الفلسفة الماركسية قد خرجت من تحت عباءة هيغل، إلاّ أنّ تصوّرها للعلاقة بين المجتمع المدني و الدولة كان مغايراً لتصوّر هيغل مثلما كان تصوّرها لطبيعة العملية الجدلية و نوع القوى المحرّكة للتطوّر التاريخي. فالمجتمع المدني في رأي كارل ماركس هو القاعدة التي تحدّد طبيعة البنية الفوقية بما فيها من دولة و نظم ثقافية و معتقدات. ففي مؤلّفات ماركس الناضج "حسب تعبير ألتوسير" نجد أنّ مفهوم المجتمع المدني يتطابق مع مفهوم البنية التحتية. بل في الواقع فإنّ ماركس لم يعد يستعمل المفهوم و حاول عن طريق استخدام مفهومي البنية التحتية و البنية الفوقية، تحديد الأسس المادية و الأيديولوجية المؤطّْرة للوجود المجتمعي، و لقد بنى المفكّرون الماركسّيون على هذا الفهم للمجتمع المدني تحليلات أكثر شمولاً لمنظّمات المجتمع المدني و علاقته بكلّ من الدولة من ناحية و علاقات الإنتاج من ناحية أخرى (سعيد بنسعيد و آخرون، ص: 645) .
4 ـ غرامشي: المجتمع المدني كفضاء للتنافس الأيدلوجي من أجل الهيمنة ...
يتبّين من تصوّر كلّ من هيغل وماركس لمفهوم المجتمع المدني ـ رغم الاختلافات الموجودة بينهما ـ أنّ هناك تخلّياً عن مرادفة المجتمع المدني بالدولة أي بالمجتمع السياسي في صياغة لوك و هوبز و روسو، فقد أصبح المفهوم يشير إلى درجة التوسّط القائمة بين الدولة و المواطن. و لقد أسهمت ليبرالية القرن التاسع عشر في إبراز دور التنظيمات المجتمعية مثل الجمعيات و النقابات و الأحزاب في تنظيم المجتمع المدني، و في ربط صلات الاتّصال و الانفصال بينه و بين الدولة، أي بينه و بين أجهزة تسيير الحكم البيروقراطية و العسكرية. (سعيد بنسعيد و آخرون، ص: 77) .لقد عاد المفهوم إلى الظهور بعد نهاية الحرب العالمية الأولى مع المفكّر الماركسي انطونيو غرامشي، و يشير مفهوم المجتمع المدني في كتابات غرامشي بصورة عامة إلى مجموع التنظيمات الخاصّة التي ترتبط بوظيفة الهيمنة، ينظر غرامشي إلى المجتمع المدني باعتباره جزءاً من البنية الفوقية. هذه البنية التي يميّز فيها بين المجتمع المدني و المجتمع السياسي، وظيفة الأوّل الهيمنة عن طريق الثقافة و الأيديولوجيات، و وظيفة الثاني السيطرة و الإكراه (سعيد بنسعيد و آخرون، ص: 77) . أعطى غرامشي لمنظّمات المجتمع المدني دوراً مهمّا جدّا في إكساب الوعي بالوحدة لدى طبقات المجتمع و في تمكين طبقة متسيّدة اقتصادياً من تحويل سيطرتها على مجتمعها إلى هيمنة مقبولة من الأفراد كافّة. فهذه الطبقة تسعى أن تكون الاتّحادات المهنية و النقابات العمّالية و الأحزاب السياسية، بل و المؤسّسات الدينية و الاجتماعية في صفّها، و أن تكون أداة لصبغ كلّ المجتمع برؤيتها للعالم. ( سعد بنسعيد، ص: 546). من ناحية أخرى فإنّ هذه الهيمنة تبدأ في الانهيار عندما تنجح الطبقات الخاضعة في تطوير منظّمات المجتمع المدني الخاّصة بها، و توجّهها تحت قيادة مثقّفيها إلى بلورة هيمنتها المضادّة التي يعتبر ظهور بوادرها علامة على تحوّل ثوري قادم في هذا المجتمع، لا يقتصر على انتقال أجهزة الدولة فيه إلى ممثّلي أو حلفاء الطبقة الصاعدة، و إنّما يمتدّ هذا التحوّل إلى العلاقات الإنتاجية ذاتها و قوّة الإنتاج أو قاعدة نمط الإنتاج . إنّ السؤال الذي جعل غرامشي يستدعي مفهوم المجتمع المدني هو: ما هي الشروط الاجتماعية التي مكّنت الطبقة العاملة من الاستيلاء على السلطة في روسيا رغم خصوصيتها الاقتصادية و الاجتماعية المتميّزة عن أوروبا ؟ و لقد أوضح غرامشي أنّ سبب النجاح يعود إلى أنّ الدولة في روسيا كانت تمثّل كلّ شيء مقابل هلامية و هشاشة و فقر المجتمع المدني، بينما نجد أنّ الدولة في الغرب تتميّز بتلاحمها مع المجتمع المدنية. من هنا فإنّ الاستيلاء على السلطة في الغرب يقتضي تطوير استراتيجية جديدة مخالفة لاستراتيجية البلاشفة، استراجية تقوم على استخدام الأيديولوجيا في سبيل الهيمنة، أي استخدام المثقّفين لإنتاج رأس مال رمزي بواسطة النقابات و المدارس لتحقيق الهيمنة ( سعيد بنسعيد و آخرون، ص: 79) .
5 ـ الاستعمالات المعاصرة لمفهوم المجتمع المدني ...
يستعمل المفهوم المجتمع المدني في علم الاجتماع ، علم الاجتماع السياسي وعلم السياسة بدلالات تتجاوز إرثه الليبرالي الكلاسيكي، كما تتجاوز استعمالاته الماركسية العقائدية، و ذلك بالصورة التي تحدّد له معان إجرائية تساعد على الفهم و التواصل، و من بين التعريفات الرائجة في هذا السياق: ( سعيد بنسعيد و آخرون، ص: 79)
- المجتمع المدني هو "كلّ المؤسّسات التي تتيح للأفراد التمكّن من الخيرات و المنافع دون تدخّل أو توسّط بالحكومة."
- المجتمع المدني هو "النسق السياسي المتطوّر التي تتيح صيرورة تمأسّسه" تمفصله في مؤسّسات " مراقبة المشاركة السياسية .
- المجتمع ا لمدني هو "مجموعة التنظيمات التطوّعية الحرّة التي تملأ المجال العام بين الأسرة و الدولة لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة في ذلك بقيم و معايير الاحترام و التراضي و التسامح و الإدارة السليمة للتنوّع و الخلاف" (محمد زاهي المغيربي، ص: 5) .و ينطوي مفهوم المجتمع المدني على ثلاثة مقوّمات و أركان أساسية : (محمد زاهي المغيربي، ص: 6)
الرّكن الأوّل: الفعل الإداري الحرّ: فالمجتمع المدني يتكوّن بالإدارة الحرّة لأفراده، و لذلك فهو غير "الجماعات القرابية" مثل الأسرة و العشيرة و القبيلة، ففي الجماعة القرابية لا دخل للفرد في اختيار عضويتها، فهي مفروضة عليه بحكم المولد أو الإرث. و المجتمع المدني غير الدولة التي تفرض جنسيتها أو سيادتها أو قوانينها على من يولدون أو يعيشون على إقليمها الجغرافي دون قبول مسبق منهم. و ينضمّ الأفراد إلى تنظيمات المجتمع المدني من أجل تحقيق مصلحة أو الدفاع عن مصلحة مادية أو معنوية .
الرّكن الثاني: التنظيم الجماعي: فالمجتمع المدني هو مجموعة من التنظيمات، كلّ تنظيم فيها يضمّ أفرادا أو أعضاء اختاروا عضويته بمحض إرادتهم الحرّة، و لكن بشروط يتمّ التراضي بشأنها أو قبولها ممّن يؤسّسون التنظيم أو ينضمّون إليه فيما بعد. و لكن يبقى أنّ هناك "تنظيما"، و أنّ هذا التنظيم هو الذي يميّز المجتمع المدني "عن المجتمع عموما. فالمجتمع المدني هو الأجزاء المنظّمة من المجتمع العام .
الرّكن الثالث: الرّكن الأخلاقي و السلوكي: ينطوي على قبول الاختلاف و التنوّع بين الذات و الآخرين، و على حقّ الآخرين في أن يكوّنوا منظّمات مجتمع مدني تحقّق و تحمي و تدافع عن مصالحهم المادية و المعنوية و الالتزام في إدارة الخلاف داخل و بين منظّمات المجتمع المدني بعضها البعض، و بينها و بين الدولة، بالوسائل السليمة المتحضّرة أي بقيم الاحترام والتسامح والتعاون و التنافس و الصّراع السلمي .
من الواضح أنّ المعنى الذي اتّخذه المفهوم من الأدبيات السياسية الجديدة يتّجه إلى تركيز دلالة التوسّط كدلالة قارّة للمفهوم، و بهذا المعنى "لم تعد النظرية الليبرالية المعاصرة تتحدّث عن تلك العلاقة المباشرة بين المواطن و الدولة، بل تتحدّث عن علاقة غير مباشرة تتوسّطها تنظيمات المجتمع المدني من أحزاب وهيئات و جمعيات و نقابات و غيرها ... " (سعيد بنسعيد و آخرون،ص ص: 79 – 80) . هكذا نرى أنّه على الرغم من تعدّد المساهمات في صياغة مفهوم المجتمع المدني فإنّه يمكن القول إنّ هناك عناصر مشتركة يتّفق حولها جميع الذين تحدّثوا عن المجتمع المدني في إطار الثقافة والحضارة الغربية، و من أهمّ هذه العناصر: أنّ وجود المجتمع يقوم على الرضا و الاختيار من جانب الأفراد الداخلين فيه؛ وأنّه يتضمّن وجود طبقات و منظّمات و مؤسّسات تتمايز عن الدولة أهمّها الأحزاب السياسية و الاتّحادات المهنية و النقابات العمّالية و الجمعيات و النوادي و التنظيمات التطوّعية، و أنّ الانتماء إلى المجتمع المدني يقوم على المساواة، و السلطة التي تمارسها الدولة في مواجهة هذا المجتمع ليست سلطة تعسّفية، و إنّما هي سلطة تخضع لقيود و ضوابط، و الالتزام بهذه القيود و الضوابط على أساس شرعية الدولة، و ليس في أي من هذه العناصر تحديد لطبيعة هذه الدولة، إذ يمكن أن تتوافر هذه الشروط أيضاً في دولة اشتراكية أو دولة تسعى إلى التحرير الوطني، و لكن بطبيعة الحال سوف تختلف هذه الدولة عن الدولة التي عرفتها المجتمعات الاشتراكية في شرق أوروبا في الماضي القريب أو في الوطن العربي عندما كانت هناك قيادات تاريخية تكافح ضدّ السيطرة الاستعمارية و تسعى إلى تأكيد الاستقلال الوطني. فلقد كان إلغاء أيّة استقلالية لمنظّمات المجتمع النقابية والعلمية، واقتصار العمل السياسي على أعضاء بل قيادات التنظيم الواحد أو الحزب الواحد. هو أحد أسباب فشل هذه التجارب فقد حال ذلك دون إدراك هذه النظم للأثر السلبي لبعض سياستها على المواطنين، ممّا حرمها من فرصة التصحيح الذاتي لأخطائها على نحو يجنّبها انفجار السخط الشعبي المكبوت، مثلما حدث في شرق أوروبا و الاتّحاد السوفيتي سابقاً أو الانقلاب الكامل على سياستها دون أي مقاومة حقيقية مثلما جرى في مصر بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر( سعد بنسعيد و آخرون، ص: 82 – 83) . إنّ توافر هذه العناصر يسمح بوجود مجتمع مدني قوي يكون هو القاعدة بدوره لدولة قوّية، لأنّ هذه الدولة ستقوم على احترام قواعد ذات قبول عام في المجتمع، و من ثمّ سيكون هذا المجتمع أكثر استعداداً لمساندة هذه الدولة في جميع المجالات. كما أنّ هذه الدولة بدورها ستسعى إلى كسب مساندة هذا المجتمع لأنّها سوف تعتمد على إقناع المواطنين بأنّ سياستها تحقّق مصالحهم، و تتخلّى عن أساليب القمع في ضمان انصياع أغلبية المواطنين لإرادتها، هذا الانصياع قد يدوم لبعض الوقت، و لكنّه يتحوّل إلى ثورة عنيفة طال الوقت أم قصر .
ثانياً: العلاقة بين الدولة و المجتمع المدني ...
من الضروري التأكيد بداية على أنّ المجتمع المدني ليس المقصود منه أساساً إيجاد معارضة سياسية في مواجهة الدولة، إذ أنّ فاعلية المجتمع المدني ـ بكافة منظّماته أو مكوّناته ـ تتضمّن أهدافاً أوسع و أعمق من مجرّد المعارضة. إنّها المشاركة بمعناها الشامل ـ سياسياً و اقتصادياً و اجتماعياً و ثقافياً ـ إلاّ أنّ هذه المشاركة هي التي تسمح للمجتمع المدني و تتيح له فرصة مراقبة كافة البنى التحتية الاجتماعية بما فيها مؤسّسة الدولة ذاتها، و ضبطها و تصحيح مسارها. في سياق هذا المنطق، فليس بالضرورة أن يكون هناك عداء أو تناقض بين الدولة و المجتمع المدني، إلاّ أنّ العلاقة بين الطرفين يجب أن تحكمها قاعدة أساسية تستند على الحفاظ على استقلالية المجتمع المدني. مع ذلك فإنّ الواقع العلمي يبيّن أنّ أنماط العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني لم تحافظ على هذه القاعدة في كثير من الحالات .
1 ـ أنماط العلاقة بين الدولة و المجتمع المدني:
يمثّل الدور الذي تلعبه منظّمات المجتمع المدني في العملية السياسية وأنماط التفاعل بين هذه المنظّمات والدولة، أحد الاهتمامات الرئيسية لأدبيات علم السياسة. و لقد برزت مجموعة من النماذج النظرية والأطر التحليلية التي حاولت أن تفسّر أنماط التفاعل بين منظّمات المجتمع المدني والدولة. و من أهمّ هذه النماذج النموذج التعاضدي والنموذج التعدّدي .و وفقاً للتعريف الذي قدّمه فيليب شميتر فإنّ "التعاضدية" هي "نظام لتنظيم المصالح يتمّ فيه تنظيم مكوّناته ضمن عدد محدود من الفئات الإلزامية وغير التنافسية والمتمايزة وظيفياً، تعترف بها الدولة، و تعطيها تصريحاً بالعمل (أو تخلقها أصلاً) و تمنحها احتكاراً في تمثيل فئاتها مقابل التزامها بضوابط معيّنة في عملية اختبار قيادتها، و في توضيح مصالحها و التعبير عنها، و في تأييدها "،( محمد نوهي المغيربي، ص: 119) . من ناحية أخرى، يعرف شميتر التعدّدية على أنّها "نظام لتمثيل المصالح يتمّ فيه تنظيم مكوّناته في عدد غير محدود من الفئات المتعدّدة و التطوّعية والمتنافسة، و التي تحدّد طبيعة و مجال نشاطها و مصالحها. و التي لا تتدخّل الدولة في الترخيص لها أو الاعتراف بها أو تمويلها أو خلقها أو السيطرة على عملية اختيارها لقيادتها أو كيفية توضيح مصالحها و التعبير عنها، و في الوقت نفسه ليس لها احتكار على تمثيل المصالح المختلفة داخل فئاتها، (محمد زاهي المغيربي، ص: 119) . و يميّز شميتر نوعين من العلاقات الكوربورتارية (التعاضدية) تكون فيها منظّمات المجتمع المدني متشابهة من حيث البنية و لكنّها مختلفة جدّا من حيث علاقاتها مع الدولة .
النوع الأوّل: يطلق عليه تعبير (الكوبورتاية المجتمعية) في نظم الديمقراطيات التعدّدية، والذي تكون فيه الجماعات مستقلّة نسبياً عن سيطرة الدولة و لها نفوذ قوي على عملية صنع السياسات العامة .
النوع الثاني: فهو ما يسمّيه (كوربورتارية الدولة) في النظم التسلّطية، و تخضع فيها الجماعات لسيطرة الدولة و يتغلغلها الجهاز البيروقراطي الرسمي و التنظيم الحزبي الحكومي المسيطر وأفضل الأمثلة على ذلك نظم الحكم الشيوعية في أوروبا الشرقية و الاتّحاد السوفيتي سابقاً، حيث كانت تنظيمات الحزب المهيمن تتغلغل في كلّ مستويات المجتمع، و تفرض سيطرة شديدة على كلّ الجماعات و الروابط المسموح بتواجدها. فالنقابات و الاتّحادات الطلاّبية، على سبيل المثال كانت تخضع بالكامل للحزب الشيوعي، و نادراً ما كان يسمح لها بالتعبير عن المصالح المستقلّة لأعضائها. هذه السيطرة كانت مطبّقة في الاتّحاد السوفيتي السابق و في أوروبا الشرقية ولا تزال سائدة في الصين و كوريا الشمالية كذلك، فإنّ النظم التسلّطية الكوبورتارية الموجودة في البلدان غير الشيوعية مثل إسبانيا في عهد فرانكو و البرتغال في عهد سان لازار و البرازيل و الأرجنتين في عهد المؤسّسة العسكرية و المكسيك في عهد الحزب الواحد شجّعت هي الأخرى السيطرة و الهيمنة على الجماعات و النقابات و الرّوابط (محمد زاهي المغيربي، ص: 119 – 120) .
2 ـ الدولة و المجتمع المدني في الوطن العربي:
تدعو بعض الاتّجاهات إلى رفض مفهوم المجتمع المدني لأنّه وليد تجربة اجتماعية مغايرة هي التجربة المجتمعات الغربية. و الواقع على الرغم من التباين بين المجتمعات الغربية والعربية من حيث تجربة التحوّل التاريخي في هذه المجتمعات إلاّ أنّ هناك بعض السمات المشتركة جزئياً فيما بينها، نظراً لأنّ ما جرى من تحوّل في المجتمعات الغربية قد أثّر في العالم الثالث بما في ذلك المجتمعات العربية بحكم أنّ هذه البلدان قد خضعت للاستعمار الغربي بصورته التقليدية و تخضع الآن للسيطرة المالية والتقنية لهذه المجتمعات في إطار الاقتصاد الدولي الذي تحتلّ فيه البلدان الغربية موضع الصدارة .
نتيجة لذلك، فإنّ التحوّل الاجتماعي الذي حدث في البلدان العربية، بما في ذلك نشأة الطبقة العاملة واتّساع حجم و دور الطبقة المتوسّطة و ظهور أنماط من المنظّمات النقابية و المهنية و السياسية، يشبه إلى حدّ ما عرفته البلدان الغربية في مراحل أسبق من تطوّرها و يبرز ذلك استخدام مفاهيم واحدة لوصف مثل هذه التطوّرات، و مفهوم المجتمع المدني هو أحد هذه المفاهيم. لذلك فليس من الصحيح القول بضرورة رفض هذا المفهوم لأنّه لا يعكس تماماً وجود مقابل موضوعي له في الواقع العربي المعاصر. (سعيد بنسعيد و آخرون، ص: 325) .
الحقيقة إنّ هذا الموقف هو موقف غير سليم من الناحية النظرية و العلمية لأنّه سيؤدّي إلى تعدّد المفاهيم التي تصف نفس الظاهرة، و ذلك بحسب الانتماء الوطني للباحث، و يعني ذلك بالضرورة غياب أيّة قاعدة لتطوير أي علم اجتماعي، و وضع مفاهيم مشتركة والوصول إلى تعميمات و إيجاد حوار بين المتخصّصين في هذا العلم الاجتماعي إذا جاؤوا من بلدان مختلفة، بل عندما تتعدّد مدارسهم الفكرية داخل البلد نفسه .
لا تتمثّل المشكلة الأساسية المتعلّقة بالمجتمع المدني في الوطن العربي في عدم وجود منظّمات هذا المجتمع، فالساحة العربية تتمتّع فعلاً بوجود تكوينات المجتمع المدني من أحزاب و روابط اجتماعية و اقتصادية و اتّحادات للطلبة و منظّمات نسائية و نقابات مهنية و أندية و تعاونيات و منظّمات تطوّعية وهي تمارس بالفعل أنشطة متنوّعة و متعدّدة. إنّما تتمثّل مشكلة المجتمع المدني العربي في عدم فاعليته و فقدانه الاستقلالية في مواجهة الدولة ( ثناء فؤاد عبد الله، ص: 281 ـ 282) .
إنّ موقف الدولة إزاء منظّمات المجتمع المدني يتّسم إماّ بالتردّد أو عدم الثقة. فالدولة تسمح قانوناً بالجمعيات و التنظيمات المدنية، و لكّنها في الوقت نفسه تضع من القيود و التنظيمات القانونية و الإدارية ممّا يجعل لها اليد الطويلة في مراقبة هذه المنظّمات أو حلّها أو تحديد مجال حرّيتها وحركتها، و تشمل هذه القيود التي تفرضها الدولة على المجتمع المدني قيوداً تشريعية و إدارية و سياسية، و في النهاية تتجمّع الأسباب التي تؤثّر على فاعلية تنظيمات المجتمع المدني و تجعل مشاركتها هامشية و محدودة. فالقاعدة العامة في العلاقة بين الدولة والتنظيمات المدنية هي قاعدة عدم الثقة. و في التحليل الأخير تبقى هذه التنظيمات مجرّد منحة من المؤسّسة العليا أي الدولة و بالطبع من حقّ المانح أن يمنح عطاياه أو يسحبها و يمنعها وقت ما يشاء وكيف ما يشاء .
إنّ جوهر مشكلة المجتمع المدني العربي تتركّز في انتشار سلطة الدولة في كلّ مجالات الحياة المجتمعية ممّا يجعل من هذه السلطة أداة مراقبة مستمرّة وعائقاً أمام إمكانية تحرير الأفراد و استقلال التنظيمات الاجتماعية. و الحقيقة إنّ ذلك لا يعني بالضرورة تقوية الدولة فالصلاحيات الواسعة التي تتمتّع بها، و المجالات و الاختصاصات التي تمتلكها و الطموحات الزائدة لاحتلال كلّ المواقع، إضافة إلى أجهزتها و آلياتها المتنوّعة قد يخفي ضعفاً جوهرياً و وجوداً هشّا للدولة، ففي وسط متخلّف من المستبعد أن يعني وجود الدولة في كلّ مكان أنّها بالفعل قوّة حقيقية (ثناء فؤاد عبد الله، ص: 284) .
المحصّلة إنّ منظّمات المجتمع المدني العربي فقدت فاعليتها و كفاءاتها. فالتنظيمات الوسيطة كالاتّحادات و النقابات و الأحزاب السياسية التي تربط بين الأفراد و الدولة قد فقدت استقلالها و جوهرها و شرعيتها تدريجياً، و تحوّلت إلى أدوات جاهزة تستخدمها البلدان العربية للسيطرة على المواطنين، ممّا يعني أنّه صارت بمثابة وسائل لتضييق الخناق على المجتمع. و بدون المجتمع المدني يصبح الأفراد مجرّد رعايا و ليسوا مواطنين في دولة ديمقراطية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق