فتحي المسكيني. جامعة
تونس المنار
و من ثمّ يجدر بنا نقل المشكل من مستوى سؤال الميتافيزيقيين
ـ الباحثين في ماهية الموجودات "ما هو الإنسان؟ إلى سؤال المؤرّخين ـ لوضعية النوع الإنساني "من هو الإنسان؟"
؟
تقديم الإشكال:
إنّ صياغة المسألة على
هذا النحو: "الإنساني بين الوحدة والكثرة"، إنّما تنطوي على إشارات إشكالية مخصوصة،
علينا البدء بالتقاطها من الجهة المناسبة لها، حتّى لا نسيء الطريق إلى نمط
المعالجة التي من شأنها [...] من هذه الإشارات علينا أن نذكر:
1. لماذا "الإنسانيّ" وليس
"الإنسان"، كما تعوّد الفلاسفة من دهرهم أن يفعلوا، من أفلاطون إلى كانط ؟ هل يعني ذلك أنّ التعريفات الفلسفية
الكلاسيكيّة لمفهوم "الإنسان" قد صارت غير مناسبة لفهم أنفسنا، و من ثمّ
هي محاولة للبحث عن تعريفات جديدة أكثر إيفاءً بخصائص الظاهرة الإنسانية ؟ أم أنّه
اعتراف ضمني بأنّ "مفهوم" الإنسان هو ادّعاء منهجي لم تستطع الفلسفة أن
تفيَ به إلى حدّ الآن،
2. من أجل أنّ "الإنسانيّ" سيظلّ رغم
كلّ تحفّظاتنا صفة نشير بها إلى "الإنسان"، فإنّ علينا أن نسأل: ما
دلالة هذا التراجع الفلسفي من موقف "تأسيسي"، كانت غايته العليا إرساء
"علم الإنسان"، و من ثمّ تعيين ماهية الإنسان، إلى موقف
"تاريخي"، لا ـ تأسيسي، يكتفي بوصف ظواهر الإنساني و فهمها، دون أي قرار
ميتافيزيقي حول ماهية الإنسان ؟
3. أنّ الشطر الثاني من العنوان أي "بين
الوحدة و الكثرة" لا يخلو هو أيضا من حيرة منهجية، و ذلك ليس فقط كما يظهر
لنا من حرف "بين"، التي تفيد الوصل و الفصل معا، بل في مواصلة التعويل
على التقابل الميتافيزيقي التقليدي بين "الواحد" و "الكثير"
في تقدير الموجود. فإنّ هذه الصيغة ليست جديدة تماما في الفلسفة، حيث أنّنا نعلم
أنّ أفلاطون هو من أدخل "الثنائيات" في ماهية
الإنسان، و منها على وجه الخصوص وحدة النفس ـ العقلية ـ و تكثّر الجسم ـ الحسّية.
وهو وضع منهجي بقي سائدا و معمولا به إلى حدّ كانط.
و لذلك فإنّ الجديد حقّا
هو هذا التنصيص الصريح على البَيْنِيَة
إنّ الإنساني هو ميدان
يتشكّل "بين" الوحدة و الكثرة. و هذا الحرص على فهم "البين" و
رفعه إلى رتبة المقام التأويلي لفهم أنفسنا، ليس مقصدا أفلاطونيا و لا كانطيا.
بل هو موقف "ما بعد
ميتافيزيقي" أصلا. و نعني بذلك أنّه نقل لغة الإشارة إلى إنسانيتنا، من
السؤال الميتافيزيقي "ما هو" الإنسان؟، حيث يغلب منطق
"الوحدة"، إلى السؤال التاريخي "من؟" يكون الكائن الإنساني،
حيث يحتدّ منطق "الكثرة" لأوّل مرّة في معنى كينونة هذا الإنسان.
4. رغم القيمة الاستكشافية للتساؤلات السابقة،
فإنّها ستظلّ إشارات عامة إذا لم نجد لها ما يسندها و ما يبرّرها في تاريخ مفهوم
الإنسان نفسه. و نحن نقترح أن نبني الفرضية التالية: إنّ فهم الفلاسفة للإنساني قد
مرّ بمرحلتين كبيرتين: أولاهما يمتدّ من القرن الرابع قبل الميلاد، حيث تمّ بناء
التعريف الفلسفي الأكبر للإنسان "zoon logon echon" الحيوان القادر على الكلام، إلى نهاية القرن
الثامن عشر، حيث توّج كانط هذه النظرة الميتافيزيقية العريقة ببناء
السؤال الذي تأخّر طرحه الصريح، و لم يُطرح إلاّ بعد أن أخذ يستنفد فعاليته
المنهجية، ما هو الإنسان؟ (أوّلا في رسالة بتاريخ ماي 1793، ثمّ في
دروس في المنطق سنة 1800)؛ أمّا المرحلة الثانية، فهي قد تشكّلت في القرن التاسع
عشر، مع أكبر حدث "علمي" حول حيوانيّة الإنسان، نعني ظهور كتاب داروين "في أصل الأنواع" سنة 1858، الذي
جعل من الممكن لأوّل مرّة أن ينخرط العلماء و الفلاسفة، ليس فقط في كتابة تاريخ
الطبيعة البشرية، على نحو غير مسبوق، بشكل نقل مصير الحيوان العاقل من أفق البحث
عن "خلود النفس"، إلى سياق التنقيب عن أصله الحيواني
"المتحوّل"، الذي سيقوده إلى سلالة القردة العليا، و ليس إلى الملائكة، ـ
بل على وجه الخصوص إلى التفكير في شروط إمكان مراجعة طبيعة النوع الإنساني هذه و إعادة
تربيتها و تحريرها و لم لا تحسينها، وهو منحى من البحث ما بعد الميتافيزيقي في
معنى الإنسانيّ وجد تعابير شتّى عنه في الكتابات المعاصرة امتدّت من نيتشه إلى ليوتار، و من التحليل النفسي إلى فلسفات ما بعد
الحداثة، و من "اليوجينيا" ( Eugénisme وهي "مجموعة الأفكار
و الأنشطة التي تهدف إلى تحسين نوعية جنس الإنسان عن طريق معالجة وراثته
البيولوجية"[1]) التي نشأت على يدي فرنسيس جالتون، ابن خالة تشالرز داروين، في أواخر القرن التاسع عشر، إلى
التكنولوجيا الوراثية لاكتشاف "الجينوم" البشري في التسعينات من القرن العشرين.
*
كيف يجدر بنا الآن، بعد أن بسطنا ملامح الحقل الإشكالي الذي تشير إليه عبارة
"الإنسانيّ بين الوحدة و الكثرة"، أن نبني خطّة المعالجة المناسبة
للصعوبات التي تكتنف كلّ مستوى من مستويات تخريج هذه الإشكالية ؟ من الممكن أن
نقسّم المهامّ التي تطرحها خطّة المعالجة كما يلي:
أ
ـ بأيّ معنى يمكن اعتبار السؤال "ما هو
الإنسان؟" هو الصيغة الكلاسيكية العامة، من أفلاطون إلى كانط، التي قامت عليها جهود الفلاسفة في تأمين
اتّساق محمود في معنى الإنساني بين الوحدة و الكثرة ؟
ب
ـ إلى أيّ مدى نجح العلماء و الفلاسفة
المعاصرون بعد داروين في إعادة كتابة تاريخ الطبيعة البشرية،
بوصفها طبيعة "متحوّلة"، و من ثمّ في نقل صيغة البحث في الإنسانيّ من
صيغة "ما هو؟" إلى صيغة "من هو" الإنسان ؟
ج
ـ كيف يجدر بالمتفلسف أن يقوّم جهود
البيولوجيين المعاصرين ليس فقط في استكشاف البنى الوراثية للجينوم البشري الموحّد
بل في العمل صراحة على بلورة "يوجينيا" تفضي إلى تحسين جنس الإنسان من
خلال السعي المخبري إلى اقتراح برمجة وراثية جديدة لأعضائه ؟
1 ـ
"ما هو الإنسان؟" أو بأيّ معنى يُقال عن
الإنساني إنّه "واحد" في ماهيته ؟
علينا الاعتراف بأنّ
السؤال الذي طرحه كانط "ما هو الإنسان؟" و اعتبره بمثابة الأفق
الجامع لبقية أسئلته عن المعرفة والفعل و الرجاء، هو الصيغة الأولى بوجه ما لتفسير
دلالة الأطروحة القاضية بأنّ "الإنساني" هو مكوّن في نفس الوقت
"بين الوحدة و الكثرة". إذ ماذا يمكن أن تعني "الوحدة" غير
ضرب من "الماهية" التي هي ما يجعل من "إنسان" ما إنسانا ؟ و ماذا
يمكن أن تعني "الكثرة" غير ما يعرض لهذه الماهية و يطرأ عليها من خارج
صورتها ؟ فإذا استشرنا حقب تاريخ الفلسفة التي اشتغل فيها سؤال "ما هو؟"
و بسط صلاحيته المنطقية التي لا تُردّ باعتبارها تنطوي على صلاحية أنطولوجية، أي
من أفلاطون إلى كانط، فإنّ الفلسفة ستقترح علينا نمطا يكاد يكون
واحدا من التخريج المنهجي لتلك "البينية" التي تفصّل و تصل بين الوحدة و
الكثرة، و إن كان ذلك يتمّ في الظاهر من خلال مصطلحات مختلفة: فإنّ تعريف الإنسان
بأنّه "نفس" أو "حيوان عاقل" أو "جوهر" أو
"ذات" أو "أنا" أو "وعي محض" أو "روح" هي
كلّها صيغ مختلفة ممّا سماه الإغريق "
upokeimenon " أي
"الحامل substrat ،subjectum الذي
يحمل أو تُحمَل عليه صفات أو أعراض شتّى.
كلّ ما يتعلّق بمعاني
الوحدة و الكثرة متضمّنة في هذا الفهم للوجود. و ليس الإنسان غير الموجود الذي جعل
من فهمه لنفسه دليلا على صحّة التصوّر الذي يحمله عن طبيعة الموجودات. و هذا، على
عكس ما نظنّ، أمر مشترك بين القدماء و المُحدثين. و القصد هو أنّه يوجد ارتباط
أساسي بين تصوّر الموجودات بوصفها "جواهر"، أي أشياء قائمة بنفسها من
جهة ما تملك "صورا" ثابتة هي ماهياتها، و بين تصوّر الإنسان بوصفه
"نفسا" أو "ذاتا" أو "أنا"، حيث أنّ النفس لدى
اليونان، مثلها مثل "الذات" أو "الأنا" لدى المُحدثين، هي
"جوهر" قائم بنفسه، أي هو "حامل" منطقي و أنطولوجي لصفات أو
أعراض متعدّدة لا توجد إلاّ به، في حين أنّه هو مُستغنٍ عنها في استمرار وجوده لأنّها
ليست من مقوّمات ذاته. هذا البرنامج العام للتمييز بين "الواحد" و "الكثير"
يكاد يكون هوهو من أفلاطون إلى كانط: فالوحدة هي نوع من العناصر أو الخصائص
الثابتة التي تقوّم وجود موجود ما، في حين أنّ الكثرة هي ما يقبل التغيّر و الزوال، لأنّها
تدخل في باب الممكن و الحادث و العرضي و المؤقّت الخ. كيف ينطبق ذلك على الإنسان ؟ إنّنا بمجرّد
طرح السؤال "ما هو الإنسان ؟"، نحن نفترض سلفا أنّ الإنسان موجود له
"ماهية"، و ما يبقى هو مسألة تمييزها عن "الأعراض" التي لا
تدخل في تلك الماهية. لو أخذنا الآن المسألة من جهة الوحدة و الكثرة ماذا تقول
الفلسفة؟
يقول أفلاطون في محاورة بارمنيدس: "والآن إذا كان الواحد غير موجود، فإنّه لا
يمكن أن نتصوّر أيّ شيء من الأشياء الأخرى لا بوصفه واحدا ولا بوصفه كثيرا؛ إذ أنّه
دون الواحد، يستحيل أن نتصوّر الكثرة"(أ:166) حين نطبّق هذا الفهم الكلاسيكي للوحدة و الكثرة
على الإنسان، يتبيّن سريعا أنّ القصد هو أنّ تعريف الإنسان بأنّه "حيوان
عاقل" يعني فقط أنّه يملك ماهية واحدة هي "عقله" و أنّ ما عدا ذلك
هي كثرة "حسّية" ليست محددّة لماهيته. إنّ النتيجة الكبرى لهذا الفهم
مزدوجة: من جهة، إقحام "الثنائية" في طبيعة النفس الإنسانية، ثنائية بين
جزء إلهي و جزء حيواني في ذاتنا، وهو ما صار خاصية ميتافيزيقية للفكر
"الغربي" بعامة منذ أفلاطون؛ و من جهة، اكتشاف ما أطلق عليه أفلاطون في الجمهورية
(IX،
588 د) اسم "الإنسان الباطني" و اعتباره
الإنسان "الحقيقي". و رغم أنّ المجهود اللاحق منذ أرسطو هو الحدّ من هذه "الثنائية" بالدّفاع
عن وحدة الإنسان من خلال لعبة لغوية جديدة هي لعبة المادة و الصورة، بحيث أنّ
الوحدة "الصورية" غير ممكنة إلاّ من الكثرة "المادية"، فإنّ
الفهم الفلسفي الكلاسيكي لمعنى الإنساني قد ظلّ دوما إلى حدّ كانط تحت وطأة ثنائية "الواحد" الصوري
(العقلي و الجوهري) و "الكثير" المادي (الحسّي و العرضي) دون تغيير
أساسي. و نعني بذلك هذا: إنّ الكثرة لم تبدأ في الدخول في ماهية الإنساني إلاّ في
وقت جدّ متأخّر. و علينا أن نسأل: لماذا ؟ يبدو أنّ أفضل طريقة لامتحان هذا
الامتناع الميتافيزيقي لدخول الكثرة إلى الماهية النوعية للإنساني هو تفكيك
التعريف اليوناني الأرسطي)
للإنسان بوصفه zoon
logon echon)
باعتباره ينطوي بعدُ على شطرٍ من الحلّ. "الإنسان حيوان عاقل"ـ في هذا
التعريف يقابل "الإنسانيّ" ما هو حيوان و لكنّه "غير إنسانيّ"؛
و من ثمّ فمنذ أوّل تعريف فلسفي له، ارتبط الإنسانيّ بأمرين:
أ ـ ما هو حيواني؛
ب ـ ما يتميّز به نوع حيوانيّ،
و هو ما تمّت الإشارة
إليه من خلال متوالية من الألفاظ الدّالة، من قبيل "العقل"،
"الذكاء"، "الكلام"، "الضحك"، "الرمز"،
"السياسة".. الخ. إنّ تعريف الإنساني بأنّ "حيوان + ..." هو طريقة مشتقّة من قرار عميق و أكثر خفاء
لأنّه أقدم منه، سمّاه أغمبن (Agamben)، أحد الفلاسفة الإيطاليين المعاصرين، قرار
رسم خطّ فاصل بين الإنسانيّ و الحيواني في فهمنا لأنفسنا. وهو أخطر قرار أخلاقي
حول ماهية الإنسان في تاريخ النوع. من أجل ذلك لا يستطيع المتفلسف أن يفكّك هذا
المعطى المصاغ بشكل تقريري "الإنسانيّ بين الوحدة و الكثرة" إلاّ بقدر
ما ينقله إلى صيغة إشكالية داخلية. و علينا أن نسأل: ما هو "الإنسانيّ"
في التعريف المشار إليه ؟ وهو ما يعني: إذا كان الإنسان "حيوانا" (و هذا
الأمر تقرّر من اليونان إلى علم الوراثة) فإلى أيّ حدّ يمكننا أن نعزل العنصر
"الحيوانيّ" (غير الإنسانيّ) فينا من تعريفنا لأنفسنا ؟ أين ينتهي
انتماؤنا إلى مملكة الحيوان بحيث نستطيع أن نمارس الادّعاء الأدبي الذي يمكّننا من
أن نسأل عن "ماهية" الإنسانيّ حقّا، و ليس عن "الحيوانيّ"،
خطأ ؟ و إذا كان "الجسم" هو مطيّة الإنسان الوحيدة للإقامة في
"نفسه" فإنّ علينا أن نفلح في تحديد الخيط الفاصل بين الشكل الحيواني
لأجسامنا و "الشكل الإنسانيّ" لما نعتقد أنّه نحن ؟ إنّ الإنسانيّ إذن
مهمّة شائكة و سيرورة عليها قطعها، و ليس معطى طبيعيا ننطلق منه. و رأس الأمر في
فهم طبيعة القرار الأخلاقي الذي جعل نوعا من الحيوانات يرسم خطّا فاصلا بينه و بين
بقيّة السلالة الواسعة التي ينتمي إليها، هو ظهور الإنسانيّ و كأنّه برنامج لفكّ
الارتباط مع "اللاإنسانيّ" على نحو يمكّن من تسخيره و استعماله كأنّه
موجود من أجله. إنّ معنى "وحدة" الإنسانيّ لا ينفصل عن الفهم
"الغائي" لوجوده في العالم. و لذلك علينا أن نصوغ سؤالنا الأساسي الأوّل
على هذا النحو: بأيّ معنى يُقال عن "الإنسانيّ" إنّه "واحد"
في ماهيته ؟ إنّ حرص اليونان على حمل إنسانية الإنسان على حيوانيته، يفضي بنا إلى
بعض من الاضطراب. هل غيّر المحمول عليه ؟ من أجل ذلك يبدو لنا السؤال الكانطي:
ما هو الإنسان؟"
متأخّرا جدّا عن النقاش اليوناني، و ذلك يعني مفرَغا من الثراء و التعقّد اللذين
طبعا التعريف الذي يجعل من الإنسان "حيوانا عاقلا". إنّ كانط لم يخترع سؤال "ما هو؟". وهو، مثل
أقطاب فلسفة الأنا الحديثة، يقف على أرضية السؤال "ما هو؟" دون أن
يناقشه. و لذلك فسؤال المحدثين "ما هو الإنسان؟" من ديكارت إلى كانط هو سؤال متأخّر و متكلّف، و هذا يعني أنّه
وريث طريقة في طرح الأسئلة لم يكن ديكارت و لا كانط نفسه مهيّأ للتحرّر منها. إنّ أيّ جواب عن
معنى "الوحدة" في الإنسانيّ لا يمكن أن يتفادى السؤال "ما هو
الإنسان؟". و من ثمّ فإنّ معنى "الوحدة" المبحوث عنه لا يمكن
انتظاره في أفق فهم آخر غير أفق سؤال الماهية، ليس فقط في صيغته الأولى، كما دشّنه
اليونان، بل حتّى في صيغته المأزومة منذ نيتشه. لنجازف الآن، بعد هذه التحفظّات التمهيدية،
بإجابة مؤقّتة عن سؤالنا "بأيّ معنى يُقال عن الإنسانيّ إنّه واحد في ماهيته
؟". لنقل: إنّ الإنسانيّ واحد في ماهيته من أجل أنّ الإنسان ـ كلّ إنسان بما
هو كذلك ـ هو "حيوان عاقل". قد يبدو هذا الجواب مخيّبا للآمال. و على
ذلك هو سقف التفكير الغربي في الإنساني إلى حدّ كانط.
"الإنسان
حيوان عاقل". لو قرأنا هذا التعريف بوصفه جزءا من قياس خفيّ، لتبيّن لنا أنّ
هذا التعريف لم يكن ممكنا من دون اكتشاف معنى "الكلّي" بوصفه الأرضية
الوحيدة لتأمين جواب مناسب عن السؤال "ما هو؟". و الكلّي في معنى البشر
هو "الجنس" (le genre). يقول أرسطو في مقالة الدال (ما بعد الطبيعة، 1024 أ
28-33):" يعبّر الجنس و العرق أوّل الأمر على التكوّن (génération) غير المنقطع للموجودات التي لها نفس
الصورة. نحن نقول مثلا، طالما استمرّ الجنس البشري، بمعنى: طالما هناك تكوّن غير
منقطع للبشر. وهو أيضا ما منه ينحدر الموجودات، ما جعلها تمرّ أوّل الأمر إلى
الوجود." هذا
التعريف للجنس يمدّنا بالإطار الذي ينبغي علينا أن نفهم معنى الإنسانيّ في أفق
الإغريق ـ البشر "كائنات" لها "نفس الصورة"، مستمرّة في
الوجود و صادرة عن "جنس" أوّل أعطاها الوجود. الكون و الصورة و الاستمرار
و الجنس: أربع علامات على "ماهية" البشر الموحّدة. أين نضع قولنا
"حيوان عاقل": هو حيوان من حيث هو "كائن" كونا غير منقطع؛ وهو
عاقل، من حيث له "نفس الصورة". فإذا تكرّر ذلك في كلّ البشر، صار لدينا
"جنس بشري" واحد. و لكن ما معنى "واحد" ؟ ـ تقال
"الوحدة" على ما تُقال عليه "الكثرة
: ينبّه أرسطو (ما بعد الطبيعة، 1015 ب 17 ـ1017 أ 7) إلى
أنّ " الواحد بالماهية" (و ليس فقط بالعرض)
هو واحد إمّا لأنّه "متّصل"
و إمّا واحد لأنّه "غير قابل للانقسام" و إمّا واحد
"بالتعريف" و إمّا واحد بصورته و واحد "بالعدد"، و يُعكس
بالنسبة إلى الكثرة: الكثير بالماهية منفصل، قابل للانقسام المادي و متعدّد
التعريفات. إنّ وحدة الإنسانيّ هي إذن وحدة "جنسية" تحدّد ماهية البشر
على أساس الاشتراك في معنى الكلّي. إنّ الإنسان حيوان، في معنى أنّه ينضوي تحت
معنى كلّي هو "الجنس"، و من جهة، هو "عاقل" أي له "صورة"
ثابتة هي المعنى الكلّي الذي يشترك فيه مع غيره من بني البشر و لكن تميّزه عن باقي
الحيوانات. و هكذا فإنّ بين تعريف الإنسان بأنّه "حيوان عاقل" و بين
اكتشاف الكلّي، كحدث فلسفي فذّ في أفق اليونان، ارتباط سابق لا بدّ من استبصاره. و
لنسارع بالقول: إنّ الكلّي في التعريف المشار إليه هو "الحيوان". و إنّه
داخل دائرة الحيوانية "كجنس" يأخذ الإنسان، كنوع، أو كأفراد، أي أكان
واحدا أم كثيرا، دلالته. و لذلك فكلّ إنسان هو أوّلا واحد بنوعه الحيواني، أي بقدر
ما يدخل في دائرة الكلّي الذي يصدق عليه.
ـ بيد أنّ الجزء الآخر من التعريف أي معنى
"العقل" لا يقلّ تعبيرا عن معنى الكلّي أيضا. و برغم أنّنا صرنا نردّد
بعد هيدغر أنّ المعنى الأصلي للتعريف ليس
"الحيوان العاقل" بل "الحيوان الذي يملك القدرة على الكلام"
(الوجود و الزمان، الفقرة 6)، فإنّ الترجمة اللاتينية
"animal rationale" و ربيباتها
الحديثة لم تكن عبثا بل تعبيرا عن فهم معيّن للتداخل العميق بين اللوغوس ـ العبارة (الذي استعاده هيدغر) و بين اللوغوس ـ التصوّر (الذي أعرض عنه هيدغر) و في الحقيقة فإنّه قد تبيّن اليوم أنّ أرسطو مثلا ليس فقط يأخذ اللوغوس على معان عدّة، بل هو يردف مثلا بين
"اللوغوس" و "التعريف"، و بين اللوغوس و التصوّر أو المعنى
العقلي، و بين اللوغوس و الماهية. بذلك تعني "صفة"
"logon"
عاقل" في معنى أنّ ماهية "الإنسان" هو أنّه "حيوان ـ عاقل".
هذا يسمّى لدى أرسطو لوغوس الإنسان" أي "حدّ
الإنسان" و "ماهية الإنسان" و"القول العقلي عن الإنسان".
بيد أنّ المهمّ هنا هو أنّ أرسطو ينبّهنا إلى أنّ "اللوغوس" في
معنى ما به نحدّ ماهية موجود ما، هو كونه لا يُقال إلاّ عن "موضوع" أي
عن موجود أوّل، و ليس عن عرض أو صفة. و لا يُقال له ماهية إلاّ عن "صور نوعية
داخلة في الجنس الذي تنضوي تحته" (ما بعد الطبيعة، الزاي 4). و بالمعنى
الأنطولوجي لا يُقال "لوغوس" إلاّ عن "جوهر" أي موضوع تُحمل
عليه المحمولات و لا يُحمل على شيء. إنّ الإنسان حيوان عاقل في معنى أنّه
يستمدّ قوامه من صورة نوعية كلّية و ثابتة فيه هي التي تؤمّن وحدته مهما كانت
الكثرة التي تلحقه. و ليس الإنسانيّ واحدا في ماهيته إلاّ
بقدر ما ينضوي تحت جنس كلّي يصدق على كثيرين من جهة ما يملكون جميعا صورة ثابتة
على منوالها يتحقّق كلّ فرد جزئي. إنّ الإنساني إذن واحد من جهة
"النوع"، متكثّر من جهة "الأفراد". و هكذا لا توجد أي كثرة إلاّ في ضوء الوحدة
التي جعلتها ممكنة. و علينا أن نسأل: إلى أيّ حدّ أفلحت
"الذات" الحديثة في مختلف صيغها (أنا أفكّر، وعي محض، عقل متعال،
روح مطلق..) في أن تؤمّن صلاحية معيّنة لمعنى
"الكثرة" التي أعرض التقليد الميتافيزيقي منذ أفلاطون ؟ أليست هي أيضا قولا "هوويا" آخر
في تاريخ الإنسان ـ الواحد الذي بناه اليونان على أساس الوجود ـ الجوهر و الكلّي ـ
الجنس الثابت ؟
2 ـ
في ضرورة الانتقال من سؤال "ما هو"
إلى "من هو " الإنسان ؟
و مشروع إعادة كتابة تاريخ
الطبيعة البشرية بوصفها طبيعة "متحوّلة" أو كيف دخلت "الكثرة"
في ماهية "الإنساني" ؟ نحن نعلم أنّ ديكارت قد اتّخذ في الفقرة 6 من التأمّل
الثاني موقفا لافتا من التعريف اليوناني للإنسان بوصفه "حيوانا عاقلا".
وهو لافت لأنّه على عكس ما هو منتظر هو قد رفض هذا التعريف. ما دلالة ذلك ؟ نلاحظ
أوّلا أنّ ديكارت قد طرح فعلا سؤال "ما هو الإنسان
؟" (؟qu’est-ce qu’un homme ) أو "ماذا هو الشيء الذي هو إنسان
؟". لكنّ ننتبه للتوّ بأنّ فحصه عن معنى "إنسان" قد عرض له بوصفه
أمرا يدخل في باب "ما كنت أعتقد أنّني هو" (ce
que je croyais être)،
و من ثمّ فإنّ طرحه لسؤال "ما الإنسان؟"، و إن كان صريحا، فهو غير مطلوب
لذاته، بل هو بوجه ما إنكاري. و قد توّج هذا الموقف بالتنكّر للتعريف الذي اعتُبر
مكسبا نظريا بديهيا في نصوص القدماء، نعني تعريف الإنسان باعتباره "حيوانا
عاقلا". و علينا أن نسأل: لم رفض الإجابة اليونانية عن معنى "الإنسانيّ"
رغم أنّه قرأها في ترجمة لاتينية تقرأ "zoon
logon echon" أي
"الحيوان القادر على الكلام"، باعتبارها تعني " animal rationale" أي "الحيوان العاقل"،
و الحال أنّ هذه الترجمة اللاتينية هي تأويل مناسب لفهم ديكارت لماهية الإنسان ـ الكوجيطو ؟ إنّ المثير في حجة ديكارت هي كونها "منهجية" بحتة:
إنّ القبول بالتعريف اليوناني للإنسان سيجرّنا حتما إلى "تحليل"
مكوّناته، و من ثمّ سيكون علينا أن نحدّد معنى "حيوان" ثم نحدّد معنى
"إنسان" تحديدا يستوفي في كلّ مرة شرط "البداهة" اللازمة
للمرور من اليقين الخاص إلى رتبة الحقيقة الكلّية. و لذلك فالحلّ حسب ديكارت هو أن نبحث عن معنى "الإنسانيّ"
في أنفسنا أوّلا، أي ما نعتبره "عقلنا" و "طبيعتنا" و "وجودنا".
وهو قرار سيفضي للتوّ إلى إخراج كلّ ما كنت أعتبره جزءا من إنسانيتي الحسيّة و الخارجية:
أي "وجهي" و "يديّ" و كلّ "هذه الآلة" (cette machine) المكوّنة من عظم و لحم التي أسمّيها
الجسم". ينبغي أن نلاحظ هنا أنّ إخراج "الجسم" من تعريف أنفسنا هو
نابع من نفس الصعوبة الداخلية في تفكير ديكارت التي أملت عليه استبعاد التعريف
اليوناني للإنسان بوصفه "حيوانا عاقلا" من دائرة الذات. و نعني بهذه
الصعوبة ما يلي: إنّه رغم ما حقّقه ديكارت من
قفزة واضحة في توجيه السؤال عن الإنسانيّ نحو ذاته العميقة، من خلال طرح خاطف
للسؤال "من أنا؟" (? qui suis-je) في الفقرة 7 من التأمّل الثاني، فهو سريعا ما عاد،
على مستوى الإجابة، إلى الخلط بين "من؟" و "ماذا؟"، حيث هو لا
يعني من خلال تعريفه لنفسه بوصفه "شيئا مفكّرا" (res cogitans) سوى
نوع من "الوحدة" الجوهرية التي لا تتغيّر، و التي واصل تسميتها كما فعل
القدماء منذ أفلاطون باسم "النفس". إنّ فلسفة
الأنا الحديثة لم تخرج إذن في استشكالها لمعنى الإنسانيّ عن أفق السؤال اليوناني
"ما هو"، رغم الخطوة العملاقة التي حققّتها باتّجاه مراجعة معنى
"النفس" من خلال فكرة "الأنا أفكّر"
الذي يملك في طبيعته حقّ التشريع الأنطولوجي لتحويل أيّ شيء "موضوعا، يبسط
عليه سيادته.
ـ و إنّه ضدّ مشروع
اختزال "الإنسانيّ" في جهاز "الأنا أفكّر" الذي صار يشكّل المعيارية الداخلية
للفهم السائد للحداثة، إنّما قامت أكثر الطروحات المعاصرة حول معنى الإنسان لدى نقّاد
الحداثة جيلا بعد جيل. و لكن علينا ألاّ نرى في نقد المفهوم الحديث للإنسان مشكلا
خاصّا بالفلاسفة دون غيرهم. إنّ الإنسانيّ قد انفجر في أفق المحدثين بشكل مذهل،
بحيث أنّ الدعوة إلى مراجعة المماهاة الصورية بين "النزعة
الإنسانية" (humanisme) و"النزعة الكونية"(universalisme)، التي أعطاها كانط صيغتها النموذجية من
خلال مفهوم "الإنسان ـ مواطن العالم أو الموطن الكسموبوليطيقي"، ـ قد سمع صداها في كلّ النقاشات الأساسية حول
الإنسان، من الرومانسيين إلى نيتشه و هيدغر و فلاسفة الاختلاف و التأويلية، و من
فلسفة البيولوجيا منذ داروين و التحليل النفسي الفرويدي، إلى علم الوراثة و التيّارات ما بعد
الحديثة، مثل الحركة النسوية و لكن أيضا فنون و آداب الأقلّيات و نزعات المثاقفة و
حوار الحضارات و الأديان. إنّ السؤال الهادي الذي حرّك جيلا جديدا من الأسئلة حول
معنى الإنسانيّ أخرجه من نطاق السؤال الميتافيزيقي "ما هو الإنسان
بإطلاق؟"، إلى أفق السؤال ما بعد الميتافيزيقي "من هو الإنسان الذي هو
نحن في كلّ مرّة؟" (حسب عبارة هيدغر)، ـ إنّ السؤال الجديد لم يعد: بأيّ معنى
يُقال عن الإنسانيّ بعامة أنّه في ماهيته واحد ؟ بل: بأيّ وجه يمكننا أن نرصد
الكثرة الثاوية في ماهية الإنسانيّ ؟ علينا أن نبصر بأنّ حركة التنوير هي كلّها
حركة "توحيد" لمعاني الإنساني: أن يكون المتفلسف تنويريّا يعني أن يثبت
بشكل منهجي "وحدة" النوع البشري و "وحدة" الجسم البشري و "وحدة"
العقل البشري و "وحدة" العلم البشري و من ثمّ "وحدة" القانون
أو المعيار الذي يجب أن يحكم الفعل البشري. وهو ما عبّر عن نفسه غالبا من خلال
مماهاة خفية بين "النزعة الإنسانية" و "النزعة الكونية". لكنّ
ثمن هذا الموقف هو الإعراض عن كلّ ما هو معاكس: يجب أن نعرض عن كلّ ما هو
"تنوّع" قومي أو "فروق" جسدية أو "تعدّد" فكري أو
"تاريخية" في الحقيقة أو "خصوصية" معيارية أو ثقافية. و لذلك
فإنّ الإقرار بأنّ الكثرة مقوّم أصلي في الظاهرة الإنسانية هو موقف خطير في أفق
التنوير لأنّه يهدّد البعد الكوني للإنسانية. و لم يكن من السهل أبدا تحويل الكثرة
إلى مفهوم موجب، و ذلك يعني إلى مفهوم قادر على فهم الإنسانيّ بشكل مختلف و مستقلّ
عن الفهم الميتافيزيقي. فما الذي وقع ؟ يبدو أنّ تغيّرا خطيرا في الفهم الحديث
لمعنى الإنساني قد أخذ في الظهور مع الرومانسيين حين تجرّأ ناقد مثل هردار (Herder) على اعتبار النزعة الكونية المهيمنة
في عصره (وهي نزعة أتت إلى ألمانيا من رواد التنوير: من انجليزي مثل هيوم أو فرنسي مثل فولتير) مجرّد "حكم مسبق" متأتّ من وهم
المتفلسفة القاضي بأن نعدّل "كلّ العصور على منوال الشكل الفريد
لعصرنا". وهو لم يصدر هذا الحكم "سبهللا" بل انطلاقا من
بحث حول الأفكار اللازمة من أجل فلسفة في تاريخ الإنسانية وهو عنوان كتاب نشره و ردّ
عليه كانط سنة 1785، حيث حاول أن يبيّن بشكل
مثير أنّ الميزة الحاسمة للحيوان الإنساني ليس العقل بل "الاستقامة"
الجسدية (la situation verticale)، و "ليس العقل غير كسب (la Raison n’est rien qu’une acquisition): كسب لبعض الخصائص و لوجهة ما مطبَّقة على
الأفكار و القوى، كان الإنسان قد أُعدّ لها بفضل تركيبته و نمط حياته".
فالاستقامة هي ما يوحّد بين البشر و ليس العقل: إنّ الاستقامة هي أصل الحرّية و العفّة
و الاستقلال و العدل و الحقيقة و الإيمان. لكنّ الأخطر من ذلك هو الافتراض بأنّ
النوع الإنساني ليس أصل نفسه و لا هو غاية نفسه: بل هو مجردّ حلقة في متوالية تذهب
من الجماد و النبات إلى الحيوان و الإنسان ثم ّإلى ما بعد الإنسان. بل هو
"مختصر الكون"(le compendium de l’univers)، وهو خالد لأنّ الحياة السارية في الكون
خالدة. لكنّ هذا الموقف لا يأخذ حدّته الخاصة إلاّ حين يقع إقحام مسألة
"اللغات" كأرضية جديدة و كنموذج حاسم بمعرفة البشر و الشعوب و الأعراق.
صحيح أنّ هذا الاهتمام باللغة كمفتاح لمعرفة الكثرة البشرية ليس جديدا، فنحن ينبغي
أن نذكّر بأنّ ليبنتز قد عقد في مفتتح القرن الثامن عشر
(1710) مقالة يتيمة تحمل عنوانا لافتا هو "محاولة موجزة عن أصل الشعوب
مستنبطة أساسا من الإشارات المتأتّية من اللغات". لكنّ مقالة هاردار سنة 1772 "رسالة في أصل
اللغات" لم تعد يتيمة بل صارت استجابة إلى نظرة جديدة إلى الإنسانيّ من خلال
اللغة، يشترك في هردار مع كتاب عصره مثل مقالة روسو "في أصل اللغات"، و لكن خاصّة
كتابات ولهالم
فون هومبولدت حول
"ترجمة" النصوص الأجنبية و "مقارنة اللغات" و "تأثير
التنوّع في طابع اللغات" على "ثقافة الروح" و عن "الطابع
القومي للغات". إنّ الفكرة الهادية في هذا الاهتمام الطريف باللغات هو أنّ
الظاهرة البشرية هي في جانب جوهري منها ظاهرة "لغوية". و من ثمّ فإنّ
تنوّع البشر و كثرتهم و تعدّدهم هو من أصل لغوي. هذا الاعتبار أدّى إلى تغيّر خطير
في مواصلة القبول بالتقدير الذي أقرّه القرن السابع عشر للعلامة الرياضية بوصفها
نموذج الحقيقة الكونية. يقول هومبولدت:" لقد
أرادوا تعويض ألفاظ اللغات المختلفة بعلامات صالحة بشكل كوني، مثل تلك التي في
الرياضيات بواسطة الخطوط و الأعداد و الجبر. و لكن بذلك نحن لا نستطيع أن نعبّر
إلاّ عن جزء يسير من جملة ما يمكن أن نفكّر فيه، بما أنّ هذه العلامات، بطبيعتها،
ليست مناسبة إلاّ لتصوّرات يمكن أن يقع بناؤها، أو هي مكونة من خلال الذهن
فحسب". (فقرة: 17)
و لكن لماذا ؟ ـ لأنّ "اللغة
ليست نتاجا حرّا للإنسان الفردي، بل تنتمي دوما على كلّ الأمّة" (فقرة: 19). و
لذلك ليس هناك عبارة أو مفهوم غير مكترث بمضمونه اللغوي الذي ينتمي إلى أمّة
بعينها (الفقرة: 19). وذلك أنّ اللغات "ليست على وجه الدقّة وسائل" ،
ذلك أنّ "تنوّعها ليس ناجما عن الأصوات والعلامات: بل هو تنوّع في رؤى العالم
نفسه" (فقرة: 20). يقول:" إنّ
جملة ما هو قابل للمعرفة يكمن، كحقل يجب على العقل البشري أن يحرثه، بين جميع
اللغات، بشكل مستقلّ عنها، و في المركز منها؛ و لا يستطيع الإنسان أن يقترب منه
بشكل موضوعي إلا بحسب نمط المعرفة أو الشعور الذي يخصّه، أي بطريقة ذاتية"
(الفقرة: 20 ). و لذلك فالطريق نحو النوع البشري يمرّ حتما عبر نموّ اللغات نحو
خصائص كونية في الإنسان (الفقرة: 20). صحيح أنّ "كلّ لغة هي صدى للطبيعة
الكونية للإنسان، لكنّ مجموع كلّ اللغات لن يعطينا أبدا الصبغة التامّة لذاتية
الإنسانية" (الفقرة: 20).
- هذه الأمثلة الطريفة
تكفينا لاقتراح هذا التنبيه: إنّ الكثرة قد دخلت إلى ماهية الإنساني من اللحظة التي
أخذ فيها المحدثون يمرّون بصمت و بطء من نموذج الوعي إلى نموذج اللغة. و كما
كان "العقل" هو باب الوحدة في ماهية الإنسان فإنّ "اللغة" هي
هذه المرّة باب الكثرة لامتلاك
مكانتها في فهم معاني الظاهرة الإنسانية. و لكن هل دخلت فعلا ؟ ينبغي الاعتراف
بأنّ دخول الكثرة في ماهية الإنساني ما يزال يتطلّب جهودا و أحداثا أكثر خطورة من
دعوة الرومانسيين. و بعبارة حادّة: ينبغي انتظار داروين ثمّ كلّ الفلسفات الحيوية اللاحقة
من نيتشه و فرويد إلى علم الوراثة الحالي، حتّى يصيب
مفهوم "النوع الإنساني" خلخلة ما تزال مسألة مثيرة للجدل إلى حدّ الآن.
و نعني بذلك أنّ الاكتشاف المعاصر لظاهرة "الحياة" قد شكّل، إلى جانب
اكتشاف اللغة الذي سيأخذ منعرجا كبيرا مع فلسفة اللغة من فيتغنشتاين إلى هابرماس و رورتي، تحوّلا خطيرا في شروط دخول الكثرة في
دلالة الإنساني. و لا نعي بالحياة ، المعطى البيولوجي فقط، بل كلّ المشاكل
الحيوية، مثل "الغرائز" (كما فكّر بها نيتشه) و "الطاقة الجنسية" (كما
تأوّلها التحليل النفسي) و تجربة الموت ( la
mortalité) (كما
جذّرها هيدغر) و خاصّية "الولادة" (la natalité) (كما
اخترعتها حنّا
أرندت) و "الحياة
البدائيّة" (كما كشفت عنها البحوث الأنثروبولوجية) و الأزمة
"الإيكولوجية" (كما استشكلها جوناس) و "موت الإنسان" (كما أرّخ
له فوكو) و ترحّل "الريزوم" (كما رسم
خطوطه دولوز
و غواتاري)،
و مراجعة الخطّ الفاصل بين الإنساني و الحيواني فينا (كما عمد إلى ذلك أغمبن) بل و احتراف كلبية جديدة إزاء "حظيرة
النوع البشري" (كما تجرّأ على ذلك سلوتردايك)، و ذلك إلى حدود النقاشات البيوإيتيقية عن
نتائج الاستنساخ و التحكّم الجيني من خلال خارطة الجينوم البشري. و علينا أن نقبل
إشارة رورتي إلى كوننا في فهمنا لأنفسنا قد أصبحنا
منذ مدّة يسيرة "ما
بعد داروينيين" (post-darwiniens). و ليس هذا مجرّد تحقيب، بل هو إقرار
بأنّ النوع الإنساني أو الحيوان العاقل لم يعد كما كان. إنّ مستقبلنا الأخلاقي
كنوع بشري أو كحيوان عاقل لم يعد كانطيا.
نحن لسنا مواطنيّ العالم بل حيواناته الذكية فقط. ما هي النتائج الحاسمة لاكتشاف
الحياة كبرنامج أخلاقي جذري للبشر بالنظر إلى تصوّرهم لأنفسهم ؟ ـ يبدو أنّ رورتي على حقّ حين يفترض التمييز بين ما قبل
وما بعد داروين مقياسا حاسما لطرح الأسئلة عن الإنسانيّ. و
ذلك يعني أنّنا صرنا ننتمي بعقولنا لثقافة راجعت تعريف الإنسان بشكل نهائي. و رأس
المراجعة هنا هو تجرّؤ داروين على إعادة برمجة النوع الإنساني في الجنس
الحيواني الذي طالما ترفّع عن الانتماء العضوي إليه. هذا الموقف كسّر "الوحدة"
الأخلاقية للنوع و فتح باب "الكثرة" العضوية عليه بشكل مريع. بعد داروين لم يعد ممكنا لأيّ ثقافة أن تزعم أنّ
الإنسان "مخلوق سماوي" نشأ عن "آدم" أصلي واحد ليس سوى نسخ
لاحقة و متكثّرة عنه. نحن فعلا نسخ لاحقة و متكثّرة و لكن ليس عن "وحدة"
آدمية أصلية، بل عن نسخ "تطوّرية" سابقة لأشكال حيوانية لا نملك تأريخا
مناسبا لها إلى حدّ الآن. إنّ النتيجة الخطيرة الأولى لهذا الوضع الجديد للبحث في
تاريخ النوع الإنساني هي بداية تلاشي الفاصل الأخلاقي بين الإنساني و الحيواني في
فهم البشر لأنفسهم. وهو بالنسبة لموضوعنا بداية تلاشي الفاصل الميتافيزيقي
التقليدي بين "الوحدة" العقلية للإنسان، أي نفسه، و بين
"الكثرة" المادية للإنسان، أي "جسمه". هل من الصدفة أنّ القرن
التاسع عشر هو في نفس الوقت لحظة اكتشاف "الجسد"، بيولوجيا و أخلاقيا في
آن، بقدر ما هو لحظة انسحاب كلّ تقاليد الأدلّة على خلود "النفس" ؟ و ليس
أفضل من نيتشه مؤرّخا جذريا لهذا التحوّل الخطير في
جوهر الإنساني. لأوّل مرة أصبح البشر يتمثّلون أنفسهم بوصفهم رهط "آخر الزمان" (les tard venus كما تقول الفقرة 9 من كتاب الفجر)؛ و حسب نيتشه صار محكوما على "الإنسانية
الحالية" أن تتمثّل نفسها منذ داروين بين أصل (يعود بها إلى القردة) و بين
مصير (يقودها إلى نمط "الإنسان الأخير"). إنّ "الشعور الجديد"
للإنسانية هو هذا: " أنّنا زائلون بلا رجعة nous
sommes définitivement éphémères (نفسه،
الفقرة 108). و بالرغم من أنّ تشبيه البشر بالقردة ليس موضوعة ثقافية جديدة، فنحن
لا نستطيع أن نقيس حقّا درجة الصدمة الأخلاقية التي طبعت نظرة البشر المعاصرين إلى
أنفسهم منذ داروين. و إنّ نيتشه الذي كذّب نظرية التطوّر من الناحية
العلمية (الفقرات 322 ـ 324 من إرادة القوّة) هو أكثر من استخرج كلّ النتائج
الأساسية للحدث الميتافيزيقي الذي شكّله إعادة زجّ البشر في حظيرة النوع الحيواني.
لقد حدث أمر طريف منذ نيتشه: إنّه الكلام عن الإنسان في صيغة
"الأنماط البشرية" (les types humains). لقد سحب نيتشه كلّ إجماع بديهي على
"ماهية" الإنسانيّ. فقد انفجر مفهوم الإنسان بلا رجعة. و صار يتعلّق في كلّ مرة بـ"صنف
البشر" (le type d’homme) الذي أمامنا. و من الطريف أن نعرف
أنّ نيتشه لا يعترض على "تطوّرية" داروين إلاّ لأنّها تغالي في تقدير تأثير "الظروف
الخارجية" في "تدجين" ( domestification) الحيوان الإنساني و "الارتقاء"
بالنوع ، و الحال أنّ "الإنسان من حيث هو نوع ليس في تقدّم. و بالرغم من
إمكانية تحقيق أصناف عليا، فهي لا تبقى. إنّ مستوى النوع لا يرتفع" (نفسه،
الفقرة 323) بل هو في الواقع يتغذّى من نزعة "الانحطاط" الحيوي للكائنات
الضعيفة التي هي الوحيدة "بكثرتها" التي تسمح بنموّ النوع (الفقرة: 224
من إنسانيّ مفرط في إنسانيته). و لذلك فإنّ مصطلح "صنف أعلى" (type supérieur) من البشر لا تعني سوى "أكثر
تعقيدا و أكثر ثراء" (الفقرة: 323 من إرادة القوّة) بالمقارنة مع صنف بشري
ينتمي إلى حقبة مختلفة. من هنا ينبغي أن نكفّ عن البحث في "ماهية"
الإنسان "الواحد" بإطلاق: فإنّ "الخطيئة الأصلية للفلاسفة"
حسب نيتشه هو أنّهم ينظّرون إلى
"الإنسان" و كأنّه "حقيقة أبدية" (aeterna
veritas) و
الحال أنّهم "يتحدثون عن الإنسان الحالي" الذي لا يتعدّى عمره
"أربعة آلاف سنة"؛ و هكذا فإنّ " كلّ ما يقوله الفيلسوف عن الإنسان
ليس في عمقه شيئا آخر سوى شهادة على الإنسان الذي يوجد في فضاء زمني محدّد" (الفقرة:
2، إنساني ). ذلك يعني أنّ النوع الإنساني ليس برنامجا مغلقا لأنفسنا. نحن لا نولد
"إنسانيين"، بل نصبح كذلك ضمن تاريخ حيوي ما. و لذلك علينا أن ننظر بعين
الاحتراس من انخراط الإنسانية منذ خمسة قرون في "تاريخ واحد". إنّ الأمر المنهجي الجديد: لنؤرّخ للنوع
البشري من جديد دون أيّ ضبط مسبق لماهيته. ـ يمكن اعتبار جملة الكتابات الإتنوغرافية
و الإتنولوجية و الأنثروبولوجية للقرن العشرين برنامجا واسعا للمساهمة في إعادة
تاريخ النوع البشري بدء من أشكال الحياة البدائية إلى الحضارة الصناعية. و إنّ
فرضية باحث مثل لفي
برول (Levy-Bruhl) حول
وجود "ذهنية بدائية قبل ـ منطقية" من شأنها أن تعطي لكلّ اعتراضات القرن
التاسع عشر على التعريف التقليدي للإنسان بوصفه "حيوانا عاقلا" إطارا
مناسبا للصلاحية. و صار علينا أن نسأل: هل ثمّة تماهٍ بين "العقلي" و "الأنثروبولوجي"
في فهمنا للإنسانيّ ؟ ربمّا ليس عقل الإنسان غير طريقة في تأويل نمط حياته. و بدلا
من "حيوان عاقل" علينا أن ندشّن جيلا جديدا من تعريفات هذا الصنف
المتميّز من الحيوانات. و يمكننا أن نقترح الانطلاق من تعريفين يكمّل أحدهما
الآخر: تعريف شارل
تايلور للإنسان
بأنّه " حيوان مؤوّل لذاته (self interpreting animal" و تعريف ديفيدس : "حيوان مؤوّل لغيره (other
interpreting animal). ما
ينبغي أن نحتفظ به من هذا النوع من التعريفات هو أمر واحد: اللغة. لقد تمّ منعرج
حاسم في فهم المعاصرين لدلالة "الإنسانيّ": إنّ "وحدة" النوع
البشري مثل "كثرة" أعضائه التي لا تحصى هما واقعتان لغويتان بشكل جذري.
و منذ دي
سوسور صار
"الكلام" نموذجا لتخريج كلّ دلالات النشاط البشري، فرديّا كان أم
جماعيا. إنّ وحدة الإنساني التي كان يتمّ تأمينها من خلال مقولات مطلقة مثل
"العقل" و "الماهية" و "الجوهر" و "الذات"..
الخ، قد كانت مؤسّسة في الواقع على الإقرار بوجود ضرب من "المدلول
المتعالي" (un signifié transcendantal) الذي ينبغي أن ننطلق منه في معرفة
أنفسنا كما في معرفة الإنسانية. بعد داروين و نيتشه و فرويد صار هذا المدلول المتعالي لأنفسنا
ادّعاء لغويا لا غير. لقد تحوّل الإنسان من "مفهوم" ثابت (يشير إلى
مضمون أنطولوجي علينا استنباطه من مبدأ أوّل) إلى "علامة" (signe) اعتباطية
(داخل نسيج بنيوي متعدّد المداخل علينا تأويله). و بعبارة حادّة، ينبّهنا ليوتار إلى الاحتراس من مفهوم الإنسان كما
نحترس من "الحكم المسبق الذي رسّخته قرون من النزعة الإنسانية و العلوم
الإنسانية: بأنّ هناك الـ’’إنسان’’ "( Le
Différend, 1983,11).
فما هو إنساني هو دوما نتيجة معقدّة للعب لغوية لا يسيطر أحد على معناها
"الكلّي". إنّ الفلسفة بالمعنى التقني لم تعد تملك الجواب المناسب عن
سؤالها الكبير "ما هو الإنسان؟"، وهي مضطرّة هنا للإنصات بشكل دقيق لما
صار يقوله الأنثروبولوجي عن معنى الإنساني. و إنّ لنا في لفي ـ شتروس آية ناصعة عن خوض هذه التجربة الضخمة
و الطريفة في مواصلة الفلسفة بطرق أخرى. إنّ الغرض البعيد لأبحاث لفي ـ شتروس هو تقديم معنى جديد للإنساني. وهو
يقوم بالأساس على التحرّر من تراث "الإنسانوية" الذي صار يمنعنا من فهم
الثقافات الأخرى. وهو يردّ الإنسانوية إلى أمرين (يعود بهما إلى الخطّ اليهودي ـ المسيحي
من جهة، و إلى الديكارتية التي هي نتيجة له، من جهة أخرى):
أ ـ المنزلة الاستثنائية للإنسان في
الطبيعة، حيث تمّ عزله عن بقيّة المخلوقات؛
ب ـ وحدة الجنس البشري، ككيان أخلاقي
مجرّد.
حسب لفي ـ شتروس ينبغي البدء بإعادة تعريف الإنسان
أصلا: فبدلا من اعتباره "كائنا أخلاقيا" (être
moral)
علينا أن نعيد له طابعه الأظهر لنا، وهو أنّه "كائن حيّ" لا غير (Le Regard éloigné, p. 374). إنّ القصد هو تخليص الإنسان
"الغربي" من فهمه التقليدي لنفسه، و الانخراط في استكشاف "
أنثروبولوجي" لجملة الأعضاء المكوّنين للإنسانية الحالية باعتبارهم في كلّ
ركن من الأرض قد خاضوا التجربة الإنسانية نفسها. يقول: " إنّ موقفنا مردّه هو
القول بأنّ البشر قد قاموا دوما و في كلّ مكان بالمهمّة نفسها إزاء الموضوع نفسه و
أنّ ما اختلفوا فيه طيلة صيرورتهم هي الوسائل فحسب" (Tristes
Topiques, p. 354).
و على ذلك فإنّ القصد ليس تعيين الخصائص الكونية لأجسامهم (فهذا غرض البيولوجي) بل
تعقّب "القرابة البنيوية بين الحضارات" التي طوّر فيها البشر أنماط
عيشهم و الطرق المتباينة للتعبير عن تجاربهم. و لذلك ينبّهنا لفي ـ شتروس إلى استحالة وجود "حضارة
عالمية" للنوع البشري، بل فقط ثقافات "متنوّعة"، لا حلّ لها سوى أن
تؤمّن بضرورة "تعايش الثقافات التي تسمح فيما بينها بالحدّ الأقصى من التنوّع
بل توجد معا بفضل هذا التعايش"(Anthropologie
structurale deux, p. 417).
و الرّهان الخفيّ هو كيف التغلّب على الوضعية التي كانت تحكم نظرة البدائي إلى
"الإنساني": يقول لفي ـ شتروس:
" إنّ المجتمعات البشرية تضع حدود (frontières) الإنسانية داخل حدود (limites)
المجموعة القبلية، التي لا ترى خارجها سوى غرباء، بمعنى أناسا ما تحت البشر (des sous-hommes) و سخين و أفظاظا، إن لم يكونوا غير بشريين
(des non-humains): حيوانات خطرة أو أشباحا."(La pensée Sauvage, p. 201). إنّ الحلّ حسب لفي شتروس هو القبول بالتعدّد على أنّه شرط
التعاون بين البشر. و لذلك هو يجرؤ في مقالة العرق و الثقافة على اتّخاذ موقف رافض
للتواصل بين الثقافات. فهو يعتبر الكوننة خطرا على ثراء النوع الإنساني. فهو لا
يقبل بالخصائص الكونية الموحّدة للبشر إلاّ أصولهم البيولوجية. و على هذا الأساس
هو يدعونا إلى إعادة الإنسان إلى الطبيعة و تخليصه من وهم "الذاتية" ـ
"الطفل المدلّل" للفلاسفة ـ الذي صار عائقا أمام فهمنا لدلالة
الإنساني (L’Homme nu, p. 614-615). إذ هل تكون هناك "ذات"
عارفة من دون أن تحوّل الإنسان "الآخر" إلى "موضوع" تبسط عليه
سيادتها ؟ و لذلك هو يعتبر أنّ لحظة النضج للعلم الغربي هي حين فهم الإنسان الغربي
أنّه لن يبدأ في فهم نفسه طالما أنّ هناك "عرقا واحدا" على الأرض ما
يزال يُعامل كـ "موضوع" (Anthropologie Structurale deux , p. 44).
خاتمة: الجينوم الإنساني و مشروع
اليوجينيا: تحسين النوع أم استنساخ الأفراد ؟
علينا الاعتراف بأنّ
النظرة البنيوية للإنساني قد حرّرته نهائيا من هيمنة المفهوم الميتافيزيقي
للإنسان. لكنّ النتيجة الخطرة التي انتُبه لها سريعا هي تحويل البشر إلى
"حوامل" لبُنَى تحكمهم و لا يرونها. و هكذا فثمن التحرّر من ثقل
"الماهية الموّحدة" للبشر قد حوّل البشر إلى "كثرة" بنيوية
بلا مشروع. وهي صعوبة أساسية حاول مفكّرو ما بعد الحداثة التغلّب عليها بأشكال
متنوّعة. و أهمّ محاور يمكننا الاستفادة منه هو الفلسفة البيو ـ إتيقية و النزعات
الإيكولوجية. و الفرضية هي: إنّ التشتّت الذي أصاب ماهية الإنسان و الذي أدّى إلى
أطروحة "موت الإنسان" لا يمكن الخروج منه إلاّ بإعادة
"الوحدة" إلى العنصر الإنساني. وهو أمر أصبح ممكنا بعد اهتداء علماء
الوراثة الجينية آخر الأمر في تسعينات القرن الماضي إلى خارطة الجينات البشرية أو
"الجينوم". مرّة أخرى، بعد داروين، تفرض البيولوجيا تغييرا في دلالة
الإنساني، و دائما طبقا لنفس التراوح المتوتّر بين وحدة النوع و كثرة الأفراد.
فبعد اكتشاف نظام "الدنا" (A.D.N.) عام 1953 (أنّ الجينات عبارة لولب
مزدوج من جديلتين من الحمض النووي الديوكسي ريبوزي،
تجري فيه الجديلتان في توازٍ مضادّ و تتّصلان على مسافات دورية بسلالم كلّ يتألّف
من واحد من زوجين من القواعد: الأدنين و الثايمين أو السيتوزين و الجوانين. را:
الشفرة الوراثية للإنسان، ص:27)، أطلق العلماء منذ 1986 مشروع بحث يهدف إلى معرفة
التتابع الكامل "للدنا" في الجينوم البشري كلّه، و اعتبروا إنجازه من
حجم البرنامج الذي أدّى إلى قهر الفضاء (نفسه، ص: 32). فجأة تسقط كلّ المفاهيم
التي أقام عليها البشر هوّيتهم. لقد صارت لهم هوّية جديدة: إنّها الجينوم. و للتوِّ
عادت مسألة "وحدة" النوع الإنساني إلى الظهور، و لكن مع ميزة ليست
هيّنة: أنّ النوع الذي نتحدّث عنه هو نوع حيواني بلا رجعة. و لم يعد قادرا على
تبرير أيّ شرف أخلاقي على بقيّة أعضاء العائلة الحيوانية. إنّ حيوانيته، مثل هوّيته،
شفرة وراثية لا غير. مثله مثل أي حيوان آخر. هنا أصبح للكثرة معنى جديد تماما: إنّ الكثرة لم تعد مشكلا متعلّقا بالمادّة
أو باللامعقول أو بالمتغيّر، بل هي طاقة تكاثر مفتوحة تحملها الجينات في بنيتها.
لكنّ الصورة ليست ناصعة إلى هذا الحدّ: إذ منذ القرن التاسع عشر أخذت تظهر أيضا
حركة تحمل اسم "اليوجينيا" (eugénisme أي تحسين النوع البشري)، يبدو أنّها
نشأت على يدي فرانسيس
جالتون، ابن
خالة تشارلز
داروين، و
تطوّرت بسرعة مذهلة طيلة القرن العشرين، وهي ليست دون علاقة مع الاستعمال النازي
للخبرة الوراثية في التطهير العرقي الذي قام به. و هنا يقع مشروع الجينوم البشري
تحت خطر ساحق: صحيح أنّ بصمة "الدنا "هي "محقّق الهوّية
الأخير" كما صار يُقال، و صحيح أنّ الإنجاب قد صار "خيارا تناسليا"
شخصيا و مراقبا و محسوبا، بحيث يفتح المجال أمام "أخلاقيات" جديدة
للنوع، لكنّ وقوع هذه الشفرة بين أيدي قذرة سوف يؤدّي ليس فقط إلى
"استنساخ" البشر وفقا لخطّة مخالفة تماما للمثل الأخلاقية التي بنت
عليها الإنسانية الحالية مغامرتها وفهمها لنفسها. بل إلى التحكّم الوراثي في النسل
الموجود وتحويله إلى مخبر ضخم للعبث بوحدة النوع أو للتجريب غير الأخلاقي على
الكثرة المخبرية التي سيستنسخها. و السؤال الذي يلاحق دعاة اليوجينيا: هو ذاك الذي
وضعه هابرماس عنوانا لأحد كتبه الأخيرة ما هو
"مستقبل
الطبيعة الإنسانية"
عندئذ ؟ ـ صحيح أنّ هابرماس يدعو إلى "يوجينيا
ليبرالية"؛ و لكن ما معنى "ليبرالي" عندئذ ؟
----------------------------------
[1] ـ دانييل كيقلس، الشفرة الوراثية للإنسان.(1992).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق