إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

السبت، 14 نوفمبر 2009

السياسة في فلسفة باروخ سبينوزا

محمد سعد *
تقديم:
يُمكن اعتماد فرضيتين أوّليتين في إطار هذا المدخل الإشكالي لاقتحام البناء الإبستيمولوجي لفلسفة سبينوزا التي تشكّل بامتياز أهمّ المنظومات الفلسفية المتكاملة داخل تاريخ الفلسفة:
1 ـ  الفرضية الأولى:
 إذا كان من الممكن داخل الأنتربولوجيا السياسية مع هوبز أو روسو أو غيرهما، مقاربة الإشكال السياسي في استقلاليته و انفصاله عن إشكالات أخرى، فإنّنا مع سبينوزا نكون أمام فلسفة نسقيّة متكاملة جسّدت بالفعل أرقى مراتب التناسق في تاريخ الفلسفة، أو لنقل إنّ النسق الفلسفي اكتملت كلّ عناوينه و سماته مع سبينوزا، و بالتالي ليس من الممكن أن نتناول الإشكال السياسي بمعزل عن 
السؤال الإبستيمولوجي و الأنطولوجي و الإتيقي. سنلاحظ أنّ السؤال ما الحرّية يحيلنا على السؤال ما الضّرورة ؟ و ما الضّرورة ؟ تحيلنا على الأسئلة: ما الطبيعة ؟ و ما الله ؟ و ما الدولة ؟ و ما الديمقراطية ؟. إنّنا أمام فيلسوف متمكّن بشكل أصيل من قواعد المنهج البرهاني الهندسي الذي اعتمد عليه في كلّ كتاباته باستثناء "رسالة في اللاهوت و السياسة". غير أنّ فلسفة سبينوزا نظرا لشحنتها القويّة كانت فلسفة سابقة لعصرها و غير متوافقة معه، ستشكّل منطلقا للقراءة و التأويل و الفهم حتّى القرن 19 عشر. لقد ظلّ سبينوزا ضحيّة نسيان مُتعمَّد في تاريخ الفلسفة من جرّاء الجرأة المفرطة لكتاب "رسالة في اللاهوت والسياسة" في عصره.
2 ـ الفرضية الثانية:
 الرّهان السياسي: لا شكّ أنّ فلسفة سبينوزا كانت تتوخّى بشكل مباشر اقتحام الإشكال السياسي القائم آنذاك و الذي يفرض نفسه بإلحاح على الفكر الفلسفي الحديث: كيف نحقّق دولة العدالة السياسية ؟ أو الدولة الديمقراطية بشكل عام ؟ بمعنى تأصيل تقاليد حكم جديدة. غير أنّ المنهج الذي اعتمده سبينوزا " المنهج الهندسي " في عرض الأفكار إلى جانب اعتماده على المدخل الأنطولوجي و الإتيقي و الإبستيمولوجي، إضافة إلى تعمّد عدم الإشارة إلى اسمه عند نشر مؤلّفاته كلّها عوامل توحي للذهن بالتقليل من شأن الهمّ السياسي أو المشروع السياسي في فلسفة سبينوزا. غير أنّ التدقيق في حيثيّات هذه الفلسفة من جهة و مقارنتها بالنظريات السياسية التي سبقت فكرَ سبينوزا أو عاصرته، سواء الميكيافيلية أو الهوبزية تؤكّد أنّ المشروع الفلسفي لسبينوزا كان ذو غاية سياسية بالدرجة الأولى: كيف نؤصّل لنمط الحكم على أسس كونيّة ـ طبيعية ـ عقلية ـ لا تاريخية ؟ إنّ المفاهيم التي اعتمدها سبينوزا في نسقه الفلسفي ليست بجديدة على مستوى المبحث الإبستمولوجي و لا أخلاقي و لا حتّى السياسي: فالمفاهيم السياسية على سبيل المثال التي تهمّنا هنا ليست جديدة:  مفهوم الحقّ، حقّ الطبيعة، الحرّية، القانون ...هي مفاهيم حضرت في فلسفة هوبز، و لم يقدّم سبينوزا مفاهيم جديدة، إذن ما هي القيمة المضافة التي حملتها فلسفة سبينوزا إذن بالمقارنة مع سابقاتها و لاحقاتها ؟
سنحددّ قيمتين مضافتين هنا:
ـ القيمة المضافة الأولى:
 التي يجب أن تصاحب تفكيرنا في فلسفة سبينوزا السياسية، أي التفكير في الدولة و المواطن و العلاقات بين مكوّنات الجسم السياسي، لا يأخذ معناه الحقيقي و الكامل إلاّ داخل النسق الفلسفي السبينوزي. حيث نلاحظ أنّنا داخل دائرة مُحكمة بمهارة عالية ينخرط فيها الإبستيولوجي بالأخلاقي و بالأنطولوجي و بالسياسي. بل إنّ كلّ هذه المباحث تخدم المبحث السياسي. فلسفة سبينوزا تُرّسخ في أذهاننا أنّ الموقف السياسي لا ينفصل عن الموقف المعرفي من الطبيعة، من الله و من الأخلاق. كان هاجس سبينوزا أوّلا التأصيل النسقي للفلسفة السياسية ليستجيب بمهارة عالية للشرط التقليدي للمعرفة الفلسفية الذي هو شرط النسقية، التي ستطبع فلسفة هيجل فيما بعد بشكل واضح، لكنّ سبينوزا هو أوّل من مارس النسقيّة بشكل متكامل في تاريخ الفلسفة.
القيمة المضافة الثانية:
 إنّ المفاهيم السياسية التي سبق ذكرها حتّى و إن كانت سابقة على فلسفة سبينوزا إلاّ أنّ المجهود الأكبر لسبينوزا تركّز على تأصيلها أنطولوجيا، مفهوم حقّ الطبيعة و مفهوم الدولة برزت كمفاهيم أنتربولوجية أو سياسية في فلسفة هوبز، لكن سبينوزا سيعمّق هذه المفاهيم ليربطها بخلفية ميتافزيقية. ذات أسس أنطولوجية ترتبط بتصوّر كوسمولوجي ( الله ـ الطبيعة ـ الطبيعة الطابعة و الطبيعة المطبوعة ....) ثمّ بوضع الإنسان داخل هذه الكوسمولوجيا. سيقدّم لنا سبينوزا أنطولوجيا مرحة بعيدة عن كلّ نزعة قدرية أو سوداوية بالمقارنة مع الأنطولوجيات اللاحقة (شوبنهاور ـ نتشه – هايدغر) إذن القيمة المضافة الثانية لفلسفة سبينوزا هي أنّها فلسفة تنقلنا من مستوى التفكير السياسي السطحي إلى مستوى الأنطولوجيا السياسية عبر مفاهيم وأفكار ذات دلالة مكثفة:
ـ الدولة ككمال للحقّ الطبيعي.
ـ الحقّ الطبيعي للدولة.
ـ الدولة ككمال للحرية الطبيعية.
ـ المواطن كاكتمال للوضع الإنساني في حالة الطبيعة.
ـ القانون كامتداد للنظام الطبيعي.
ـ العقل الإنساني كتجسيد أخلاقي و سياسي للعقل الطبيعي.
هذه الصيغ التي قدّم بها سبينوزا المفاهيم السياسية ترسّخ في أذهاننا أنّ الهاجس الأساسي الذي حكم تفكير سبينوزا في الفلسفة السياسية هو الخلفية الميتافيزيقية و الأنطولوجية بالدرجة الأولى، لتعميق النظر في هذه النقطة يمكن العودة إلى المقال الذي نشره الأستاذ "عبد الحق منصف" في مجلّة:" فلسفة" (العدد 11 ص25) بعد هذا المدخل تكون لائحة الأسئلة التي ستُوجّه عرضنا لأهمّ الخطوط السياسية لفلسفة سبينوزا عبر مجموعتين من الأسئلة:
المجموعة الأولى:
ما هي الدولة ؟ ( البحث في الماهية الميتافيزيقية للدولة). ما هي مهامّ الدولة ؟ ( البحث في وظيفة الدولة و نهايتها). ما هي الحريّة ؟ ( البحث في طبيعة الحرية الإنسانية بين الحرّية الطبيعية والحرّية الاجتماعية ( الأخلاقية ) تمّ تصنيف الحريّات حسب امتدادها ( الحريّة الصغرى ـ المتوسّطة ـ الحرّية الكبرى أو المطلقة). ما هو القانون ؟ البحث في علاقة القانون السياسي بالقانون الطبيعي، ما هي مشروعية تشريع القانون ؟ على أساس أي معيار ؟ هل هو معيار طبيعي أم تعاقدي أم على معيار آخر ؟. هذه الأسئلة تقتضي منّا و لو بشكل عرضي أن نقتحم أسئلة أخرى مرتبطة بالله: ما الله؟ ما هي صفاته و ما هي حدود قدرته ؟. ما الطبيعة ؟ كيف تجسّد الطبيعة الله ؟ كيف تتماشى الطبيعة مع الله ؟. ما الأخلاق ؟ هل هناك قيم أخلاقية موضوعية أم أن الأخلاق هي حكم تقدير عقلي ذاتي ؟.
المجموعة الثانية:
كيف نلتمس النسقية داخل التصوّر السياسي في فلسفة سبينوزا ؟ كيف نحقّق مصالحة فلسفية بين مقتضيات نظريّة " حقّ الطبيعة " من جهة و " الحريّة" الأخلاقية و السياسية ؟. كيف يمكن أن نؤصّل للسياسة داخل الميتافريقيا دون أن تفقد السياسة طابعها السياسي (المدني) و دون أن يفقد النسق الإتيقي من توازنه لفائدة الأنطولوجيا ؟. كيف نحقّق التوازن بين "الحقّ الطبيعي للدولة" و "الحقّ الطبيعي البشري"، بين " القوّة " و " الحرية " ؟. كيف نحقّق التوازن داخل النسق السياسي لسبينوزا ؟. كيف أفلَتَ سبينوزا من فخّ السّقوط في التأصيل الفلسفي للاستبداد الذي وقع فيه هوبز، و ميكيافيل، و قديما إفلاطون، علما بأنّ سبينوزا اعتمد نفس المفاهيم التي حضرت في فلسفة هوبز، و بنفس المعاني تقريبا، و مع ذلك استطاع سبينوزا أن يخلق المصالحة بين القوّة و الحرّية. كيف تتحقّق هذه المصالحة إذن؟.
I  ـ الحقّ الطبيعي:
الحقّ الطبيعي في فلسفة سبينوزا هو القانون الطبيعي العام، و يظهر هنا الفرق بين سبينوزا و فلسفة هوبز. إذا كان هوبز يصوّر حالة الحقّ الطبيعي كوضع يغيب فيه القانون و يخضع الفرد لنزوعات الغريزة الشرّيرة تحوّله إلى ذئب لأخيه الإنسان. نجد سبينوزا على العكس من ذلك يعتبر الحقّ الطبيعي مَبنيّا على قانون أساسي تخضع له كلّ الكائنات و هو مبدأ الحفاظ على الذات. يقول سبينوزا " أعني بالحقّ الطبيعي نفس قوانين الطبيعة ذاتها أو قواعدها التي يحدث كلّ شيء وفقا لها، أي بعبارة أخرى قوّة الطبيعة ذاتها.... و على ذلك فكلّ ما يفعله الإنسان وفقا لقوانين طبيعية يفعل بحقّ طبيعي كامل، و يكون له من الحقّ على الطبيعة بقدر ما له من القوّة "1. و مادام أنّ الحقّ الطبيعي وضع مشروع تماما و لا يحمل أيّ قيمة سلبية لأنّه ينسجم مع قانون الطبيعة ككلّ القائم على مبدأ الضرورة التي تخضع لها كلّ الكائنات، نلاحظ أنّ سبينوزا يجعل جسر تواصل بين حالة الطبيعة و الحالة المدنية التي يمثّلها ميلاد الدولة كامتداد طبيعي لحالة الطبيعة. إنّ الاعتماد المفرط على القوّة سيؤدّي إلى إفلاس الحالة الطبيعية و الاحتكام التدريجي إلى العقل الذي يقود الناس إلى نوع من التعاقد و العيش وفق قانون: " إن الناس فطروا على ألاّ يستطيعوا العيش دون قانون عام" 2. يخرج الحقّ الطبيعي مع سبينوزا من المقاربة الأنتربولوجية التي كرّسها هوبز إلى أفق أنطولوجي إنساني ( حالة من التصرّف و الوعي الإنساني المنسجم مع الوجود الكوني ككلّ). تأثّر تصوّر سبينوزا إلى حدّ كبير بمفاهيم الحقّ الطبيعي و التعاقد الاجتماعي كما سادت في عصره مع هوبز وغرويتوس و لم يكن بالإمكان الخروج عن هذا التقليد النظري الذي أصبح قاعدة عملية. غير أنّ سبينوزا حاول وضع هذه المفاهيم في إطار نسق فلسفي متكامل يجمع بين الأخلاقي، السياسي و الأنطولوجي.
 II  المجتمع المدني و ميلاد الدولة:
تنتهي النظرية الأخلاقية عند سبينوزا خصوصا في كتابة Ethique إلى التشديد على أهميّة الحياة الاجتماعية و تمجيدها من حيث أنّها هي التي تحقّق كمال الشخصية الأخلاقية الفردية و تضمن الحرّية الحقيقية للإنسان، إذ ليس من الممكن الحديث عن أخلاق أو عن حريّة أو عن اكتمال إنساني داخل حالة الطبيعة. إنّ هذه الفضائل التي يتميّز بها الإنسان عن باقي المخلوقات تجد تجسيدها في الحياة الاجتماعية. المجتمع المدني هو امتداد طبيعي لحالة الطبيعة، و ليس تجاوزا لها أو حالة تتعارض معها، كما قد يظهر ذلك مع هوبز أو غيره. فالحالة المدنية ـ الاجتماعية ستتوّلد من رحم مقتضيات حالة الحقّ الطبيعي. لكون أنّ الاعتماد المفرط على القوّة و اصطدام القوى في بينها يعمّق الخوف في النفوس. إنّ الحقّ الطبيعي يُحتّم على كلّ إنسان أن يعيش في أمان و أن يحفظ استمرارية حياته. و بما أنّ الجميع اقتنع أنّ حقّ القوّة سيؤدّي إلى إفلاس الحياة الفردية و الجماعية. فكان من الضروري أن يهتدي البشر إلى استخدام العقل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
الثابت الثاني الذي تقوم عليه الحياة المدنية في نظر سبينوزا هو تقسيم العمل " إنّ تكوين المجتمع لا يفيد في الإغراض الدفاعية فحسب و إنّما يفيد أيضا في أمور عديدة، بل إنّ له ضرورة مطلقة من حيث أنّه يتيح تقسيم العمل و لو لم يقدّم الناس مساعدة متبادلة بعضهم لبعض لما توفّرت لأحد القدرة أو الوقت اللازم لتزويد نفسه بما يلزم لعيشه و بقائه، و أكرّر القول إنّ القوّة والوقت يُقصّران إذا ما تعيّن على كلّ شخص أن يحرث و يبذر و يحصد و يطمع... ناهيك بالعلوم و الفنون التي لها بدورها ضرورة مطلقة لكمال الطبيعة البشرية و سعادتها و إنّا لنرى أنّ حياة الناس الذين يعيشون في حالة الهمجيّة الجهولة هي حياة بائسة أشبه بحياة الحيوان" 3. إنّ الطبيعة البشرية في نظر سبينوزا تتميّز، من جهة، بالنقص و القصور لعجز الإنسان على الاكتفاء بذاته، فهو كائن اجتماعي بطبيعته. و من جهة ثانية، إنّ البشر خاضعون لسيطرة الانفعالات التي تؤدّي بهم إلى الحقد و الكراهية و الصراع من منطلق السعي الفردي لحفظ الحياة ." إنّ الوسيلة الوحيدة لنجاتهم من الأخطار المحيطة بهم من كلّ جانب هي توحيد قواهم" 4. ما تجدر الإشارة إليه هنا أنّ سبينوزا على عكس هوبز لا يتّخذ موقفا سلبيا من الطبيعة البشرية، إذا كان هوبز يقول: " الإنسان ذئب للإنسان" فإنّ سبينوزا يقول " إنّ الإنسان إله لأخيه الإنسان" في الرسالة رقم 30 إلى أولدنبرج يقول سبينوزا " أمّا أنا فلا تثير في هذه القلائل ضحكا و لا بكاء و إنّما تدفعني إلى التفلسف و إمعان النظر في طبيعة البشر إذ لست أعتقد أنّ من حقّي أن أسخر من الطبيعة أو أن أشكو منها و ذلك كلّما فكّرت في أنّ الناس شأنهم شأن سائر الموجودات ليسوا إلاّ جزءا من الطبيعة..." إنّ ميلاد المجتمع المدني يشكّل خطوة مهمّة على درب العيش وفق منطق العقل. غير أنّ الانفعالات تسيطر على الجزء الأكبر رغبات الناس فالعيش داخل المجتمع هو الإطار الذي يكفل تربية الناس و ترسيخ قواعد العقل في سلوكهم و شخصيتهم. إذا كان العقل في حالة الحقّ الطبيعي يصبح موجّها من طرف الغرائز و الانفعالات تبعا لمبدأ المحافظة على الحياة (حفظ الذات) فإنّ العقل في الحالة المدنية يصبح مهيّأ ليدرك أنّ حفظ الذات لا يتمّ إلاّ داخل حفظ جماعي، أي إلاّ تبعا للحبّ و المودّة مع الجار. يتعلّم الإنسان أن يكون عضوا داخل الجماعة و مصلحته لا تتحقّق إلاّ في إطار تضامن جماعي. يقول سبينوزا: " و الآن سأعرض الشرط الذي يمكن أن يتكوّن به مجتمع إنساني دون أي تعارض مع الحقّ الطبيعي، و يمكن به احترام كلّ عقد احتراما تاما. هذا الشرط هو أنّه يجب على كلّ فرد أن يفوّض إلى المجتمع كلّ ما له من قدرة. بحيث يكون لهذا المجتمع الحقّ الطبيعي المطلق على كلّ شيء، أي السلطة المطلقة في إعطاء الأوامر التي يتعيّن على كلّ فرد أن يطيعها إمّا بمحض اختياره و إمّا خوفا من العقاب الشديد. و يسمّى نظام المجتمع الذي يتحقّق على هذا النحو بالديمقراطية 5. نستنتج من هذا القول أنّ سبينوزا لا يقيم أي فصل بين المجتمع المدني و الدولة كجسم سياسي، الدولة هي المجتمع و المجتمع هو الدولة. بمعنى أنّ الدولة هي امتداد لجسم اجتماعي و ماهية هذه الدولة هي تفويض جماعي بناء على تعاقد بموجبه يتنازل الأفراد عن حقوقهم في اتّخاذ القرار إلى الحاكم سواء كان فردا أو هيئة. إنّ الحياة الاجتماعية بما هي امتداد للحياة الأخلاقية لا تتحقّق إلاّ داخل الدولة كإطار يتحقّق فيه التضامن و يسود فيه الأمن و الفضيلة. فلا بدّ أن تتجّسد كلّ هذه الفضائل في إطار قوانين ترسم قواعد العقل و تجّسدها، هنا لا بدّ من الإشارة إلى تطابق مفهومي العقل و القانون أو على الأقلّ توحّدهما. " أن لو كان العقل وحده هو الذي يسيطر على أفعال الناس لما احتاجو إلى قانون. 6. و من هنا احتاج كلّ مجتمع إلى حكومة و قوانين لردع أفراده. و هكذا ينشأ التنظيم السياسي الذي هو أعلى أنواع التنظيم  :"  إذ لو أزيلت الحكومة لما بقي للإنسان من خير" و على كلّ ذلك فالمصلحة العليا هي القانون الأعلى الذي ينبغي أن يخضع له كلّ قانون آخر، سواء كان إلهيا أو بشريا" 7. إنّ القانون الذي يفرض على الإنسان تمجيد المصلحة العليا أي (المصلحة العامة) التي يمثّلها القانون نفسه، و ترعاها الدولة و الحكومة، و البرهان على هذا عند سبينوزا هو لو احتكم كلّ واحد إلى غرائزه و مصلحته الفردية ستنهار هذه المصلحة العامة التي يجد في ظلّها كل واحد أمنه و سعادته. التنازل، إذن، عن الحقوق الطبيعية الفردية ليس إرادة ذاتية خاضعة لاختيار الأفراد، بل ضرورة عقلية أو حتمية منطقية. الدولة على هذا الأساس ليست مجموع الارادات الفردية و ليست محصلة سلطات الفرد، بل هي كيان له سلطته المعنوية الخاصّة التي تطاع لذاتها. تتحوّل الدولة إلى كائن اجتماعي إلى جانب الأفراد، لها من الحقّ ما لهم، و ليست زائدة أو مضافة بالعرض إلى المجتمع بل هي المجتمع في حقيقته الفعلية. الدولة باعتبارها كيانا عموميا يمثّل كلّ المواطنين، و تدّبر شأن المجتمع و لها الحقّ الكامل في وضع القوانين و تأويلها إذا ما ظهر شكّ بشأنها و أيضا البثّ في مدى ملاءمة التشريعات للظروف، و الحاجة لتعديلها أو سنّ تشريعات جديدة، حقّ الدخول في الحرب حقّ السلم" حقّ المفاوضات"، كما يشمل هذا الحقّ الحكم على الأفعال الفردية و فحص المسؤوليات و إدانة المجرمين و البثّ في الخصومات و الدعاوى القانونية. الدولة التي يمنحها سبينوزا هذه الصلاحيات التي تتّخذ قيمة أخلاقية و أنطولوجية تتجّسد في واقع الأمر في شخصية الحاكم الذي يسنّ القوانين و يسهر على تطبيقها و يلزم الأفراد بالطاعة. هذه الطاعة عند سبينوزا ليست خضوعا و عبودية بل هي واجب أخلاقي و ضرورة عقلية. إلاّ أنّ سبينوزا يضع شروطا لها من خلال وضع شروط للحاكم، من بين هذه الشروط:
ـ الاسترشاد بالعقل و عدم الانقياد وراء الانفعالات و الغرائز، فكلّما احتكم الحاكم إلى العقل أدرك واجباته نحو حماية المصلحة العامة للأفراد و ضرورة خدمتها.
ـ لا بدّ أن يكون الحاكم مثله مثل باقي المواطنين خاضعا لنفس القوانين السائدة، فإن كان الحاكم فوق القانون يكون قد خرج عن الاتّفاق و هدّد المصلحة العليا و بالتالي أصبح من الواجب مقاومته. لا يهمّ إن كان هذا الحاكم فردا أو هيئة طالما كان هناك التزام بالعقل و احترام للقوانين، لكن يستحسن أن تكون هناك هيئة استشارية إلى جانب الحاكم حتّى تقوم تفكيره و قراراته، لا يمكن أن تكون هذه الهيئة مقرّرة لأنّه لا يجوز أن توجد قوى متطابقة في قوّتها و إرادتها، في الفصل" السابع من رسالة في اللاهوت و السياسة" لا يرى سبينوزا حرجا في أن يكون الحاكم " ملكا "، بشرط أن يكون إلى جانب الملك مجلس كبير منتحب من طرف الشعب". لذلك يمزج سبينوزا بين الملكية و الجمهورية، حتّى و إن ظلّ سبينوزا يفضّل النظام الجمهوري لأنّه يجّسد مبدأ حكم الشعب عن طريق ممثلّيه، لكن مَلكية ديمقراطية خير من استبداد مطلق.
III ـ وظائف الدولة و مسؤولياتها (مفهوم الحرّية / فصل الدين عن الدولة):
فيما يتعلّق بمسؤوليات الدولة و مهامّها لا بدّ أن نشير بشكل إجمالي أنّ سبينوزا يحدّد للدولة مسؤوليات كبرى تتعدّى ما هو سياسي لتشمل المستويات الأخلاقية والأنطولوجية. فبمجرّد ما يتنازل الأفراد عن بعض حقوقهم للدولة تصبح هذه الدولة هي المسؤولة عن مجال الأخلاق و المجتمع ككلّ، و إذا ما ظهر انحراف عام في سلوك الأفراد فمن الواجب أن تلام الدولة على ذلك لا الأفراد: " فمن المؤكّد أنّ الفتن و الحروب و كسر القوانين أو خرقها لا ينبغي أن تعزى إلى وجود الشرّ في الرعايا بقدر ما تعزى إلى سوء حالة نظام الحكم ذاته. ذلك لأنّ الناس لم يخلقوا صالحين لأن يكونوا مواطنين، و إنّما ينبغي أن يُجعلوا صالحين لذلك، و فضلا عن ذلك فإنّ انفعالات الناس الطبيعية واحدة في كلّ مكان، فإذا ما استشرى الفساد في مكان ما، و ازدادت الجرائم انتشارا في دولة دون الأخرى فلا بدّ أن الدولة الأولى لم تمض في عملية توحيد رعاياها كما ينبغي، و لم تضع قوانينها ببعد نظر كافّ، و بذلك تكون قد أخفقت في استخدام حقّها في ممارسة الحكم" 8. إنّ المسؤولية المباشرة للدولة على المستوى الاجتماعي و السياسي، هي ضمان أمن الأفراد و حرّيتهم: " فالهدف النهائي للحكم ليس السيطرة على الأفراد و قمعهم بالخوف و ليس فرض الطاعة عليهم، و إنّما هو بالعكس من ذلك تحرير كلّ شخص من الخوف حتّى يعيش في اطمئنان تامّ و بعبارة أخرى تأكيد حقّه الطبيعي في أن يعيش و يعمل دون أن يلحق غيره ضرر" 9. وحتّى يبعد سبينوزا كلّ احتمال لفهم موقفه على أنّه تنظيم و إثبات لمشروعية استبداد الدولة على حساب المواطن: يقول:" كلاّ ليس هدف الحكم تحويل الناس إلى بهائم أو ألاعيب و إنّما تمكينهم من تنمية عقولهم و أجسامهم في أمان، و من استخدم أذهانهم من دون قيد...  بل إنّ الهدف الحقيقي للحكم هو في واقع الأمر هو الحرّية"10.  إنّ قيام الدولة بكلّ مهامّها مرهون بقدرتها، فحقّ الدولة يقاس، بحقّ الأفراد في حالة الطبيعة، بقوّتها فالدولة لا بدّ أن تمتلك كلّ الوسائل القانونية أو غير ذلك (اللوجيستيكية) التي تمكنّها من القيام بمهامّها حتّى و لو تعلّق الأمر يفرض القانون بالعنف. كيف نوفّق بين الحقّ في استعمال الحقّ الطبيعي للدولة و الحرّية الفردية ؟ ما هو مفهوم الحرّية عند سبينوزا؟. يوضّح سبينوزا في الرسالة 58 لأودلينبرغ تصوّره للحرية، حيث يقول: يكون الشيء في نظري حرّا عندما يتحكّم شيء آخر في وجوده تبعا لقاعدة محدّدة". الحرّية من خلال هذا التصوّر لا تتعارض مع الضرورة، فالحرّية هي ضرورة باطنية و هذه الضرورة الباطنية هي قانون العقل الذي ينسجم بدوره مع الضرورة الطبيعية الشاملة. أمّا ما يعتقد الناس فيه إنّهم أحرارا فذلك يعود في واقع الأمر إلى جهلهم بالأسباب و الضرورات التي يخضعون لها. هذا المعنى العام للحرّية يمسّ مسألة الضرورة الكوسمولوجية ككلّ التي يعدّ الإنسان جزءا منها، و هذه الضروررة تجعل من تصوّر سبينوزا على قدر من الموضوعية التي تميّزت بها الفلسفات فيما بعده، و العلوم أيضا. إن كانت الدولة مطالبة بالسّهر على حرّية المواطنين، أو أنّ حرّيتهم لا تكتمل و لا تحقّق إلاّ داخل إطار الدولة، الذي يضمن لهم الأمن و يبعد عنهم شبح الخوف و التهديد، بفعل التعاقد و احترام القوانين فالحرّية الفردية ليست مطلقة و إنّما خاضعة لضرورة العقل الذي يلزمه باحترام القواعد العقلية ـ القانونية. أنّ الدولة مطالبة بتوفير شروط الحرّية الفكرية المطلقة بدون قيد أو شرط. يمكن للأفراد أن يتنازلوا على جزء من حرّياتهم الأخرى، كحرّية التملّك أو حرّية التنقّل إذا ما تبث أنّها مضرّة للغير أو للمصلحة العامة، و لكن لا يحقّ لأحد أن يتنازل عن حقّهم في حرّية التفكير و التعبير يقول سبينوزا: " وهب أنّ الحرية قد سحقت و أنّ الناس قد أذلّوا حتّى لم يعودوا يجرؤون على الهمس إلاّ بأمر حكّامهم رغم ذلك فمن المحال المُضي في هذا إلى حدّ جعل تفكيرهم مطابقا لتفكير السلطة السائدة فتكون النتيجة الضرورية لذلك هي أن يفكّر الناس كلّ يوم في شيء و يقولوا شيئا آخر فتفسد بذلك طبيعتهم وضمائرهم... و يكون في ذلك تشجيع لهم على النفاق و الغشّ" 12. يضيف سبينوزا" أيستطيع المرء تصوّر نكبة تحلّ بالدولة أعظم من أن ينفى الأشرار و كأنّهم مجرمون لا لشيء إلاّ لأنّهم يؤمنون بآراء مخالفة لا يستطيعون إنكارها" 13. إنّ الحرّية الفكرّية تضمن للناس النقاش و التفكير السليم الذي ينمّي ملكاتهم العقلية و يوسّع مداركهم و يصبحون بالتالي مواطنين صالحين بابتعادهم عن الجهل و النفاق و التملّق، لهذا كانت الحرّية الفكرية دعامة لبناء الدولة الديمقراطية. إنّ تحقّق المزيد من الحرّية لا يتمّ إلاّ عبر فصل مجالي الإيمان و العقل و أيضا مجالي السياسة و اللاهوت، بذلك يكون سبينوزا هو الداعية الأوّل في تاريخ الفكر السياسي إلى العلمانية 
 La Laicité مجال العقل هو الحقيقة و الحكمة و مجال اللاهوت هو التقوى و الطاعة ". " إنّ من الواجب ألاّ نسعى إلى إخضاع الإنجيل للعقل أو إخضاع العقل للإنجيل" 14. هذا الفصل يشمل أيضا مجالي السياسة و اللاهوت و يمكن القول إنّ سبينوزا ينطلق من واقع قائم أنداك بفعل تدخّل رجال الكنيسة في الحكم، و ما يؤدّي ذلك إلى فتن عقائدية و سلب للحرّيات و الحقوق... فاعتماد الدولة على نظام عقيدة معيّن يؤدّي إلى التعصّب والتحيّز لهذه العقيدة على حساب العقائد الأخرى، ممّا يساعد على نموّ الفتن و التناحر الذي يهدم أساس المصلحة و الدولة: "من الواضح أنّ الحرّية العامة لا تقبل مطلقا أن تملأ عقول الناس بالتعّصب و التحامل... أو أن يستخدم أي أسلحة الفتنة المبنية على ذرائع دينية" 15. على الدولة في نظر سبينوزا أن تضمن للناس حرّية المعتقد الديني بحيث يكفل لكلّ واحد الحقّ ممارسة شعائره بالطريقة التي تناسبه دون أن يشعر بالضّيم من طرف أي أحد آخر أو طائفة معينة. على الدولة أن تفصل في تعاملها مع البشر بين أفكارهم و أقوالهم و بين أفعالهم. و لا يحقّ لها أن تحاسبهم إلاّ على أساس الأفعال و ليس على أساس الأفكار و الأقوال.
 *أستاذ مبرز في الفلسفة
ثانوية عمر بن الخطاب
نيابة آنفا الدار البيضاء ـ المغرب
هوامش:
1- Spinoza :Traité politique - traduit par M. Francis –Gallimard. Paris 1954- chapitre II paragraphe 3
2
 ـ نفس المرجع مقدمة القسم الثالث.
3
ـ Traité théologico - politique –p 73.
4-Spinoza : Ethique- traduit par R. Caillos – Gallimard- chap. 5 note 35.
5
 ـ رسالة في اللاهوت و السياسة ترجمة حسن حنفي ـ القاهرة ص 383.
6
 ـ نفس المرجع ص 249.
 7  ـ نفس المرجع و الصفحة.
8- Spinoza :Traité politique. Chap. 5 p2
9
 ـ رسالة في اللاهوت و السياسة ترجمة حسن حنفي ـ ص 253.
10
 ـ نفس المرجع نفس الصفحة.
11 - Spinoza: Ethique- traduit par R. Caillos – Gallimard- chap. II note 35.
12
ـ رسالة في اللاهوت و السياسة ترجمة حسن حنفي ـ ص 261.
13
 ـ نفس المرجع ًص 263.
14
ـ نفس المرجع ص 164.
15
ـ نفس المرجع ص 5 و 6 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق